إبراهيم برسي
١٢ يوليو ٢٠٢٤

يقف كتاب “العقل الرعوي” للدكتور النور حمد شامخًا في قلب النقاش الفكري السوداني الحديث، كصرح فلسفي وأدبي يغوص في أعماق الهوية الثقافية والجماعية للسودانيين.
يقدم الكتاب تأملًا في بنية العقل السوداني كمرآة تعكس تناقضاته التاريخية والحضارية، حيث تتصارع قيم البداوة مع التمدن، وتتجاذب قوى الرعوية والحداثة في تشكيل الوجود الجمعي للأمة.



هذه الأطروحة ليست فقط تحليلًا نقديًا للعقل الجمعي، بل هي أيضًا عزف فلسفي ينسجم مع حساسية النور حمد كفنان تشكيلي، حيث تتداخل الألوان الرمزية للفن التشكيلي مع تشكيلات الفكر، وتخلق مشهدًا بصريًا لا يكتفي بالسطح، بل يغوص في أعماق فلسفة الجمال، ليعيد صياغة العلاقة بين الزمان والمكان في السودان.

يتناول الكتاب العقل الرعوي لا كمجرد منظومة اقتصادية أو أنماط حياة بدوية، بل كبنية معرفية وقيمية متجذرة تهيمن على التفكير والسلوك الجماعي، وتمارس دورها كقيد ثقافي يعيق التحول نحو الحداثة.

هنا، يستلهم النور حمد رؤية فلسفية أشبه بما طرحه أنطونيو غرامشي في نظريته عن “الهيمنة الثقافية”، حيث يرى غرامشي أن القوى المهيمنة تعيد إنتاج أفكارها المهيمنة في النسيج الثقافي والاجتماعي، بحيث تصبح هذه الأفكار جزءًا من “المنطق العام” الذي يُعاش وكأنه طبيعي.

وتنعكس هذه الرؤية في تحليل النور حمد لخطاب الرعوية، الذي يُعاد إنتاجه عبر أدوات السياسة والدين والتعليم، مما يجعله نسقًا يخترق كافة تفاصيل الحياة السودانية.

ومع ذلك، يُظهر النور حمد تفردًا في تناوله لهذه الفكرة، حيث يضعها في سياق محلي دقيق يُبرز خصوصية الثقافة السودانية وعمق جذورها.

لقد رسم الكاتب لوحته الفكرية عبر استدعاء المفهوم الدائري للتاريخ، وهو مفهوم أثير لدى الفيلسوف جون غراي، حيث يرفض الخطية التقدمية في حركة الزمن، مؤكدًا أن التاريخ الإنساني غالبًا ما يعود ليعيد إنتاج أزماته وأمراضه بأشكال جديدة.

إن هذا التشخيص يتناغم مع التحليل الماركسي، الذي يرى أن التحولات الكبرى لا تتحقق إلا بتغيير البنية التحتية، مما يجعل من العقل الرعوي تجليًا واضحًا للجمود الاقتصادي والاجتماعي الذي حال دون تحقيق قطيعة حقيقية مع الماضي.

لكن النور حمد، وإن أضاء على هذا الجانب، يتجاوزه إلى مستوى أعمق من النقد، حيث يرى أن الرعوية تتسرب كفعل ثقافي وأخلاقي حتى داخل مظاهر الحداثة المزيّفة، وهو ما يسميه بـ”حداثة المظهر”، التي تبدو كقشرة واهية تحجب تحتها هشاشة أسس الدولة الحديثة.

في كتابه، يعرّي النور حمد تلك القيم الرعوية التي تعادي التمدن، وتستبطن التبسيط والانغلاق، مستشهدًا بمظاهرها في التاريخ السوداني.

فهو يشير إلى التحولات التي عاشها السودان منذ دخول الخديوية وحتى الاستقلال، حيث كانت كل محاولة للتحديث تصطدم بجدار من القيم التقليدية التي تُعيد إنتاج التخلف بأشكال جديدة.

إن هذا التشخيص يكشف عن علاقة معقدة بين القيم الرعوية والنظم السياسية، وهي علاقة قريبة مما طرحه عبدالله بولا في كتابه “شجرة نسب القول”، الذي يدرس فيه أنماط السلطة الثقافية وكيف تُعيد إنتاج هيمنتها داخل بنى الخطاب الثقافي والاجتماعي.

ويمتد هذا التحليل ليلتقي بما تناوله خالد الكد في كتابه “الأفندية ومفاهيم القومية في السودان”، حيث يشير إلى أن النخب السياسية لم تستطع تحرير المجتمع من القيود الثقافية التقليدية، بل أعادت إنتاجها بشكل حداثي زائف يخدم استمرار سلطتها.

إذا تأملنا هذا الطرح في ضوء ما كتبه ماركس وإنغلز عن العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية، نجد أن النور حمد يذهب إلى ما هو أبعد، حيث يؤكد أن الرعوية ليست فقط نتاجًا للعلاقات الاقتصادية، بل هي حالة ذهنية ونفسية تُعاد صياغتها باستمرار.

هنا، تتقاطع أطروحته مع أعمال سيغموند فرويد، الذي يرى أن الهويات الثقافية تحمل دائمًا بُعدًا لا واعيًا، حيث تُهيمن الموروثات الجماعية على سلوك الأفراد والمجتمعات.

لكن النور حمد لا يكتفي بالتشخيص النقدي. فهو يستدعي البعد الجمالي والموسيقي، ليعيد صياغة العلاقة بين القيم الثقافية والوعي الإنساني.

في هذا السياق، يمكن أن نرى كيف أن خبرته كفنان تشكيلي له علاقة وثيقة بالموسيقى تفيض على النص، لتمنحه شعرية مدهشة.

حين يتحدث عن “العقل الرعوي”، فإنه لا يرسم صورة جامدة، بل يقدم سيمفونية فكرية تعيد ترتيب النغمات الثقافية، لتكشف عن تنافرها الظاهر وانسجامها الخفي.

لقد استطاع الكاتب أن يعري الرعوية كمنظومة قيمية تناقض روح الدولة الحديثة، حيث تتغذى على النزعات القبلية والعصبية، وتعيد إنتاج نفسها عبر تمجيد القوة والغلبة، على حساب القانون والنظام.

كتاب “العقل الرعوي” هنا يكشف عن كيف تُطوع الثقافة لتصبح أداة مهيمنة تخدم الأنظمة السياسية عبر إدامة الجهل والتخلف، مستخدمة أساليب متنوعة تتراوح بين الخشونة الظاهرة والنعومة المقنّعة.

وهي الفكرة التي تستدعي ارتباطات بما قاله إدوارد سعيد في “الثقافة والإمبريالية” عن الأنظمة التي تُعيد إنتاج خطابها من خلال الثقافة.

ولكن في النهاية، يبقى السؤال الذي يراوغنا: كيف نُعيد ترتيب أنغامنا الثقافية في سيمفونية جديدة تتجاوز نشاز الرعوية؟

أطروحة النور حمد ليست فقط دعوة للنظر في مرآة الذات، بل هي صرخة فلسفية تحثنا على تفكيك قيود العقل الجمعي وتحرير الفرد من أغلال الماضي.

إنها رؤية تدعو إلى إعادة تعريف الحداثة ليس كقطيعة مع الجذور، بل كحوار خلاق يتناغم فيه الإرث الثقافي مع ضرورات الحاضر.

إن التحول المنشود لن يتحقق دون دور فعال للأجيال الجديدة، التي تحمل في داخلها بذور التغيير، وتملك القدرة على تجاوز ثنائية الرعوية والتمدن.

إنها دعوة لإعادة بناء الوعي الجمعي، حيث تصبح الحداثة مشروعًا جامعًا يتجاوز القيود الثقافية والسياسية، ويفتح الطريق نحو مستقبل تتلاقى فيه الأصالة مع الابتكار، في رقصة أبدية بين النور والظل.

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: النور حمد عید إنتاج الذی ی التی ت

إقرأ أيضاً:

لماذا غاب العقل عن القوى السياسية؟

زين العابدين صالح عبد الرحمن

يقول الحكماء عن العقل ( أعمق خطايا العقل الإنساني أن يعتقد شيئا دون أدلة) و يقولون أيضا ( العوائق تقوي العقل كما يقوي العمل الجسم) و ( العقل الواعي هو القادر على احترام الفكرة حتى ولو لم يؤمن بها)
أن أفضل النعم التي منَ الله بها على الإنسان هي نعمة العقل.. و كما قال الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت أن (العقل أعدل قسمة بين الناس) و لكن هل كل الناس قادرين على استخدام العقل؟ أن ثورة ديسمبر 2018م لم تسقط فقط نظام الإنقاذ، و لكنها أيضا كشفت عوار القوى السياسية في عقولها التي عطلتها بإرادتها مجتمعة، جعلها تفشل في إدارة الأزمات بحكمة يكون العقل رائدها.. رفعت شعار عملية التحول الديمقراطي؛ و سعت على تحقيقه بذات الثقافة الشمولية المناهضة لها، و التي كانت قد خلتفتها النظم الشمولية منذ انقلاب عبود في نوفمبر 1958م مرورا بنظام مايو حتى نظام الإنقاذ، دون أن تحكم العقل لكي تتبين ماهية الفروقات بين الثقافة الشمولية و الديمقراطية، و عدم تبيانها يخلق عقبة كبيرة في مسار الديمقراطية، و معلوم أن معرفة الفروقات تجعلها أكثر وعيا في تأسيس أدوات لكي تنتج لها الثقافة السياسية الديمقراطية، لكنها لم تفعل ذلك بل غيبت العقل تماما و جعلت البديل لكل ذلك أن تبحث عن السلطة وفق شعارات لا تكلفها جهدا كبيرا ترهق به عقلها...
الغريب في الأمر: أن القوى السياسية ذهبت تصيغ مع المكون العسكري "وثية دستورية" رغم أن دستور 2005 كان أمامها، و هو دستور شاركت في صياغته كل القوى السياسية، و كان يحتاج لبعض التعديلات، و حتى يصبح مسودة للدستور الدائم لا يطيل أمد الحوار في مؤتمر دستوري، لكنها لم تفكر بمتطلبات العقل لسببين.. الأول القيادات السياسية التي كانت الأعلى صوتا من قبائل اليسار بمختلف مكوناته " بعثيين و ناصريين و شيوعيين و مرافيدهم" هؤلاء ليس في مرجعياتهم الفكرية أية ثقافة للديمقراطية يمكن أن تساعدهم على تنزيل الشعار على الأرض.. الثاني حالة العداء بينهم و الإسلاميين جعلوا من الثورة أداة لتنفيذ عقوبات يحملونها منذ عام 1965م " قضية معهد المعلمين" و حل الحل حزب الشيوعي.. حالة الغضب تضيع العقل.. الغريب في الأمر بعد المفاصلة التي حدثت في النظام 1999م و خروج الترابي ثم معاهدة " نيفاشا 2005" سمح للمؤتمر الشعبي أن يكون عضوا في قوى الاجماع الوطني التي كان يقودها الحزب الشيوعي.. و عاد الترابي إلي منابر يتحدث فيها الترابي و نقد من أجل الوصول لهدف واحد اسقاط النظام.. لكن الترابي غادر قوى الاجماع بعد خطاب الوثبة 2014م. السبب الثاني حدثت الجفوة مرة أخرى.. الفرق بين تفكير الترابي و قيادة الحزب الشيوعي.. الفارق بين الترابي و الآخرين.. أن الترابي لا يقف عند خيار واحد، بل تتعدد عنده الخيارات، و كان مقتنعا أن القيادات و الشباب الذين معه قادرين أن يحققوا مكاسب في أي خيار يدخله حزبهم.. القوى السياسية الأخرى كانت قياداتها تتخوف من تعدد الخيارات، لأنه سوف يجعل القيادة غير قادرة على التحكم في عضويتها، ربما تتسبب الخيارات المتعددة في انقسامات داخل التنظيم.. الصادق المهدي أيضا كان يرغب الدخول في عدة خيارات لكنه غير واثق من القيادات التي معه، و التي بالفعل ذهبت في طرق مختلفة.. المؤتمر السوداني كانت لدى بعض القيادات ذات الخاصية تعدد الخيارات، عندما أعلنوا دخول انتخابات 2020م بهدف خوض انتخابات يعلمون لن يكسبوها لكن سوف تدفع بحزب إلي المقدمة، و خاصة سوف يجدون تأييد وسط الشارع بهدف منازلة النظام، لكن بعد الثورة أغرتهم السلطة في اعتقاد أن السلطة سوف تجلب لهم التأييد، و السلطة هي صراع مستمر لا تأمن عواقبه..
خرج حزب الأمة و الحزب الشيوعي من التحالف، ثم أحدث الحزب الشيوعي انقساما في تجمع المهنيين، أضعفا التحالف الذي فشلت قيادته الاحتفاظ بعلاقته مع الشارع، رحل الأمام الصادق الأمر الذي خلق حالة من الهوة بين رؤى الصادق و العناصر التي جاءت للقيادة التي ركزت على السلطة دون أية خيارات أخرى، و تركيزها على السلطة جعلها تتماهى مع القوى السياسية الأخرى كحليف تغلق بعده أبواب المشاركة، و نسيت هذه القوى السياسية أن الرهان على المصالح ذات البعد الواحد " لا خيار غير السلطة" سوف يجعلها أمام تحدى مع كل المكونات الأخرى إذا كانوا عساكر أو مدنيين.. أولا لم يفكروا أن هذا الصراع سوف يضعفهم في تحدي مع القوى السياسية الأخرى، و أيضا العسكر.. و ثانيا ليس عندهم أية تأييد شعبي يخلق لهم توازن القوى مع الآخرين.. و عندما بدأ يظهر للعيان ضعفهم، كان تغيير 25 أكتوبر 2021م الذي أطاح بحكومة حمدوك و الذين معه.. و لم يجدوا من يدافع عنهم.. بل عندما خرج الشارع كان ضدهم " بيكم بيكم قحاته باعوا الدم" لذلك لم يترددوا مطلقا عندما طلبت منهم مساعدة وزير الخارجية الأمريكية " مولي في" أن يجلسوا مع العسكر في بيت السفير.. دخلوا الاجتماع و لم تكن لديهم أية رؤية غير أنهم يريدون الرجوع للسلطة فقط، و كان العسكر يصرون على توسيع قاعدة المشاركة، رجعوا للعسكر برغبتهم و عندما فشل انقلاب الميليشيا بدأوا يعيبون على الذين وقفوا مع الجيش موقفهم..
أن القوى السياسية حقيقة لم تستفيد من تجارب الماضي، و لم تتعامل مع القضية وفقا لمتطلبات الواقع.. و كان الرغائب الخاصة عند القيادات في تحالف " قحت" لا تجعلها تفكر ابعد من موطئ قدمها، لذلك تبريرها في الفشل اسقطته كله على " الفلول و الكيزان" و هنا يكون السؤال إذا القوى السياسية كانت تعرف أن " الفلول و الكيزان" أفضل منها في إدارة الصراع و قادرة على التحدي لماذا هي لم تفكر كيف تخوض التحدي الذي يضمن أولا عملية التحول الديمقراطي للشعار الذي رفعته و عجزت أن تخطو فيه خطوة واحدة.. و الثاني أن القوى السياسية على إطلاقها تحتاج إلي إعادة قراءة للواقع السياسي السوداني، و كيف تستطيع أن ترسم ملامح السودان بعد الحرب.. أي؛ كيفية عودة العقل لمسار التفكير.. لآن التغيير لا يتم إلا بضخ الأفكار.. نسأل الله حسن البصيرة..

zainsalih@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • اتفاق سياسي- نيابي يحسم جدلية القوانين الثلاثة تمهيداً لجلسة السلة الواحدة
  • اتفاق سياسي - نيابي يحسم جدلية القوانين الثلاثة تمهيداً لجلسة السلة الواحدة
  • 29 مايو .. قرعة تصفيات كأس آسيا دون 23 عاما .. والأحمر ينتظر النور !
  • لماذا غاب العقل عن القوى السياسية؟
  • شوقي علام: الشيخ الشعراوي مثال حي على النقل المعنوي للعلم
  • التعايش الثقافي في ظل اجتياح العولمة
  • المسرح العماني.. تطور وتحديات الحداثة وما بعدها
  • حكم حجاب المرأة المسلمة في الإسلام
  • جدلية التغيير الفكري