في شوارع المدينة، عند الفجر، يتحرك الموظف الكادح إلى عمله قبل أن تشرق الشمس، يتدثر بمعطف قديم ويخوض معركة يومية في وسائل المواصلات المزدحمة، يدرك أن كل ساعة من يومه محسوبة، وأن راتبه الشهري، رغم أنه بالكاد يكفي، هو نتاج عرق جبينه.. وعلى بعد أحياء قليلة، في عالم موازٍ داخل قاعات التفاوض الفارهة، يُكتب رقم مذهل على عقد، يتجاوزه القلم بلا تردد ملايين الدولارات للاعب كرة، في دولة ما زالت تبحث عن استقرار اقتصادي وتصارع من أجل توفير العملة الصعبة.

مؤمن الجندي يكتب: قائد إلا ربع مؤمن الجندي يكتب: على صخرة الطمع مؤمن الجندي يكتب: مقادير صناعة الأسطورة مؤمن الجندي يكتب: بين يديك لكنك أضعتها

قد يقول قائل: "الرزق من عند الله"، وهذه حقيقة لا جدال فيها، لكن السؤال هنا ليس عن الأرزاق، بل عن العدالة الاجتماعية والميزان المختل بين الجهد والمكافأة.. كيف لموظف يعمل ثلاثين عامًا أن ينهي حياته براتب بالكاد يكفي لحياة كريمة، بينما يتقاضى لاعب شاب-ربما لم يسجل أكثر من بضعة أهداف-في عام واحد ما لا يحلم هذا الموظف برؤيته في عشرات العقود؟

معايير السوق أم فوضى الأجور؟

لا شك أن كرة القدم صناعة ضخمة، وأن اللاعبين الموهوبين هم سلعة نادرة، والسوق هو الذي يحدد الأسعار، لكن هل يمكن لدولة تعاني من تحدي وندرة في العملة الصعبة أن تتحمل مثل هذه الأرقام؟ مصر ليست دولة نفطية، وليس لدينا اقتصاد بحجم أوروبا، فكيف نقبل أن تُضخ مئات الملايين في كرة القدم بينما قطاعات التعليم والصحة والصناعة تبحث عن موارد؟

إن أزمة الأجور في مصر ليست فقط في كرة القدم، بل في الفجوة الواسعة بين ما يتقاضاه من يكدح في صمت، ومن تصفق له الجماهير.. الفارق لا يتوقف عند مجرد الأرقام، بل في كيفية نظرة المجتمع إليهما! الموظف هو العمود الفقري للبلد، لكنه غير مرئي، بينما اللاعب هو الوجه اللامع الذي تُسلط عليه الأضواء، وكأن العرق الذي يُبذل في المكاتب والمصانع أقل قيمة من العرق الذي يُسفح على العشب الأخضر.

يجب أن نقف لنسأل أنفسنا هل هذه المبالغ الطائلة ضرورة؟ هل هناك سقف معقول يجب وضعه لانتقالات اللاعبين، خاصة في بلد يعاني من تحديات اقتصادية؟ ومن وجهة نظري أرى أن الأمر هنا لا يتعلق فقط بلوم الأندية، بل بالبحث عن منظومة أكثر عدالة في توزيع الموارد، بحيث لا نترك الفجوة تتسع بين من يُبني الوطن على أكتافهم، ومن يتقاضون الملايين مقابل لعبة، مهما بلغت شعبيتها! كرة القدم يجب أن تبقى رياضة جماهيرية، لا أن تتحول إلى سوق مفتوح بلا ضوابط، حيث يُباع الانتماء، وتُشترى المواهب بأسعار تفوق قدرة الدولة نفسها.

لقد آن الأوان لننظر للأمر بواقعية، لا بحماس المشجعين، بل بعقلية صانع القرار.. نصف مليار جنيه ليست مجرد رقم في عقد، بل هي رسالة تُرسل إلى ملايين الشباب الذين يكافحون في وظائف بالكاد توفر لهم حياة كريمة.. أنتم في عالم، وهم في عالم آخر! فهل نقبل بذلك؟

في النهاية.. نعم، لكل مجتهد نصيب، ونعم، السوق له قوانينه، لكن أي سوق هذا الذي يُسعّر الأقدام بمئات الملايين، بينما تُباع العقول بأبخس الأثمان؟ كيف لدولة أن تنهض إذا كانت القيمة تُمنح لمن يراوغ الكرة أكثر ممن يراوغ أزمات الاقتصاد والمجتمع؟

لن تكون هناك نهضة حقيقية ما لم تُستعاد العدالة، ما لم يُدرك الجميع أن بناء الأمم لا يكون بأقدام تركل الكرة فقط، بل بسواعد تُنجز وعقول تُبدع.. لقد آن الأوان أن نسأل أنفسنا هل نحن نصنع رياضة تُسعد الجماهير، أم وهمًا يلتهم اقتصادنا؟ هل نحن نكافئ المواهب، أم نغذي فوضى تجعل من الوطن ملعبًا لأهواء السوق؟

ربما لا نملك الإجابة الآن، لكن إن ظللنا نراقب المشهد بصمت، فسنجد أنفسنا يومًا نتساءل متى أصبح الحلم رفاهية لا يملكها إلا القلة؟

للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: الأهلي الزمالك زيزو بن شرقي تريزيجيه صفقات الأهلي صفقات الزمالك مؤمن الجندی یکتب کرة القدم الذی ی

إقرأ أيضاً:

الشيخ خالد الجندي: لا بد من استخدام المصطلحات الدقيقة عند التحدث عن الله

أكد الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، أنه عند التحدث عن الله سبحانه وتعالى لا بد من استخدام المصطلحات الدقيقة، قائلًا: «الله ليس فقط (يعرف)، بل هو (العالم) و(العارف) بما في السموات وما في الأرض، علم الله محيط بكل شيء، فلا نقول (يعرف) لأنه قد يفهم منها أنه يعرف جزءًا فقط، بل نقول (الله يعلم) لأن علمه شامل لا حدود له».

وأوضح «الجندي»، خلال حلقة خاصة بعنوان «حوار الأجيال»، ببرنامج «لعلهم يفقهون»، المذاع على قناة «dmc»، اليوم الأربعاء، حديثه عن معنى الآية القرآنية التي جاء فيها: «ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً»، قائلاً: «هنا كلمة (نعلم) ليست بمعنى أنه كان لا يعلم، بل هي لتعليم الناس ولإظهار قدرة الله وعلمه في أفعال الكون، الله يعلم، لكنه أراد أن يعلم الناس بفضل حكمته ورؤيته».

النوم يعتبر موتة صغرى

وأكد أن فكرة الموت والنوم في القرآن مرتبطة ارتباطًا وثيقًا، حيث إن النوم يُعتبر موتًا أصغر، والموت الذي يحدث لنا حين ننام هو ما يُطلق عليه في القرآن (التوفّي)، كما جاء في قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل).

العيش في طمأنينة

وأشار الشيخ خالد الجندي إلى أن نوم الإنسان في كل ليلة يشبه الموت، لكن الفارق أن هذا الموت مؤقت، أما الموت الأكبر فهو الذي يحدث في نهاية حياة الإنسان، مؤكدًا أن النوم هو حالة من الثبات الجسدي والعقلي، ولذلك عند دخولنا في النوم لا نشعر بأي رهبة أو خوف كما نشعر عند الحديث عن الموت، لأننا نعلم يقينًا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتحكم في الأمرين، ويجب علينا أن نعيش في طمأنينة لأن الله هو الذي يملك الحياة والموت.

مقالات مشابهة

  • استقرار أسعار النفط والذهب
  • الشيخ خالد الجندي: لا بد من استخدام المصطلحات الدقيقة عند التحدث عن الله
  • دوللي شاهين تريند معرض القاهرة للكتاب.. تعرف على السبب؟
  • بالصور.. دوللي شاهين توقع كتابها هودو في معرض الكتاب
  • د. الحسبان يكتب .. عن اليرموك وازمتها والساحر الذي يهز قبعته فتلد أرنبا
  • الركراكي : نطمح للتتويج بكأس أفريقيا بين جمهورنا الذي سيكون سنداً قوياً لنا
  • فوتوغرافيا الصعيد يترجمها القناوي لموهوب مؤمن المغربى
  • فنانة شهيرة تدافع عن نادية الجندي بعد إنتقاد فستانها المكشوف
  • العراق يعزز استقراره المالي بخزين هائل من الدولار والذهب في أمريكا وأوروبا