إبراهيم برسي - 20 فبراير 2020

في دهاليز التاريخ السوداني المتشابك، وفي تلك اللحظات التي تكتظ فيها الذاكرة بالحلم والعجز معًا، يقف المثقف السوداني في موقع مريب بين الفاعلية والخذلان.
ليس هذا الفشل نتاج نقص في الوعي، ولا قلة في الإبداع، بل هو حصيلة لتفاعلات تاريخية وثقافية وسياسية أحكمت قيودها على عنق الفكر، فجعلته يلهث في دائرة مغلقة، غير قادر على الانطلاق نحو التغيير الجذري.



الإرث الاستعماري، بما يحمله من تعقيدات، ليس مجرد صفحة تُطوى في كتب التاريخ، بل هو جرح عميق يستنزف الحاضر.
لقد أدرك المستعمر، كما أدرك غيره من القوى الإمبريالية، أن السيطرة لا تكتمل إلا حين تُعاد صياغة النخبة الفكرية لخدمة الهيمنة.
فأُنشئت مؤسسات تعليمية ضيقة الأفق، لا تصنع سوى مثقفين منزوعي القدرة على التمرد.
وهكذا، أصبح المثقف السوداني رهينَ نظامٍ لا يترك له سوى هامش ضيق يتحرك فيه. هامش ينهار تدريجيًا مع كل حقبة جديدة.

وحين أطلت الأنظمة العسكرية برأسها، منذ انقلاب إبراهيم عبود وحتى دكتاتورية البشير، وجدت في المثقف مصدر تهديد دائم.
كان الحل بسيطًا: القمع أو الاستيعاب.
فتحول المثقف في كثير من الأحيان إلى صوت للسلطة، فاقدًا لقدرته على النقد أو المواجهة.
هذا التآكل التدريجي لدور المثقف يعكس مأساة الوعي الذي يُحتكر ويُعاد تشكيله ليصبح خادمًا لمنظومة تستنزف البلاد والعباد.

لكن الإخفاق لم يكن وليد القمع فقط.
إنه أيضًا انعكاس لانقسامات أيديولوجية شرَّعت أبواب التشظي.
فبدل أن يكون المثقف صوتًا للوحدة والتنوير، غرق في مستنقع الصراعات الفكرية.
اليسار والإسلاميون والقوميون والليبراليون، كلهم كانوا مشغولين بمعاركهم الضيقة، فيما كانت البلاد تنحدر نحو المجهول.
إن هذا الانقسام لا يعكس تعددية صحية، بل يعبر عن فشل جماعي في صياغة رؤية وطنية متماسكة.

ومع هذا التشظي، بقي المثقف بعيدًا عن الشعب، غارقًا في لغة نخبوية لا تصل إلى عمق الحقول الممتدة في الجزيرة، ولا تعانق قسوة الرمال في كردفان.
إنه المثقف الذي يتحدث عن الشعب دون أن يخاطبه، ويرسم أحلامًا بلا جذور.
كان يكتب ويقرأ، لكن كلماته كانت تتبخر في الهواء قبل أن تمس الأرض التي تنتمي إليها.

أما حين جاءت الجبهة الإسلامية، فإن اللعبة تغيرت تمامًا.
أصبحت السيطرة على المؤسسات التعليمية والإعلامية أولوية للنظام، حيث استُخدمت الأدوات الناعمة لترويض العقول.
التعليم نفسه، الذي يفترض أن يكون نافذة نحو الحرية، تحول إلى آلة تصنع أجيالًا مبرمجة لخدمة الأيديولوجيا الحاكمة.
وهنا، وجد المثقف نفسه بين مطرقة الاستيعاب وسندان المنفى.

الهجرة، التي بدت للكثيرين كخلاص، كانت في حقيقتها نوعًا آخر من الإقصاء.
فالعقل الذي يهاجر، يفقد ارتباطه العضوي بالجسد الاجتماعي الذي يسعى لتغييره.

ورغم كل هذه العوائق، كان الإبداع يقاوم، مثل زهرة تنبت في صخر.
الطيب صالح، في موسم الهجرة إلى الشمال، عرى ببراعة جراح الهوية السودانية.
ومصطفى سيد أحمد، بصوته الذي يحمل وجع الأرض، حاول أن يروي حكايات المنسيين.
لكن الإبداع الفردي، مهما كان عظيمًا، لا يستطيع وحده مواجهة آلة القمع والتهميش.

وفي هذا المشهد المعقد، يبدو المثقف السوداني كمن يسير في طريق طويل، تحفه الأشواك من كل جانب.
ليس الفشل عارًا، لكنه دعوة للتأمل وإعادة البناء.
وكما قال سارتر ذات يوم، “الإنسان هو مشروعه”.
فإن المثقف السوداني، رغم كل ما أصابه، ما زال مشروعًا لم يكتمل.

التغيير الحقيقي يبدأ حين يدرك المثقف أن قوته لا تكمن في عزلته الفكرية، بل في التحامه مع الناس.
حين تصبح الكلمة فعلًا، والفكرة أداة لتحريك الواقع.

التاريخ لا يرحم من يتوقف عند عتباته.
والمثقف السوداني اليوم أمامه فرصة نادرة لإعادة صياغة دوره.
هذا الدور لن يتحقق إلا بالتواضع أمام تعقيدات الواقع، وبالتخلي عن برجه العاجي لصالح غبار الحقول وصخب الشوارع.
وحدها الكلمة التي تُخلق من رحم المعاناة، وتُبنى على أسس من الفهم العميق، يمكنها أن تصبح شرارة التغيير المنتظر.

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: المثقف السودانی

إقرأ أيضاً:

بين الكفاءة المحلية والخبرة العالمية.. من يقود “أسود الرافدين” في مفترق الطريق؟

أبريل 6, 2025آخر تحديث: أبريل 6, 2025

المستقلة/- مع اقتراب موعد المواجهتين الحاسمتين لمنتخبنا الوطني أمام كوريا الجنوبية والأردن في شهر حزيران المقبل، تتصاعد وتيرة الجدل داخل الأوساط الكروية بشأن هوية المدرب الأنسب لقيادة “أسود الرافدين”، في حال تم الاستغناء عن المدرب الإسباني خيسوس كاساس.

ففي وقت يُبدي فيه البعض ميلاً للاستعانة بخبرات أجنبية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في مشوار التصفيات المونديالية، يدعو آخرون إلى منح الثقة للمدرب المحلي لما يتمتع به من معرفة دقيقة بالدوري العراقي والمحترفين في الخارج.

صابر: المدرب المحلي هو الأقرب للواقع

المدرب المحترف في قطر سهيل صابر يرى أن المرحلة الحالية تتطلب مدربًا محليًا، بحكم قربه من الأجواء المحلية وإمكانية متابعته الدقيقة لمباريات دوري نجوم العراق، مؤكدًا أن ذلك قد يساعد في اكتشاف عناصر جديدة لم تأخذ فرصتها مع كاساس.

وقال صابر: “الوقت لا يسعفنا كثيراً، والدوري شارف على نهايته، لذلك يجب التحرك سريعًا وإجراء معالجات عاجلة، حتى لو اضطررنا لخوض مباراة الملحق لضمان بطاقة التأهل.”

عمران: نحتاج إلى مدرب عالمي وخطة طوارئ

في المقابل، يشدد المدرب عدي عمران على أهمية الإسراع في حسم ملف الجهاز الفني، داعيًا إلى التعاقد مع مدرب عالمي قادر على إدارة المرحلة القادمة بحنكة ومرونة.

وأضاف عمران: “الفترة السابقة افتقرت إلى التحضير الجيد والمباريات التجريبية، وهي نقطة ضعف كبيرة يجب تجاوزها. المرحلة المقبلة لا تحتمل التأخير، وفرصة التأهل ما زالت قائمة.”

طلاع: هوية المدرب ثانوية… الأهم الكفاءة

أما المدرب ناصر طلاع فقد اتخذ موقفًا متوازنًا، مؤكدًا أن الأولوية لا تكمن في جنسية المدرب، بل في قدرته على تحقيق أهداف المنتخب والتعامل مع الضغط المرتقب.

وقال: “المسألة ليست ما إذا كان المدرب محليًا، عربياً أم أجنبياً، بل ما إذا كان يمتلك عقلية تدريبية منضبطة وقادرة على تصحيح الأخطاء السابقة. نحن أمام مرحلة مصيرية تتطلب قرارات مدروسة، لا مجال فيها للمجازفة.”

مصير التأهل في مهب القرار الفني

ويحتل منتخب العراق حاليًا المركز الثالث في مجموعته التي تضم كوريا الجنوبية، الأردن، عمان، فلسطين والكويت، مما يجعل المباراتين القادمتين حاسمتين في تحديد مصير التأهل إلى نهائيات كأس العالم.

وفي ظل هذا التحدي الكبير، تبقى هوية المدرب المقبل مفتوحة أمام خيارات متعددة، تتطلب من اتحاد الكرة حسمًا عاجلًا وقرارًا مسؤولًا، يضع مصلحة المنتخب فوق كل الاعتبارات، ويعيد “أسود الرافدين” إلى سكة المنافسة الحقيقية.

مقالات مشابهة

  • العراق على مفترق: حكومة طوارئ أم انتخابات في موعدها؟
  • سامراء تقاوم فتنة التغيير الديموغرافي من بوابة المراقد - عاجل
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت
  • بين الكفاءة المحلية والخبرة العالمية.. من يقود “أسود الرافدين” في مفترق الطريق؟
  • مازق المثقف في المنفى: بين التماهي والهويات المنقسمة
  • الجماز ينتقد إدارة الهلال بعد السقوط أمام النصر: وجب التغيير
  • برج الأسد حظك اليوم السبت 5 أبريل 2025.. لا تخشى التغيير
  • «وكيل إعلام الأزهر»: توجيهات الرئيس بإعادة صياغة الدرامة المصرية جاءت في الوقت المناسب
  • رمز المعاناة والنمو.. اليتيم في الأدب | من التهميش إلى البطولة
  • خبير عسكري: لبنان على مفترق طرق وتصعيد إسرائيل يستهدف تفكيك محور المقاومة