هل اندلعت الحرب بذريعة سياسية أم دستورية؟
تاريخ النشر: 31st, December 2024 GMT
Was the War Ignited by Political or Constitutional Pretext?
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
تمهيد:
ظلت التناقضات الثانوية بين القوى المدنية والعسكرية لثورة ديسمبر بعد إسقاطها نظام الإنقاذ الفاسد نسبية وعابرة، انطوت على خلاف كمي، وربما شخصي حول السلطة. وفي غياب الحنكة والتدبر من كلا المدنيين والعسكريين تحولت التناقضات الثانوية إلى تناقضات جوهرية، ثم تحورت لعداء نوعي بين فصائل الثورة العسكرية والمدنية.
هل المُسَوِّغ الحقيقي للحرب سياسي أم دستوري؟
تتسم العلاقة بين الدستور والسياسة بالجدلية والتعقيد، ولكن الحاكمية في النظم الحديثة هي للدستور بشكل أساسي. فالدستور هو القانون الأعلى في الدولة، ويحدد المبادئ والقواعد الأساسية التي تحكم النظام السياسي، ويضع الإطار القانوني الذي يجب أن تنضبط به الممارسة السياسية. كما يرسم الدستور الملامح الرئيسية للهوية الوطنية ويحدد مكوناتها الأساسية، ويضع الأسس القانونية للمواطنة بتحديد الهوية الدينية للدولة، ومكانة الشريعة في التشريع، وإتاحة استيعاب التنوع الثقافي والعقدي بين الجماعات المختلفة.
وعلى الرغم من حاكمية الدستور، فقد شاع في أوساط المتابعين والمحللين أن السبب الحقيقي وراء حرب أبريل سياسي وليس دستوري. وادعوا تمظهُر السبب السياسي في الصراع على السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع، والخلاف حول توقيت دمج قوات الدعم السريع في الجيش النظامي، وتعثر المسار الديمقراطي وعملية الانتقال السياسي، وفشل الجهود السياسية في التوصل إلى توافق حول تسليم السلطة للمدنيين، والرغبة في السيطرة على موارد البلاد.
ولكن برغم هذه الأسباب السياسية الظاهرية، إلا أن الذرائع الجوهرية لإشعال الحرب في أبريل 2023 كانت ذات طابع دستوري، وهي التي قادت لتعميق الخلافات السياسية والتعجيل بالحرب. ذلك أن الخلافات السياسية كانت بارزة في السطح بمجرد سقوط النظام السابق ولكنها لم تؤدِ لنشوب صدام مسلح عندما أُبعِد من رئاسة المجلس العسكري الفريق أول عوض أبنعوف، وانضم للمجلس محمد حمدان دقلو يوم 13 أبريل 2019. وفي يوم 24 أبريل أُقصِي من المجلس العسكري لأسباب سياسية كلٌ من الفريق أول عمر زين العابدين والفريق أول جلال الدين الشيخ الطيب والفريق أول شرطة الطيب بابكر بسبب انتمائهم السياسي الصارخ للإسلاميين. ولكن لم يؤدِ كل ذلك لنشوب الحرب في ذلك الوقت.
وخلافاً للذرائع السياسية المزعومة لنشوب الحرب فإن المسوغات الدستورية هي التي دفعت التيار الإسلامي العريض لمعارضة الاتفاق الإطاري باعتباره مكرِّساً للدستور العلماني ومتجاهلاً لتطبيق الشريعة الإسلامية. واعتقد الإسلاميون أن الاتفاق الإطاري تقف خلفه إرادة القوى الخارجية ذات الأجندة الخبيثة التي تستهدف عقيدة البلاد، واتهموا القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري بأنها تهدف لتفكيك الجيش والقوات النظامية لإقامة سودان علماني. وذلك فضلاً عن معارضة الإسلاميين لوقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الهويات الثقافية والإثنية والجهوية والدينية التي تبناها الاتفاق الإطاري، مما اعتبره السياسيون الإسلاميون وجناحهم في الجيش توجهاً صريحاً لفصل الدين عن الدولة. ومن ثم صنَّفوا الاتفاق بالمتعارض مع هويتهم الإسلامية ومشروعهم للدستور الإسلامي القائم على الحاكمية الإلهية. وعليه نظم الإسلاميون تظاهرات ضد الاتفاق ومناوئة للبعثة الأممية في السودان برئاسة فولكر بيرتس واعتبروا الاتفاق الإطاري ومبعوث الأمم المتحدة مجهضين لرؤيتهم لدستور الدولة السودانية المرتكز على الشريعة الإسلامية. وعلى الرغم من محدودية عدد المشاركين في هذه الاحتجاجات التي نظمها التيار الإسلامي العريض ضد المرجعية الدستورية للاتفاق الإطاري، إلا أنها لعبت دوراً في زيادة التوتر السياسي الذي قاد لاندلاع الحرب. وهنا تجدر الإشارة للتشابه الكبير بين هذه المظاهرات المحدودة التي قادت لحرب أبريل 2023، واعتصام القصر المحدود الذي قاد لانقلاب ديسمبر 2021، حيث كان الإسلاميون سبباً في النكبتين متعللين بذرائع دستورية ضد مقاصد ثورة ديسمبر الشعبية في التحول المدني الديمقراطي.
أما بالنسبة لمسوغات الحرب الدستورية المتراكمة منذ سقوط نظام الإنقاذ فتشمل خلو الوثيقة الدستورية من آليات دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وآليات واضحة لإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، مما أدى إلى نزاع حول توقيت وكيفية الدمج والإصلاح. كما كان غياب المرجعية الدستورية التي تحدد القيادة الأعلى للقوات المسلحة سبباً للصراع حول من يتولى قيادة القوات المسلحة، إذ يرى الدعم السريع أن القائد الأعلى يجب أن يكون الرئيس المدني، بينما يرى الجيش أن يكون القائد الأعلى من القوات المسلحة.
ومن ناحية أخرى، أدى التأخير في تشكيل المحكمة الدستورية حرمان المتهمين من النظام السابق من الحق الدستوري في التقاضي أمام أعلى سلطة قضائية. وفضلاً عن ذلك تشمل الذرائع الدستورية التاريخية لاشتعال حرب أبريل غياب آليات فاعلة في الوثيقة الدستورية لتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المسؤولين عن انتهاكات النظام السابق وما يتعلق بذلك من الخلاف حول آليات وحدود تفكيك مؤسسات النظام السابق. وذلك فضلاً عن شمول الاتفاق الإطاري لنص صريح يدعو لإطلاق عملية شاملة لصناعة دستور جديد. وأخيراً وليس آخراً كان انقلاب الجيش على الوثيقة الدستورية وتجميد بنودها ذات الطابع المدني في ديسمبر 2021 سبباً لتعميق الخلاف بين الجيش والدعم السريع الذي اعتذر للشعب السوداني عن المشاركة في الانقلاب، ورأي في تجميد بعض بنود الوثيقة الدستورية نكوصاً عن التحول المدني الديمقراطي الذي نادت به ثورة ديسمبر الشعبية. وتشمل البنود التي أجمدها الانقلاب المواد المتعلقة بمجلس السيادة وتكوينه، وتشكيل مجلس الوزراء وطريقة تكوينه وسلطاته، وتكوين المجلس التشريعي وتشكيله، وتنظيم الشراكة بين المكونين المدني والعسكري، وتجميد عمل لجنة إزالة التمكين حتى يتم مراجعة طريقة عملها.
وعليه فإن الأوضاع القاهرة التي فرضتها حرب أبريل تتطلب معالجة الجذور الدستورية للأزمة وبذور الصراعات المستقبلية، مع التركيز على قضايا الهوية وطبيعة الدولة والحكم الفدرالي والديمقراطية التوافقية والعدالة والتنمية المستدامة، وإعادة تأسيس البناء الدستوري على توافق حول مشروع وطني يعالج القضايا الأساسية التي أفرزتها الحرب، وإنهاء الصراع المسلح ضمن عملية سياسية واحدة بين طرفي الحرب والقوى المدنية تؤطرها المرجعية الدستورية للوصول إلى اتفاق سلام وإعلان سياسي يُضمَّنان في الوثيقة الدستورية المعدَّلة، والتأكيد على مبادئ أساسية مثل وحدة وسيادة السودان، والمواطنة كأساس للحقوق والواجبات دون تمييز، وإقامة دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية. بحيث ترمي هذه الآليات إلى معالجة الخلافات السياسية والعسكرية وتحقيق استقرار سياسي طويل الأمد بعد الحرب.
نزع فتيل الاستقطاب المُرَكَّب ودرء نذر الحرب الأهلية يتطلب التدرج عبر ثلاث مراحل متتابعة:
يتطلب إزالة خطورة التشظي الشرس الذي هيمن على الفضائين العسكري والمدني في أعقاب حرب أبريل اتباع منهج متدرج لمعالجة هذا الوضع المتفاقم بحيث يرتكز على ثلاث مراحل متتابعة غير متداخلة. تنطوي المرحلة الأولى على تفاوض بين الجيش والدعم السريع لوقف إطلاق النار الإنساني بمراقبة وحماية عسكرية إقليمية بإشراف الاتحاد الإفريقي. وتقتضي الحنكة السياسية حصر هذه المرحلة فقط في طرفي الإحتراب الجيش والدعم السريع، والوسطاء الإقليميين والدوليين، واستبعاد حواضنهما السياسية من المدنيين بحيث لا يلعبون دوراً يتجاوز المراقبة عن بُعد. ذلك أن إقحام السياسيين في هذه المرحلة الأولى يفسدها ويحبط تحقيق مراميها باختزال قضاياها في جدال عقيم للسياسيين الداعمين لطرفي الاقتتال تؤججه القنوات الفضائية بإشعال المواجهات اللفظية المعهودة بين الطرفين.
أما المرحلة الثانية لإيقاف الحرب فتتطلب توفير فضاء آمن للحوار السياسي الوطني بعد وقف إطلاق النار يمهد لاستعادة بريق شعارات ثورة ديسمبر المغدورة بمشاركة واسعة من القوى الحية المدنية والسياسية وعلى رأسها لجان المقاومة التي ضحت بالأرواح والدماء لقيادة ثورة ديسمبر المنتصرة على النظام السابق. إذ ينحصر دور الجيش والدعم السريع في هذه المرحلة الثانية على المراقبة عن بُعد بما يؤدي هذا الدور لانسحابهما التام من الساحة السياسية بعد الاندماج في جيش مهني قومي واحد وموحد، قانع بدوره النمطي المتمثل في حماية الحدود وحفظ الأمن وتأمين التحول المدني الديمقراطي.
وعلى الرغم من التتابع الزمني بين المرحلتين (chronological order)، إلا أن التحضير لهما يمكن أن يبدأ بين الجانبين المدني والعسكري بالتوازي (parallel) على انفراد، دون التقائهما وجها لوجه في أي من المرحلتين. ذلك أن الفطنة المؤدية لإنهاء الحرب تقتضي نأي السياسيين عن المرحلة الأولى والاكتفاء بمراقبتها، وابتعاد العسكريين عن المرحلة الثانية والاكتفاء بتأمينها وحمايتها. إذ أن أي مشاركة من الجانبين في مرحلة الآخر ستفسد المرحلتين معاً. بيد أن نأي العسكريين والمدنيين من اللقاءات المشتركة لا يعني عدم تحاورهما منفردين حول سبب الحرب، ومُحرِّشاتها، وسبل إيقافها.
وتبدأ المرحلة الثالثة مباشرة بعد فلاح المرحلتين الأولى والثانية في الوصول لرؤى مشتركة داخل كل من الكتلتين المدنية والعسكرية. وبالتالي يصبح الجانبان مهيئين للحوار المشترك حول المرجعية الدستورية لإدارة الفترة الانتقالية بعد الحرب بما يضمن خروج العسكريين من السياسة تحقيقاً للتحول المدني الديمقراطي المستدام باتباع نهج متوازن يجمع بين العدالة وجبر الضرر، والمصالحة والتسامي، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي لضمان تحقيق السلام والاستقرار بإنهاء الحرب، ضمن عملية سياسية واحدة تشمل طرفي الحرب والقوى المدنية، للوصول إلى اتفاق سلام وإعلان سياسي يُضمَّنان في المرجعية الدستورية. ويجدر التأكيد على أن الإطار الذي يجمع بين المدنيين والعسكريين هذه المرة ليس "الشراكة" كما كان خلال الانتقال السابق، بل تنحصر العلاقة بعد الحرب في مجرد "التنسيق" بين الجانبين لتحقيق الخروج الكامل للعسكريين من الساحة السياسية.
melshibly@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الجیش والدعم السریع المدنی الدیمقراطی الوثیقة الدستوریة الاتفاق الإطاری النظام السابق الدعم السریع ثورة دیسمبر الأهلیة فی حرب أبریل
إقرأ أيضاً:
في الحاجة إلى تكريس الشرعية الدستورية في المجال السياسي العربي
تَعني "الشرعية الدستورية" تلك الحالة التي تصبح الوثيقة الدستورية خلالها الفيصل بين المواطنين، أفرادا وجماعات، والمرجع الذي لا مرد لقضائه بين الأجهزة بمختلف أنواعها ومراتبها. فالشرعية الدستورية هي أولا وأخيرا إرادة الانتصار للدستور وسلامة تطبيق أحكامه ومقتضياته، بيد أن تحقق "الشرعية الدستورية" بهذا المعنى، يستلزم جملة شروط ومتطلبات، منها ما له صلة بطبيعة الدولة والسلطة والثقافة السياسية الناظمة لهما، وأخرى ذات علاقة بالمجتمع ودرجة وعي أفراده ومكوناته. لذلك، شكلت المسألة الدستورية في البلاد التي تحقق تكريسها في المجال السياسي رهانا مجتمعيا على قدر كبير من الأهمية الثقافية والاستراتيجية، بل إن تاريخ نضالها من أجل الديمقراطية، ظل تاريخ صراع واختلاف وحوار من أجل التوافق حول الوثيقة الدستورية وآليات صيانة حرمتها على صعيد التطبيق والممارسة.
تعتبر الفكرة الدستورية بالمعنى المتداول اليوم ظاهرة مستحدثة في عموم البلاد العربية، حيث يرجع تاريخها إلى ستينيات القرن التاسع عشر، حيث ظهرت بعض الدساتير (تونس مثلا) في سياق بناء دولة التنظيمات في الولايات العثمانية، وقد أعقبتها أجيال أخرى من الدساتير مستهل القرن العشرين (المغرب)، ما بعد الحربين الأولى والثانية، ليلتحق بها ما تبقى من الدول العربية بموجة الدسترة خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وقد دخلت البلاد العربية الألفية الجديدة موحدة في تبني فكرة الدستور، غير أنها استمرت بعيدة عن نظيراتها من الدول الديمقراطية في العالم، من حيث تكريس الشرعية الدستورية، وضمان احترامها على صعيد الممارسة.
تتحول "الشرعية الدستورية" في النهاية إلى صمام أمان من تعسف السلطات وانحرافها، وطغيان الأفراد وشططهم
تشترط "الشرعية الدستورية"، بالتحديد المشار إليه أعلاه، توافر سلسلة من المقومات والمبادئ والآليات. فمن جهة، تتحقق الشرعية الدستورية حين تكون الوثيقة الدستورية ذاتها نابعة من توافق المواطنين وإرادة تعبيراتهم السياسية والاجتماعية، ما يعني أن صياغة دستور ديمقراطي شرط لازم لتأكيد شرعية أحكامه على مستوى التطبيق. فحين يتم تغييب المجتمع عن عملية وضع الدستور، أو إشراكه بشكل رمزي أو صوري ومحدود، تضعف حظوظ تحقق الشرعية الدستورية، وتتعذر شروط تكريسها. وقد أثبتت تجارب مجمل البلاد العربية صحة هذا المعطى في واقع ممارسة النظم السياسية وطرق معالجتها للشأن العام، وتبدو الحاجة ماسة إلى إيلاء أهمية خاصة لمفهوم التعاقد في إعادة تأسيس الفكرة الدستورية في المجال السياسي العربي.
ويقتضي تحقق الشرعية الدستورية، من جهة ثانية، علاوة على مطلب الدستور الديمقراطي، وجود مؤسسات لضمان عُلوية الدستور وسموه، وفرض احترام تطبيق أحكامه من قبل الأفراد والجماعات والهيئات الإدارية والقضائية، وهو ما يستلزم وجود فصل واضح وسليم ومتكافئ للسلطات، وقضاء مستقل ونزيه وعادل، وثقافة مدنية وسياسية حاضنة لمثل هذه المفاهيم والمقومات الناظمة لمؤسسات الدولة من جهة، ولعلاقة هذه الأخيرة بالمجتمع وتعبيراته من جهة ثانية.
فهكذا، تتحول "الشرعية الدستورية" في النهاية إلى صمام أمان من تعسف السلطات وانحرافها، وطغيان الأفراد وشططهم. ومن الجدير بالملاحظة أن الدول التي ترسخت الشرعية الدستورية في مجالها السياسي العام، قطعت مراحل مهمة في تحويل الديمقراطية من مجرد مفهوم أو شعار إلى قيمة مشتركة على صعيد الدولة والمجتمع، وتقدم التجارب الدستورية المعاصرة نماذج عن هذا التحول في إدراك الشأن العام ولاجتهاد في تدبيره ديمقراطيا.
هكذا، عاش الفرنسيون، على سبيل المثال، قرابة قرن من الصراع (1789-1879) ليجترحوا لأنفسهم منظومة من القيم الدستورية، ويتوافقوا حولها من أجل بناء إطار محدد وواضح لإذكاء روح ثورتهم وإعمال مبادئها على صعيد الممارسة، فكان الاهتداء إلى النظام الجمهوري، فلسفة وقيما وقواعد، بعدما جربوا أصنافا من النظم، تراوحت بين الملكيات والإمبراطوريات والجمهوريات ونظام القناصل، والأمر نفسه ينسحب على "أم البرلمانية الديمقراطية" بريطانيا. وقدمت إسبانيا خلال الربع الأخير من القرن العشرين، تكريس الشرعية الدستورية وانغراسها في المجال السياسي العربي رهينان بمدى قدرة البلاد العربية على تحويل "دولة الثقب الأسود"، كما نعتها تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004، إلى دولة العيش المشترك، المؤسس على قيم المواطنة الكاملة، والحوار والتوافق حول أساسيات سياسة وتدبير الشأن العام، وآليات احترامها على صعيد التطبيق والممارسةمثالا حديثا عن قدرة الدول والشعوب على البناء الديمقراطي حين تتوافر شروطه ومستلزماته، غير أن الخيط الناظم لهذه الأمثلة الثلاثة، على تباعدها في الزمن، يكمن في توافق الدولة والمجتمع على وثيقة الدستور، والالتزام الجماعي برعاية سلامة أحكامها ومقتضياتها.
تُقدم البلاد العربية، وإن بدرجات مختلفة، حالة مغايرة عن واقع "الشرعية الدستورية" في التجارب السياسية المشار إليها أعلاه، بل إن وضع المسألة الدستورية في مراتب الدستورانيات المعاصرة، أي حركات تقييد السلطة بالدستور، لا يبعث على الارتياح في مجمل النظم السياسية العربية، لاعتبارات تاريخية وثقافية خاصة بالموروث العربي المشترك في مجال تدبير الشأن العام، ولأسباب موضوعية ذات صلة بالأطر القانونية والحقوقية والمؤسسية الحاكمة لعلاقة الدولة بالمجتمع.
إن تكريس الشرعية الدستورية وانغراسها في المجال السياسي العربي رهينان بمدى قدرة البلاد العربية على تحويل "دولة الثقب الأسود"، كما نعتها تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004، إلى دولة العيش المشترك، المؤسس على قيم المواطنة الكاملة، والحوار والتوافق حول أساسيات سياسة وتدبير الشأن العام، وآليات احترامها على صعيد التطبيق والممارسة. فمن المفارقات اللافتة التحاق كل الدول العربية بركب حركات الدسترة (Constitutionnalisation) في العالم، حتى التي تأخرت، لسبب أو لآخر، في الأخذ بفكرة الدستور، غير أن قليلا منها من تمكن من خلق شروط التوافق حول الوثيقة الدستورية، والتزم بجعبها فيصلا بين الجميع، دولة ومجتمعا، أي تحويل الدستور وسموه إلى قيمة سياسية ومجتمعية مشتركة.