الكاتب محمد الشحري: السّرد أبلغ من الفنّ في استنطاق الشّخوص والأمكنة والانتقال بين الأزمنة
تاريخ النشر: 3rd, January 2025 GMT
"العُمانية": (إن الكاتب لا يمكنه الهروب من طفولته ومراحل حياته الأولى، مهما حاول التنكر لماضيه أو الابتعاد عن محيط الذات)، بهذه العبارة يتحدث الكاتب والروائي محمد الشحري عن تداول أفكار الكتابة وعلاقته بالبدايات معها، وتأثير التنشئة في كتاباته الإبداعية.
في هذا السياق يشير الشحري الذي بدأ مشواره مع الكتابة إلى فترة تمتد إلى 30 سنة وصدرت له أعمال أدبية متعددة من بينها الأحقافي الأخير 2020، وموشكا 2015، والطرف المرتحل 2013، وبذور البوار 2010، إلى أن الإنسان إذا توغل في العمر تسِمُه التجارب بوسوم الحلاوة والمرارة، وتترك آثارها اللامرئية في ذاتية الإنسان.
ويؤكد على أن هذه الحقيقة لا يمكن نيلها بسهولة بل تتطلب التضحية وتقديم قربان في سبيل الحصول على ناموس الكتابة الذي يوجِد الوعي قبل الكتابة وقبل نضوج النصوص، ويعني ذلك محاولة إنقاذ الكتابة من الخواء والتكرار والدوران في حلقة مفرغة، وأن الكاتب لا يمكنه الهروب من طفولته ومراحل حياته الأولى مهما حاول التنكر لماضيه أو الابتعاد عن محيط الذات، هذا الأمر سحبه على ذاته إذ لا ينكر أن ثقافة معاطن الإبل تهيمن على طبع الانتقال والحنين والتخلي عن كل ما يعيق الترحال، لأن عكس ذلك يعني التبلد والاستقرار وكلها حالات تبعث السأم في النفس، وأثناء حياة الترحال والتنقل بين بيئات ظفار المختلفة، يلوذ بمعاطن أو مبارك الإبل يصلحها وينظفها من الأحجار والحشائش، وحين يصبح المعطن جاهزا للإقامة يهجره إلى معطن آخر وهكذا دواليك، فكسب من ذلك التخلي عن التعلق بالأمكنة فلا امتلك الأشياء ولا تملكها، فكل شيء يتخلى عنه وهو بدوره يتخلى عنه.
ويوضح الشحري أن الكتابة منحته مهمة القول ومهنة التعبير عن ثقافة مهددة بالانقراض ويقول: رغم الصعوبات والعراقيل التي وقفت في الطريق كان أولها عامل اللغة وثانيها مهمة الاكتشاف والكتابة في حقل أدبي غير مطروق في ظفار وأقصد "الفن الروائي"، فكانت عبارة المهاتما غاندي ملهمتي في بداية المشوار حيث يقول " في البدء يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، وفي الأخير تنتصر"، وأنا أشعر بالانتصار لأني كتبت ما أودّ كتابته وما زلت أكتب، لأن الكتابة عشق لا يخذل صاحبه أبدا.
وفي شأن علاقته بالتصوير الضوئي مرورا بالكتابة الأدبية، ومدى إسهامه في حياته الخاصة يقول: بدأت مصوّرًا فوتوغرافيًّا أبحث عن أداة معبّرة عن شخصي، فالتصوير والكتابة والرسم كلها محاولات تعبيريّة لانتزاع مكان ومكانة في ساحات الإعلان عن الذات، ولكن حين تعجز الأداة عن حمل المشاعر واستنطاق مكامن البوح نبحث عن وسيلة أخرى. التصوير الفوتوغرافي فن مرئي جميل، لكنه صامت يحبس اللحظات، بينما الكتابة حية تمارس الكلمات فيها سلطة الحركة وتحمل دفقة الأحاسيس، لهذا فإني وجدت الصورة عاجزة عن إعادة الحياة للخيال، أما الكلمة فلديها قدرة الإيجاد والتكوين والانتقال بسهولة بين الأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل، وإعادة توليفة الزمن كلما وجدت الأحداث حاجتها إلى ذلك سبيلا، أي أن السرد أبلغ من الفن في استنطاق الشخوص والأمكنة والانتقال بيُسر بين الأزمنة وتوليف الممكن وغير الممكن. وأجمل ما في السرد الرواية التي تستوعب كل ما يفعله الإنسان ويتخيّله، بالإضافة إلى مساحة البوح الشاسعة التي تتيح اختلاق الأحداث وتطويرها، فالرواية مثلا تحاول الكشف عن الجزء المجهول من الوجود، مثلما يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا، بينما القصة اقتناص لحظة وتكثيفها، والمقال تعبير آني وعابر في الوقت ذاته.
ولأن الشحري مسكون بمفردات البيئة ومفاهيمها يشير إلى مشكلة بيئته والميثولوجيا لتصبح هاجسًا شخصيًّا للكتابة في مشاربه الأدبية فيقول: أي إنسان شاركنا اللحظات الأولى في التنشئة سيعبّر عن تلك الحياة الأولى بطريقته الخاصة، وستسكنه مفردات البيئة المغموسة بثقافة الميثولوجيا التي تهيمن عليّ في اللاوعي، فأنا أشعر بأنني منقاد للميثولوجيا وواقع تحت سحر المعتقدات النبيلة، وتمنح كل شيء قدره من التبجيل والإجلال إلى التحقير والإذلال للمكونات الضنينة بالمعاني التي تحفز النفس على الارتقاء بعظمة الروح الإنسانية القادرة على إشاعة الصلاح والحدّ من الأذى، فأنا نشأت تحت وقع ثقافة شفهية تعتمد على القصص والحكايات والأساطير والمعتقدات في نقل المعارف وصقل السلوك الإنساني، وتحقيق توازنات بين الروح والجسد، ولذلك وجدت في البيئة ساحتي الغَنَاء والاكتفاء بما أعرفه عن معارف أخرى مكتسبة أو دخيلة على ثقافتي.
ويضيف: كتبتُ الرواية الميثولوجية بالاتكاء على الأساطير القديمة، فظهرت "موشكا" وكانت بذلك أول رواية من ظفار تركز على عمليات إنتاج اللُّبان وأسطورة الشجرة التي رُويت حكايتها بمخيال محب، وتحولت الرواية إلى مسرحية نالت استحسان الجمهور وثقة لجان التحكيم، وتضوعت أسطورة اللبان على المسرح. صحيح أن الميثولوجيا عالم واسع تشكل من خوف الإنسان من الطبيعة، وكتابة الميثولوجيا أمر صعب في عالم تجرّأ على التطاول على الطبيعة، فانقلبت عليه وعاقبته بآثارها لكن قليلًا من الكُتّاب من يستشعر ذلك، لأنهم يكتبون بلا فكر ولا جرأة، والكتابة بدون هذين العنصرين عبارة عن هذر لا طائل منه، الكتابة العميقة تنبع من أعماق الفكر أيًّا كانت اتجاهاته، وتحلّق بأجنة الجرأة، وعدم الإذعان للسائد.
وفيما يتعلق بعلاقات الصداقة الأدبية المغايرة التي يمتلكها الشحري مع أهم الكُتّاب العرب في الوطن العربي وفي المهجر، يشير إلى حدود التأثير والتأثر فيقول: منحني القدر فرصة التنقل والترحال والتعرف على ثقافات أخرى عبر الكتابة، وقادني الشغف إلى التعرف على حُداة الفكر وصايغي الكلمات وصُنّاع المعاني. فتعرفت على بعض الكُتّاب العرب الذين تأثرت بكتاباتهم، أو ممن عاشوا ظروفا شبيهة بالظروف التي مرت بي، أو الذين عجزت لغاتهم الأمّ الشفهية عن البوح بمكنوناتهم فلجأوا إلى اللغات المدوّنة للتعبير عن أفكارهم ورؤاهم. كنتُ إذا أقمتُ بأي مدينة أحاول التعرف على كُتّابها فهم من يمتلكون مفاتيح المدينة ومفاتنها، والافتتان أحيانا قد يقتصر على مقهى عتيق أو زاوية بيع كتب مستعملة هجرها مُلاّكها، أو رصيف لا تزعجه أقدام المارة ولا الذكريات المتلاشية في عباءة الفصول المتلاحقة. ففي ألمانيا مثلا حين كنت أدرس في جامعة هايدلبيرغ تعرفت فيها على أشهر كُتّابها وهما الكاتب والروائي الألماني من أصل سوري رفيق شامي صاحب روايتي "حكواتي الليل" و"صوفيا" اللتين تحكيان معاناة الإنسان المهاجر أثناء العودة إلى بلده، وصراع الحب والايديولوجيا، كما تعرفت على الكاتب الألماني من أصل فلسطيني سليم الأفنيش، راعي الإبل في صحراء النقب الذي تخلى عن دراسة المحاماة لأجل الكتابة والأدب. وفي تونس مثلا تعرفت على الروائي التونسي كمال الرياحي، والكاتب العراقي الراحل عبد الرحمن مجيد الربيعي، كما قابلت هناك الكاتب والروائي الجزائري واسيني الأعرج، والروائي الليبي إبراهيم الكوني، وكنتُ قبل ذلك قد قرأت " شرفات بحر الشمال " لواسيني الأعرج وأعجبتُ بها أيما إعجاب، أما الكوني الذي يتقاطع معي في عدة مشتركات منها أنه يكتب بلغة غير لغته الأم، مثلما أكتبُ بلغة غير لغتي الشحرية الشفهية الأم، فقرأت روايته "التبر"، عثرت فيها على كاتب مسكون بالميثولوجيا إحدى الوصايا التي يحملها الإنسان المرتحل على ظهره كالوشم. ومع كل ذلك لا بد من الاحتفاظ بمسافة بين كاتب وكاتب حتى لا يقع تحت تأثير التقليد، فالاقتراب من الكاتب هو اغتراب عن الذات بشكل أو بآخر.
وفي سياق التطور التكنولوجي، والخشية من تأثير الذكاء الاصطناعي على الكتابة الروائية يقول الشحري أيضا: الذكاء الاصطناعي أحد مخترعات الإنسان الحديث، الذي يصارع التكنولوجيا ويطوّعها لصالحه. فكل اختراع واكتشاف يسهم في رفاهية الإنسان ويساعده على تسارع الإنتاج الثقافي والإبداع، اختراع مرحّب به بلا شك. أما بالنسبة للذكاء الاصطناعي فمهما بلغت قدرته وتفوقه لا يمكنه ترجمة المشاعر، أو "الحياة السرية للمشاعر"، كما يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا، نعم يستطيع برنامج الذكاء محاكاة السرد لكن لن يصل إلى كشف الأحاسيس أو يخترق جهاز الحواس أو يتفوق على المخيلة. لذا فإن أي آلة تنافس العقل البشري على الإبداع ماهي إلا جولة من جولات الصراع التقليدي بين المادة والروح، بين العقل والميكانيكا، إذن نحن في منازلة أخرى مع الآلة، ولذا علينا الانتصار للروح التي تعجز الآلة مهما كانت تقنيتها عن تمثّلها أو تمثيلها.
وعن كتابة الرسائل الأدبية وكونها الوحيدة التي تنشر رسالة كل سنة إلى روح الشاعر الراحل علي حاردان، يشير الشحري إلى الإصرار على كتابة رسائل لن تصل إلى صاحبها ويوضح أن كتابة الرسائل الأدبية في عُمان قليلة جدا، وأنا لما كتبتُ رسائل إلى الشاعر المرحوم علي حاردان، كُنتُ عازفًا منفردًا لأستوعب صدمة الرحيل. ففي لحظة الموت أنكرت أن الصديق الذي كنت بمعيته قبل أيام من رحيله قد غادر الحياة ولن يعود إليها مرة أخرى، فلجأت إلى الكلمات لعلها تنتشلني من هول الصدمة وتجاوزها، ثم اكتشفت قوة الرسائل وقدرتها على إعادة التوازن إلى الذات، خاصة وأن الكتابة إلى صديق راحل هي عملية لجوء إلى الحنين الذي لا يتوقف أبدا. والرسائل الأدبية تختلف عن الرسائل الشخصية المقتصرة على شخصين، لأنها رسائل بوح، نعرف أن الطرف الآخر لن يقرأها ولكن نتخيل أنها ستصل إليه. ففي الذكرى السنوية لرحيل الصديق علي حاردان أكتب له رسالة تختلف موضوعاتها حسب ظرفية اللحظة ومجريات الأحداث والمناسبات الطارئة، فمنذ 2008 وأنا أكتب رسائل لا تصل إلى وجهتها، ولكني واصلت الكتابة أينما كنت في الوطن أو في الغربة. وأتخيل أن الرسائل ستصل وأتخيل أيضا ردّة فعل الصديق الذي عرّفني على الكتابة الصحفية وكان مؤمنا بقلمي، وأسهم في نشر العديد من قصصي ومقالاتي في صحيفة عُمان.
وفيما يتعلق بالكتابة السردية الخاصة بالأدب العربي وتقاطعها مع الواقع المعاش يصفها الشحري قائلا: الكتابة السردية في الوطن العربي حسب رأيي لا تزال تراوح مكانها شكلا ومضمونا إلا في بعض الحالات النادرة، والسبب في ذلك يعود إلى أن الكتابة تراوح مكانها بسبب الرقابة وهي تمارس هيمنتها على الكاتب، فتزرع فيه الخوف وتفرض عليه أقصى درجات الرقابة الذاتية، قبل وصول النص إلى عتبة الرقيب بتوجهاته المختلفة، فماذا ننتظر من كتابة لا تُعبّر عن واقع مؤلم ولا تناقش أفكارًا ومعتقدات كبّلت الإنسان وأرهقته ماديًّا ومعنويًّا. لذا أقول إن الكتابة غير الجريئة ستلد كتابة مشوّهة لواقع يحتاج قبل كل شيء إلى الاعتراف بمرارته، ولا يمكن لأي أداة إظهاره إلا بالكتابة التي تزعج الرقيب الذي يخشى الرأي والتصريح به قولًا وتدوينًا. وجزء كبير مما تعانيه المجتمعات العربية هو الخشية من قول الحقيقة والنقد.
ويشير الشحري إلى الإمكانية التي توجدها الرواية في استشراف المستقبل وما تمرّ به الأمة من تطورات وتحولات متعددة، وقدرة الروائي على تقدم حلول للأحداث التي يمر بها أي مجتمع اليوم ويقول: الكتابة مثل التشخيص الموضعي الذي يظهر ويكشف مواطن العلل والمشكلة لكن التشخيص لا يقدم الترياق ولا العلاج. فالرواية المكتوبة بوعي تام تكشف الغطاء عن المسكوت عنه، والنفس الهائمة في المديح لا ترى العثرات في الطريق. وهنا أرى أن الرواية السياسية هي التي تتحمل مسؤولية إظهار مكامن الخلل الاجتماعي والثقافي، وكتابة هذا النوع من الروايات مهمة شاقة ومضنية لأنها تُعرّض كاتبها لوقع النقد والتشويه.
وعن الكيفية التي من الممكن أن تقوم الهُوية الثقافية أن تشكل نمطًا أدبيًّا مبتكرًا مع إعادة صياغة الهُويات الثقافية القديمة يقول الشحري: قبل الدخول إلى التفاصيل لا بد من القول إن الهُوية إلى الآن لا تزال لفظة مُلتبسة رغم الإفراط في تعريفها، وأقول ذلك لأن الهُوية لا تشير إلى الذات، وإنما إلى ضمير مفرد غائب (هو) أي أننا بمجرد الحديث عن الهُوية فإننا ننفي ذات المتكلم من السياق العام ونسعى إلى تعريف الآخر الغائب (هو) وإلباسه ثوب الأنا. فالأحرى بأن نعدل الهُوية إلى (الأناية) لأنها الأقرب إلى التعبير عن الذات والاعتزاز بها، إذن هذا الموضوع متشعّب والإحاطة به يُصعب المهمة. وفي كل الأحوال فإن الهوية الثقافية تظهر ملامحها في الإنتاج الثقافي وخاصة في الكتابة السردية لأنها تمنح الذات الكاتبة التعبير بشكل أوضح عن تمثّلات الهُوية الثقافية التي تظهر التنوع والغنى في الهُوية الوطنية الجامعة، فالتنوع ثراء وإسهام مهمّ في الثقافة الوطنية، لأن الهُويات الثقافية الوطنية مهما أُشيع حولها لا يمكنها أن تكون بديلًا عن روح الأمة وهُويتها الجامعة، خاصة وأن التاريخ يقدم لنا الأدلة بأن الهُوية الثقافية انسجمت مع هُويات أخرى مجاورة ولم تصطدم معها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ویة الثقافیة أن الکتابة اله ویة
إقرأ أيضاً:
كيف نقرأ سوريا الأسد عبر الدراما؟
كان المسلسل التلفزيوني السوري، خلال عقد الثمانينيات، قد بدأ بالتحول التدريجي الواضح من محلية تداوله ليصبح حالة عربية عامة، دون أن يجازف بسورية الموضوع وهمومه، أو حتى بخصوصية الشكل التي عهدناها، بل نجح إلى حد بعيد في «سورنة» ذائقة المشاهد العربي البسيط.
كان لافتًا أن تشهد تلك الحقبة القلقة، وصولًا إلى عام 2011، اهتمامًا ملحوظًا ومتناميًا بهذا القطاع من قبل الدولة السورية، وهي التي سعت بدورها إلى إدراج صناعة الدراما ضمن جدول أعمالها وأجندتها السياسية والاقتصادية، ليصبح المسلسل التلفزيوني السلعة السورية الأغلى والأشهر بين صادرات تلك البلاد إلى محيطها العربي، إلى درجة أن عابد فهد يحكي ساخرًا بأن بشَّار الأسد عندما يذهب إلى اجتماع القمة العربية يُسأل عن «باب الحارة».
ثورة فنية استثنائية صنعتها كوكبة من المواهب الفذة التي صُقلت على خشبات المسرح السوري العريق، ونجاح باهر غالبَ بشراسة التفوقَ التقليديَّ للسينما المصرية، حتى بدا وكأن المصريين والسوريين قد تقاسموا في ما بينهم حصة الإنتاج الفني العربي؛ إذ أصبحت صناعة المسلسلات مهنة من تخصص الفنانين السوريين، بينما يحتفظ نُظراؤهم المصريون بحق احتكار صناعة السينما. غير أن نجاح صناعة الدراما في سوريا لم يكن محصلة فورة إبداعية عفوية؛ بل كان ثمرةً لشراكة خلف الكواليس بدت أقرب لتحالف شديد التعقيد والحذر بين الوسط الفني وكتَّاب النصوص وشركات الإنتاج من جهة، والدولة الأمنية في سوريا من جهة أخرى.
سقوط النظام في سوريا وما تكشف عنه من أقبية تعذيب ومقابر جماعية أعاد لكثير من العرب ذكرياتهم عن سوريا التي عرفوها عن طريق المسلسلات، في محاولة منهم للمطابقة بين الصورة والواقع. أمامنا إذن وقت طويل لنحاول قراءة سوريا الأمس عبر الدراما، عبر أعمال مثل «مرايا» و«بقعة ضوء» و«قلم حمرة» و«ضيعة ضايعة» و«الولادة من الخاصرة»... إلخ. حتى المسلسلات التاريخية، لا بدَّ أنها تقول شيئًا عن سوريا الحديثة. ولنا أن نتساءل في المقابل: كيف صنعت الدراما السورية، في ظل نظام مستبد، حالتها الفريدة في التحرش بالخطوط الحمر؟ كيف عبَّرت عبر النقد الساخر حينًا والجاد حينًا عن المسكوت عنه في بلدان عربية أخرى لطالما نُظر إليها على أنها أكثر حرية من بلاد البعث؟ بل كيف ساهمت جرأة الفنان السوري، رغم تلك الظروف، في تشجيع الدراما العربية في أماكن أخرى وتحريرها من كثير من القيود؟ كيف يمكن تفسير هذه المفارقة التي تشي بتناقض في مكان ما؟
المدخل الأول الذي يلوح لتفسير هذا التناقض هو علاقة النظام البراجماتية مع الفن، بما في ذلك الفن المعارض بالتحديد، أو علاقة الفنانين البراجماتية مع النظام. يمكننا أن نفهم ذلك «التحالف» بين مختلف أطراف الصنعة كحالة صحية تنشأ من تلاقي «المصالح» بين السلطة والفنان ورأسمال، بالطريقة التي شرحها جمال سليمان في حواره المثري مع جاد غصن قبل نحو ثلاثة أشهر فقط على سقوط النظام، السقوط المفاجئ شكلًا وتوقيتًا مهما بدا متوقعًا منذ مدة.
غير أن الحديث عن «مصالح» متبادلة بين الفنان وسلطة الأمر الواقع ليس بقصد تعكير براءة تلك الحقبة الفنية أو لمصادرة مصداقيتها. والأهم من ذلك أنه لا يطعن في سمعة المواهب التي صنعت من تناقضات تلك المرحلة عصرًا ذهبيًّا للدراما السورية، والدفع بالتالي لاتهام الوسط الفني دون تمييز بالتواطؤ وخيانة الفن والناس معًا، كما يحدث الآن. قطعًا كلا... بل على العكس! فتلاقي المصالح ليس أكثر من توصيف واقعي وعقلاني، بل وذكي إلى حد بعيد في وصف العلاقة الجدلية والتبادلية التي جرت عليها الأمور دائمًا وأبدًا بين الرقيب والثقافة بصفة عامة، كما يحدث في أي مكان وزمان.
ما يحسب لأجيال من الفنانين السوريين، وما يجعل من تجربتهم مع السلطة حالةً عربية مميزة، هو نجاحهم بنسبة تثير الإعجاب في كسب رهان التعبير عبر تلك العلاقة المصلحية المزدوجة، الرهان الذي يحدده سؤال: من يوظف الآخر في النهاية للتعبير عن نفسه؟ هل تعبر السلطة عن نفسها عن طريق الفن أم يعبر الفن عن نفسه تحت أعين السلطة وبموافقتها وفي عقر دارها؟ فقد يصبح المشهد ذاته الذي يريده الفنان تعبيرًا عن قضية اجتماعية أو سياسية حرجة هو ذاته الذي يريده النظام خدمةً لغرض آخر؛ كالتنفيس عن احتقان الشارع أو تصدير صورة مضادة مغايرة للسمعة الشائعة عن نظام يحارب حرية التعبير ويقمع الفن والثقافة.
هذه القراءة المزدوجة ذات الوجهين، للمشهد التمثيلي الواحد، هي ما تجعل من محاولة تحليل أسلوب صناعة الفن المعارض، في دولة كسوريا أيام البعث، مسألة أكثر تعقيدًا والتباسًا مما يبدو وفقًا للتبسيط الشائع.
وبطبيعة الحال، لم يكن هذا الرهان مضمونًا دائمًا لصالح الفن على حساب السلطة، ولطالما كان مغامرة خطيرة استدعت تطوير الموهبة الفنية، نصًّا وأداءً، بما يؤهلها للتعامل مع الفن بوصفه إيماءً، واحتجاجًا مبطنًا، ومقاومة عبر الحيلة. ومع أنني لستُ من أنصار النظرية التي تقول إن «الإبداع يولد من رحم المعاناة» دائمًا، لكن الحرمان والمنع قد يكون في كثير من الأحيان محرضًا على اكتشاف طرائق تعبيرية جديدة لإنقاذ الفن من التحول للخطابية المباشرة.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني