د. عصام محمد عبد القادر يكتب: غذاء الوجدان .. التذوق
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
عندما يستشعر الفرد طبيعة ما حوله، ويستمتع بما يقوم به من عمل أيًا كان نوعه، ويمارس أنشطته المعتادة داخل إقامته، وخارجها، وفي مؤسسته، أو المنشأة التي ينتمي إليها، أو في أي ميدان من ميادين العمل، وعبر ذلك ينتابه السرور، وانشراح الصدر في كل ما يقوم به، أو بعضًا منه؛ فإننا نجزم حين يتحقق ذلك بأن لديه تذوقًا، يجعل إحساسه بالجمال عالٍ، ويتأكد لديه بأن جمال مفردات الحياة ينبغي أن تُعاَشُ على نحوٍ مرضٍ.
ولذلك فإن مهمة التربية، وما بها من مداخل متباينة تقوم على فلسفة الفنون التي تغذي الوجدان أن توقظ في الإنسان الإحساس بقيمة التذوق، وهنا نتجنب ما يهدر تلك القيمة بمزيد من حقن الأذهان؛ بل نغذيها بقدح تلكم الأذهان؛ فتتفتح مزاهر الإعجاب، والدهشة؛ ومن ثم تنمو قيمة التذوق، الذي يُسهم في بلوغ الفرد مراحل الإبداع، وهذا من مفاضل رعاية الوجدان، وإحدى طرائق تغذيته لقيمة من قيمه الرئيسة التي يتحلى بها.
إن الجفاء لا يتوالد عنه ما نود أن يصل إليه الإنسان من حالة تمازج مع مكونات الطبيعة من حوله، وما علينا إلا أن نهتم بإرواء الوجدان، وتغذيته بما يجعله قادرًا على أن يحب ما يعمل؛ كي يصل إلى عمق الظواهر، ومكنونها، ويستمتع بكل مرحلة يتذوق من خلالها ألوان المعارف، والمهارات، ويدرك مدى أهميتهما في بناء خبرة وظيفية تجعله متمكنا، ويستفيد منها، ويفيد الآخرين من حوله.
والتذوق يحوي في طياته المادي، والمعنوي؛ حيث إن الشعور لدى الإنسان داخليًا؛ لكن مؤشرات رصده قد تكون ملحوظة في كثير من الأحيان؛ فما أجمل من أن يستمتع كل منا!، ويُسَرُ بما يقوم به، وما أرقي أن نتجاوز حدود المنفعة الخاصة! إلى الوصول للمنافع العامة، التي تضفي على طبيعتنا جمالًا فوق جمال، وسحرًا يربو عليه سحرًا؛ فكم تشتاق الأنفس، والعيون لأن ترصد، وتطالع كل جميلٍ حولها.
إن التذوق، والإحساس بالجمال ينقل الإنسان من مرحلة الإنهاك، والتعب لمرحلة المتعة، والشغف، وهذا ما يتوجب أن ننتبه له عبر ما نقدمه لأبنائنا من مهام يؤدونها، وما يقومون به من أعمال، سواءً ارتبطت بدراستهم، أو بحياتهم المعيشية؛ فقد ثبت أنه رغم الجهد المبذول؛ إلا أن متعة الذوق تخفف من وطأة هذا النصب الذي أظن أنه سيزول بمجرد رؤية جمال المُخرَج، أو ما نسميه المُنتَج.
تعالوا بنا نتفق على أمر يساعدنا في غذاء تذوق الوجدان؛ ألا وهو تربية النشء على الجمال بصورة مقصودة؛ وذلك من خلال تنمية مواهب كامنة لديهم، قد يكون منها الرسم، والموسيقى، والشعر، ونسج قصص الخيال، ومطالعة الطبيعة الخلابة، وغيرها من الأشياء التي يتزود منها الإنسان ملامح، ومقومات الجمال، ومكوناته؛ فيبتهج نظره، وتسعد روحه، ويُروى وجدانه؛ ومن ثم ينمو التذوق لديه.
ويُعد التفكيرُ أحد المنابع العذبة، والنديَة التي تغذي تذوق الوجدان؛ فمن خلال تنمية مهارات التأمل، ومن خلال ممارسات مهارات الابتكار، وصقل المقدرة على الإنتاجية يتسبب في تتدفق طلاوة تذوق الجمال في كل ما نؤديه؛ فتصير اتصافًا، لا تفارق الإنسان في كافة مناشطه، ومتعه؛ فالأمر بات مألوفًا، وأضحت العلاقة قوية بين شعور التذوق، وإحساسه، والسلوك التلقائي لدى الفرد.
ونود الإشارة إلى أن قيمة التذوق تقود الإنسان إلى التمسك بالذوق في صورته العامة؛ حيث إن ثياب السلوك الراقي الذي يعبر عن صاحبه، ويجعله حسن المعاملة، وطيب السيرة يراعي مبادئ، وقيم، وأخلاق، وهوية مجتمعه دون مواربة، بل ويحرص على أن يبدى احترامًا للعادات، والتقاليد لمجتمعه، وللمجتمعات الأخرى؛ فيتعامل في مكانه، وغير مكانه بصورة تزينها اللياقةُ، والأدب الجمُّ، والتقديرُ للآخرين.
ما أجمل التذوق! الذي نرويه، ونغذيه منذ المهد؛ فنحسن التربية، ونحصد ثمارها اليانعة في سلوكيات غابت كثيرًا عن أعيننا، وما أحوج فلذات أكبادنا! لمن يقوم بهذه المهمة العظيمة في مؤسساتنا التربوية، والاجتماعية، والعقدية، وعبر آلات الإعلام الهادف؛ كي تتضافر الجهود في بناء إنسان يحمل بين جنباته الرقي، والتقدير، والاحترام، ويرى كل ما حوله بعين جميلة تعزز لديه وجدانًا معطاءً.. ودي ومحبتي لوني وللجميع.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الموسيقى الرسم الشعر قصص الخيال المزيد ما یقوم تذوق ا
إقرأ أيضاً:
د. محمد بشاري يكتب: الاجتهاد المتجدد: ضرورة فقهية لتجسيد المؤتلف الإسلامي الفاعل
لم يكن الفقه الإسلامي يومًا علمًا جامدًا، بل ظل دائم التطور والتفاعل مع الواقع، مستندًا إلى أصول رصينة وقواعد جامعة بين مدارسه المختلفة. وقد كان الاجتهاد، منذ نشأته، الأداة الأساسية لفهم الشريعة وتنزيلها على الوقائع المتغيرة، وهو ما يجعل تجديده اليوم ضرورة لا خيارًا، خاصة في ظل التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية، والتي تفرض إعادة النظر في آليات الاجتهاد وأدواته، بما يضمن تفعيل دوره في بناء وحدة فقهية تستوعب التنوع المذهبي، وتؤسس لمؤتلف إسلامي فاعل قادر على تجاوز الإقصاء والتشرذم.
إن انعقاد المؤتمر الدولي الثاني “بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية” في مكة المكرمة، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين وإشراف معالي الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى، لم يكن مجرد لقاء علمي، بل كان خطوة نحو تأسيس خطاب فقهي جديد يقوم على فكرة “فقه الوحدة في ظل التنوع”، بحيث لا يُنظر إلى تعدد المذاهب بوصفه تهديدًا، بل باعتباره عنصر إثراء، يحتاج فقط إلى ضبط آلياته وتفعيل القواسم المشتركة بين مدارسه. فالتعدد الفقهي لم يكن في يوم من الأيام مصدر تفرقة، بقدر ما كانت المشكلة في سوء إدارة الاختلاف، والتعامل معه بعقلية الصراع لا بمنطق التكامل.
إن الحاجة إلى تجديد الاجتهاد لم تكن يومًا أكثر إلحاحًا مما هي عليه اليوم، حيث لم تعد الأدوات التقليدية قادرة على استيعاب المستجدات المعاصرة، ولم يعد بالإمكان الاكتفاء بإعادة إنتاج اجتهادات سابقة دون النظر في مدى مواءمتها للواقع المتغير. فمع تطور المجتمعات الإسلامية وتداخل المذاهب الفقهية، أضحى لزامًا البحث عن صيغ اجتهادية تستوعب هذا التداخل، وتؤسس لنموذج فقهي قادر على تحقيق المشترك الفقهي دون المساس بخصوصية كل مذهب. وقد كان الإمام الشاطبي، في كتابه “الموافقات”، من أوائل من أشار إلى أن الاجتهاد لا يكون صحيحًا إلا إذا راعى مقاصد الشريعة في رفع الحرج وتحقيق العدل، وهو ما يشكل اليوم أحد الأسس التي ينبغي أن يبنى عليها التجديد الفقهي.
إن الاجتهاد الفقهي، كي يكون وسيلة للحوار لا ميدانًا للصراع، يحتاج إلى إعادة ضبط منهجيته وفق قواعد أصولية جامعة، تمنع الإفراط في التشدد، كما تحول دون الانفلات الفقهي غير المنضبط. ومن هنا، فإن الاستناد إلى القواعد الفقهية المشتركة بين المذاهب، مثل قاعدة “لا يُنكر المختلف فيه، وإنما يُنكر المجمع عليه”، وقاعدة “الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد”، وقاعدة “المشقة تجلب التيسير”، سيكون عاملاً رئيسيًا في تعزيز التقارب الفقهي، وتحقيق اجتهاد متوازن قادر على الجمع بين النصوص ومتغيرات الواقع. فهذه القواعد ليست مجرد أدوات استنباط، بل هي أطر مرجعية يمكن من خلالها ضبط الاجتهاد، بحيث يكون في خدمة الأمة، لا سببًا لمزيد من الانقسامات داخلها.
إن الحديث عن تجديد الاجتهاد لا يقتصر على تطوير الأدوات المنهجية فحسب، بل يشمل أيضًا آليات تطبيقه، بحيث لا يبقى مجرد اجتهاد فردي، بل يتحول إلى اجتهاد جماعي مؤسسي، يُشرف عليه علماء من مختلف المذاهب الإسلامية، لضمان توافقه مع المصالح العامة للأمة. وقد أثبتت التجربة أن الاجتهادات الجماعية، التي تصدر عن المجامع الفقهية الكبرى، تحظى بقبول أوسع، وتكون أكثر قدرة على تحقيق الاجتهاد التوافقي، مقارنة بالاجتهادات الفردية التي قد تفتقر إلى الرؤية الشمولية. ومن هنا، فإن تفعيل دور المؤسسات الفقهية في إدارة الاختلاف المذهبي سيكون خطوة أساسية نحو تحقيق الاجتهاد المتجدد الذي يجمع ولا يفرق.
إن تجديد الاجتهاد، ليكون أداة فاعلة في تحقيق المؤتلف الإسلامي، يحتاج أيضًا إلى إصلاح مناهج التعليم الديني، بحيث لا تقتصر على تدريس مذهب واحد، بل تتضمن دراسة مقارنة بين المذاهب، تُبرز القواسم المشتركة، وتعزز ثقافة الحوار، بدلًا من التركيز على نقاط الخلاف. كما أن تطوير الخطاب الإسلامي، بحيث يكون أكثر انفتاحًا على التعددية الفقهية، وأقل حدة في معالجة القضايا الخلافية، سيكون عنصرًا أساسيًا في نجاح أي مشروع لتجديد الاجتهاد. فالتجديد ليس مجرد إعادة إنتاج للأحكام الفقهية القديمة، بل هو إعادة هيكلة لمنظومة الفقه الإسلامي، بحيث تكون أكثر قدرة على التعامل مع تحديات العصر، دون أن تفقد ارتباطها بأصول الشريعة وثوابتها.
إن وحدة الأمة الإسلامية لن تتحقق عبر الشعارات، بل تحتاج إلى مشروع اجتهادي متكامل، يُعيد ضبط العلاقة بين المذاهب، ويؤسس لنموذج فقهي يجمع بين الأصالة والتجديد، بحيث يكون الاختلاف مصدر إثراء، لا أداة فرقة. وما لم يتم تفعيل هذا الاجتهاد المتجدد، ستظل النزاعات المذهبية عامل تفكيك، بدلًا من أن تكون وسيلة للتفاعل الحضاري، وهو ما يفرض على العلماء والمؤسسات الفقهية مسؤولية تاريخية في إعادة رسم خارطة الاجتهاد الإسلامي، بحيث يكون في خدمة الوحدة الإسلامية، لا سببًا في تعميق الخلافات داخلها.
إن تحقيق المؤتلف الإسلامي الفاعل يتطلب اجتهادًا واعيًا، لا يُلغي الفروق، لكنه يحسن إدارتها، ولا يُذيب المذاهب، لكنه يعيد ترتيب العلاقة بينها وفق رؤية مقاصدية تحقق المصالح العليا للأمة. وهذا يستدعي تجاوز العقلية الجدلية التي سادت لقرون، نحو عقلية تركيبية توفيقية، ترى في الاجتهاد وسيلة لإيجاد الحلول، لا أداة لإثارة النزاعات. فالمذاهب الإسلامية، رغم تنوعها، تتشارك في أصولها الكبرى، وما يفرقها لا يُقارن بما يجمعها، وهو ما ينبغي أن يكون نقطة الانطلاق في أي مشروع تجديدي يسعى إلى تحقيق وحدة إسلامية قائمة على التعددية، لا على الإقصاء والانغلاق.
إن الاجتهاد المتجدد، إذا ما تم تفعيله وفق رؤية أصولية متينة، سيكون الوسيلة الأكثر فاعلية لتحقيق التقارب الفقهي، وتعزيز الوحدة الإسلامية، بعيدًا عن الإكراه المذهبي، أو التنازل عن الخصوصيات الفقهية المشروعة. فالتقريب الحقيقي لا يكون بطمس الفروقات، بل بإيجاد أرضية علمية مشتركة، تُبنى على قواعد الاجتهاد السليم، وتستند إلى فهم عميق لمقاصد الشريعة، بحيث يكون الفقه وسيلة للتواصل بين المسلمين، لا عاملًا في تفريقهم.