شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: أنا وساويرس والمحمول
تاريخ النشر: 25th, January 2025 GMT
صفقة المحمول بداية الأزمة مع نجيب ساويرس
لميس الحديدي تراجعت عن استضافتي فى برنامجها لسبب غامض
الجنزوى صم على وجودي «حب مصر» رغم رفض مندوب حزب المصريين الأحرار
هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشتُ فصولَها، انتصاراتِها وانكساراتِها، حُلوَها ومُرَّها، اقتربتُ من صنَّاع هذه الأحداث أحيانًا، وكنتُ ضحيةً لعنفوانهم في أحيان أخرى، معاركُ عديدة دخلتُها، بعضُها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي وقناعاتي.
أروي هذه الشهادات، بصدق وموضوعية، بعضُ شهودها أحياء، والبعضُ رحل إلى الدار الآخرة، لكنَّ التاريخ ووقائعه لا تُنسى، ولا يمكنُ القفزُ عليها، وتزويرُ أحداثِها.
1- سر الأزمة مع ساويرسفى 1 نوفمبر 1999 كنت قد نشرت تحقيقًا فى جريدة «الأسبوع» كان هو السبب فى الأزمة التي اشتعلت بيني وبين نجيب ساويرس، والتي ما زالت مستمرة حتى الآن، وكان عنوان هذا التحقيق يدور حول وقائع الفساد فى صفقة بيع المحمول فى هذه الفترة.
لقد تضمن التحقيق ما يشير إلى أن القضية بدأت منذ عام 1996، عندما أقامت هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية شبكة للتليفون المحمول فى مصر، وكان عدد المشتركين المتمتعين بهذه الخدمة فى هذا الوقت حوالى 80 ألف شخص مشترك.
وفى عام 1997 تقرر منح الامتياز لشركة خاصة تحت زعم تحقيق مبدأ المنافسة وتحسين الخدمة، وفى نفس الوقت تم تحويل خدمة هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية بمشتركيها الثمانين ألفا إلى شركة مساهمة رأسمالها 600 مليون جنيه تساهم فيها الهيئة وبنوك القطاع العام وصندوق التأمينات الاجتماعية لشراء 70% من أسهمها - أى حوالى 42 مليون سهم.
فى هذا الوقت انتهى المزاد بمنح الامتياز لشركة خاصة هي مجموعة «مصر فون» محمد نصير وشركاه، بعد أن احتدمت المنافسة بينه وبين مجموعة موبينيل «ساويرس وشركاه»، كما انتهى الأمر إلى توقيع عقد بين مؤسسى الشركة الأخرى (مصر فون) وبين البنوك والهيئة وصندوق التأمينات.
وقد تم طرح حوالى 30% من الأسهم للاكتتاب العام أي حوالى 18 مليون سهم، ولثقة المواطنين فى المؤسسين تسابقوا للمشاركة فى الاكتتاب العام وتمت تغطيته بأضعاف ما هو مطروح، حيث بلغ المكتئبون 100 مليون سهم، أي أضعاف الـ 18 مليون سهم المطروحة، فكان لابد من التخصيص، وهكذا فإن كل من تقدم بطلب للاكتتاب تم تخصيص أسهم له بنسب 2.07% أو أقل، فبدأ الكثيرون فى التخلص من أسهمهم الضئيلة التي لا تتناسب مع طموحاتهم فى المشاركة، ونتيجة لذلك نشأت السوق السوداء، ثم بيعت الايصالات للتخصيص فيها بأسعار بدأت بثمانية جنيهات ووصلت إلى 13 جنيها للسهم الواحد رغم أن قيمته المدفوعة لم تتجاوز الـ 275 قرشًا أي ربع قيمته + 25 قرشًا مصروفات.
وقلت يومها «إنه فى هذا الوقت لجأت الكثير من الشركات والبنوك إلى بيع أسهمها فى هذا السوق، وأصبح صعبًا عليها قيد الفروق التي تحققت لأنه محظور طبقًا لقانون الشركات تداول الأسهم إلا بعد نشر ميزانية سنتين ماليتين، ولم تكن الشركة إلا فى مرحلة التأسيس»، وقلت «هنا كانت المكالمة السحرية التي جاءت من وزير هام، كانت له حظوة فى هذا الوقت، عندما اتصل بالبنك الأهلي وكيل المؤسسين، حيث طلب منه إعادة قيمة الأسهم التي دفعتها البنوك العامة وهيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية وصندوق التأمينات الاجتماعية إلى هذه الجهات، على أساس قيمة السهم 275 قرشًا واستبدالها بمساهمة مجموعة ساويرس وتمكينها من شراء 42 مليون سهم بسعر السهم 275 قرشًا فقط، فى الوقت الذى بلغ فيه سعر العرض للسهم من 11 - 13 جنيها، أي أن مجموعة ساويرس دفعت 5.511 مليون جنيه فى أسهم تبلغ قيمتها السوقية 462 مليون جنيه، بفرض أن سعر السهم يبلغ 11 جنيها فقط، أى بربح يزيد على 347 مليون جنيه دون عناء يذكر، وهو ما يمثل فى نفس الوقت خسارة لبنوك القطاع العام وهيئة المواصلات وصندوق التأمينات الاجتماعية المسئول عن معاشات المواطنين.
وقلت «ولأن هذه الخسارة أصابت الكثيرين بالصدمة والفاجعة فإن وزيرة الشئون الاجتماعية فى هذا الوقت راحت تستنكر ذلك وتعلن أنه من الخطأ التصرف فى أرباح صندوق التأمينات المسئول عن معاشات المواطنين والذى يحتاج إلى دعم مستمر، فكان طبيعيًا أن يتم إبعادها بعد ذلك فى أول تغيير».
وقد تضمن المقال العديد من الوقائع والحقائق التي لم يستطع ساويرس أو غيره تكذيبها، وقد أحدث هذا التحقيق الصحفي ضجة كبرى فى كافة الأوساط، صدم نجيب ساويرس وراح يجرى الاتصالات ويقوم بحملات التحريض ضدي، وقام على الفور بمنع الإعلانات التي كانت تقدم لصحيفة «الأسبوع» بقيمة 90 ألف جنيه شهريًا.
2- لقاء لميس الحديديلم تكن هناك أية خلافات بيني وبين نجيب ساويرس، بل جمعتنا لقاءات عديدة قبل هذه الأزمة ولكنه قلب الدنيا ولم يقعدها بعد نشر التحقيق الصحفي ولكنه لم يجرؤ على شكوتي قضائيًا.
ومضت الأيام والصراع لايزال مشتعلًا، وفى الأسبوع الثاني من شهر يناير 2008 استضافت الإعلامية «لميس الحديدي» رجل الأعمال «نجيب ساويرس» فى حوار على شاشة القناة الأولى بالتليفزيون المصري، وكعادة نجيب ساويرس، راح يخلط الأوراق، ويلقى بالشتائم جزافا، كأنه يريد أن يحسم المعركة بلسانه وتطاوله على الآخرين.
وعندما سألته المذيعة الشهيرة عن الخلاف معي قال «أنا صعيدي وحيعرف أنا حعمله ايه!!»، ثم قال كلامًا هو أقرب إلى الردح.
أبدت لميس دهشتها، وقالت إنها «ستحاول الاتصال بى على الهواء» فبادر بالقول «يبقى أمه داعيه عليه»، انتظرت هذا الاتصال ولم يحدث، بادرت على الفور بالاتصال بوزير الإعلام أنس الفقى، وقلت له: أطلب الدخول للرد على نجيب ساويرس، فقال: «إن البرنامج انتهى الآن، وأعدك بحلقة خاصة الأسبوع المقبل، ونسق الأمر مع لميس».
وبالفعل اتصلت بالإعلامية لميس الحديدي، التي وعدتنى بذلك، إلا أنه وقبيل موعد الحلقة التالية بقليل، فاجأتني بالقول: لن نستطيع استضافتك، ولكن من حقك عمل مداخلة، هنا وجدت نفسى أرفض هذا العرض، لأنه يمثل تراجعًا عن وعد وزير الإعلام لي، وأدركت مدى تأثير نجيب ساويرس حتى على إعلام الدولة.
فى هذا الوقت كتبت مقالًا فى صحيفة «الأسبوع» التي أترأس تحريرها بتاريخ 19/ 1/ 2008، بعنوان «أدب نجيب ساويرس» قلت فيه «كنت أتمنى أن ترتقى بألفاظك، وتعرف أن قيم الصعايدة وأخلاقهم تجعلهم، ألا يأتوا على سيرة الأمهات»، وقلت «أنا لا أريد أن أتطرق فى الحديث عن الأمهات والزوجات والخالات والعمات، ومشاكل تحدث هنا أو هناك، فهذا ليس من شيم الرجال ولا قيم الشجعان».
وقلت «إن والدتي يا أخ نجيب لم تدع علىّ لأنني بارً بها، وقد علمتني أدب الحديث، واحترام الآخر، لذلك أنا لا أستطيع أن أباريك فى الحديث عن الأمهات، لأنني أحترم السيدة والدتك صاحبة الأدوار الاجتماعية المعروفة» وقلت بلغة حاسمة «ولكن إن كان لها من عيب فهو فقط، أنها لم تعلمك كيف تخاطب الناس، فذهبت لتسب الدين على شاشة التليفزيون بطريقة أثارت استياء كل من شاهدوا البرنامج وراحوا يسخرون على المقاهي والطرقات».
وقلت: إنني أدعوك ياباشمهندس إلى مناظرة تليفزيونية من على شاشة أي قناة عدا قناتك (on.t.v) فى حوار سأعلمك فيه أدب الحديث واحترام الآخر، وسأكشف فيه أمام الرأي العام تجاوزاتك المتعددة، وسأتحدث بكل شفافية عن صفقاتك خاصة «المحمول» وكيف حصلت عليها، وبيع «الأسمنت»، وكيف تم تأسيس «الجونة».
وقلت: كنت أعتقد أن نجيب ساويرس سيراجع نفسه، ويعتذر للرأي العام عن مقولته «اللي حيضايقنى حطلع.. اللى خلفوه»، وكذلك بقية العبارات التي أساء فيها إلى والدتي وإلى شخصي، غير أن غرور المال والثروة جعله يتجاهل ويتناسى معنى القيم التي يتحلى بها الإنسان.
وقلت «يابا شمهندس، يا صعيدى، يامؤدب، يا ملياردير، راجع نفسك، وهذب لسانك، واحترم الناس، واحترم مصر التى صنعتك، وقدمت إليك المليارات».
لقد أثار المقال ضجة كبيرة فى هذا الوقت، وراح نجيب ساويرس يهذى فى كل مكان، ويهدد ويتوعد.
لقد استعان ساويرس فى هذا الوقت ببعض الأقلام الملوثة وآخرين، ودفع مبالغ كبيرة لنشر الادعاءات والأباطيل، وكنت لهم دومًا بالمرصاد، واضطروا فى نهاية الأمر إلى نشر اعتذارات علنية بعد لجوئي للقضاء وحصولي على أحكام بحبسهم وتغريمهم.
مضت الأيام سريعًا، وظل الموقف بيني وبين ساويرس على ما هو عليه، وفى أعقاب ثورة 25 يناير 2011، تقدمت ببلاغات عديدة إلى النيابة العامة، ومن بينها بلاغ عن صفقة المحمول، وطالبت بالتحقيق فيها، وقدمت الأدلة التي تثبت صحة كلامي وكانت الطامة الكبرى عندما كشفت تهرب آل ساويرس من دفع الضرائب المستحقة للدولة على بيع مصانع الأسمنت التي تمتلكها الأسرة إلى شركة «لافارج» الفرنسية بقيمة 72 مليار جنيه، وكانت قيمة الضرائب المستحقة فى هذا الوقت تقدر بـ 14 مليار جنيه، مما دفع الدولة إلى التحرك حتى انتهى الأمر بعد المجادلات والتسوية إلى قيام أسرة ساويرس بدفع حوالى 6 مليارات جنيه كضرائب مستحقة للدولة.
3- قائمة فى حب مصرمضت الأيام وجاءت انتخابات مجلس النواب فى عام 2015، كنت عازفًا من المشاركة، فاتصل بى د.كمال الجنزورى، وآخرون وطلبوا منى الترشح على الموقع الفردي فى حلوان، فاعتذرت وقلت لهم: لقد أخذت فرصتي فى دائرة حلوان وفزت بمقعدها لدورتين 2005 - 2010، 2011 - 2012، إلا أن د.الجنزورى كان مصممًا وعقد معي العديد من اللقاءات.
كان د.الجنزورى مكلفًا بإعداد قائمة فى حب مصر للانتخابات البرلمانية، وهى تضم العديد من الأحزاب والقوى السياسية والمستقلين، وقد عرفت بعد ذلك أن د.الجنزورى كان مصممًا على ضمي لقائمة الصعيد فى الانتخابات، وكان المعترض على ذلك هو نجيب ساويرس، الذى هدد بعدم تقديم الدعم المالى للقائمة والانسحاب بحزبه منها حال ضم إليها، وهو ما عبر عنه د.عماد جاد، المسئول عن التفاوض مع د.الجنزورى نيابة عن ساويرس فى هذا الوقت وقال ذلك بشكل صريح فى حديث له مع جريدة المصري اليوم.
وبعد حوار طويل تقرر ضمي إلى قائمة فى حب مصر عن الصعيد وتعييني مقررًا للقائمة، وفى أول اجتماع بحضور عدد من القيادات الهامة أبدى عماد جاد، اعتراض حزب المصريين الأحرار ورئيسه نجيب ساويرس على ضمي للقائمة، إلا أن الحاضرين جميعا، قالوا: نرفض إملاء أية شروط من أي من كان، ومن يريد أن يستمر معنا أهلًا وسهلًا، ومن يرفض فهو حر فى قراره.
وهنا اشتاط نجيب ساويرس غيظًا ورفض تقديم الدعم الذى وعد به، إلا أنه لم يستطع أن يفرض شروطه، وإملاءاته، وهكذا تم إفشال مخططه هذه المرة أيضًا، واضطر إلى العودة للقائمة صاغرًا بعد ذلك.
جاء ذلك، في الحلقات التي ينشرها «الجمهور» يوم الجمعة من كل أسبوع، ويروي خلالها الكاتب والبرلماني مصطفى بكري، شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم السادات ومبارك والمشير طنطاوي ومرسي والسيسي.
اقرأ أيضاًشهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: موقعة «شبرد»
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: الحلم يعود من جديد
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: السيول تجتاح بلدتي
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: مصطفى بكري نجيب ساويرس شهادات مصطفى بكري یرویها مصطفى بکری شهادات وذکریات لمیس الحدیدی فى هذا الوقت نجیب ساویرس د الجنزورى ملیون جنیه ملیون سهم حب مصر إلا أن
إقرأ أيضاً:
معرض مسقط للكتاب .. ومستقبل القراءة الورقية
يفتتح اليوم ـ الخميس ـ معرض مسقط الدولي للكتاب، في دورته التاسعة والعشرين، هذا العرس الثقافي والفكري الذي ينتظره الآلاف، من داخل عُمان وخارجها، باعتباره من المعارض التي يهتم لها الكثيرون، من عشاق الكتاب والقراءة والمعرفة العلمية، ومتابعة الجديد الذي تخرجه المطابع كل عام، كونه من المعارض العربية التي يُشار إليها بالبنان، بسبب الإقبال المتزايد الذي يرتاده الزوار كل عام. ونلاحظ أن دور النشر تزداد في حضور معرض مسقط الدولي للكتاب.. ونلاحظ أن مع كل دورة لهذا المعرض، يجري من البعض الحديث عن أزمة القراءة، أو تراجع قيمة وأهمية الكتاب المطبوع، مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، والمتابعة لكل جديد مع هذه التقنيات،
مما أدى إلى ـ حسب قول البعض ـ إلى تراجع الكتب عن التأثير، خاصة على جيل الشباب لاستقراء هذه الظاهرة، بشكل منهجي وعلمي، ويتم مناقشة هذا الموضوع، الذي يختلف معها البعض.. فهل تراجعت القراءة بسبب الوسائط الحديثة؟ الحقيقة هذا القول تردد كثيرًا، خاصة مع الحديث عن القراءة، أو حضور معارض الكتاب، وقد كتبت في هذا الموضوع قبل نحو عقدين، وناقشت تطور وانتشار الوسائط الإعلامية الحديثة بتقنياتها المتصاعدة، منذ أواخر القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين،
ومع تزايد الحديث يتزايد عمّا يسميه البعض بالجذب الذي أحدثته التقنيات الحديثة، بعد انتشار هذه الوسائط بين الأجيال الشبابية خاصة، وسائل التواصل الاجتماعي متعددة النماذج التي ترسل في هذا الفضاء المفتوح، وهي لا شك ليست خالية من الأهداف والأغراض الفكرية، بما تشكله هذه الوسائط، على النشء من خلال ما تبثه من أفكار ومؤثرات عديدة، منها الانجذاب اللامحدود لهذه التقنيات والوسائط، ويعتبرها البعض أنها تسهم في البعد عن القراءة الجادة، خاصة القراءة في الكتاب المطبوع، بل والابتعاد عن قراءة الصحافة حتى الورقية، وتراجع القراء بها بشكل لافت وملحوظ خلال العقود القليلة الماضية عند الأجيال الشابة الجديدة، عما كان عليه قبل ظهور هذه الوسائط الحديثة، خاصة الجيل الجديد من الشباب، وكنت عندما أقابل بعض الشباب، ومنهم أيضا أكبر من ذلك السن أيضا!.
ويسألني البعض: هل ما زلت تكتب في الصحافة؟ وهذا يؤكد أن القراءة بالصحافة، تأثرت من هذه الوسائط الجديدة، وشكلت انجذابًا للبعض، أو تعلقه بهذه الوسائط وتأثيرها عليهم، وقد يعزو البعض من المهتمين بهذه الظاهرة، إلى أن التقنيات الجديدة أسهمت في الجذب الشديد لها، وجعلتهم أكثر اقترابًا من هذه الوسائط، وأكثر ابتعادًا عن القراءة التي تحتاج إلى وعي خاص بأهمية القراءة، وخاصة الكتاب المطبوع، والبعض يعتقد أن جانب مما اعتبر سببًا في ذلك، ظهور الإعلام الإلكتروني، لكني أرى أن الكثير من المؤسسات الإعلامية ـ ومنها إعلامنا العماني ـ سرعان ما تفاعل مع هذه الوسائط، وتعامل معها باحترافية، باعتبارها أنها تسهم في رفد القدرة على التوصيل والتيسير،
لكل جديد والبث من خلاله بيسر، والتي أصبحت مجالًا مفتوحًا بإيجابياته وسلبياته، وتنوعت مجالات وسهولة التعاطي معه، وفق المرئيات التي يمكن التعاطي مع هذه التكنولوجيا وإمكانياتها المهمة في جوانب كثيرة، حيث إنها تشكّل دافعًا للرقي في طرائق المتلقين للجديد التقني، لكن لها آثارها السلبية تجاه القراءة الحرة، على الأجيال الجديدة ـ كما يرى البعض ـ لكن تحتاج إلى إدراك سلبياتها والعمل على التقليل من أثرها، وهو عزوف بعض الشباب عن القراءة في الكتاب الورقي، نظرًا لأهميته الكبيرة، خاصة مع بدايات الانفتاح على هذه التقنيات الحديثة، على وجه الخصوص، ولكني أرى أن هذه النظرة تجاه الكتاب في السنوات القليلة الماضية، تراجعت قليلا، عما كانت عليه قبل أكثر من عقد ونصف العقد، عندما برزت هذه التقنيات،
وكانت متاحة للعموم بتدرج سريع ومتدفق.. صحيح أن الثقافة الذاتية عند البعض تأثرت بما عُرف بـ(الاختراق الثقافي)، من هذا القادم الغربي، وهي بلا شك أسهمت في جاذبيتها عند بعض الشباب، بما تظهره هذه الوسائط الجديدة من جاذبية ومؤثرات، حول ما يطرح من أفكار ونظم للمعلومات قادرة على التوصيل بسرعة فائقة، ورؤية الآخر لها لا يطاق في بعض ما يبث، والتي قد لا نتوافق مع بعضها في مسارات هذه الأفكار ومنطلقاتها، خاصة من الدول المتقدمة، بإمكانيات التأثير الضخمة التي أحدثتها في العالم كله، وهذه لها حديث آخر في قضية الثقافة ومؤثراتها.
والإشكال الذي يثار من بعض المهتمين، أن القراءة عند بعض الأجيال الجديدة، ابتعدت في أغلبها عن القراءة في الكتاب الورقي، والاقتصار على بعض القراءات البسيطة والهامشية عبر الوسائط، ومنها الروايات والتعليقات والنقاشات العامة السريعة، كل حسب اهتمامه، لكن لا تقاس كمقارنة بأهمية ومكانة وتأثير الكتاب المطبوع على القارئ الجاد، لكن هذا القول في عمومه كما يراه البعض لا يمكن أن نعتبره مسألة محسومة، تجاه هذه الوسائط عند الغالبية من الشباب لا انفكاك عنها ـ كما أشرت آنفًا ـ لكني أرى من خلال ما تابعته منذ عامين تقريبا، أن بعضًا من جيل الشباب، بدأ يغير نظرته تجاه الكتاب وأهميته ودوره الفكري والثقافي،
وهناك مؤشرات جديدة تجاه هذه النظرة للكتاب عند النخب الواعية المدركة لقيمة الكتب والمعرفة المكتوبة عمومًا، وأن بعضهم بدأ بالانجذاب للقراءة في الروايات، وبدأت ظاهرة الإقبال على الكتاب الورقي من جديد في البروز عند الكثير من النخب الشبابية، وقد كتبت منذ فترة عن هذا الأمر الملاحظ، والاهتمام بالفكر والثقافة في معرض مسقط، وحتى الفلسفة عند بعضهم، ومنها الكتاب المسموع، وبدأ هذا القبول يتطور ويتزايد في فئة لا بأس بها من الجيل الجديد ، وهذه ظاهرة تستحق الاهتمام، حتى في الكثير من المجتمعات العربية، ومنها مجتمعنا العماني، وكذلك نراه موجودًا في المشاركة بمعارض الكتاب الدولية، وهذه ظاهرة أراها إيجابية خاصة،
مع حضور الشباب في المعارض، والذي بدأ يهتم بالكتاب المطبوع ويتابع الجديد مما تصدره المطابع في المعارض المختلفة، ويسافر إلى بعض الدول العربية سنويا، ومنها دول مجلس التعاون لشراء الجديد من الكتب، ومحاولة البعض شراء الكتب وبيعها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يسهم في دعم القراءة، وتشجيعها عبر هذه الوسائط الجديدة بين الأجيال الجديدة التي تتابع في هذه الوسائط ومنها مواقع لبيعها.
ولا شك أن القراءة أصبحت من أهم وسائل تكوين الوعي الاجتماعي والفكري والثقافي، بين الناس، خصوصا فيما يتعلق بالجديد في عالم التكنولوجيا والتفاعل، مع العصر ومستجداته وتحولاته، حيث أصبحت تستخدم كأداة مكملة للجهود الرامية إلى التعليم المستمر، ورفع المستويات الفكرية والحضارية، وفي زيادة المعرفة والمهارات المنهجية المختلفة المرتبطة بالقراءة الجادة، والتي تدفع الناس دفعا نحو حياة أكثر نشاطًا وابتكارًا ووعيًا بالواقع وتحدياته، في كافة مناحي الفكر ومتطلبات الرؤى الثاقبة التي تفتح آفاق المعرفة بكل جوانبها، ومنها ترشيد وتنظيم القراءة على مستوى الأمة، والتي تهدف أساسا إلى الاستخدام الأمثل والأكمل للقراءة في الكتب، باعتبارها من أقوى وسائل التأثير في من يقرأ ويهتم بالقراءة. ومن الباحثين البارزين، الذين اهتموا بالقراءة وتأثيرها على الكتابة، كما عاشوها د. محمد حامد الأحمري في كتابه «مذكرات قارئ» إذ يقول: «قضيت معظم ما مرّ من سنوات وعيي قارئًا، لأكتب عما أشغلني طوال هذه السنين،
بدأتُ فوجدت النصوص التي أذكر مواقعها، والأفكار التي مررت بها، والنتائج التي توصلت لها ماثلة للعيان، تنادي كل منها من زاوية قريبة أو بعيدة، كلها تطلب الحضور إلى عالم الوجود، وهنا يحس أن صحة الجسد والروح، ومتعة العقل والفهم تحتاج إلى توازن ورعاية، وأن هذا الوجود ـ ناسا وكونا ـ يستحق أن تترك لهم بعدك خيرا هو خير ما عرفت، أو تترك لهم خبرا عما كان منك، فتدعه هناك لهم». فالقراءة تشعل العقل والفكر والدعوة للكتابة عند الكثيرين ممن تمسك بالقراءة، وهي بلا شك إحدى ثمار هذه النهضة والحضارة الإنسانية، وأهم وأقوى وسيلة للمعرفة الصحيحة، إلى جانب الارتقاء بالإنسان في عقله ووعيه ورؤيته ومنهجه في الحياة، وأعتقد أن الكتاب سيظل حيا، وسيبقى الهاجس الفكري والمعين القوي في التثقيف الذاتي للإنسان، مهما تسارعت وتطورت الوسائل الحديثة ووسائطها.
ومع انتشار الكتاب في الوطن العربي، وزيادة دور النشر بشكل ملحوظ، وتطور وسائل الطباعة الورقية، إلا أن البعض ممن له بعض الاهتمامات ـ بحسب رأيه ـ ويتحدثون عما أسموه بضيق الوقت، ومن عدم الوقت للقراءة، ولو لساعات،
وقد التقيت في إحدى المرات ببعض الأصدقاء في جلسة خاصة، وهم من المهتمين بالكتاب، ومن القراء الدائمين، لكل جديد في عالم الكتب، فكان حديثنا حول القراءة والوقت، ومدى تخصيص ولو جانب ضئيل من الوقت للقراءة، والواقع أن عالم الكتب والقراءة عالم جذاب، ومليء بالإثارة والحيوية والنقاشات المتباينة، لكن هل مشكلة الوقت هي التي تحيل دون القراءة في الكتاب الورقي؟ أو التي تقف حائلا دون إشباع تلك الرغبة عند البعض؟ وما من شك أن عالم الكتب والمكتبات، عالم قريب إلى كل قلب عاشق للقراءة، بغض النظر عن مبررات الوقت، وعدم توفره كما يرى البعض، لكني أعتقد أن هذا التبرير غير مقنع، في مسألة القراءة وحجج الوقت، لذلك ما يقال مجرد هروب من إيجاد الوقت، إذا كان الشخص راغبًا في القراءة، فإذا أراد سيجد الفرصة المناسبة للقراءة، فالمهم استعداده هو عند الإرادة، إن كان محبًا وراغبًا وجادًا في أن يقرأ، فلماذا مع وسائل التواصل الاجتماعي، يتيسر الوقت لساعات وساعات طويلة عند البعض! مع أن القراءة في الكتاب الورقي،
أضحى في عصرنا الراهن أسهل وأبسط وأريح للعين، ويعتبر خير مصدر للمعلومات؛ لأنك تجده دائمًا وأبدًا بالقرب منك في أي وقت، إذا ما احتجت إليه، فهو الصديق الحميم والمفيد، دون متاعب أخرى، كونه بعيدًا عن الآلة ومتاعبها، فالزمن الراهن الذي نعيش فيه، ونحن نبحث عن الوسيلة المناسبة للتغلب، على هذه المعضلة العامة، لدى البعض من الناس.. وانتهينا، في حوارنا في تلك الجلسة الخاصة، مع هؤلاء الأصدقاء، وهم من عشاق القراءة، ومن المتابعين والمهتمين، لكل جديد في عالم الكتب والمكتبات، إلى أن ثمة سبلا عديدة ـ إن صحة هذه الشكوى ـ فيمكن للمرء أن ينمي بها عادة القراءة اليومية، ويتدرج في القراءة ويصبر على هذه العادة، حتى تترسخ لديه الرغبة في القراءة، وتتحول إلى عشق دائم، أو تتحول كما يسميه البعض إلى الإدمان عليها،
كما أنه لظروف كثيرة متعددة ـ أحيانًا ـ قد يصعب عند البعض، ربما الذي لم يبدأ بداية من المراحل الأولى لعمره، أن يحدد بالطبع وقتا معينا كل وقت بعينه للقراءة عند البعض من الناس، لاختلاف طريقة حياتهم وأعمالهم ومشاغلهم المختلفة، فيتوجب على كل فرد منا، أن يبحث لنفسه عن ساعة فقط للقراءة كبداية، ومن الأفضل أن يكون ذلك بصفة منتظمة ومستمرة، إن تيسر له الوقت الذي يراه أنسب من الناحية النفسية،
لزيادة المعرفة والاستيعاب أثناء القراءة، وسوف يجد ويكتشف الإيجابيات من تخصيص هذا الوقت الملائم له، لذلك سوف يجد مع الوقت أن الساعة قد زادت عنده ساعات يومًا بعد يوم، وبدون أن يضع جدولًا مسبقًا للقراءة، فأهم ما في الأمر الرغبة الأكيدة والمستمرة، في القراءة والاعتياد عليها، وبهذا نستطيع التغلب على مشكلة القراءة -إن صحت عند البعض- أنها معضلة بسبب الوقت.