ظهرت إلى الواجهة من جديد الأطماعُ الأمريكية في قناة بنما، بعد تصريحاتِ الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب بشأن السيطرة على القناة بذرائعِ ضمان الأمن الاقتصادي للولايات المتحدة، وخضوع هذا الممر البحري للنفوذ الصيني، ملوِّحًا باستخدامِ القوة العسكرية لتحقيقِ غايته.

وهذه الأطماعُ الأمريكيةُ ليست جديدةً فقد خضعت منطقةُ القناة التي كانت جزءًا من أراضي الدولة الكولومبية للاحتلال العسكري الأمريكي المباشر منذ بدايات القرن العشرين؛ نظرًا للأهميّة الاستراتيجية هذا الممر المائي اقتصاديًّا وعسكريًّا على المستوى الدولي، ولم يخرج الاحتلال الأمريكي إلا بعد نضالات شعبيّة استمرت لعقود حتى بداية القرن الحادي والعشرين.

الموقعُ والأهميّة الاستراتيجية:

تقع قناة بنما في دولة بنما، وتمتدُّ بطول 82 كيلومترًا، تربط ما بين المحيطَينِ الأطلسي والهادي، وتقسم بين قارتَي أمريكا الشمالية والجنوبية، وهي ثاني أهم القنوات المائية الاصطناعية في العالم، بعد قناة السويس.

وتمتدُّ من خليجِ ليمون في المحيط الأطلسي إلى خليج بنما على المحيط الهادي، ويبلغ أضيقُ جزء من القناة عند معبر جيلارد بعرض 150 مترًا، وأوسع جزء منها عند بحيرة جاتن بمساحة إجمالية تبلغ 422 كيلومترًا مربعًا.

وتأتي أهميّة القناة من كونها تربط بين اثنين من أكبر المحيطات، وتعد بوابةً ومركزًا رئيسيًّا للنقل التجاري والعسكري في العالم، تصل بين الأمريكيتين الشمالية والجنوبية، وبين أُورُوبا وغرب أمريكا، وكذلك توصل الصين مع شرق أمريكا، وتسهل عبور التجارة البحرية بين دول العالم.

وتقلِّصُ القناةُ رحلةَ السفن حول الأمريكيتين من 21 ألف كيلومتر إلى 8 آلاف، بفارق 13 ألف كيلومتر، وأتاحت الربط بين 160 دولة و1700 ميناء حول العالم، ويمُرُّ عبرها حوالي 5 % من حجم التجارة العالمية.

ويصل عددُ السفن التي تمر بها سنويًّا إلى 14 ألف سفينة، في مقدمتها الأمريكية والصينية واليابانية، إلى جانب نقل 70 ألف حاوية أسبوعيًّا، ومن السلع الاستراتيجية التي تنقلها السفن عبر القناة هي منتجات النفط والسيارات والحبوب والفحم، وبعد توسيع القناة عام 2016، استوعبت سفنًا أضخمَ؛ مِن أجلِ زيادة كمية البضائع المنقولة ما بين المحيطَينِ الأطلسي والهادي.

وتمر عبر القناة الطرق الرئيسة البحرية التي تربط بين الساحل الشرقي للولايات المتحدة وآسيا الشرقية، وكذلك الساحل الشرقي للولايات المتحدة والساحل الغربي لأمريكا الجنوبية، كما تربط أُورُوبا مع الساحل الغربي لأمريكا الشمالية، والساحلان الشرقي والغربي للولايات المتحدة، بالإضافة إلى ربط أُورُوبا وأستراليا.

تاريخُ تأسيس القناة:

ظهرت أولُ المقترحات؛ مِن أجلِ إنشاءِ قناة تعبُرُ برزخ بنما سنة 1543م عندما أمرَ كُـلٌّ من ملك إسبانيا، وكارلوس الخامس بدراسة مسار بنما؛ مِن أجلِ تسهيل عملية التجارة البحرية من إسبانيا إلى البيرو وبالعكس، ولتوفير ناحية عسكرية تكتيكية للإسبان ضد البرتغال.

وفي القرن الـ18، طرح فكرة إنشاء القناة الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون، إذ اعتبرها طريقةً أفضلَ وأكثر أمانًا لسفنهم مقارنة بالإبحار حول الطرف الجنوبي لأمريكا الجنوبية، لكنها لم تطبق.

وحاول كثيرٌ من المكتشفين والدول، مثل أسكتلندا وبريطانيا، وضع خطط وتنفيذ مشاريعَ لبناء القناة، لكنها لم تنجح، وفي النهاية، تبنَّى الفرنسيون المشروع مستفيدين من خبرتهم السابقة في بناء قناة السويس في مصر.

وبدأ الفرنسيون أولى محاولات بناء القناة، في عام 1878 بتوقيعهم معاهدة مع الحكومة الكولومبية لبناء قناة عبر بنما التي كانت آنذاك (بنما) مقاطعة تابعة كولومبيا، وانطلقت أعمال حفر القناة عام 1881م.

واجه الفرنسيون صعوبات مادية وتقنية، وعانوا من التضاريس شديدة الصعوبة في المنطقة بما في ذلك ارتفاع منسوب الأنهار وما تبعه من ظهور الثعابين والحشرات والأمراض الاستوائية كالملاريا والحمى الصفراء التي زادت الأمر تعقيدًا وأودت بحياة آلاف العمال.

قرّرت فرنسا التخلِّي عن المشروع بعد أن خسرت مبلغ 287 مليون دولار في ذلك الحين، وخسارة أكثر من 22 ألف شخص كانوا يعملون في حفر القناة؛ بسَببِ الأمراضِ والانهيارات الصخرية، لتنتهي أحلام فرنسا في بناء القناة بإعلان الشركة المكلفة ببناء القناة إفلاسها في15 عام 1889م، لتخيِّمَ بعد عقد من الزمن الأطماعُ الأمريكية على المشروع.

الاستحواذُ الأمريكي وانفصالُ بنما:

قوبلت الأطماعُ الأمريكية في السيطرة على المنطقة وإنشاء قناة تربط بين المحيطَينِ الهادي والأطلسي برفض من الحكومة الكولومبية والتي كانت بنما جُزءًا لا يتجزأ منها.

ففي عام 1902م قام مجلس الشيوخ الأمريكي بمناقشة رغبة الولايات المتحدة في بناء قناة تخترقُ الجنوبَ الأمريكي؛ لتسهيل نقل البضائع التجارية، فأبدى البعضُ منهم رأيًا ببناءِ قناة جديدة تَمُرُّ عبر قناة نيكاراغوا، وأبدى البعضُ الآخر رأيًا بالاستحواذ على مشروع قناة بنما.

وفي 19 يونيو 1902م صَوَّتَ مجلسُ الشيوخ الأمريكي على الخيار البنمي، وخلالَ الستة الأشهر التالية تحديدًا في 22 يناير 1903م قام وزيرُ الخارجية الأمريكية جون هاي، ووزير الخارجية الكولومبي توماس هيران بتوقيع اتّفاقية أولية عُرفت “هاي هيران”، مكَّنت الولاياتُ المتحدة من استئجار القناة بعقدٍ قابلٍ للتجديد للأبد، لكن الشروط الأمريكية كان مجحفًا لأصحاب الأرض الذين رفضوا العرض.

بعدَ الرفض الكولومبي استخدمت واشنطن الخِيارَ العسكري واحتلال البلاد، فقد قام الرئيسُ روزفلت بإرسال سفن حربية إلى مدينة بنما على المحيط الهادي ومدينة كولون على المحيط الأطلسي بذريعةِ دعم الأصوات المطالبة بالانفصال عن كولومبيا، لتعلنَ بنما انفصالَها عن الوطن الأُمِّ في الثالث من نوفمبر 1903، بمساحه بنما تبلغ حوالي 87.200 كلم مربع.

وفي غضون أسبوعين فقط من إعلان الانفصال وقّعت “بنما” الدولة الوليدة اتّفاقًا يمنحُ الولايات المتحدة شريطًا من الأرض بعرض 10 أميال إلى أجل غير مسمى مقابل 10 ملايين دولار تُدفَعُ دفعة واحدة.

أضف إلى ذلك استحوذت واشنطن على الآلاتِ والحفريات الفرنسية بما في ذلك سكة حديد بنما عام 1904، وفي العام نفسه بسطت يدها على مشروع القناة بالكامل.

وبعدها بدأت واشنطن على الفور العمل في استكمال بناء القناة وفي 15 أغسطُس 1914 تم الانتهاء من بناء القناة وعبرت أولى السفن القناة التي انقلبت إلى مصدر للتوتر بين الدولتين؛ بسَببِ الشروط المجحفة للاتّفاقية ولاسيما بعد إقامة واشنطن قواعد عسكرية لحماية القناة ومنعها رفع العلم البنمي.

عودةُ القناة إلى بنما:

الشروطُ الظالمة التي فرضتها واشنطن دفعت أصحاب الأرض للثورة ضد السيطرة الأمريكية، وبعد سنوات من الاحتجاجات الشعبيّة أبرمت بنما والولايات المتحدة اتّفاقا جديدًا عام 1977 اعترفت بموجبه واشنطن بسيادة بنما على القناة ونقلت إدارتها إلى لجنة مشتركة مقابل امتيَازات وتعهدات أمنية تخوّلها استخدام القوة العسكرية لإبقاء القناة مفتوحةً ومواجهة أي تهديد لحيادها.

وفي نهاية عام 1999 سلمت واشنطن القناة بالكامل للسلطات البنمية التي عمدت إلى توسيع القناة لتسهيل عبور سفن الشحن الكبيرة وزيادة إيراداتها المالية التي ناهزت 5 مليارات دولار في عام 2023.

وفي يناير من العام 2025 عادت الأطماع الأمريكية في القناة إلى الواجهة، حَيثُ أعلن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، أن تستعيدَ الولايات المتحدة قناة بنما، وهي الأطماعُ التي رفضتها على الفور بنما، بشكل قاطع، مؤكّـدةً أن القناةَ “كانت وستظلُّ تابعة لبنما، وستظل إدارتها تحت السيطرة البنمية مع احترام حيادها الدائم”.

وترسُمُ تصريحاتُ ترامب بدايةً لحلقة جديدة من محاولات السيطرة على مقدرات الشعوب وفرض هيمنة الولايات المتحدة على البحار والمضائق المائية، وفي المقابل ستفتحُ صفحةً جديدةً من نضالات الشعوب في القارة اللاتينية ضد الأطماع الأمريكية.

المسيرة – محمد الحاضري

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: الولایات المتحدة للولایات المتحدة بناء القناة قناة بنما

إقرأ أيضاً:

نيران الدبلوماسية الأمريكية الصديقة

اقتضت التحالفات السياسية دوما وقوف الطرفين الحليفين في مربع واحد والدفاع عن بعضهما البعض على أساس المصالح أو القواسم المشتركة. وكان للتحالفات الموسمية المحددة بمصلحة أو وقت محدد أو تلك الاستراتيجية ذات العمق الثقافي أو الحضاري عمر طويل وتقاليد راسخة. تستوي في ذلك دول الشرق ودول الغرب؛ كان هذا حتى أتت نسخة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب في ولايته الثانية لتقلب ما كان مستقرا.

إن مشهد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي في البيت الأبيض أبعد من مجرد خلاف دبلوماسي بين طرفين، بل هو تطبيق حرفي للنيران الأمريكية الصديقة حين تقرر أن تصيب بعض حلفائها بشكل علني ومن دون شفقة أو رحمة. ففي التقاليد العسكرية حين تضرب بعض الآليات العسكرية جنودا أو قواعد حليفة لها يعتبر الأمر خطأ غير مقصود حتى ولو كان مقصودا، ويغطي ستار الخطأ والعفوية على الحادثة، أما اليوم فإن نيران الدبلوماسية الأمريكية تستهدف الأصدقاء علنا وبشكل مقصود.

من أهم الانتقادات التي توجه للمعسكر الغربي في الدبلوماسية أنها قائمة على تعريف ضيق للمصالح المباشرة وأن هذه المصالح متغيرة طوال الوقت. والولايات المتحدة تحديدا تعرف بأنها من الدول التي تعتمد على الدبلوماسية الخشنة في علاقتها الخارجية، تلك الدبلوماسية التي تعتمد على الانتشار والتمدد عن طريق القوة العسكرية وقوة الاقتصاد، وليس عن طريق الدبلوماسية الناعمة التي تعتمد على أساليب مثل الثقافة والفنون مثلا.

من غير المفهوم ولا المبرر أن توجه هذه القوة الخشنة والنيران الصديقة لأطراف حليفة مثل أوكرانيا مهما كانت حدة الخلافات بين واشنطن وكييف. ولا يفسر الأمر طمع ترامب في معادن البلاد أو فكرة طول الحرب، لأنه في خلفية المشهد هناك حليف تاريخي أو بالأحرى حديقة خلفية للولايات المتحدة هي دول أوروبا الغربية التي تشعر بتهديد عميق من الدب الروسي وترى في أوكرانيا حاجزا جغرافيا وسياسيا في مواجهته.

يتضح أن الدبلوماسية الأمريكية في العهد الترامبي الجديد تعاني من قصر نظر شديد، فكل تقييماتها للأمور متعلقة بمصالح آنية أو مباشرة أو على الأقل قريبة الأجل، ولا يهمها من قريب أو بعيد الأبعاد الاستراتيجية أو بعيدة المدى. فقد شهدت العقود الماضية سباقا أمريكيا محموما من أجل مد النفوذ الغربي نحو الحدود الروسية مع جمهوريات أوروبا الشرقية، تمثل ذلك في دعم ثورات وضم للاتحاد الأوروبي وغيرها من الإجراءات. وكانت دوافع هذا السباق معروفة، ما ليس معروفا الآن هو لماذا تضحي الولايات المتحدة بكل هذا الرصيد الآن وفي مقابل ماذا؟ فهل تحتاج الخزانة الأمريكية لهذا القدر من التوفير الذي يترتب عليه إعاقة عمل حلف النيتو في أوروبا مثلا وتقليص النفوذ العسكرية الغربي فيها؟

أقرب التفسيرات أن العقيدة الأمنية التي بني عليها النيتو ما بعد الحرب الباردة كانت عقيدة هشة لا تصلح لأن تحل محل العقيدة القديمة التي صممت لمواجهة الاتحاد السوفييتي السابق، ولهذا كانت حروبها في السنوات الأخيرة ضعيفة التبرير والأساس القتالي، وقد تجلى هذا فيما حدث للنيتو في أفغانستان.

أوكرانيا ليست قطعا هي أفغانستان، لكن مهمة حلف شمال الأطلسي تكاد تتشابه؛ غموض شديد اكتنف مهمة الحلف في جبال أفغانستان، فماذا يريد الحلف بالضبط هناك؟ وما تعريف النصر والهزيمة؟ ومتى تنتهي المهمة؟ نفس السؤال يتكرر في أوكرانيا، فهل يريد الحلف دفاعا في المطلق عن أوكرانيا؟ وهل فشلت كل الجهود الدبلوماسية حقا في حل النزاع أم أن هناك عشوائية في اتخاذ قرارات الحرب؟ أتصور أن الفشل في الإجابة على هذه الأسئلة هو الذي قاد إلى المشهد التاريخي الدرامي الذي شاهدناه في البيت الأبيض بين رئيسي الولايات المتحدة وأوكرانيا.

x.com/HanyBeshr

مقالات مشابهة

  • سيارات الأجرة تشكو القناة الثانية إلى الهاكا ووزير الداخلية بسبب بث إشهار إندرايف
  • الكرملين: رفع العقوبات الأمريكية شرط لتطبيع العلاقات
  • الذهب يتراجع وسط ترقب لتداعيات الرسوم الأمريكية
  • وزير الشئون الأوروبية الفرنسي: تجميد المساعدات الأمريكية لأوكرانيا يجعل السلام أبعد
  • بعد اتهامها بخيانة القيم وإغلاقها.. طالبان تسمح بإعادة بث قناة أريزو
  • نيران الدبلوماسية الأمريكية الصديقة
  • هل تعوض قناة السويس خسائرها بعد انتهاء الحرب في غزة؟
  • ترقب استئناف الاستثمارات في منجم للنحاس في بنما بقيمة 10 مليارات دولار
  • دعوى قضائية لإلغاء ترخيص قناة الرحمة الفضائية وحظر صفحاتها على السوشيال
  • الضربات التي أوجعت الولايات المتحدة!!