مراكش- بين الإفادة والإمتاع يكشف البلاغي المغربي سعيد العوادي لقارئه عوالم جديدة لحضور الطعام في المنتج الأدبي العربي، بدأها في كتاب "الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي" وتابعها في كتاب "مطبخ الرواية: الطعام الروائي من المشهدية إلى التضفير".

ويدرك المتتبع أن العوادي يروم إعادة كتابة تاريخ الرواية العربية، وهو يبحث في مصادر متنوعة، ويدون ملاحظاته على هاش الصفحات قبل أن يترسخ في قناعاته أن وجود الطعام في الحبكة ليس اعتباطيا، بل هو جزء من حكاية لا يمكن الاستغناء عنه، تضمر أو تظهر صورا شتى لعلاقات إنسانية متسمة مرة بالإخضاع المخفي وراء الكرم ومرات بالخنوع والقسوة والدهاء والمكر.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2تشريح الانهيار العربي والشخصي في تجربة مسرحيّ التسييس سعد الله ونوسlist 2 of 2روائية "تقسيم الهند" البريطانية.. وفاة الكاتبة الباكستانية بابسي سيدواend of list

ويقول الكاتب للجزيرة وهو يسترجع اللحظات الأولى لملاحظاته البلاغية "إن الآفاق التي فتحها البحث في كتاب (الطعام والكلام) لم تنحصر في حدود الخطابات التراثية، وإنما امتدت إلى ملامسة الخطابات الحديثة".

العوادي: وجود الطعام في الحبكة ليس اعتباطيا بل هو جزء من حكاية لا يمكن الاستغناء عنه (الجزيرة)

وبذلك ظهر أمامه خطاب الرواية الذي طالما استوقفته فيه مقاطع الطعام المتنوعة، فكان يكتفي بالتعجب من دقة وصف الروائيين، قبل أن ينبِّهه الكتاب إلى ما يحمله فعل الأكل والشرب من مضمرات ثقافية وروابط اجتماعية.

ويضيف "هكذا، عُدْتُ إلى كثير من تلك المقاطع في روايات عربية متنوعة، بوعي جديد يتجاوز حدود الانبهار الوصفي التصويري إلى الرؤية البلاغية الثقافية التي تربط مشاهد الطعام بالعناصر السردية المختلفة من جهة، وبرهانات الرواية وتشابكها مع أسئلة الهوية والغيرية من جهة أخرى".

وبدت للكاتب جلسة الإفطار في رواية "بين القصرين" لنجيب محفوظ درسا في الإخضاع، حيث يتخذه البطل أحمد عبد الجواد مسرحا لتخويف الأبناء والزوجة وتثبيت القوانين الصارمة، مثلما يشير إلى ذلك السارد "الجلسة على قصر مدتها شديدة الوطأة على نفسه بما يلتزمون فيها من أدب عسكري". كما بدا أكل الأب داعما لذلك التخويف والسلطوية "كان يلتهم طعامه في وفرة وعجلة، وكأن فكيه شطرا آلة قاطعة تعمل في سرعة وبلا توقف".

إعلان

كما ظهر للكاتب الضيافة العربية الكريمة الباذخة التي قام بها توفيق الصادقي للعائلة الفرنسية التي جاءت إلى المغرب من أجل خطبة ابنته لابنها ميشيل في رواية "بعيدا من الضوضاء، قريبا من السكات" للروائي المغربي محمد برادة، مما يعد شكلا من أشكال الإحراج للآخر ودعوة مبطّنة لإيقاف مشروع الزواج، كما يستشف من العبارة العامية المونولوجية لتوفيق "غادي نوريهم شكون هي عائلة الأستاذ الصادقي واش تتسوى (سأريهم قيمة عائلة الأستاذ الصادقي) وكيف هي أصول الضيافة والكرم في المغرب".

ووفق هذا الأفق القرائي الجديد، أنجز كتاب "مطبخ الرواية" منطلقا من المرجعيات التراثية والغربية للسرد الطعامي، متوقفا عند 9 روايات تنتمي إلى جغرافيات عربية مختلفة، متتبعا فيها العلاقات التي يربطها الطعام بالرواية شكلا ورؤية.

جلسة الإفطار في الرواية تمثل درسا في الإخضاع وتدعم شعوري التخويف والسلطوية (الجزيرة) مشروع بحثي

يضيف الأكاديمي العوادي أن الكتابين يندرجان في إطار مشروع بحثي يهدف إلى تتبع تشكل الطعام في الخطابات المختلفة التراثية والحداثية، منتقلا من نظرة التهميش إلى نظرة التأسيس التي ترى الطعام جسرا للتبادلات الاجتماعية والإنسانية.

ويتناول كتاب "مطبخ الرواية" مدونة روائية تنتمي إلى جغرافيات عربية متنوعة، مقترحا تأريخا طريفا يتخذ من الطعام أداة لكتابة تاريخ جديد للرواية العربية، حيث يميز داخلها بين مسار يحضر فيه الطعام بشكل هامشي تخلل لبعض المقاطع الوصفية، ومسار آخر يبرز فيه الطعام بروزا مركزيا على مستويات الحبكة والشخصيات والأحداث والأمكنة والرهانات.

كما أن كتاب "الطعام والكلام" يبرز وجود من الصلات الموثوقة بينهما، مما يتجاوز الصوت إلى المعنى اللغوي والدلالة الحضارية، فليس من التوافق الساذج أن تلتقي اللفظة واللقمة في فم الإنسان، فتلفظ الأولى إلى الخارج، وتلقم الثانية لتستقر في الداخل.

إعلان

وتلك العلاقة -كما يشرح الكاتب- خلافية يحيا بها الكائن الإنساني، فالطعام حصنه المادي ضد الجوع والمرض، والكلام حصنه المعنوي ضد الوحدة والخواء. وعندما يلتقي الطعام بالكلام، يتحقق الدفء الإنساني بمعانيه المختلفة في الحضارات البشرية المتعددة.

بلاغة الكلام ومدار الطعام

حين يكتب الكاتب باستنارة ذهن ورهف إحساس، يستنبط معاني جديدة لنصوص لا تكن بادية للعيان من أول وهلة.

ويقول الباحث والناقد المغربي محمد زهير للجزيرة نت إن كتاب "الطعام والكلام" يكشف عن علاقات تبادلية، ينهل كل واحد من الآخر في مجال البلاغة والثقافة والحياة.

ويضيف "الكتاب محفل بلاغي ثقافي لاستقصاء تلك العلاقة المتجذرة في أرصدة التراث العربي، بما يدل على الفاعلية المبدعة لدى الإنسان، وهو يجرد من مختلف الأطعمة علامات وصورا وأدلة، وينشئ من تفاعلات موائد الطعام ومحافله سرديات تحفل بها مدونات التراث، دالة على قيم وأنظار وسلوكيات ثقافية واجتماعية كان الطعام مدارها، وكان الكلام بلاغتها وجسر تداولها".

بينما يصف الأكاديمي المغربي عبد الفتاح شهيد -للجزيرة نت- حكاية الكتاب بالجميلة والمشوّقة، وهي تنبني على أطباق تنبعث منها روائح الطعام ونشاوى الكلام، ويظهر من خلالها شغف الكتابة بعد هضم الثقافة العربية والإحاطة بجوانبها، بدءا بالقرآن الكريم، مرورا بالشعر والنثر ووصولا إلى أبعاد الثقافة العربية الكبرى عبر تاريخها الطويل.

رؤية فلسفية

من يتأمل مقاربة موضوع الطعام فلسفيا تنتهض له شواهد دالة على الحضور الفلسفي في الكتاب. ومن بين ما يمكن الاستدلال به، تلاحظ الأكاديمية المغربية سالمة الراجي -في حديث للجزيرة نت- أن المقابلة بين الوجود الدنيوي والوجود الأخروي في رصد حقل الطعام تتجاوز رصد الحقول المعجمية على مستوى البلاغة إلى ما يُضفِيه الوجودان من دلالات فلسفية على الطعام ما كان لها أن تظهر خارجهما.

إعلان

وتضيف -في مثال آخر- أن هذا التوظيف الفلسفي في بعده الديني لمفهوم المثالية والسرمدية ينطلق في الكتاب من رصد الأبعاد الدلالية للطعام في مختلف مواردها في القرآن ليبنِيَ بعد ذلك مُقتضَى فلسفيّا، حيث يقول الكاتب "ينبني خطاب (الطعام القرآني) في الجنة على التنعّم في بعديه السرمدي والمثالي، وتشهد على ذلك آيات كثر".

في حين يبرز الناقد الثقافي عبد الرزاق المصباحي للجزيرة نت أن الكتاب يجمع بين منظورين نقديين، يدمجهما على نحو هادئ وضمنيّ، ودون تكلف نظري، هما البلاغة التي ينتمي إليها أكاديميا، وبين القراءة الثقافية الحرة، التي يستعين بها لكشف الأنساق الثقافية الظاهرة في خطاب الطعام، حين يربطه بالصراع الثقافي.

هذا الكتاب يتخذ من مقوم الطعام أداة لكتابة تاريخ جديد للرواية العربية (الجزيرة) تفكيك

بين الاعتماد على نظرية مسعفة للفهم، واستقراء للنصوص، تبرز بعض خصوصيات الكاتب لاكتشاف جديد للعلاقات بين الطعام والكلام.

وتشرح الباحثة الراجي أن النظرية المعجمية أول ما يُستعان بها لفهم هذه العلاقات باعتبارها تبحث في مدلولات الكلمات واستدعاء معانيها من مختلف سياقات التداول، كما يمكن تجاوز ذلك إلى استدعاء النظرية البلاغية بمختلف أصنافها التداولية وغيرها باعتبارها ترصد مختلف ما للكلمة من الأبعاد والمصادقات التي تساعد على إدراك مستويات التركيب بين المفهومين.

بينما يؤكد الباحث المصباحي أن الكاتب يستقرئ عددا كبيرا من النصوص في المدونة الشعرية، والتي تبني قوتها الحجاجية على جعل الزوجة/المرأة عنصرا مانعا لقيمة الكرم، كما يقف متأملا خطاب التطفيل (من الطفيلي على الطعام) الذي ينقله من صورته الكاريكاتيرية والهزلية إلى التأسيس لخطاب مضاد للمؤسسة التي تعتمد توزيعاً غير عادل للثروات.

في حين يبرز الباحث شهيد أن الكاتب يشير الى أن الطعام موضوع شعري أثير، وممارسة ثقافية متجذرة، كما يطرح أسئلة إشكالية في الثقافة الشعرية العربية يثير بها إشكالات مهمة في شعرية الأغراض وخلخلة سلطة المدح.

إعلان

إذ يقول العوادي "وعلى هذا الاعتبار، عُرضت موائد الطعام في خطاب الشعر عرضا يبدأ من الوصف الخارجي الدقيق المخصِّب للخيال الأدبي إلى التعبير الرمزي الذي يجعلها شريكة في التعبير عن المواقف من الذوات والحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية".

وختاما، يفتح العوادي لقارئه شهية النظر في التراث العربي، ولم يكن من باب الصدفة أو المجاملة أن يصدر كاتب "الطعام أفقا للقراءة" -لمجموعة من الباحثين- عبارة عن أعمال مهداة الى الكاتب، باعتباره يمثل الجيل الثاني في البحث البلاغي بالمغرب.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات للجزیرة نت الطعام فی

إقرأ أيضاً:

تعرق مفرط وتناول الطعام بكثرة.. حسام موافي يكشف أعراض الإصابة بالغدة الدرقية

كشف الدكتور حسام موافي، أستاذ الحالات الحرجة بكلية طب قصر العيني، أعراض الإصابة باضطرابات الغدة الدرقية.

حسام موافي: إخفاء موعد وفاة الإنسان نعمة.. لهذا السببحسام موافي يوضح الطريقة المثلى لتناول الطعام في رمضان.. 3 وجبات متكاملة|فيديوحسام موافي يعلق على حكم طلاق المريض النفسي.. فيديوحسام موافي: التدخل بين الأزواج ونقل الكلام أشد ضررًا من بعض الكبائر

وقال حسام موافي في برنامجه “ ربي زدني علما ” المذاع على قناة “ صدى البلد”، :" عملية التمثيل الغذائي تشمل ثلاث مراحل رئيسية، وهي تناول الطعام، ثم الامتصاص، ثم الحرق، لافتًا إلى أن أي اضطراب في هذه العملية قد يكون مرتبطًا بمشاكل صحية أخرى، مثل مرض السكري من النوع الأول، حيث تتشابه بعض أعراضه مع اضطرابات الغدة الدرقية".

وتابع حسام موافي:" من العلامات البارزة التي قد تشير إلى وجود مشكلات في الغدة الدرقية التعرق المفرط وتناول الطعام بكثرة دون زيادة في الوزن، مشددًا على أهمية مراجعة الطبيب المختص لإجراء الفحوصات الطبية اللازمة.


وأكد أن من بين الأعراض الشائعة لمرض السكري فقدان الوزن غير المبرر، الشعور الدائم بالعطش، والتعرق المفرط، وهو ما يستدعي استشارة الطبيب لإجراء الفحوصات الطبية اللازمة والتأكد من التشخيص.

إخفاء موعد الموت 

وفي سياق آخر ، قال الدكتور حسام موافي، إن من أكبر نعم الله على الإنسان أنه أخفى عنه موعد الموت، والمكان الذي يتوفى فيه.

وأضاف حسام موافي، خلال برنامج “رب زدني علمًا” المذاع عبر قناة “صدى البلد”، لو علم كل إنسان موعد وفاته؛ لما اجتهد في عمله في الدنيا، ولشهدنا الجميع يتعبدون لله عند اقتراب لحظة رحيلهم.

أشار حسام موافي إلى أن الموت يأتي بشكل مفاجئ، ولا أحد يستطيع التنبؤ بموعده، فبعض الأشخاص يموتون بصورة طبيعية، بينما آخرون قد يتعرضون لحوادث مثل حوادث الطرق أو السقوط من أماكن مرتفعة.

وأضاف موافي أن هناك حالات تعاني من موت جذع المخ وتظل في العناية المركزة، لكن لا يمكن دفنها؛ لأن القانون يمنع ذلك.
 

مقالات مشابهة

  • تسارع الوفود.. القادة العرب يتوافدون على القاهرة لحضور «القمة العربية الطارئة»
  • وصول وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى مقر جامعة الدول العربية لحضور الجلسة التحضيرية لـ”قمة فلسطين”
  • سلام تسلم دعوة اماراتية للمشاركة في قمة الاعلام العربي
  • الرئيس العراقي يغادر بغداد متوجها إلى القاهرة لحضور القمة العربية الطارئة
  • المغرب الدولة العربية الوحيدة التي أعلنت الأحد أول أيام رمضان
  • طبيب يكشف طريقة فعالة للتخلص من القولون والإمساك نهائيًا .. فيديو
  • تعرق مفرط وتناول الطعام بكثرة.. حسام موافي يكشف أعراض الإصابة بالغدة الدرقية
  • مصر تستضيف القمة العربية الطارئة 4 مارس.. نواب: نأمل توحيد الموقف العربي ضد التهجير
  • الشاعر المغربي صلاح بوسريف: النقد العربي بحاجة لمراجعات في المفاهيم والتصورات والمناهج
  • «الغرف العربية»: شراكة استراتيجية بين الصين والعالم العربي لتعزيز سلاسل التوريد