لستُ مدافعًا عن النور حمد… بل عن الحق في الاختلاف
تاريخ النشر: 23rd, January 2025 GMT
إبراهيم برسي
22 يناير 2025
إنني هنا لست مدافعًا عن د. النور حمد، فلا تربطني بالرجل علاقة شخصية، ولم ألتقِ به من قبل، ولا يجمعني به أي انتماء حزبي أو عمل سياسي مشترك، سوى التزامنا المشترك بإرادة العبور بالسودان نحو وطن أكثر عدلًا وإنصافًا، وطن يتسع للجميع ويحترم اختلافاتهم.
إن معرفتي بالدكتور لا تتجاوز قراءتي لكتابه “العقل الرعوي”، وهو الكتاب الذي وجدته يقدم قراءة عميقة للمأزق السوداني، صيغت بلغة من يضع إصبعه مباشرةً على موضع الألم، حيث حاول فيه أن يفهم الأزمة السودانية من خلال تحليل مكونات العقل الجمعي السوداني وتأثير البنى الثقافية والاجتماعية على تشكيل سلوكنا السياسي.
بعد قراءتي لذلك الكتاب، تمنيت أن أتعرف على الرجل عن قرب وسعيت للتواصل معه، ليس فقط لفهم عمق أفكاره، ولكن أيضًا لتقدير جهوده في تسليط الضوء على ما خفي من ملامح أزماتنا المتجذرة.
لقد كان جهده في هذا الكتاب محاولة لفهم جذور الأزمات المتكررة في السودان، والتي تتجاوز السطح السياسي لتغوص في العمق الثقافي والاجتماعي، وهو أمر نحتاج إلى استكماله بدلاً من إنكاره.
ومع ذلك، فإن تناول أفكاره ومواقفه الأخيرة بشأن الأزمة السودانية لا يمكن أن يتم بمعزل عن سياق أوسع يتعلق بحرية الفكر والنقد، خاصة في ظل واقع سياسي شديد التعقيد يتطلب منا فهماً أعمق لجذور المشكلة وآليات التعامل معها.
الفكر الحر، مهما بدا مثيرًا للجدل، هو دعامة أساسية لأي مجتمع يسعى للتقدم.
النور حمد، في نهاية المطاف، لا يحمل بندقية، ولا يقود ميليشيا، ولا يفرض رؤاه على الآخرين بالقوة.
الفكر، كما علّمنا التاريخ، لا يُهزم إلا بفكر آخر. وكما قال الفيلسوف جون ستيوارت ميل: “الحقيقة تُولد من صراع الأفكار”.
لذلك، فإن رفض أو قمع فكرة ما بسبب اختلافنا معها لا يؤدي إلا إلى مزيد من الركود الفكري والسياسي.
إن حرية النور حمد في طرح رؤاه هي جزء من هذا الحق في التفكير الحر، الذي يشكّل شرطًا أساسيًا لأي نقاش صحي حول مستقبل السودان.
علاوة على ذلك، لا يمثل النور حمد مؤسسة حكومية، ولا يحمل سلطة تنفيذية تُحوِّل أفكاره إلى واقع مفروض. إنه مفكر حر، يتحرك ضمن الفضاء العام بأدوات الفكر والحوار.
الهجوم عليه، خاصة من قوى مدنية أخرى، يعكس أزمة أعمق في قدرتنا على إدارة الخلاف الفكري.
لماذا نحاكم الأفكار كما لو كانت أدوات قهر؟ ولماذا نضيّق على مساحة الفكر الحر، في وقت نحتاج فيه أكثر من أي وقت مضى إلى نقاش عميق وجريء حول مستقبلنا؟
إذا أردنا فهم جذور الأزمة السودانية، فإن علينا أن نعود إلى المصدر الحقيقي للمأساة. الجبهة الإسلامية، التي اختطفت الجيش منذ عقود، حوّلت المؤسسة العسكرية من حارس للوطن إلى أداة لخدمة مشروعها السياسي والأيديولوجي.
لقد أفرغت هذه الجبهة الجيش من مضمون المهنية، وأعادته إلى مؤسسة قمعية تُستخدم ضد الشعب بدلًا من حمايته.
هذا التشويه لم يكن مجرد حادث عرضي، بل كان جزءًا من مشروع منهجي يُعيد تشكيل الدولة لخدمة الأجندة الأيديولوجية للجبهة.
ظهور الدعم السريع لاحقًا لم يكن سوى تجسيد لهذا الانحدار. الدعم السريع ليس نتاجًا لفراغ، بل هو امتداد لتفكيك الدولة ومؤسساتها، وهو انعكاس للعقلية التي تدير بها الجبهة الإسلامية صراعها من أجل البقاء.
إن مهاجمة النور حمد أو غيره من المفكرين في هذه اللحظة المفصلية ليست سوى انشغال بالصغائر، في وقت تستفيد فيه الجبهة الإسلامية من انقسام القوى المدنية، كما استفادت من قبل من تفتيت الحركة الوطنية منذ الاستقلال.
إن الأزمة السودانية ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج لتراكمات تاريخية طويلة.
منذ الاستقلال، افتقرت الدولة السودانية إلى رؤية وطنية جامعة، ما جعل مؤسساتها عرضة للاستلاب من قبل النخب العسكرية والسياسية.
الجبهة الإسلامية ليست سوى الوجه الأكثر وضوحًا لهذا الاستلاب، وهي التي كرّست العقلية الاستعلائية التي أدت إلى الانقسامات الحادة بين مكونات الشعب.
هذه العقلية خلقت فجوة بين الدولة ومواطنيها، وجعلت الجيش أداة بيد السلطة السياسية، بدلًا من أن يكون حارسًا للديمقراطية.
في نهاية المطاف، إذا أردنا الحديث عن “المتاهة”، فإن الذي يعيش في متاهته الحقيقية ليس النور حمد، بل جنرالات الحرب الذين قادوا البلاد إلى هذا الخراب، يقتتلون فوق ركام وطن منهك، دون رؤية أو بوصلة أخلاقية.
إن متاهة النور حمد - إن وُجدت - هي متاهة الفكر الباحث عن مخرج، بينما متاهة هؤلاء تشبه متاهة “غابرييل غارسيا ماركيز” في روايته “خريف البطريرك”: متاهة الطغاة، حيث السلطة عارية من الإنسانية، والصراعات تدور بلا نهاية، كدوامة تبتلع البلاد والعباد.
هذه ليست متاهة الفكر الحر، بل متاهة الغرور السياسي والجشع العسكري، التي لن تنتهي إلا بإعادة تعريف معنى الوطن والسلطة والمسؤولية.
السودان اليوم بحاجة إلى مشروع فكري وطني جديد، يعترف بجذور الأزمة ويضع حلولًا شاملة تعيد بناء الدولة على أسس سليمة.
هذا المشروع لن يُبنى إلا إذا تجاوزنا منطق الإقصاء، وأعدنا إحياء ثقافة الحوار.
الفكر، كما قال سقراط: “هو محاكمة الذات أمام الذات”.
نحن بحاجة إلى وقفة صادقة مع الذات قبل أن نوجه أصابع الاتهام للآخرين.
المشكلة ليست في النور حمد أو أفكاره، بل في أن بلدًا بأكمله قد أُنهك بفعل عقود من القمع والاستغلال.
إذا لم نتعامل مع الجذور الحقيقية للأزمة، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة من الصراعات التي لا طائل منها.
في النهاية، علينا أن ندرك أن الأفكار لا تُهزم بالسلاح أو الإقصاء، بل تُواجه بفكر أفضل وأكثر عمقًا وإقناعًا.
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأزمة السودانیة الجبهة الإسلامیة النور حمد
إقرأ أيضاً:
(الإرهاب) تهمة سياسية يوظفها أهل (الباطل) على أهل (الحق)
طه العامري
تهمة (الإرهاب) والعقوبات الاقتصادية وحصار الدول والأنظمة ومعاقبتها بصورة فردية أو جماعية، كل هذه القوانين والتشريعات ابتكار أمريكي لا علاقة لها بالقانون الدولي ولا بأي من المواثيق الدولية المنظمة للعلاقات بين الأمم والشعوب، هذه التهمة انطلقت بها أمريكا واعتمدتها بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة وانتهاء النظام القطبي ثنائي التفاعل وسقوط الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي، حينها نصبت أمريكا من نفسها زعيمة لما أسمته (العالم الحر) عام 1990م.
ومع هذا الإعلان الأمريكي صادرت أمريكا صلاحيات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، كما صادرت صلاحيات واختصاصات كل المنظمات الدولية التي أصبحت صلاحيتها تمارس من قبل مكتب العلاقات العامة بوزارة الخارجية الأمريكية، وهكذا هيمنت أمريكا على العالم وعلى القانون الدولي الذي استبدلته بقانونها الخاص وراحت بالتالي تخضع دول العالم لقوانينها ولهيمنتها المطلقة، فارضة قوانينها الخاصة على العالم، ضاربة بالقانون الدولي عرض الحائط وتحولت بالتالي أمريكا من دولة ليبرالية إلى أخرى إمبريالية، وإمبريالية متوحشة، أعادت بسلوكها مراحل الاستعمار الهمجي على العالم التي عرفها في القرون الوسطى ولكن هذه المرة بطرق أكثر تقنية وتطوراً، فقد استغلت أمريكا كل منجزات الثورة الصناعية وتقنية المعلومات وثورة الاتصالات لتوظفها من أجل الهيمنة على العالم وتطويعه بما يتسق مع مصالحها الاستعمارية ومصلحة حليفها الوحيد في الكون وهو الكيان الصهيوني الذي يعد بالنسبة لأمريكا بمثابة قاعدة عسكرية متقدمة لها في المنطقة مثلها مثل أي حاملة طائرات أو مثل أي قاعدة من قواعدها المنتشرة في المنطقة والعالم والتي تفوق 850 قاعدة عسكرية تنتشر خارج الجغرافية الأمريكية..
وخلال هذه الفترة الممتدة من العام 1990م وحتى اليوم تعمل أمريكا على توظيف تهم (الإرهاب) ضد دول وأنظمة وشعوب وأفراد وجماعات وشركات ومؤسسات، وكل من يناهض سياستها ويختلف معها ويستقل بقراره ويعمل لصالح وطنه فهو بنظر أمريكا (إرهابي) وتمنحه التهمة وتفرض العقوبات عليه وتجبر أنظمة ودول العالم ومؤسساته على تنفيذ قرارها حتى وإن كان ضد رغبات وإرادة هذه الأنظمة والدول والمؤسسات التي تجد نفسها مجبرة على تنفيذ أوامر أمريكا ووزارة خزانتها المتحكمة بالاقتصاد الدولي بحكم هيمنة (الدولار) السلاح القاتل الذي تستخدمه أمريكا لتجويع شعوب العالم التي تخالفها ولا تسير في ركبها..!
إن أمريكا توظف تهمة (الإرهاب) (لإرهاب) دول وأنظمة العالم ومؤسساته بدون وجه حق، فقط بهدف الانتصار لمخططاتها الاستعمارية وفي سبيل إبقاء هيمنتها الجيوسياسية على العالم..!
تهمة ترعب بها أنظمة ودولاً وكيانات تقاوم هيمنتها وترفض الانصياع لأوامرها والتسليم لرغباتها، ومن كوريا الشمالية إلى روسيا والصين وإيران وسوريا وحزب الله والمقاومة في فلسطين، مرورا بالعراق سابقا وليبيا والسودان والصومال وفلسطين والمقاومة إلى حركة أنصار الله في اليمن، وهناك دول ومنظمات وحركات ثورية وتحررية ودول أمريكا الجنوبية التي تعاني من هذه السياسية الاستعمارية التي تمارسها أمريكا الإمبريالية، نذكر منها كوبا التي تعاني من حصار أمريكا منذ ستة عقود وفنزويلا، وكل نظام أو دولة أو جماعة أو حركة تحرر لم تخضع لمنطق أمريكا وترفض التسليم بسياستها، تجد نفسها تلقائيا متهمة بتهمة الإرهاب التي طالت حتى الأفراد، وهذا سلوك يعكس هيمنة وغطرسة القوة الأمريكية التي داست على القانون الدولي وصادرت مهام وصلاحيات واختصاصات المنظمات الدولية وأصبحت هي الأمم المتحدة وهي الجمعية العامة وهي مجلس الأمن وهي كل المنظمات الأممية وهي وحدها من تقرر وتصنف دول وشعوب العالم، ولا فرق بينها وبين أولئك المتطرفين دينيا الذين يمارسون الإرهاب بزعم نشر الدين والتوحيد والجهاد في سبيل الله ويرون أنفسهم وحدهم على حق والبقية على ضلال، وأمريكا ترى نفسها وحدها المثالية والبقية إرهابيين ومارقين ومن رابطة ( محور الشر)..
وخلال هيمنتها، تسببت أمريكا في قتل ملايين الأطفال والشيوخ في كل قارات العالم ومنها وطننا العربي بفعل قرارات الحصار والمقاطعة التي فرضتها على أنظمة المنطقة في ليبيا والعراق والصومال واليمن وسوريا وإيران وفلسطين ولبنان، وكل هذا من أجل حماية كيانها اللقيط وبهدف تطويع الجميع لكي يخضعوا للمنطق الصهيوني الأمريكي..!
تهمة أرعبت دون شك أنظمة وحكاماً في العديد من دول العالم ممن أصبحوا عبيدا لأمريكا وأقنان في الاسطبل الصهيوني وكل هذا من أجل أن ترضى عنهم أمريكا ويرضى عنهم الكيان الصهيوني..
أمريكا التي جلبت أساطيلها للمنطقة لتحرير العراق من (النظام الديكتاتوري)، فعلت كذلك في (ليبيا) وفي فلسطين حين دفعت كيانها لمحاصرة الرئيس الشهيد ياسر عرفات، وفعلت الأمر ذاته مع المقاومة في لبنان وارتاحت حين تم استهداف الشهيد حسن نصرالله وباركت اغتياله، كما باركت اغتيال رئيسي حركة حماس إسماعيل هنية ويحيى السنوار، وباركت وشاركت في حرب إبادة الشعب في فلسطين وقطاع غزة وباركت جرائم الصهاينة في لبنان وسوريا، وهي تهدد إيران وأخيرا وجهت سهامها نحو اليمن ممثلة لحركة أنصار الله الذين يتصدون لمخططها ويرفضون هيمنتها، فتراهم بنظرها مجموعة (إرهابية)، فيما لا ترى في سلوكها هذه الصفة التي تنطبق فعليا عليها وعلى كيانها الصهيوني اللذين يمارسان إرهاب الدولة المنظم وهو الأخطر من أي عمل إرهابي آخر..!
إن أمريكا هي بالأساس دولة إرهابية الهوية والهوى والسلوك ومنذ نشأتها على انقاض السكان الأصليين حيث أقدمت على إبادة أكثر من مائة مليون من سكان أمريكا الأصليين وآخرهم يعيشون داخل محميات في أمريكا حتى اليوم يعيشون حياة بدائة قاسية لدرجة أن من يشاهدهم لا يصدق أن هؤلاء يعيشون في أمريكا محرومين من أبسط الحقوق المدنية لا ماء ولا كهرباء ولا مدارس لأطفالهم ولا مستشفيات، بل ولا يحملون حتى هويات شخصية، لأن الدولة الفيدرالية ترفض الاعتراف بهم ما لم يقبلوا الخدمة في جيشها..!
أمريكا التي خدعت شعوب أفريقيا حين ذهبوا إلى أوطانهم تغريهم بالعمل فيها مقابل رواتب مغرية ولسذاجة وبساطة الأفارقة صدقوا لكنهم وبعد أن تم شحنهم بالسفن وقبل أن يصلوا مضيق جبل طارق، كانوا قد تحولوا إلى (عبيد) تتقاسمهم شركات النخاسة التي باعتهم في أسواق أمريكا عبيدا وظلوا لقرنين من الزمن يعيشون حياة العبودية وكانوا في أوطانهم أحراراً..!
أمريكا التي قتلت الشعب الياباني بالقنابل النووية وهي الدولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي ضد شعب أعزل ثم فرضت الوصاية عليه وحررت الألمان من (النازية) ثم فرضت الوصاية عليهم وكل شعب ساعدته أمريكا باسم تحريره عملت على فرض وصايتها عليه، حدث هذا في كوريا الجنوبية والفلبين وصولا إلى العراق وليبيا وسوريا ولبنان مؤخرا وفي كل بلد حررته أمريكا من حكامه المحليين فرضت عليه الوصاية واستعمرته واحتكرت سيادته وثرواته وقراره..!