تعفن الدماغ: التفاهة الممرضة
تاريخ النشر: 22nd, January 2025 GMT
يمثل الوصول إلى الأصدقاء هذه الأيام تحديا لا يستهان به، فهم لا يكتفون بوضع هواتفهم في وضع التركيز أو عدم الإزعاج، لكنهم أيضا يتعمدون ترك هواتفهم في المنزل والخروج للعمل حتى يحظوا بالتركيز الكامل. أعترف أنني من الذين يفعلون ذلك، فالرد الفوري والتواصل الدائم ومتابعة الأخبار تحول لسلوك شبه قهري. وبنهاية اليوم نُكافئ صبرنا على العزلة والانفصال بالاستلقاء، وتسليم عقولنا المرهقة، ونفوسنا المتلهفة لرحمة الإنترنت.
أعلنت دار نشر جامعة أكسفورد (Oxford University Press) مصطلح «تعفن الدماغ (Brain rot)» ليكون كلمة العام لـ 2024. ولأننا كائنات فضولية ارتأيتُ مع المحررة أن نفتش خلف هذا التعبير، الذي لا يبدو أن استخدامه في القنوات العربية يماثل زخمه عند مستخدمي الإنترنت المتحدثين بالإنجليزية، رغم أن الظاهرة قد تكون ذات صلة بالجمهور العربي بالقدر نفسه. ولأن فضولنا يصعب كبحه، رحتُ قبل كل شيء أُفتش عن تقليد «كلمة العام». تختار مؤسسات اللسانيات والقواميس كل عام الكلمة أو التعبير الذي يُقدرون أنه الأبرز (من حيث نمو استخدامه) خلال تلك المدة الزمنية. ومع أن مجمع اللغة العربية يُجيز من وقت لآخر استخدام بعض الكلمات المحدثة والمعربة، إلا أنه لا يختار كلمة للعام، التي يُمكن أن تمثل مؤشرا لقراءة هواجس واتجاهات مجموعة ما تتحدث لغة معينة.
ولأنني بصراحة كنت أتوقع أن أرى مفردات تخص الإبادة حاولت التفتيش في اختيارات المعاجم الأخرى. تبدو جمعية اللهجات الأمريكية «American Dialect Society» الأكثر تيقظا للقضايا السياسية. في 2001، اختارت الجمعية الـ«11 من سبتمبر» لتكون كلمة العام. وفي 2011 كانت «احتلوا (occupy)» في إشارة لحركة احتلوا، وأبرزها احتلوا وول ستريت. لكنها في 2023 اختارت كلمة «enshittification» التي يمكن ترجمتها إلى التخرية أي جعل الشيء آخر مما سبق. وهو وصف لعملية التدهور بجودة المنتج أو الخدمة، بعد أن تكون قد مرت بدورة حياة تبدأ بتوفير خدمة جيدة لاجتذاب المستخدمين والمستهلكين، وتنتهي بتقليل الجودة لخفض تكلفة الإنتاج بعد أن تصبح لديها قاعدة عملاء أولياء. لكنها لم تعلن حتى وقت كتابة هذا المقال عن كلمة عام 2024.
على عكس ما قد يوحي به العنوان المثير ولكن غير المهني للمادة التي نشرتها الجزيرة حول الموضوع، ففي ثقافة الإنترنت، لا يُستخدم «تعفن الدماغ» بمعناه الحرفي، مع أن الدماغ -كأي جزء في جسدنا- يُعدى ويلتهب ويتعفن بطبيعة الحال. لكنه يصور حالة نفسية وإدراكية. يُشير المصطلح حسب أكسفورد إلى: «التدهور المفترض للحالة العقلية أو الفكرية للشخص، وخاصةً ما يُنظر إليه على أنه نتيجة الاستهلاك المفرط للمواد (خاصةً محتوى الإنترنت) التي تعتبر تافهة أو غير محفزة. وهو يُشير أيضا إلى شيء من المحتمل أن يؤدي لمثل هذا التدهور».
هذا التعريف -الذي تعتمده كل مادة تقريبا كُتبت بهذا الشأن- يحيلنا لمجموعة من الافتراضات. فهو يذكرنا بالحكمة القديمة التي تقول: إن الدماغ عضلة، تقوى بالاستخدام، وتذوي بالإهمال. يخبرنا علماء النمو وأطباء الأطفال أن الدماغ ينمو بالتعلم والتعرض للخبرات المتنوعة، وأن عدم التعرض لهذا يعيق التطور عند الأطفال.
يُمكن للبالغين أن يشحذوا قدراتهم العقلية عبر ممارسة الأنشطة التي تتطلب التفكير والتحليل. عدد لا حصر له من التطبيقات يقدم لنا اليوم وعودا لتنشيط الدماغ، وتمرين العقل، وتقوية الذاكرة، مستعيرة من المعجم الفسيولوجي هذه الاستعارات وما ماثلها.
يستخدم ناثان ج. روبينسون (Nathan J. Robinson) هذا المصطلح في أحد مقالاته، معلقا على تحويل السباق الانتخابي الأمريكي إلى مادة للترفيه، وتقديم المرشحين كشخصيات مشهورة (celebrities) بدل أن يعطى الاهتمام للبرامج الانتخابية ويسائل كفاءتهم كرؤساء للدولة الأكثر نفوذا على الكوكب. فيكتب -لا يمكن إخطاء نبرة الغضب في صوته-:
«أعترف بأني أكره هذه الأشياء. لا أطيقها. مجرد قراءتها تشعرني وكأن جزءًا من دماغي يتعفن. كما لو كنتُ أتلهى بـ«الخبز والسيرك» عما يهم فعلا. تشعرني أن علي أخذ السياسة مأخذ برامج التلفزيون، مع تجاهل أن لها عواقب فعلية على حياة البشر، التي يتم التعامل معها وكأنها تافهة وغير ذات صلة بالأمر».
وتعبير «الخبز والسيرك» أو «الخبز والألعاب» الذي ورد في إحدى القصائد الهزلية للشاعر الروماني جوفينال Juvenal، ينتقد سياسة الإطعام والترفيه التي تشغل الشعب عن الأمور العامة عبر الإلهاء المنظم. نعم. لستم مخطئين. هذه الوسيلة ليست بهذا القدم فحسب، بل أن ملاحظتها ونقدها هو أيضا ضارب في عمق التاريخ المخجل لإشغال الشعوب وإلهائها. وتحت هذا الضوء، يُمكن قراءة تعفن الدماغ باعتباره وباءً مصنعا طورته الحكومات.
لمستخدمي الشبكات الاجتماعية أنواع أخرى شبيهة من التعابير يشتكي فيها المتعرضون لشتى أنواع المحتوى من أوجاع وأعراض جسدية. مثل: صداع. تُكتب الألفات فيها بما يتناسب مع الصداع الذي يسببه المحتوى، لتكون أحيانا هكذا: صدااااااع، أو حتى أطول. وهي تأتي استجابة لموقف يفتقر للمنطق أو المبادئ الأخلاقية الأساسية أو الذوق والحس السليم، على نحو يصعب معه توجيه نقد محدد، ويسبب شعورا فوريا بالصداع، نتيجة عدم القدرة على التعامل معه لفرط «غبائه». كالاستجابة بـ«صداع» على تغريدة لإيلون ماسك يقول فيها: إن جهود إنهاء الاستعمار، ومقولات مثل «من النهر إلى البحر» تتضمن فعل إبادة بالضرورة. هذه الحالة، تشبه في جوانب عديدة الانفجار بكاءً عندما تغمر المرء مشاعر عارمة لا يمكنه استيعابها والتعامل معها بدرجة معقولة من الثبات العاطفي.
انعدام الحس السليم يُسبب الصداع، لكن الحس الزائد من العواطف يسبب الغثيان (لوعان)، خصوصا الوطنية منها، والمتعلقة بالحب، التسامح، الإيثار، وغيرها من الأمور الإيجابية المبالغ فيها لدرجة تدفع للتشكيك بصدقها.
التعفن له شروطه التي تخص مدى الاستهلاك، ونوعه. من حيث الكم، لا يتم بالضرورة الحديث عن الإدمان. رغم أن الإدمان هو الآخر أمر شائع. عادة ما يُستخدم مصطلح الإدمان في سياق الشبكات الاجتماعية بخفة، رغم أن ما لدينا من معرفة حول الأمر، لا تخبرنا ما إذا كان لإدمان التكنولوجيا الطبيعة نفسها التي للإدمان المادي على الكحول أو المخدرات على سبيل المثال. لا يعني هذا بأي حال من الأحوال التقليل من الأثر السلبي للاستخدام المفرط للشبكات الاجتماعية، ما يعنيه فقط هو مجرد التساؤل ما إذا كان هذا الأثر يستدعي تدخلا إكلينيكيا.
كما يُقال: فإن الوسيلة هي الرسالة، ونوع التكنولوجيا المستخدمة للإعلام تفرض نوع المحتوى الذي يُنتج. لمحتوى الشبكات الاجتماعية مجموعة من الخصائص. فهو يتصف بالقِصر، وبكونه جذاب، ولا يتطلب الكثير من الجهد الذهني. لكن أليست برامج التلفاز جذابة، وأي جهد تتطلبه مشاهدتها؟ لمحتوى الشبكات طبيعة خاصة؛ لأنه مخصص حسب المستخدم أولا، ولأنه -ثانيا- يخضع لعمل خوارزميات تُبقيك مشتبكا مع المحتوى، يُذكرنا هذا بالأبحاث العلمية للتبغ الهادفة لاختبار ما يجعلها أكثر إدمانية لمدخنيها. في ظل عدم وجود التنظيمات التي تُلزم شركات التقنية بالعمل النزيه، ومراعاة الصحة العقلية والنفسية للمستخدمين.
بينما يتم الحديث عن الإدمان في سياق دفعة الدوبامين في دماغك مع كل إشعار، والتلهف للمزيد منه، أيا كان رأينا في هذه المقاربة، وفي الحلول التي تُقترح للتطهر من سموم الشبكات الاجتماعية، يتم الحديث عن التعفن في ضوء آخر. أي في الأثر السلبي طويل الأمد على القدرات الذهنية، الذي لا يحله أي تطهير.
تُخبرنا الجارديان في مقال حول الموضوع نُشر في التاسع من ديسمبر نهاية العام الماضي، بأن الانتباه لهذه الظاهرة، وإن لم يُطلق عليها الاسم نفسه، جاء في دراسة استكشفت أثر الإيميل -وقد كان تقنية جديدة كليا وقتها- على وظائف الدماغ. خلصت الدراسة إلى أن نسبة الذكاء (الـ IQ) تنخفض بمعدل 10 نقاط في المتوسط عند التعرض لوابل متواصل من المعلومات، لما يسببه من حِمل إدراكي زائد (cognitive overload)، أي بقدر يتفوق على الأثر السلبي لتعاطي الحشيش على وظائف الدماغ. يشمل الأثر تقليص سعة الانتباه، وإضعاف الذاكرة، وتشويه العمليات الإدراكية، وتغيير هيكلية الدماغ، التي يُمكن أن يُدلل عليها ماديا -بالإضافة للاختبارات- بتقلص المادة الرمادية في الدماغ (grey matter).
لا أدري إن كانت أساليبنا في التعامل مع الأمر من الخروج بدون هاتف، إلى اقتناء هاتف غير ذكي (حيث يبدو أننا مجبرون على الاختيار بين أن نكون إما نحن أو هواتفنا أذكياء، لكن ليس كلينا)، أو حتى (وأراه كثيرا هذه الأيام) حذف الإنستجرام من الهاتف، والدخول مرة كل عدة أيام من المتصفح - أقول: إنني لا أدري إن كان هذا ما علينا التركيز عليه. الأمر أشبه بإجبارك على التعامل مع تضخم الأسعار بالعمل في وظيفتين، حيث تبقى المشكلة الأصلية قائمة. لكن هذا بالضبط ما يحدث طوال الوقت. يجد المرء نفسه مجبرا على إيجاد حلول فردية لمشاكل جمعية أو هيكلية. دعونا نفكر بالأمر أكثر، ودعونا نتحدث ونتحدث عنه.
نوف السعيدية كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشبکات الاجتماعیة تعفن الدماغ التعامل مع التی ت التی ی
إقرأ أيضاً:
"غاز تخدير" قد يكون العلاج القادم لمرض الزهايمر
تشير أبحاث جديدة إلى أن استنشاق غاز الزينون يمكن أن يساعد في حماية أدمغة الأشخاص المصابين بمرض الزهايمر.
ففي بحث جديد صدر هذا الأسبوع، وجد العلماء أدلة في الفئران على أن غاز الزينون قد يكون قادرا على المساعدة في علاج الحالة التنكسية العصبية.
والزهايمر هو اضطراب عصبي تنكسي يُصيب خلايا الدماغ ويؤدي إلى فقدان الذاكرة والوظائف الإدراكية الأخرى.
وقاد العلماء في مستشفى بريغهام والنساء وجامعة واشنطن البحث، الذي نُشر يوم الأربعاء في مجلة "Science Translational Medicine".
وبما أن الزينون يمكنه أن يخترق بسهولة حاجز الدم في الدماغ ــ وهو الدرع الذي يحافظ على سلامة الدماغ من العدوى ولكنه يمنع أيضا معظم الأدوية من الوصول إليه، فقد كان العلماء فضوليين بشأن ما إذا كان الزينون قادرا أيضا على حماية أدمغة الأشخاص المصابين بالزهايمر.
وفي الفئران المصابة بمرض يشبه الزهايمر، أظهر غاز الزينون أنه يقلل من الالتهاب وانكماش الدماغ.
وسيشرع الباحثون الآن في التجارب البشرية المبكرة لمزيد من النتائج والتفاصيل.
ويتم استخدام غاز الزينون حاليا في مجال الطب كمخدر.
واقترحت أبحاث سابقة أيضا أن الزينون يمكن أن يساعد في حماية الدماغ.
وقد أجريت بعض الدراسات استخدامه كعلاج للاكتئاب وغيره من الاضطرابات المرتبطة بالدماغ، وكانت النتائج متضاربة.