هل اندلعت الحرب بذريعة سياسية أم دستورية؟
تاريخ النشر: 31st, December 2024 GMT
Was the War Ignited by Political or Constitutional Pretext?
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
تمهيد:
ظلت التناقضات الثانوية بين القوى المدنية والعسكرية لثورة ديسمبر بعد إسقاطها نظام الإنقاذ الفاسد نسبية وعابرة، انطوت على خلاف كمي، وربما شخصي حول السلطة. وفي غياب الحنكة والتدبر من كلا المدنيين والعسكريين تحولت التناقضات الثانوية إلى تناقضات جوهرية، ثم تحورت لعداء نوعي بين فصائل الثورة العسكرية والمدنية.
هل المُسَوِّغ الحقيقي للحرب سياسي أم دستوري؟
تتسم العلاقة بين الدستور والسياسة بالجدلية والتعقيد، ولكن الحاكمية في النظم الحديثة هي للدستور بشكل أساسي. فالدستور هو القانون الأعلى في الدولة، ويحدد المبادئ والقواعد الأساسية التي تحكم النظام السياسي، ويضع الإطار القانوني الذي يجب أن تنضبط به الممارسة السياسية. كما يرسم الدستور الملامح الرئيسية للهوية الوطنية ويحدد مكوناتها الأساسية، ويضع الأسس القانونية للمواطنة بتحديد الهوية الدينية للدولة، ومكانة الشريعة في التشريع، وإتاحة استيعاب التنوع الثقافي والعقدي بين الجماعات المختلفة.
وعلى الرغم من حاكمية الدستور، فقد شاع في أوساط المتابعين والمحللين أن السبب الحقيقي وراء حرب أبريل سياسي وليس دستوري. وادعوا تمظهُر السبب السياسي في الصراع على السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع، والخلاف حول توقيت دمج قوات الدعم السريع في الجيش النظامي، وتعثر المسار الديمقراطي وعملية الانتقال السياسي، وفشل الجهود السياسية في التوصل إلى توافق حول تسليم السلطة للمدنيين، والرغبة في السيطرة على موارد البلاد.
ولكن برغم هذه الأسباب السياسية الظاهرية، إلا أن الذرائع الجوهرية لإشعال الحرب في أبريل 2023 كانت ذات طابع دستوري، وهي التي قادت لتعميق الخلافات السياسية والتعجيل بالحرب. ذلك أن الخلافات السياسية كانت بارزة في السطح بمجرد سقوط النظام السابق ولكنها لم تؤدِ لنشوب صدام مسلح عندما أُبعِد من رئاسة المجلس العسكري الفريق أول عوض أبنعوف، وانضم للمجلس محمد حمدان دقلو يوم 13 أبريل 2019. وفي يوم 24 أبريل أُقصِي من المجلس العسكري لأسباب سياسية كلٌ من الفريق أول عمر زين العابدين والفريق أول جلال الدين الشيخ الطيب والفريق أول شرطة الطيب بابكر بسبب انتمائهم السياسي الصارخ للإسلاميين. ولكن لم يؤدِ كل ذلك لنشوب الحرب في ذلك الوقت.
وخلافاً للذرائع السياسية المزعومة لنشوب الحرب فإن المسوغات الدستورية هي التي دفعت التيار الإسلامي العريض لمعارضة الاتفاق الإطاري باعتباره مكرِّساً للدستور العلماني ومتجاهلاً لتطبيق الشريعة الإسلامية. واعتقد الإسلاميون أن الاتفاق الإطاري تقف خلفه إرادة القوى الخارجية ذات الأجندة الخبيثة التي تستهدف عقيدة البلاد، واتهموا القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري بأنها تهدف لتفكيك الجيش والقوات النظامية لإقامة سودان علماني. وذلك فضلاً عن معارضة الإسلاميين لوقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الهويات الثقافية والإثنية والجهوية والدينية التي تبناها الاتفاق الإطاري، مما اعتبره السياسيون الإسلاميون وجناحهم في الجيش توجهاً صريحاً لفصل الدين عن الدولة. ومن ثم صنَّفوا الاتفاق بالمتعارض مع هويتهم الإسلامية ومشروعهم للدستور الإسلامي القائم على الحاكمية الإلهية. وعليه نظم الإسلاميون تظاهرات ضد الاتفاق ومناوئة للبعثة الأممية في السودان برئاسة فولكر بيرتس واعتبروا الاتفاق الإطاري ومبعوث الأمم المتحدة مجهضين لرؤيتهم لدستور الدولة السودانية المرتكز على الشريعة الإسلامية. وعلى الرغم من محدودية عدد المشاركين في هذه الاحتجاجات التي نظمها التيار الإسلامي العريض ضد المرجعية الدستورية للاتفاق الإطاري، إلا أنها لعبت دوراً في زيادة التوتر السياسي الذي قاد لاندلاع الحرب. وهنا تجدر الإشارة للتشابه الكبير بين هذه المظاهرات المحدودة التي قادت لحرب أبريل 2023، واعتصام القصر المحدود الذي قاد لانقلاب ديسمبر 2021، حيث كان الإسلاميون سبباً في النكبتين متعللين بذرائع دستورية ضد مقاصد ثورة ديسمبر الشعبية في التحول المدني الديمقراطي.
أما بالنسبة لمسوغات الحرب الدستورية المتراكمة منذ سقوط نظام الإنقاذ فتشمل خلو الوثيقة الدستورية من آليات دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وآليات واضحة لإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، مما أدى إلى نزاع حول توقيت وكيفية الدمج والإصلاح. كما كان غياب المرجعية الدستورية التي تحدد القيادة الأعلى للقوات المسلحة سبباً للصراع حول من يتولى قيادة القوات المسلحة، إذ يرى الدعم السريع أن القائد الأعلى يجب أن يكون الرئيس المدني، بينما يرى الجيش أن يكون القائد الأعلى من القوات المسلحة.
ومن ناحية أخرى، أدى التأخير في تشكيل المحكمة الدستورية حرمان المتهمين من النظام السابق من الحق الدستوري في التقاضي أمام أعلى سلطة قضائية. وفضلاً عن ذلك تشمل الذرائع الدستورية التاريخية لاشتعال حرب أبريل غياب آليات فاعلة في الوثيقة الدستورية لتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المسؤولين عن انتهاكات النظام السابق وما يتعلق بذلك من الخلاف حول آليات وحدود تفكيك مؤسسات النظام السابق. وذلك فضلاً عن شمول الاتفاق الإطاري لنص صريح يدعو لإطلاق عملية شاملة لصناعة دستور جديد. وأخيراً وليس آخراً كان انقلاب الجيش على الوثيقة الدستورية وتجميد بنودها ذات الطابع المدني في ديسمبر 2021 سبباً لتعميق الخلاف بين الجيش والدعم السريع الذي اعتذر للشعب السوداني عن المشاركة في الانقلاب، ورأي في تجميد بعض بنود الوثيقة الدستورية نكوصاً عن التحول المدني الديمقراطي الذي نادت به ثورة ديسمبر الشعبية. وتشمل البنود التي أجمدها الانقلاب المواد المتعلقة بمجلس السيادة وتكوينه، وتشكيل مجلس الوزراء وطريقة تكوينه وسلطاته، وتكوين المجلس التشريعي وتشكيله، وتنظيم الشراكة بين المكونين المدني والعسكري، وتجميد عمل لجنة إزالة التمكين حتى يتم مراجعة طريقة عملها.
وعليه فإن الأوضاع القاهرة التي فرضتها حرب أبريل تتطلب معالجة الجذور الدستورية للأزمة وبذور الصراعات المستقبلية، مع التركيز على قضايا الهوية وطبيعة الدولة والحكم الفدرالي والديمقراطية التوافقية والعدالة والتنمية المستدامة، وإعادة تأسيس البناء الدستوري على توافق حول مشروع وطني يعالج القضايا الأساسية التي أفرزتها الحرب، وإنهاء الصراع المسلح ضمن عملية سياسية واحدة بين طرفي الحرب والقوى المدنية تؤطرها المرجعية الدستورية للوصول إلى اتفاق سلام وإعلان سياسي يُضمَّنان في الوثيقة الدستورية المعدَّلة، والتأكيد على مبادئ أساسية مثل وحدة وسيادة السودان، والمواطنة كأساس للحقوق والواجبات دون تمييز، وإقامة دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية. بحيث ترمي هذه الآليات إلى معالجة الخلافات السياسية والعسكرية وتحقيق استقرار سياسي طويل الأمد بعد الحرب.
نزع فتيل الاستقطاب المُرَكَّب ودرء نذر الحرب الأهلية يتطلب التدرج عبر ثلاث مراحل متتابعة:
يتطلب إزالة خطورة التشظي الشرس الذي هيمن على الفضائين العسكري والمدني في أعقاب حرب أبريل اتباع منهج متدرج لمعالجة هذا الوضع المتفاقم بحيث يرتكز على ثلاث مراحل متتابعة غير متداخلة. تنطوي المرحلة الأولى على تفاوض بين الجيش والدعم السريع لوقف إطلاق النار الإنساني بمراقبة وحماية عسكرية إقليمية بإشراف الاتحاد الإفريقي. وتقتضي الحنكة السياسية حصر هذه المرحلة فقط في طرفي الإحتراب الجيش والدعم السريع، والوسطاء الإقليميين والدوليين، واستبعاد حواضنهما السياسية من المدنيين بحيث لا يلعبون دوراً يتجاوز المراقبة عن بُعد. ذلك أن إقحام السياسيين في هذه المرحلة الأولى يفسدها ويحبط تحقيق مراميها باختزال قضاياها في جدال عقيم للسياسيين الداعمين لطرفي الاقتتال تؤججه القنوات الفضائية بإشعال المواجهات اللفظية المعهودة بين الطرفين.
أما المرحلة الثانية لإيقاف الحرب فتتطلب توفير فضاء آمن للحوار السياسي الوطني بعد وقف إطلاق النار يمهد لاستعادة بريق شعارات ثورة ديسمبر المغدورة بمشاركة واسعة من القوى الحية المدنية والسياسية وعلى رأسها لجان المقاومة التي ضحت بالأرواح والدماء لقيادة ثورة ديسمبر المنتصرة على النظام السابق. إذ ينحصر دور الجيش والدعم السريع في هذه المرحلة الثانية على المراقبة عن بُعد بما يؤدي هذا الدور لانسحابهما التام من الساحة السياسية بعد الاندماج في جيش مهني قومي واحد وموحد، قانع بدوره النمطي المتمثل في حماية الحدود وحفظ الأمن وتأمين التحول المدني الديمقراطي.
وعلى الرغم من التتابع الزمني بين المرحلتين (chronological order)، إلا أن التحضير لهما يمكن أن يبدأ بين الجانبين المدني والعسكري بالتوازي (parallel) على انفراد، دون التقائهما وجها لوجه في أي من المرحلتين. ذلك أن الفطنة المؤدية لإنهاء الحرب تقتضي نأي السياسيين عن المرحلة الأولى والاكتفاء بمراقبتها، وابتعاد العسكريين عن المرحلة الثانية والاكتفاء بتأمينها وحمايتها. إذ أن أي مشاركة من الجانبين في مرحلة الآخر ستفسد المرحلتين معاً. بيد أن نأي العسكريين والمدنيين من اللقاءات المشتركة لا يعني عدم تحاورهما منفردين حول سبب الحرب، ومُحرِّشاتها، وسبل إيقافها.
وتبدأ المرحلة الثالثة مباشرة بعد فلاح المرحلتين الأولى والثانية في الوصول لرؤى مشتركة داخل كل من الكتلتين المدنية والعسكرية. وبالتالي يصبح الجانبان مهيئين للحوار المشترك حول المرجعية الدستورية لإدارة الفترة الانتقالية بعد الحرب بما يضمن خروج العسكريين من السياسة تحقيقاً للتحول المدني الديمقراطي المستدام باتباع نهج متوازن يجمع بين العدالة وجبر الضرر، والمصالحة والتسامي، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي لضمان تحقيق السلام والاستقرار بإنهاء الحرب، ضمن عملية سياسية واحدة تشمل طرفي الحرب والقوى المدنية، للوصول إلى اتفاق سلام وإعلان سياسي يُضمَّنان في المرجعية الدستورية. ويجدر التأكيد على أن الإطار الذي يجمع بين المدنيين والعسكريين هذه المرة ليس "الشراكة" كما كان خلال الانتقال السابق، بل تنحصر العلاقة بعد الحرب في مجرد "التنسيق" بين الجانبين لتحقيق الخروج الكامل للعسكريين من الساحة السياسية.
melshibly@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الجیش والدعم السریع المدنی الدیمقراطی الوثیقة الدستوریة الاتفاق الإطاری النظام السابق الدعم السریع ثورة دیسمبر الأهلیة فی حرب أبریل
إقرأ أيضاً:
الجيش ليس للقتال فقط بل يشكّل الدول ويتحكم بمستقبل الإنسان
"لم يكن أحد يخطط لثورة في مجال استخدام الروبوتات في الأغراض العسكرية، لقد تعثر بها الجيش الأميركي مصادفة".
بول شاري، مدير الدراسات في مركز الأمن الأميركي الجديد
رغم أن تاريخ أول طائرة مسيّرة يعود لأكثر من قرن من الزمان، حين نجحت بريطانيا في إنتاج طائرة صغيرة يُتحكَّم بها عن بُعد في مارس/آذار 1917، فإن تلك الطائرة لم تُستَخدم عمليا أثناء أية حرب.
وفي حين أتاحت الحرب الكورية (عام 1950) المجال أمام استخدام الطائرات غير المأهولة من قِبَل الولايات المتحدة في الأغراض التدريبية، كما جرى الدفع بها لاحقا لأداء أدوار استخباراتية في حرب فيتنام، فإن انتشارها الفعلي تزامن مع تصاعد احتياجات الجيش الأميركي خلال غزو العراق، إذ استُخدمت هذه الأنظمة في تقييم أضرار ساحة المعركة ومهام المراقبة، خاصة في المجال الجوي عالي التهديد، إضافة إلى توظيفها في عمليات الاستطلاع والاستهداف.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ماذا تعرف عن إمبراطورية لوكهيد مارتن التي تُشعل ساحات الحروب بالعالم؟list 2 of 2ترويض الشبح.. هل تهدد "جيه-20" الصينية السماوات الأمريكية؟end of listوبشكل موازٍ، أدركت واشنطن أن قيمة المسيّرات تتجاوز استخداماتها الجوية، وأن لها القدر ذاته من الأهمية على الأرض، حيث أثبتت الروبوتات الأرضية فعاليتها في عمليات التخلص من العبوات الناسفة، التي واجهها الجيش الأميركي في غزو العراق وأفغانستان.
إعلانأدى ذلك إلى تصاعد حمّى تطوير الروبوتات العسكرية، وتسابق العديد من الدول نحو إنتاجها وتحسين مزاياها، أو اقتنائها على أقل تقدير، باعتبارها أداة لـ"ثورة عسكرية" جديدة.
وبحلول عام 2011، تضخم حجم الإنفاق السنوي على الأنظمة غير المأهولة إلى أكثر من 6 مليارات دولار، بعدما كان يحوم الإنفاق حول 300 مليون فقط في تسعينيات القرن الماضي، فيما يتوقع أن يبلغ هذا الرقم قرابة 17 مليار دولار خلال العام المقبل.
المسحوق الأسود يؤسس دولةإذا ما كانت المصادفة، وفق رأي "بول شاري"، هي ما تقف وراء "ثورة" الروبوتات العسكرية، فإن التاريخ يشير إلى البارود، الذي تعثر به الصينيون أيضا مصادفة خلال القرن التاسع، باعتباره اكتشافا أدى إلى أول "ثورة عسكرية" في العصر الحديث، بما استتبعه ذلك من تغيير شكل الحرب برُمَّته.
وعادة ما يُشار إلى تغير أدوات الحرب وأساليبها في أوروبا خلال القرنين الـ16-17 بـ"الثورة العسكرية"، وهو المصطلح المستمد من محاضرة ألقاها المؤرخ البريطاني "مايكل روبرتس" عام 1955 أمام جامعة "كوينز" في مدينة "بلفاست" الأيرلندية، والتي زعم خلالها أن التطور التقني وما واكبه من مستجدات إستراتيجية عسكرية في أوروبا بين عامي 1560-1660 هو ما وفَّر الأساس لتشكيل الدولة الحديثة ورفع أوروبا الغربية إلى مركز قوة عالمي.
ظهور الأسلحة النارية المحمولة مثلت حاجة لتشكيل جيش نظامي مدرّب (بيكسلز)تقوم نظرية "روبرتس" على سلسلة من الافتراضات، مفادها أن الابتكارات التقنية في هذه الفترة، التي تمثلت في استخدام الأسلحة النارية المحمولة، استدعت تدريبا مستمرا للقوات على تكتيكات حربية متجددة، وذلك لتعظيم الفائدة من هذه التقنيات.
وفقا لذلك، ظهرت حاجة الدولة إلى وجود قوة نظامية دائمة، لها متطلبات مالية وإدارية مختلفة عن مجموعات الفرسان والمرتزقة التي اعتُمد عليها في السابق، مما استوجب إنشاء مؤسسات حكومية تضمن إمداد الجيش بالأفراد وتدعمه ماديا بشكل منتظم عبر بيروقراطية ضريبية فعالة، كما تزامن ذلك مع ظهور مدارس وأكاديميات عسكرية تدريبية، ما يعني أن هذه التقنيات لم تؤثر فحسب على سلوك الحرب، وإنما شمل تأثيرها استحداث مؤسسات في الدولة وبالتالي إعادة تشكيلها، وبذلك صار مفهوم الدولة الحديثة ضرورة، وفق رأي "روبرتس".
إعلانلاحقا، قام مؤرخون بالإضافة إلى أطروحة "روبرتس" أو تعديلها، إذ وسّع بعضهم الفترة الزمنية المقترحة إلى أكثر من قرنين من الزمان، مثلما فعل مواطنه، المؤرخ وأستاذ التاريخ الأوروبي "جيوفري باركر"، الذي اعتقد أن ثمة 4 ابتكارات عسكرية رئيسية أتاحت تغيير شكل الحرب في أوروبا ووفرت الأساس لصعود الغرب، على رأسها: تطور تقنيات مجال التحصينات وحروب الحصار، بما في ذلك القلاع الإيطالية مثلثة المعاقل، واستخدام المدافع البرونزية التي أُنتجت بشكل ضخم خلال القرن الـ15، مما أدى إلى تحول شكل الحرب، من حرب تعتمد على عمالة مكثفة إلى أخرى تتطلب "رأس مال".
ثورة أم تطور؟على جانب آخر، واجهت أطروحات روبرتس/باركر انتقادات متنوعة، أبرزها إشارة المؤرخ العسكري البريطاني "جيريمي بلاك" إلى أن تطور الدولة هو ما سمح بنمو الجيوش وليس العكس، نظرا لأن تكتيكات الحرب وإستراتيجياتها لم تتغير قط قبل الثورة الصناعية، وكانت التقنيات المرتبطة باستحداث آلات البخار وحدها هي ما غيَّرت شكل الحرب والمجتمع، فيما رأى "بلاك" أن أكبر طفرة عسكرية حدثت كانت في أعقاب عام 1660.
وخلافا لهذه الآراء، اعتقد أستاذ التاريخ الأميركي "كليفورد روجرز"، في ظهور ثورات عسكرية متعاقبة على مدى زمني طويل، بدءا من ثورة المشاة في القرن الـ14 ثم المدفعية في القرن الـ15، تليها ثورة التحصينات وصولا إلى ثورة القرن الـ17 التي اقترحها "روبرتس"، التي شهدت نمو الجيوش وظهور البيروقراطية العسكرية.
وعموما، لم يتعلق الجدل بوجود ارتباط بين تطور أدوات الحرب والتغيير الاجتماعي، قدر ما تعلق بسؤال: متى حدث ذلك؟ ولماذا؟ بمعنى أن تباين وجهات النظر يتركز أغلبه في تحديد الحقبة التي شهدت ثورة عسكرية.
دفع ذلك بعض المؤرخين إلى انتقاد استخدام مصطلح "ثورة" لتمييز التغير في سلوك الحرب، نظرا لأن المصطلح يشير إلى تغيير مفاجئ وجذري في طبيعة شيء ما خلال فترة وجيزة نسبيا، وإذا ما كان الجانب الزمني الذي حدده "روبرتس" يشمل مئة عام، أو أكثر من ذلك وفق أطروحة "باركر" و"روجرز" وغيرهما، فإن هذه ليست بالفترة القصيرة التي يمكن تعريفها بالثورة، ومن ثم يفضّل تفسيرها على أنها خطوة تطورية.
إعلانوبشكل مقارب، قال آخرون إن تبلور الثورات العسكرية كان نتاجا لتطور تدريجي مشترك على مدى قرون، لكلٍّ من التقنيات والتكتيكات العسكرية والتنظيم السياسي، مما أدى -تحت ضغوط المنافسة العسكرية- إلى نشوء الدولة المالية العسكرية في القرن الـ18.
محاولات التفرقة بين طبيعة التغيرات العسكرية ونتائجها تشمل ما اقترحه المؤرخان الأميركيان، "وليمسون موراي" و"ماكجريجور نوكس"، للتفرقة بين مصطلحَيْ "الثورة العسكرية" و"الثورة في الشؤون العسكرية"، إذ يشير الأول، بحسب "موراي" و"نوكس"، إلى تغيرات جوهرية في إطار الحرب، تمتد لتشمل إعادة صياغة المجتمعات والدول بالإضافة إلى المنظمات العسكرية، بما يتماثل مع أطروحة "مايكل روبرتس".
أما "الثورة في الشؤون العسكرية" فهي ظاهرة محدودة وأقل تأثيرا، تشمل مجموعة من التغيرات التقنية أو التنظيمية التي تقتصر على المجال العسكري، دون امتداد تأثيرها إلى هيكل الدولة.
اختصار الزمن وتهميش البشروبغض النظر عن تباين التعريفات أو العراك الدائر حول تحديد مدى زمني للثورات العسكرية، فلا يمكن إنكار الدور الرئيسي للتقنيات في تغيير شكل الحرب، إضافة لما تفرضه من تأثيرات مجتمعية، وربما إعادة تشكيل هياكل الدول، وفق إشارة "ماركس" إلى التكنولوجيا بوصفها مؤثرة على البنية الاجتماعية وقوة دافعة وراء التاريخ.
يدفع ذلك العسكريين إلى مناقشة التقنيات الناشئة الحالية وما تتمتع به من إمكانيات، تؤهلها لإحداث ثورة عسكرية جديدة، حيث تتجه ساحة المعركة -كما هو معلوم- إلى الأتمتة عبر مُسيرات وروبوتات تنمو استقلاليتها يوما عن يوم، إضافة إلى أنظمة أخرى باتت تعتمد بشكلٍ تام على الذكاء الاصطناعي ولا تتطلب سوى مبرمجين في الخلف.
يتزامن ذلك مع اشتعال منافسات عسكرية فيما يخص سرعة الأسلحة وقدرتها على اختزال زمن الاستهداف، بما يسمح بإرباك الدفاعات المعادية ومن ثم تجاوزها، وأمثلة ذلك كثيرة، بدءا من الصواريخ الفرط صوتية وحتى مقاتلات الجيل الخامس الشبحية.
إعلانويؤكد "أوليفييه شميت"، أستاذ مركز دراسات الحرب في جامعة جنوب الدنمارك، أن التقنيات الناشئة التي تستهدف اختزال الزمن لديها القدرة على تغيير تصورنا للوقت بشكل جذري، وأن ذلك مُعرَّض للتزايد في الأعوام المقبلة، بما يدفعنا إلى التفكير في وتيرة العمليات العسكرية في الوقت الحالي مقارنة بما سوف تبلغه مستقبلا.
ويسوق "أوليفييه" الهجمات السيبرانية مثالا على ذلك، ففي حين تتميز هذه الهجمات بالفورية لكنها لا تزال رهينة للحضور البشري، نظرا لأن المُرسل إنسان، فيما سوف تتعزز هذه الفورية بصورة استثنائية إذا ما أوكلت هذه الهجمات مستقبلا إلى الذكاء الاصطناعي، الذي يتخذ قرارات أسرع بكثير من البشر.
ستزيد مخاطر الهجمات السيبرانية إذا ما أوكلت الهجمات للذكاء الاصطناعي (شترستوك)تُبرهن على ذلك إحدى تجارب محاكاة القتال بين ذكاء اصطناعي يُدعى (ألفا) وطيار متمرس في أكتوبر/تشرين الأول 2015، حيث انتصر الذكاء الاصطناعي على خصمه البشري في كل جولة، وكان الطيار بعد هزيمته يعترف بعجزه واستسلامه في مواجهة خصمه الافتراضي، الذي أعطاه انطباعا بأنه "على علم مسبق بنِيّاته"، نظرا لقدرته على تحليل المواقف والتكتيكات ومن ثم الاستجابة للأحداث بشكل أسرع من خصمه البشري بـ250 مرة.
ومن الملاحظ أن القدرة على اختزال الوقت واستهداف الخصوم بشكل أسرع هي إحدى المزايا التي حققتها كل تقنية ارتبطت بثورة عسكرية (أو ثورة في الشؤون العسكرية)، ففي هذا الصدد تفوَّق البارود على السيف، قبل ظهور الطائرات النفاثة والقاذفات، ثم الأسلحة النووية والصواريخ البالستية والمقاتلات الشبحية، مما يعني أن تعزيز عنصر الفورية كان عاملا مشتركا بين تقنيات تلك الثورات. وإذا ما كان التاريخ -في أحيان- إحدى أدوات التنبؤ بالمستقبل، فإن ما تقترحه التقنيات الناشئة على مستوى عنصر السرعة قد يكون مؤشرا على ثورة عسكرية غير مسبوقة.
«ولدنا في زمان السيف والمزمار.. بين التين والصبار.. كان الموت أبطأ.. كان أوضح… أما الآن، فالزر الإلكتروني يعمل وحده.. لا قاتل يصغي إلى قتلى ولا يتلو وصيته شهيد».
الشاعر الفلسطيني محمود درويش
من جهة أخرى، يربط "أوليفييه شميت" بين أتمتة اتخاذ القرارات العسكرية وإزالة العاطفة من الحرب، مشيرا إلى أن استخدام القوة يتطلب قدرا من التفكير، الذي يتشكّل بدوره من خلال عواطفنا، لكن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في هذه القرارات سوف يُشكِّل سابقة تاريخية، حيث يزيل عنصر العاطفة تماما من الحروب للمرة الأولى.
إعلانلقد تألفت الحرب في صورها البدائية من فضاء رباعي الأبعاد يمكن إدراكه بالحواس البشرية، وحتى مع التطورات الثورية الناجمة عن اختراع البارود، ظل بالإمكان رؤية الأعداء وسماعهم رغم اقتران ذلك بازدياد المسافة بين المتحاربين، لكن ظهور تقنيات ثورية أخرى، مثل الإلكترونيات والرادار والمقاتلات الجوية، دفع الحرب إلى الخروج عن نطاق الحواس البشرية وحوّلها إلى شاشة ثنائية الأبعاد.
وفق ذلك، تقترن التقنيات العسكرية "الثورية" بغياب تدريجي للعنصر البشري عن ساحة المعركة الفعلية، وهو ما يمكن رصده أيضا في النقلات الثورية داخل تاريخ الحرب، التي تحولت من مبارزة إلى بندقية ومدفعية بعيدة المدى، ثم إلى طائرات تسقط حمولتها ولا تبالي، وصواريخ عابرة للقارات وهجمات سيبرانية، وهو ما يعبّر عنه "هابلز جراي"، محاضر العلوم الإنسانية في كلية كراون الأميركية، بقوله: "إن الدور المركزي الذي تلعبه أجساد البشر في الحرب بات يتضاءل أمام الأهمية المتزايدة للآلات".
أدى هذا التهميش البشري إلى تعزيز مشاعر الانفصال عن مسؤولية القتل عبر ابتعاد القاتل عن مشهد احتضار الضحية. وإذا ما كانت التقنيات الناشئة الخاضعة للأتمتة المستقلة تعِد بغياب كلّي للإنسان عن ساحة الحرب الفعلية، ففي الإمكان وضع ذلك مؤشرا آخر على بداية ثورة عسكرية.
حرب رأس المالعلى خلفية ذلك يبرز موقفان متعارضان إزاء الأتمتة الكاملة للعمليات الحربية. يرى أولهما ميزة في اختفاء القرار البشري عن ساحة الحرب، نظرا لأن المعارك في هذه الحالة سوف تُدار بتقييم أفضل وسرعة فائقة يضمنان النصر.
يبني هذا الفريق قراره وفقا لما يقدمه الذكاء الاصطناعي من مغريات، ففي إمكانه إمداد القادة بخطط وتكتيكات أفضل بناء على تحليل أدق لمواقع القوات المعادية وتجهيزاتها، كما يمكن أن تُستخدم العلوم الإنسانية مستقبلا في تغذية الخوارزميات، بما يعطي تصورا عن أسلوب تفكير العدو ويتنبأ بقرارات قياداته، فضلا عما يمكن أن يؤديه في الحروب النفسية.
إعلانمقابل ذلك يتخوف الفريق الآخر من تطوير الأعداء تدابير مضادة تؤدي إلى فقدان السيطرة على الآلات، لأن الحرب التي تعتمد كليا على آلة يمكن أن تنتهي إلى هزيمة في حالة تعطل أصغر ترس، لذلك يقترح هذا الفريق الحفاظ على دور الإنسان في حلقة القرار/الفعل، أي وجود حد أدنى من التدخل البشري. وعلى كل الأحوال، فإن النتيجة الأولى لنمو هذه التقنيات ستكون انخفاض أعداد المقاتلين من البشر.
يعيدنا ذلك إلى نقطة محددة في أطروحة "جيوفري باركر" للثورات العسكرية، وهي المتعلقة بالتحول من حرب العمالة الكثيفة إلى حرب تتطلب رأس المال، تزامنا مع استحداث تقنية المدافع البرونزية في حروب الحصار أثناء القرن الـ15.
ومن الملاحظ أننا بصدد تكرار الأمر، ففي حين تؤدي التقنيات الناشئة إلى انخفاض أعداد المقاتلين، يرتفع حجم الإنفاق الدفاعي، ويبرز هنا مثال الصين رغم امتلاكها أكبر كتلة سكانية، حيث تنمو استثمارات البحث والتطوير في بكين بنسبة 20% سنويا منذ عام 1999، إلى الحد الذي باتت تنفق فيه سنويا 233 مليار دولار بما يمثل 20% من الإنفاق العالمي على البحث والتطوير.
وتحدد التقارير 3 تقنيات رئيسية تهتم بها الصين أكثر من غيرها، وهي: أشباه الموصلات، والحوسبة الكمومية، والذكاء الاصطناعي. وفي عام 2017، شكَّلت الصين 48% من إجمالي تمويل مشاريع الذكاء الاصطناعي، فيما تهدف حكومتها إلى أن تكون مركز الابتكار العالمي في هذا المجال بحلول عام 2030.
ومن البديهي أن يتزامن ذلك مع مقاومة من أفراد في المؤسسات العسكرية، نظرا لأن هذه التقنيات سوف تؤدي إلى تغيير الوضع الاجتماعي داخل القوات المسلحة، وكما هو الحال في تاريخ سلاح الفرسان الذي تمتع بمكانة مرموقة داخل معظم الجيوش وقاوم إدخال الدبابات إلى المكونات الحربية، يقاوم طيارو المقاتلات توغل الطائرات بدون طيار أكثر في العمليات الحربية لأنها تتحدى هيبتهم داخل القوات الجوية.
إعلان التكيف وإعادة الهيكلةومع ذلك، يكشف التاريخ أن تطور التقنيات لم يكفل دائما تغييرا ثوريا، ذلك لأن التكنولوجيا ليست خالية من تعقيدات ومشكلات ترافق التطور، وتعوقه في أحيان، وعلى سبيل المثال، كان لدى العثمانيين أسلحة مدفعية تحت تصرفهم خلال القرن الـ14 كما هو الحال مع شعوب في آسيا، لكنها لم تمنحهم غلبة كاملة على أوروبا في ذلك الوقت، نظرا لما فرضته هذه التقنيات من ضغوط على الخدمات اللوجستية، وهو ما يشير إليه محلل السياسة الدفاعية "أندرو كريبينفيتش"، بقوله: "إن التكنولوجيا في حد ذاتها ليست محركا للتغيير العسكري، بل كيفية تكييف الجيوش لهذه التكنولوجيا في التكتيكات والتنظيمات بما يحدد قيمة فعاليتها العسكرية".
وبالمثل، ناقش "مايكل روبرتس" إستراتيجيات أمراء السويد وهولندا في حروب القرن الـ16، مبرهنا على أن تكيف تنظيم الجيش وتكتيكاته مع الأسلحة النارية المحمولة مكَّنهم من الاستفادة الشاملة من تأثير البنادق من خلال تبنّي تشكيلات خطية، سمحت للخطوط المتعاقبة بإعادة التحميل وكانت مصحوبة بحراب من سلاح الفرسان للحماية ودعم القتال القريب.
ومع تغييرات ساحة المعركة المستقبلية، بما يفرضه ذلك من تكوين نظام معقد ومترابط بين المجالين المادي والافتراضي، والانخراط في القتال دون اللجوء إلى الوسائل الحركية، فإن ثمة مجالات رئيسية سوف تتطلب مزيدا من التكيف، وعلى رأسها مجالات الاستطلاع والاتصالات، نظرا لما سوف تمثله قوة المعلومات وطريقة تحليلها وربطها للقوات العسكرية من ميزة، وهو ما يفتح بدوره الأبواب أمام مجالات أخرى مثل الفضاء بوصفه حقلا للعمل العسكري، وذلك ضمن محاولات الوصول إلى قدرات استطلاعية أكبر وتعزيز وسائل الاتصال.
كما من المتوقع أن تعتمد القوات العسكرية مناهج تصنيعية مختلفة بحسب قدرتها على التكيف، مثالا على ذلك، تركيز بعض الدول على التطور التكنولوجي للمسيرات والروبوتات المؤتمتة، فيما تعتمد أخرى على إنتاج أعداد ضخمة منها تمنحها القدرة على إرباك الأنظمة الدفاعية المعادية وفقا لمبدأ التشبع، وتركز فئة ثالثة على استكشاف تقنيات دفاعية حاسمة تحد من استخدام هذه الوسائل ضدها.
إعلانوبخلاف التكيف العملياتي، يفرض التسابق التكنولوجي ازدياد الحاجة إلى القطاع المدني، نظرا لأن ارتفاع معدلات الاستهلاك في الأسواق المدنية دفع بها في وقت ما إلى الابتكار في المجال المعلوماتي بشكلٍ تجاوز نظيره العسكري. ونتيجة ذلك، تولَّى مقدمو التكنولوجيا المدنية زمام مبادرة ثورة المعلومات، واعتمدت القوة العسكرية على مجموعة المعرفة التقنية داخل الاقتصاد الأوسع، مما يؤشر على حاجة إلى تجاوز الحدود بين المجالين (المدني والعسكري).
في هذا تبرز الصين، نظرا لتمتعها بمرونة صناعية بسبب إشراف الحكومة على مؤسسات الدولة كافة، بما يمكّنها من دمج العناصر المدنية والصناعات التجارية واستخدامها في بنية التصنيع العسكري، وهو ما يثير قلق الغرب وفي مقدمتهم واشنطن، التي تبحث عن شكل أكثر مرونة للتوفيق بين المجالين المدني والعسكري على غرار بكين، بما قد يُوجب نوعا من إعادة الهيكلة للمؤسسات ويمتد تأثيره إلى البنية الاجتماعية، في نقلة ربما تكون ثورية وتتماشى مجددا وأطروحة "مايكل روبرتس".