قراءة تفكيكية في كتاب العقل السوداني.. تفكير مضطرب وذاكرة مثقوبة للصحافي فائز السليك
تاريخ النشر: 27th, January 2025 GMT
هذا الكتاب ليس الباكورة الأدبية للصحافي والكاتب فايز السليك، بل يأتي ضمن سلسلة إسهاماته المتنوعة التي شملت كتابات رصينة في الشأن السياسي السوداني، بالإضافة إلى روايات أدبية تُبرز عمق نظرته الاجتماعية. كذلك، يُعد السليك من الشخصيات المؤثرة في المشهد السياسي السوداني، حيث شغل منصب مستشار رئيس الوزراء د.
عند صدور كتابه "العقل السوداني.. تفكير مضطرب وذاكرة مثقوبة"، أثار العمل سجالات واسعة في أوساط سياسية وثقافية متنوعة. ومثل كثيرين، قرأتُ ردود الفعل المختلفة التي جاء من بينها ما كتبه د. معتصم الأقرع، الذي رأى أن الكتاب يطرح تساؤلات إشكالية حول مفهوم العقل السوداني الجمعي.
من خلال متابعتي للنقاشات الكثيرة التي أحاطت بالكتاب، اتضح أن البعض ينظر إليه كأداة تقييم لأداء صناع القرار في حكومة الثورة، لا سيما تلك الفترة الحساسة التي أعقبت سقوط نظام البشير. وعلى الرغم من أن الكتاب يعالج قضايا تتعلق بالثقافة والتفكير الجمعي، فإن البعض ربطه بمسار الصراع السياسي في السودان، خصوصًا الصراع بين التيارات الإسلامية التي حكمت لفترة طويلة، وبين القوى الفكرية والاجتماعية التي تسعى لإعادة تشكيل المشهد السياسي والثقافي في البلاد.
من هذا المنطلق، يُمكن اعتبار الكتاب جزءًا من محاولة أوسع لفهم الأزمات البنيوية التي تواجه السودان، سواء في الفكر أو السياسة أو المجتمع، مما يجعل قراءته موضوعًا مثيرًا للتأمل والنقاش.
كتاب "العقل السوداني.. تفكير مضطرب وذاكرة مثقوبة" يمثل محاولة جادة لفتح نقاش حول طبيعة التفكير الجمعي في السودان، وارتباطه بالسياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي شكّلت هذا العقل. ولكن عند فحص محتوى الكتاب من منظور نقدي مختلف، يمكن الإشارة إلى بعض النقاط التي تُبرز مكامن القوة والضعف في هذا العمل.
نقاط القوة , الجرأة في الطرح و الكتاب يثير قضايا حساسة ومثيرة للجدل مثل العقل الجمعي والاضطرابات في طريقة التفكير السودانية، مما يدعو للتأمل في الأسباب العميقة التي تقف وراء الأزمات السياسية والاجتماعية المتكررة.
التناول متعدد الجوانب من الواضح أن الكاتب يحاول ربط المسارات الثلاثة: الديني، السياسي، والاجتماعي، كعوامل مترابطة تؤثر في صياغة الذهنية السودانية، وهو ما يُعتبر خطوة أولية في فهم أزمة الهوية الوطنية.
الاستناد إلى علم النفس اعتمد الكاتب على مفاهيم من علم النفس السياسي لتحليل طبيعة الأزمات، وهو ما يضيف بُعدًا علميًا يحاول تفسير الظواهر بعيدًا عن التفسيرات السطحية أو الانطباعية.
نقاط الضعف
غياب الرؤية الكلية رغم محاولات الكتاب للاقتراب من تحليل العقل الجمعي، إلا أنه لم يوفِّق في طرح رؤية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار التنوع الثقافي والاجتماعي داخل السودان. العقل السوداني ليس وحدة متجانسة، بل هو حصيلة لتفاعلات بين ثقافات وإثنيات متعددة.
النظرة الاختزالية من خلال التركيز على اضطراب التفكير و"الذاكرة المثقوبة"، يبدو الكتاب وكأنه يغفل عن استعراض النجاحات والتجليات الإيجابية للعقل السوداني في مجالات مثل الأدب والفن والنشاط السياسي، مما يترك انطباعًا بكونه نقدًا هدّامًا بدلًا من أن يكون بناءً.
إغفال التحليل الثقافي العميق بالرغم من تناول الكاتب للبعد الاجتماعي، إلا أن هناك غيابًا ملحوظًا في تحليل الثقافة السودانية كمنظومة مرجعية تُحدد طرائق التفكير. هذا يجعل التفسير يبدو سطحيًا وغير مرتبط بجذور الظواهر.
محدودية التفاعل مع الفكر الجمعي: لم يتم تسليط الضوء بما يكفي على كيفية تشكل العقل الجمعي من خلال التفاعل بين النخب المثقفة والمجتمع السوداني ككل، مما يجعل الكتاب أقرب إلى رصد الظواهر منه إلى تقديم تفسير شامل.
غياب المقاربة المقارنة و كان يمكن للكتاب أن يستفيد من مقارنة العقل السوداني بعقول مجتمعات أخرى تعاني مشكلات مشابهة، مثل دول الجوار أو دول ما بعد الاستعمار، لإبراز الفروقات والعوامل المشتركة.
رؤية نقدية مختلفة
هذا الكتاب هو نقطة انطلاق وليست خلاصة نهائية لتحليل العقل السوداني، ومن الضروري تطوير الطرح ليشمل مستويات أعمق من التحليل. يجب أن يتوسع النقاش ليشمل:
العلاقة بين الدين والسياسة وتأثيرها على الذهنية السودانية بشكل متوازن دون التحيز.
دراسة العوامل الثقافية، مثل الأدب والفن، كمرآة تعكس تطور التفكير الجمعي.
استكشاف التأثيرات الاستعمارية وما بعدها في تشكيل العقل الجمعي.
في الختام، بينما يشكّل الكتاب خطوة أولى في النقاش حول أزمة العقل الجمعي السوداني، إلا أنه بحاجة إلى منظور أكثر شمولية وتحليلًا معمقًا للجوانب التي تجاهلها أو لم يبرزها بشكل كافٍ. يبقى المجال مفتوحًا للمزيد من الدراسات التي تستند إلى أسس فكرية وثقافية متنوعة.
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: العقل السودانی العقل الجمعی
إقرأ أيضاً:
صدمات الطفولة.. كيف تترك بصمتها في العقل والجسم؟
لا تمر مشاعر القلق أو الصدمات التي يختبرها الطفل مرورًا عابرًا، بل يستمر تأثيرها العقلي والنفسي والبدني حتى مراحل متقدمة من العمر، حيث قد تظهر اضطرابات في المزاج، والاكتئاب، وقد تصل إلى الإصابة بألزهايمر. لكن الأسوأ من ذلك هو أن هذه النتائج تتفاقم إذا لم يتم تلقي العلاج المناسب.
صدمات منذ اليوم الأول في الحياةيمكن للطفل حديث الولادة أن يختبر في يومه الأول بعد الميلاد ما يكفي من التوتر والأحداث المجهدة التي قد تصل إلى مرحلة الصدمة أو ما يُعرف بـ"التروما"، والتي تهدد الأطفال من عمر يوم واحد وحتى 18 عامًا. وبحسب وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية، فإن أبرز أنواع الصدمات التي يتعرض لها الأطفال تشمل:
الإساءة أو الاعتداء النفسي أو الجسدي أو الجنسي. العنف المنزلي أو المدرسي أو المجتمعي. الحروب والكوارث الوطنية. فقدان الممتلكات أو النزوح. الفقدان المفاجئ أو العنيف لأحد الأحباء. تجارب اللجوء أو الحرب. الضغوط المرتبطة بعمل أحد أفراد الأسرة في المجال العسكري. الحوادث الخطيرة والأمراض التي تهدد الحياة. الإهمال والتجاهل والتعرض للتنمر.وهو ما يظهر في صورة علامات واضحة وعديدة على الطفل، تؤكد إصابته بالصدمة أبرزها:
إعلان شعور الأطفال في سنة ما قبل المدرسة بالخوف من الانفصال والكوابيس والبكاء أو الصراخ كثيرا مع ضعف الشهية. إصابة الأطفال في عمر المرحلة الابتدائية بالقلق، والشعور بالذنب والخجل وعدم التركيز، مع صعوبة النوم والانسحاب من المجتمع وعدم الاهتمام، مع عدوانية واضحة. إصابة الأطفال في عمر المدارس المتوسطة والثانوية بالاكتئاب وإيذاء النفس وتعاطي المخدرات وأيضا الانسحاب أو عدم الاهتمام أو اتباع السلوك المحفوف بالمخاطر والعدوان.في عام 2012، حاول مجموعة من الباحثين في البرازيل دراسة "تأثير ضغوط الطفولة على الأمراض النفسية" بصورة أعمق، تحديدا عبر التصوير بالرنين المغناطيسي، وقد أظهرت تقنيات التصوير العصبي العديد من التغيرات العصبية الهيكلية مثل:
انكماش الحصين وهو الجزء المسؤول عن الذاكرة في الدماغ، وأيضا انكماش الجسم الثفني وهي عبارة عن حزمة من الألياف العصبية تعمل على ربط نصفي الدماغ أحدهما مع الآخر وتبادل المعلومات. زيادة خطر الإصابة باضطرابات المزاج. زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب. زيادة خطر الإصابة بالاضطراب ثنائي القطب. إمكانية الإصابة بالفصام. زيادة احتمالات إدمان المخدرات.وفي مقال علمي نشر بمجلة "السلوك البشري في البيئة الاجتماعية" عام 2018 أشارت الباحثة هيثر دي إلى العواقب السلبية طويلة المدى للصدمات المعقدة، تقول دي "تتسبب مثل تلك الصدمات في تغيرات عصبية حيوية تؤثر على نمو الإنسان وتسبب تغيرات كبيرة في وظائف المخ وهياكله المسؤولة عن الأداء الإدراكي والجسدي، فضلا عن أعراض جسدية وعقلية وعاطفية يمكن أن تستمر حتى مرحلة البلوغ".
مزيد من التأثيرات البدنية والنفسية والعقلية تظهر على الأطفال بوضوح عقب التعرض للصدمات أبرزها:
إعلان الشعور بالإجهاد البدني وأعراض جسدية مثل الصداع وآلام المعدة غير المبررة. تأثر القدرات المعرفية والعمليات العاطفية العقلية فتصبح أمور مثل حل المشكلات والتخطيط وتعلم معلومات جديدة، والتفكير وفق منطق فعال أمرا صعبا وغير ممكن. تدني احترام الذات والشعور بعدم القيمة والعار، والذنب واللوم المتواصل للذات والشعور بالعجز. صعوبة في إدارة العواطف التي تصبح مع الوقت عامرة بالخوف والقلق. تأثر قدرات الطفل على تكوين علاقات اجتماعية مع الأصدقاء أو مقدمي الرعاية أو المحيطين به بشكل طبيعي.الأطفال أكثر عرضة للتأثر بالأحداث المجهدة في حياتهم بسبب ضعف قدرتهم على التعامل مع التوتر. وقد ربط باحثون من معهد برشلونة للصحة العالمية -بالتعاون مع عدة مراكز أخرى- بين ضغوط منتصف العمر وصدمات الطفولة، وزيادة خطر الإصابة بمرض ألزهايمر نتيجة لارتفاع مستويات بروتين بيتا أميلويد، الذي يعد بروتينًا أساسيًا في تطور مرض ألزهايمر، بالإضافة إلى زيادة احتمالات الإصابة بالتهاب الأعصاب.
ويقول الباحث إيدر إرينازا أوركيو، أحد المشاركين في الدراسة، إن الاستجابة للتوتر تختلف بين الأفراد؛ ففي حين يتراكم بروتين الأميلويد لدى الرجال، تصاب النساء بضمور الدماغ. ويزداد الأثر بشكل أكبر لدى الأشخاص الذين لديهم تاريخ من الأمراض النفسية، حيث يتأثرون لاحقًا بانخفاض حجم المادة الرمادية في أدمغتهم مع تقدمهم في العمر.
هكذا تُجنب طفلك المعاناة مبكرا"لا يمكن تجنيب الأطفال الصدمات أو المعاناة، فهي خارج دائرة التحكم، كالمرض أو التعرض لمشاهد سيئة، أو الحوادث وغيرها". تحسم الأخصائية النفسية دعاء السماني الأمر مؤكدة للجزيرة نت "سوف يعاني الطفل ويتعرض للصدمات على طول الطريق، ولذلك جانب إيجابي فهي تساهم في تهذيب النفس، وتساعد الطفل على النمو وتكوين أساليب ومهارات أفضل للتكيف، لكن هذا مرهون بالطريقة التي يتم التعامل بها مع الطفل عقب الصدمات".
إعلانوتنصح السماني بإسعافات نفسية أولية إن تعرض الطفل لصدمة أو إجهاد نفسي شديد، تقول "في البداية ندع الطفل يتحدث بحرية عما حدث بطريقته، دون أسئلة تشعره بالتقصير أو أنه مسؤول عما جرى، أو أنه كان يمكن أن يتصرف بطريقة أفضل، التعافي من الصدمات يستغرق وقتا، يختلف من طفل لآخر بحسب شخصيته وطبيعة الصدمة التي تعرض لها، المهم ملاحظة سلوكه، والطريقة التي يتعامل بها مع من حوله، مادامت طبيعية فهو في طريقه للتحسن، أما إذا تأثرت حياته أو بدا عليه تغييرات فيجب اللجوء لمختص نفسي".