مؤمن الجندي يكتب: كيف يُروى الغياب بعد الرحيل؟
تاريخ النشر: 21st, January 2025 GMT
في حياة كل إنسان فرصة واحدة ليترك أثرًا لا ينسى، أثرًا يتجاوز حدود الزمن، ويستمر حتى بعد غيابه.. فالأثر الحقيقي ليس بما نملكه أو نحققه لأنفسنا، بل بما نزرعه في قلوب الآخرين من حب وخير وذكرياتٍ تُروى بعد رحيلنا! نحن نعيش على هذه الأرض كعابرين، لكن العظمة تكمن في أن نترك خلفنا بصمة تُحدث فرقًا، وكأننا ما زلنا حاضرين.
وفي مسار الحياة، يسير الإنسان كعابر بين الحقول، يزرع كلمات وأفعالًا، لا يدرك متى تُثمر ولا أين ستستقر؟ هناك من يمضي كظلٍ عابر، لا أثر له ولا صوت، وهناك من يترك خلفه بصمةً تضيء العتمة، تسكن القلوب وتُروى في المجالس حتى بعد أن يغيب.
الأثر ليس صدى أفعال تُرى بالعين، بل أثر يُحس في القلوب، ويُترجم في الأرواح.. هو ذلك الشعور الذي يخلفه إنسان حين تمر ذكراه على الخاطر، فتسكن الطمأنينة كأن الحضور لا يزال نابضًا.. هو ما يجعل غيابه حديثًا عن فضائله، وغيابه حضورًا أكبر من وجوده.
ها قد رحل ميمي الشربيني! لكن لم يرحل أثره.. الصوت الذي ملأ الملاعب بالبهجة والحماس، وأيقظ في قلوب الملايين حب كرة القدم بأسلوبه الفريد وعباراته التي أصبحت جزءًا من ذاكرة الرياضة في الوطن العربي.. وداعًا "أحد مواليد منطقة الجزاء، آخر حبات عنقود الموهوبين، بابا نويل الكرة المصرية، إكسترا مهارات وإكسترا حواس، صاحب الكرافتة الشيك، واحد من جنرالات الكرة المصرية".
لعل البعض يظن أن الأثر يتطلب قوةً عظيمة أو شهرةً واسعة، لكني أرى أن الحقيقة تكمن في البساطة.. قد يكون في ابتسامةٍ صادقة، في كلمة عزاء تُقال في وقتها، في مشهد عطاء لا يعلمه إلا الله.. الأثر هو أن تترك شيئًا في دواخل الناس يزهر كلما مرت عليهم ذكراك.
تُرى، كيف يُروى الغياب بعد الرحيل؟ إن كان الحديث عنك طيبًا، إن ذكرك الناس في دعائهم، إن اجتمعوا ليقصوا مواقف تُلهمهم من سيرتك، فأنت لم تغب حقًا.. الأثر هو البقاء الحقيقي، هو حياة ممتدة رغم انقطاع النفس، هو الدليل على أن الأرواح العظيمة لا تموت بل تظل حية بيننا، كلما أشرقت شمس يوم جديد.. فاجعل خطواتك ناعمة، وأفعالك كبيرة، وكلماتك بلسمًا.. حينها، لن تكون مجرد اسم يُذكر، بل فكرة تتجدد، وحكاية تُروى، وأثر لا يزول.
وحين تنتهي الحكاية، يبقى الأثر هو الشاهد الوحيد على مرورنا في هذه الحياة.. ليس بما جمعناه من مال أو مجد، بل بما زرعناه من حب، وما تركناه من خير في قلوب الناس.. قد تمضي الأجساد، لكن الأرواح العظيمة لا ترحل أبدًا! تظل حاضرة في الذكريات، ترويها الألسن، وتحيا في دعاء صادق يُرفع كلما هز الحنين القلوب.. فما أعظم أن يرحل الإنسان، وقد ترك خلفه أثرًا لا يزول، ونورًا لا ينطفئ.
للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: ميمي الشربيني وفاة ميمي الشربيني الأهلي مؤمن الجندی یکتب
إقرأ أيضاً:
من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. تدخين الأرواح
#تدخين_الأرواح
من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي
نشر بتاريخ .. 3 / 9 / 2016
الزحف المقدّس نحو #كرسي_الزعامة، هو خط إنتاج #صناعة_الديكتاتور، حتى الذين يناهضون سياسة الجلاد ويبحثون عن #الديمقراطية ،هم يكرهون تفرده في السوط ليس إلا، عندما يَحْبون على سجادة #فرعون_السلطة ، يصبحون مثله تماماً، ففي العقل الباطن تكبر بذره الرهبة من الزعيم الأوحد في تربة الصمت وعندما تنضج فجأة تأكل كل المبادئ…
**
تقول الحكاية أو الأسطورة – في البلاد العربية لا فرق – أن زعيماً كُسرت ساقه أثناء نزوله عن درجات القصر، فخاف الأطباء أن يخبروه بذلك؛ قالوا له أن المسالة لا تعدو أن تكون مجرد التواءٍ في الكاحل، ثم نصحوه بلفّها و تجبيرها وممارسة السطوة المعتادة. كره الديكتاتور أن يجتمع بمجلس الوزراء في اليوم التالي وأن يتساوى جبروت العليل بين دونية الأصحاء..لكنه لم يفصح عن هذا التفكير المجنون..
أتساءل دائماً بعد أن يغلب الموت “فرعون السلطة” كأي كائن حي.. لماذا يصر دائماً من هم في حاشية الديكتاتور وورثته في التألّه أن يصنعوا تماثيل للزعيم؟
أحد مقربيه وأكثر الناس فهماً له نصح جميع الوزراء والقادة العسكريين أن يأتوا في اليوم التالي وهم يعرجون من كل فج عميق ، كل يحمل عكازه بعد أن يجبّر رجله زيفاً…وعند الاجتماع سألهم الزعيم بدهشة مفروشة بالفرح ما الذي أصابهم دفعة واحدة !!..فروى كل منهم قصته بشكل مختلف كي لا يبدو المصاب متفق عليه..
ضحك #الزعيم طويلاً وانفرجت أساريره وتابع اجتماعه بعد أن تساوى مع طاقمه في الضرّاء …وتقول الحكاية أو الأسطورة – في البلاد العربية لا فرق- أن نائبه الذي استلم من بعده كأن أكثر ديكتاتورية منه..فلم يرق له أن يتساوى في المصاب فيما لو حدث له نفس العارض مستقبلاً ..وفور تقلده سلطاته اللا دستورية كسر أرجِل كل رفاقه ليسبقهم في المسير دوماً..
**
كنت أتساءل دائماً بعد أن يغلب الموت “فرعون السلطة” كأي كائن حي أو كأي فنجان سقط سهواً من يد النادل ..لماذا يصر دائماً من هم في حاشية الديكتاتور وورثته في التألّه أن يصنعوا أشياءً ضخمة تخلّد مقتنيات و جسد الزعيم لتصبح رمزاً للدولة ، فيحاولون قدر الإمكان المبالغة في الرمزية بصورة لافتة ومنفّرة.
لا أدري لماذا يصرّون في التركيز على أدوات فوقيته وقبضة حُكمه وإبرازها للعالم على إنها انجاز فريد يُحتفى به، ربما لأنهم يدركون أن الدكتاتور مهما كان معمّراً وباطشاً، وضخماً في “الجبس” يظل “صغيراً ” في عيون الأحرار و المقموعين في “الحبس” ، لذلك يريد من يخلفه أن يظهره عملاقاً من “باطون” أو صرحاً شامخاً من النحاس المذاب..
**
تمثال شاهق في وسط المدينة، الزعيم يشهر سيفاً بعلو ناطحة سحاب مقابل أهم مركز ثقافي، الزعيم فوق حصان يصهل ويقف على رجلين خلفيتين أمام مبنى العجزة يحيي الغيوم الشاردة، البندقية الإسمنتية في يمناه وإصبعه المتجمّد على الزناد مقابل أقدم مدرسة في المدينة، وغيرها من أوثانٍ يختارون وضعياتها بعناية فائقة..
انتصارات “خراسانية” مسكوبة في قوالب من الخيال السياسي ليس إلا…لا يوجد تمثال لزعيم معاصر إلا ويحمل سيفاً أو بندقية ،رغم أن جلهم قد تورّط بهزائم أثقلت كتب التاريخ، لم أر تمثالا لزعيم من ديكتاتورياتنا المعاصرة يحمل قلماً ويكتب أو يعزف قيثاراً أو ينفث ناياً لقطيع من الخراف الصغيرة..
**
الوطن علبة كبريت والشعب أعواد ثقاب..كلما هتفت لحريتها..شُحطت على أوتستراد الموت ونالت العقاب..
قبل أسابيع وعلى الطريقة العربية ،صنع المواطن الكوبي “خوسيه كايرو” سيجاراً بطول ملعب كرة القدم بمناسبة الذكرى التسعين لميلاد الزعيم الكوبي السابق فيدل كاسترو، وبعد أن تأكد من تدوينه في “غينيس” كأطول سيجار زعيم أو أطول زعيم لسيجار في العالم – لا فرق – قام بإهدائه للرئيس المتقاعد كتعبير عن المحبة والفخر..تسعون متراً من “التبغ” وعشرات من أفخاذ العذارى – حسب الأسطورة الكوبية – شاركت في حمل ولف وحشو السيجار الذي حطّم الأرقام القياسية…سيجار الزعيم يستحق أن يدخل غينيس قبل عدد المدارس ودواوين الشعر التي قرأها والمستشفيات التي بناها!!!..
ترى ماذا لو ظهر لدينا “خوسيه كايرو” بالنسخة العربية ،ماذا سيخّلد في ذكرى ميلاد زعيمه ، عصا بطول النيل، سوط بتعرّج دجلة ، خازوق بحدة جبال طوروس، أم خيمة لجوء بحجم قصر الوالي!!..
جميلة هدية “خوسيه كايرو”، فكلما سمع “خشخشة” أصوات الخصوم دق الزعيم مؤخرة سيجاره بسطح الطاولة …ثم اشتهى تدخين الأرواح، فالوطن لديه مجرّد “علبة كبريت” إذا ما أطل رأس من علبة العبيد يطلب حرية أو عدالة ، سحله على إسفلت التعذيب وأشعل سيجاره منه ثم نفخ عليه ورماه جثة هامدة…
الوطن علبة كبريت والشعب أعواد ثقاب..كلما هتفت لحريتها..شُحطت على أوتستراد الموت ونالت العقاب..