“نظام التفاهة” : عندما تصبح الرداءة نظامًا وجوديًا
تاريخ النشر: 25th, January 2025 GMT
في عالم يموج بالتغيرات ويتسابق فيه البشر نحو الحداثة ، يبرز كتاب (نظام التفاهة) للدكتور آلان دونو (Alain Deneault)
كصرخة تحذير فلسفية تنبئنا بمأساة كونية : أن الرداءة لم تعد استثناءً ، بل أصبحت هي النظام.
الكتاب يضعنا أمام مرآة شجاعة تعكس وجوهنا المعاصرة ، حيث تغدو التفاهة معيارًا والمبدعون استثناءً شاحبًا.
بأسلوب يمزج بين الفلسفة الأدب ، والتحليل ، يفتح الكاتب أبواب التفكير ويقذفنا في مهب أسئلة كبرى عن قيمنا ، هويتنا ، ومستقبلنا.
الفكرة المركزية : صعود التفاهة كقاعدة
تقوم فرضية دونو على أن التفاهة لم تعد حالة عرضية ، بل أصبحت النسق الذي يحكم جميع مناحي الحياة : السياسة ، الاقتصاد ، التعليم ، وحتى الثقافة.
ويكمن الخطر هنا في أن هذا النظام لا يحتاج إلى مؤامرة كبرى أو ديكتاتورية صارخة ، بل يعمل عبر أدوات ناعمة تجعل الرداءة حالة طبيعية يتعايش معها الجميع ، وأحيانًا يساهمون في تعزيزها.
يشير دونو إلى أن السياسة الحديثة لم تعد بحاجة إلى زعماء ملهمين أو قادة يحملون مشروعًا فكريًا. بل أصبح المجال السياسي سوقًا للتفاهة ، حيث يُفضل الانتهازيون الباهتون على أصحاب الرؤية.
وهنا يذكرنا بطرح نعوم تشومسكي في كتابه “من يحكم العالم؟” الذي يحلل كيف تتحكم النخب الاقتصادية في مصير المجتمعات على حساب المبادئ.
وفي زمن يُفترض فيه أن التعليم يحرر الإنسان ، يصبح التعليم في نظام التفاهة وسيلة لتطويع العقول. يتحول الطلاب إلى منتجات جاهزة لسوق العمل ، وليس إلى مفكرين أحرار. يلتقي هذا الطرح مع ما ناقشه إيفان إيليتش في كتابه “مجتمع بلا مدارس”. فبدلًا من أن تُنير الثقافة العقول ، أصبحت تُستخدم كأداة لتثبيت النظام القائم وإجهاض أي محاولة للنقد أو التغيير.
وايضاً يتناول دونو الاقتصاد بوصفه قلب نظام التفاهة. في عالم يقيّم كل شيء بالمقاييس المادية ، فتصبح القيمة الإنسانية غير مرئية. الفنان الذي كان يعبر عن روح عصره يتحول إلى مُنتِج تُقاس أهميته بعدد اللايكات أو المبيعات.
وهنا يتقاطع دونو مع رؤية تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر في كتابهما “صناعة الثقافة”: حيث تتحول الثقافة إلى سلعة تُستهلك بدل أن تُنتج.
يمتاز أسلوب دونو بلغة تجمع بين التحليل الفلسفي والجمال الأدبي. النص ممتلئ بصور بلاغية تدهش القارئ ، لكن ذلك لا يخلو من النقد.
ففي بعض المواضع ، تبدو السخرية المفرطة وكأنها تغرق القارئ في التشاؤم دون أن تقدم بدائل عملية.
هذا النقد ذاته يمكن أن يُوجّه إلى إريك فروم في كتابه “الخوف من الحرية”. كلا الكاتبين يُشخصان المشكلات بدقة لكن يتركان القارئ في مواجهة السؤال الكبير : ماذا بعد؟
نقاط القوة والضعف التي لاحظتها في الكتاب :
مواطن القوة :
• شجاعة الطرح : الكتاب لا يخشى مواجهة الحقائق القاسية.
• تكامل الرؤية : يمزج بين السياسة ، الاقتصاد ، والثقافة في إطار شامل.
• اللغة الأدبية : أسلوب دونو يجعل القراءة تجربة فنية بحد ذاتها.
• مواطن الضعف :
• التعميم : أحيانًا يُسقط الكاتب النظام على كل شيء دون استثناء.
• غياب البدائل : الكتاب يُشخص المرض لكنه يترك العلاج معلقًا.
• النزعة التشاؤمية : قد تثني بعض القراء عن التفاعل الإيجابي مع الأفكار المطروحة.
نماذج من الكتاب : حين تتحدث الرداءة بصوتها
من النماذج التي تعكس قوة الكتاب ، وصف دونو لنظام العمل الحديث بأنه “مصنع لإنتاج التفاهة”. حيث يختصر الموظف حياته في سلسلة من المهام الروتينية التي تخدم النظام بدل أن تحقق ذاته.
هذه الفكرة تعيدنا إلى ما طرحه كارل ماركس في نقده للاغتراب في العمل.
وفي موضع آخر ، يشير الكاتب إلى أن “النجاح اليوم يعني أن تكون عاديًا إلى حد الإبهار”. هذه العبارة التي تجمع بين التناقض والسخرية ، تلخص واقعنا المعاصر.
مقارنة بكتب مشابهة
• “عصر الفراغ” لجيل ليبوفتسكي : يعالج الفكرة نفسها من منظور اجتماعي لكنه يركز على الفردانية الحديثة.
• “المجتمع الشبكي” لمانويل كاستلز : يقدم رؤية متعمقة عن كيف تؤثر التكنولوجيا في تفكيك القيم الاجتماعية.
الخاتمة : هل التفاهة قدر أم خيار؟
يقدم “نظام التفاهة” أكثر من مجرد كتاب. إنه دعوة للتأمل، للتحرر ، ولإعادة التفكير في القيم التي تحكم حياتنا. وبينما قد يشعر القارئ بأن الكتاب يضعه في مواجهة جدار من التشاؤم ، فإنه أيضًا يحثه على تحطيم هذا الجدار بالسؤال المستمر :
كيف يمكننا استعادة المعنى؟
دونو يتركنا أمام مفارقة وجودية : هل نحن ضحايا نظام لا نستطيع تغييره ، أم أننا متواطئون في استمرار هذا النظام؟
الإجابة تبقى في يد القارئ الذي قد يجد في الكتاب بداية لثورة فكرية ، أو مجرد مرآة تعكس واقعه بصمت.
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: نظام التفاهة نظام ا
إقرأ أيضاً:
هل يشكل المقاتلون المصريون في سوريا خطرا على نظام السيسي؟
تحل اليوم الذكرى الـ14 لثورة 25 يناير في مصر وسط حالة من التطورات الإقليمية المتسارعة وفي مقدمتها سقوط النظام السوري وهروب رئيسه المخلوع بشار الأسد إلى روسيا، وهو حديث من شأنه أن يلقي بظلاله على المشهد السياسي في المنطقة، بما في ذلك مصر.
وكان الحدث السوري الذي جاء بعد ما يقرب من 14 عاما من مواجهة النظام المخلوع الذي كرس ترسانته العسكرية بالكامل لقمع الاحتجاجات الشعبية التي تحولت إلى العسكرة، أحد أبرز محاور الإعلام المصري خلال الأسابيع الأخيرة، لاسيما بعد ظهور مقاتلين مصريين في صفوف المعارضة السورية.
وطغت لهجة الانتقاد اللاذع والتحذير من النموذج السوري على طريقة تناول العديد من الإعلاميين المصريين المحسوبين على النظام المصري للتطورات في سوريا.
كما بدا التحفظ المصري إزاء المشهد الجديد في سوريا عبر تصريحات أدلى بها وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي واصفا الإدارة السورية الجديدة في دمشق بقيادة أحمد الشرع بأنها "سلطة أمر واقع".
ويرى المحلل السياسي عزت نمر أن "هناك حالة من التوتر والهياج في الإعلام الرسمي لنظام السيسي والأمر أبعد من ذلك حيث أن كل ظهور للسيسي من بعد أحداث سوريا يبدو من كلماته حالة من التوتر البالغ عليه هو نفسه، وتظهر بوضوح في كلماته ، حتى أنه لا يتكلف في إخفائها".
ويضيف في حديثه إلى "عربي21"، أن نجاح المعارضة السورية بالإطاحة بنظام الأسد "ألقى بظلاله في صورة تجديد الأمل في تجدد الربيع العربي في موجته الحاسمة، والأمل في حراك جديد يغير الأوضاع في مصر خاصة أن الاحتقان في مصر بلغ مداه".
وكان السيسي شدد بعد سقوط النظام السوري في أكثر من مناسبة على عدم تلطخ يديه بالدماء أو سرقة مال أحد، وهو ما اعتبره مراقبون محاولة من رئيس النظام المصري لتفادي سيناريو بشار الأسد.
ومن ضمن الهواجس المتعلقة بسوريا والتي أثارها الإعلام المصري خلال الأسابيع الماضية، يبرز ملف المقاتلين المصريين في صفوف المعارضة السورية، بما في ذلك المصري أحمد المنصور الذي أعلن عن تشكل حركة ثورية للإطاحة بالسيسي.
حركة ثوار ٢٥ يناير pic.twitter.com/wigbhtD4jH — أحمد المنصور (@sweed_08) January 11, 2025
والمنصور هو شاب مصري انخرط في القتال مع المعارضة السورية ضد نظام الأسد، قبل أن يظهر في مقطع مصور بعد انهيار النظام السوري معلنا عن تشكيل "حركة ثوار 25 يناير"، بهدف إسقاط السيسي.
وأثارت إعلان المنصور موجة من الانتقادات اللاذعة ضد الإدارة الجديدة في سوريا من الإعلام المصري، في حين شد وزير الخارجية المصري على ضرورة "عدم إيواء عناصر إرهابية" على الأراضي السورية، داعيا إلى تكاتف الجهود الدولية لمنع تحول سوريا إلى "مصدر لتهديد الاستقرار في المنطقة أو مركز للجماعات الإرهابية".
في غضون ذلك، تحدثت تقارير عن اعتقال السلطات السورية للمقاتل المصري وذلك بالتزامن مع بيان لمتحدث مزعوم باسم "حركة ثوار 25 يناير" يؤكد فيه اختفاء المنصور بعد تلقيه دعوة للقاء وزير الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، مرهف أبو قصرة.
البيان الأول باسم المتحدث الرسمي
لحركة ثوار 25 يناير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فيطيب للإخوة المؤسسين لحركة ثوار 25 يناير، أن يتقدموا بأسمى آيات الشكر للشعب المصري الكريم، ولجميع المتابعين للشأن العام في ساحات الربيع العربي، وذلك لمواقفهم النبيلة الداعمة لإعلان… — المتحدث الرسمي (@Almthdth25jan) January 14, 2025
يشدد الباحث محمود علوش على أن "التحول السوري يجلب هواجس مُتعددة لمصر"، مشيرا إلى أن "هذه الهواجس تُشكل الموقف المصري من التحول. ويظهر القلق من المقاتلين المصريين وتحول سوريا إلى ملاذ لتنظيمات إرهابية كأحد هذه الهواجس الرئيسية".
ويوضح في حديثه مع "عربي21"، أنه "من الممكن لهذه الهواجس أن تضغط بقوة على علاقة القاهرة بالإدارة السورية الجديدة في حال لم يكن هناك تعاون بين الطرفين لتبديد هذه الهواجس"، لافتا إلى أن "دمشق حريصة على التعاون مع مصر ودول المنطقة الأخرى التي لديها أية هواجس بهذا الخصوص".
ملف المقاتلين المصريين
وكان ملف المقاتلين الأجانب في سوريا أثار حفيظة العديد من الدول الغربية بعد إعلان القيادة السورية الجديدة عن سلسلة من الترقيات في الجيش، والتي شملت مقاتلين عرب وأجانب، من بينهم علاء محمد عبد الباقي، وهو مواطن مصري، قدم إلى سوريا قبل سنوات للانخراط في صفوف الفصائل المسلحة.
وجرت ترقية عبد الباقي إلى رتبة عقيد في الجيش السوري بموجب مرسوم صادر عن وزارة الدفاع بتوقيع من قائد الإدارة السورية الجدية أحمد الشرع.
يوضح علوش أن "القاهرة عبّرت بوضوح عن مخاوفها من تحول سوريا إلى ملاذ للإرهاب. مع ذلك، فإن التعبير عن هذا الهاجس يُخفي في الواقع هواجس أخرى كبيرة من تداعيات التحول السوري على المنطقة لجهة عودة صعود تيار الإسلام السياسي ونجاح تنظيم ذو خلفية جهادية في حكم بلد كسوريا".
ويضيف أن "هذا سيناريو لا يُمكن للدول المعادية لتيار الإسلام السياسي أن تتقبله أو تتعايش معه"، لافتا إلى أن "التعامل مع هذا الملف حاجة لسوريا قبل أن يكون حاجة لدول المنطقة".
ومن الواضح، بحسب الباحث، أن "الإدارة الجديدة تُدرك حساسية هذه القضية وتأثيرها على العلاقة مع دول المنطقة. والخطوات التي تقوم بها تُرسل رسائل مُشجعة".
وكان الشرع تحدث عن عدم اعتزام سوريا تصدير الثورة السورية إلى الخارج بعد نجاحها، مشددا في الوقت ذاته على ضرورة العمل بعقلية الدولة بعد ما قال إنه "انتهاء الثورة" إثر تحقيق هدفها بإسقاط نظام الأسد.
وبالرغم من تواصل توافد الوفود الإقليمية والغربية إلى سوريا من أجل اللقاء بقادة الإدارة الجديدة منذ سقوط الأسد في الثامن من كانون الأول /ديسمبر الماضي، إلا أن القاهرة لم ترسل بعد أي وفد إلى دمشق، وما يشير إلى حالة من التحفظ لا تزال مسيطرة على النظام المصري.
ويرى عزت نمر أنه " من الممكن إرجاع حالة التوتر في أروقة النظام في مصر، إلى وجود الشباب مصري المقاتل في سوريا وهذا يزيد التخوف من نقل فكرة الثورة المسلحة بشكل ما".
ويشير إلى أن "النظام المصري ظل سنوات يخوف المصريين من النموذج السوري ، وكانت سوريا هي الفزاعة التي استخدمها اعلام السيسي، كيف واليوم أصبحت سوريا أيقونة عودة الربيع العربي، خاصة مع هروب رئيسها إلى روسيا وهو مشهد ربما مماثل قد يحدث في مصر غداً أو بعد غد".
ويشدد على أنه "سيكون هناك تداعيات لأحداث سوريا في مصر وربما في مواطن أخرى من الإقليم ،إذ لا يمكن تجاوز حقيقة أن الثورة عدوى وأن حالة انتصار إرادة الشعب في دولة تغري الشعوب الأخرى بالأمل والحركة".
وفي تعليق على إمكانية أن يتسبب المقاتلين المصريين في سوريا بتهديد للنظام السيسي، يوضح نمر أن "أحداث سوريا وهروب بشار، ستظل ضاغطة على النظام المصري طالما استمرت حالة الاحتقان والغضب الشعبي".
ويلفت إلى ضرورة "التركيز على متغير شديد الحرج وهو أن طبقة كبيرة من ضباط الجيش في المستويات الدنيا والمتوسطة باتت هي الأخرى تشكو من الواقع الاقتصادي، وهو لغم شديد الخطورة إذا ما تأثر بالأوضاع أو تعاطى مع الأحداث أو انتقل إلى مربع الاحتقان والغضب".
ثلاث اتجاهات "ترعب" السيسي
يوضح عزت نمر أن "الأنظمة الاستبدادية القمعية هي بالأساس أنظمة خوف ، يحسبون كل صيحة عليهم"، مشيرا إلى أنه "من الطبيعي أن تشكل صورة المقاتلين المصريين في المشهد السوري صورة مرعبة للسيسي ونظامه في اتجاهات متعددة".
ويلخص الباحث المصري الاتجاه الأول في أن "يتحول هؤلاء بخبراتهم العسكرية والثورية إلى الملف المصري وهو لغم شديد الانفجار خاصة مع حالة الاحتقان الشعبي الموجودة في مصر حيث ستجد بيئة خصبة للثأر والانتقام من نظام ترك ثارات متعددة مع كل فئات الشعب".
أما الاتجاه الثاني، فيوضح الباحث أنه يعود إلى "تبني آخرون نفس النهج في مصر، خاصة أن السيسي وأجهزته رصدت حالة التفكك السريع والانهيار لكل قوات نظام سوريا المسلحة ومليشياته بمجرد جدية الحل العسكري"، معتبرا أن هذا السيناريو "يرعب النظام".
وثالثا، يرى نمر أن التخوف الثالث لدى النظام المصري يتمثل في أن "يؤتى السيسي من مأمنه حيث لا يزال يأمن جانب الجيش في مصر إلى حد ما"، ويضيف متسائلا "ماذا لو تبنى أفراد من الجيش هذا النهج وتحركوا فجأة وهذا سيناريو مرعب لأي نظام استبدادي والأخص في الواقع المصري".