في ذكراها السادسة كيف تم إجهاض ثورة ديسمبر؟
تاريخ النشر: 21st, December 2024 GMT
بقلم: تاج السر عثمان
١
في الذكرى السادسة لثورة ديسمبر، نستلهم دروسها حتى لا تتكرر تجربة إجهاضها التي قادت للحرب اللعينة، بترسيخ الحكم المدني الديمقراطي، وابعاد العسكر والدعم السريع عن السياسة والاقتصاد، ونحن نسير في تكوين اوسع جبهة جماهيرية قاعدية لوقف الحرب واسترداد، وذلك من خلال النقد والنقد الذاتي، بمتابعة تطور المخططات للانقلاب علي ثورة ديسمبر من القوى المضادة لها في الداخل والخارج.
٢
بعد اندلاع ثورة ديسمبر ، تم التوقيع علي ميثاق إعلان ” الحرية والتغيير” والذي توحدت حوله قوي الثورة ، وانطلقت الثورة بعنفوان وقوة أكثرعلي أساسه باعتباره البديل الموضوعي للنظام الإسلاموي الفاشي الدموي ، وكانت كما اوضحنا في مقالات ودراسات سابقة في اهم النقاط التالية:
– تشكيل حكومة انتقالية من كفاءات وطنية بتوافق جميع أطياف الشعب السوداني، تحكم لمدة أربع سنوات. – وقف الحرب بمخاطبة جذور المشكلة السودانية ومعالجة آثارها وعمل ترتيبات أمنية مكملة لاتفاق سلام عادل وشامل وقيام المؤتمر الدستوري الشامل لحسم القضايا القومية.
– وقف التدهور الاقتصادي وتحسين حياة المواطنين في كل المجالات المعيشية والتزام الدولة بدورها في الدعم الاجتماعي وتحقيق التنمية الاجتماعية من خلال سياسات دعم التعليم والصحة والاسكان مع ضمان حماية البيئة ومستقبل الأجيال.
– إعادة هيكلة الخدمة المدنية والعسكرية (النظامية) بصورة تعكس استقلاليتها وقوميتها وعدالة توزيع الفرص فيها دون المساس بشروط الأهلية الكفاءة.
– استقلال القضاء وحكم القانون ووقف كل الانتهاكات ضد الحق في الحياة فورا ، والغاء كل القوانين المقيدة للحريات وتقديم الجناة في حق الشعب السوداني لمحاكمة عادلة وفقا للمواثيق والقوانين الوطنية والدولية.
– تمكين المرأة السودانية ومحاربة كافة أشكال التمييز والاضطهاد التي تتعرض لها.
– تحسين علاقات السودان الخارجية علي أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة والبعد عن المحاور ، مع ايلاء أهمية خاصة لاشقائنا في دولة جنوب السودان.
٣
بعد وصول الثورة الي ذروتها في اعتصام القيادة العامة ، تم انقلاب اللجنة الأمنية للنظام البائد بهدف قطع الطريق أمام الثورة، واستمرت المقاومة باسقاط الفريق ابنعوف، ومع اشتداد المقاومة والمطالبة بالحكم المدني، تمت المحاولة الانقلابية بمجزرة فض الاعتصام ، والتي أعلن فيها البرهان انقلابه على ميثاق ” إعلان الحرية والتغيير” بقيام انتخابات بعد 9 شهور وإلغاء الاتفاق مع” قوى التغيير” الذي خصص لها 67 % من مقاعد التشريعي، لكن موكب 30 يونيو 2019 قطع الطريق أمام الانقلاب بعد المجزرة، وتمت العودة للمفاوضات مع قوى الحرية والتغيير، وتم التوقيع على الوثيقة الدستورية “المعيبة” التي تجاوزت ميثاق ” إعلان الحرية والتغيير”، فما هي أبرز نقاط “الوثيقة الدستورية” : –
– تراجعت ” الوثيقة الدستورية” عن ” إعلان الحرية والتغيير” ، واصبحت الفترة الانتقالية ( 39 شهرا) ، وتكوين مجلس سيادة من 11 ( 5 عسكريين و6 مدنيين) ، لمجلس السيادة الرئاسة خلال في 21 شهرا الأولي، والشق المدني في الفترة الانتقالية الثانية 18 شهرا!!. كما أعطت المكون العسكري حق تعيين وزيري الدفاع والداخلية والانفراد بالاصلاح في القوات النظامية. وقننت الوثيقة الدعم السريع دستوريا ، واعتبرته مؤسسة عسكرية وطنية حامية لوحدة الوطن ولسيادته وتتبع للقائد العام للقوات المسلحة وخاضعة للسلطات السيادية.
– اعتبرت “الوثيقة الدسترية” المراسيم الصادرة من 11 أبريل 2019 سارية المفعول ما لم تلغ أو تعدل من قبل المجلس التشريعي ، أما في حالة تعارضها مع أي من أحكام الوثيقة تسود أحكام الوثيقة. بالتالي ابقت الوثيقة الدستورية كما جاء في المراسيم علي وجود السودان في محور حرب اليمن ، والقوانين المقيدة للحريات التي ظلت سارية المفعول ولم يتم إلغايها..
٤
تم التنكر من المكون العسكري للوثيقة الدستورية رغم عيوبها ، ولم يتم تنفيذ بنودها كما في البطء والفشل في الآتي:
– محاسبة منسوبي النظام البائد في الجرائم التي ارتكبت منذ يونيو 1989.
– معالجة الأزمة الاقتصادية ووقف التدهور الاقتصادي ، وزاد الطين بلة الخضوع لتوصيات صندوق النقد الدولي برفع الدعم الذي زاد من حدة الغلاء والسخط علي الحكومة مما يهدد بسقوطها.
– الاصلاح القانوني وإعادة بناء المنظومة القانونية ، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات واستقلال القضاء وحكم القانون.
– تسوية أوضاع المفصولين من الخدمة المدنية والعسكريين وعدم اصدار قرار سياسي وبعودتهم.
– استمرار الانتهاكات ضد المرأة ( كما حدث في حالات الاغتصاب التي سجلتها مجازر دارفور واعتصام القيادة العامة . الخ.
– سياسة خارجية متوازنة تحقق المصالح الوطنية العليا للدولة ، وتعمل علي تحسين علاقات السودان الخارجية ، وبنائها علي أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة مما يحفظ سيادة البلاد وأمنها، بل تم الخضوع للاملاءات الخارجية كما في تنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي بطريقة فوق طاقة الجماهير استنكرها حتى صندوق النقد الدولي وانتقد الحكومة علي تلك الطريقة في التنفيذ التي تؤجج الشارع وتهدد استقرار البلاد والفترة الانتقالية، والخضوع للابتزاز في التطبيع مقابل الرفع من قائمة الدول الراعية للارهاب، فضلا عن دفع التعويض (335 مليون دولار) عن جرائم ليس مسؤولا عنها شعب السودان.
– تفكيك بنية التمكين الذي ما زال قويا ، وقيام دولة المؤسسات.
– تغول المجلس السيادي علي ملف السلام ، وتأخير تكوين التشريعي والولاة المدنيين بعد اتفاق المكون العسكري مع الجبهة الثورية، وعدم تكوين مفوضية السلام التي من اختصاص مجلس الوزراء، والسير في منهج السلام الجزئي والقائم علي المحاصصات حتى توقيع اتفاق سلام جوبا الذي وجد معارضة واسعة.
– تسليم البشير ومن معه للجنائية الدولية، وإعلان نتائج التحقيق في مجازر الاعتصام ومظاهرات ومواكب المدن( الأبيض، كسلا، قريضة، . الخ).
– انتهاك وثيقة الحقوق باطلاق الرصاص علي المواكب والتجمعات السلمية مما أدي لاستشهاد وجرحي
– عدم تكوين التشريعي.
٥
الانقلاب علي الوثيقة الدستورية:
وأخيرا جاءت اتفاقية جوبا التي كرّست الانقلاب الكامل علي “الوثيقة الدستورية”، ولم تتم اجازتها بطريقة دستورية بثلثي التشريعي كما في الدستور، بل تعلو بنود اتفاق جوبا علي الوثيقة الدستورية نفسها، كما قامت علي منهج السلام الذي حذرنا منه منذ بدايته، والذي قاد لهذا الاتفاق الشائه الذي لن يحقق السلام المستدام، بل سيزيد الحرب اشتعالا قد يؤدي لتمزيق وحدة البلاد مالم يتم تصحيح منهج السلام ليكون شاملا وعادلا وبمشاركة الجميع.
كان من الأهداف تعطيل الفترة الانتقالية وتغيير موازين القوي لمصلحة القوى المضادة للثورة ، ويتضح ذلك عندما وقع المكون العسكري اتفاقا مع الجبهة الثورية بتأجيل المجلس التشريعي وتعيين الولاة المدنيين، وجاءت الاتفاقية بشكلها لتغيير موازين القوي لصالح قوى “الهبوط الناعم ” بإعطاء نسبة 25% في التشريعي للجبهة الثورية و3 في السيادي و5 في مجلس الوزراء ، مما يحقق أغلبية يتم من خلالها الانقلاب علي الثورة..
اضافة للسير في الحلول الجزئية والمسارات التي تشكل خطورة علي وحدة البلاد ، ورفضها أصحاب المصلحة أنفسهم.
السير في منهج النظام البائد في اختزال السلام في محاصصات دون التركيز علي قضايا جذور مجتمعات مناطق الحرب من تعليم وتنمية وصحة وإعادة تعمير، فقد تمّ تجريب تلك المحاصصات في اتفاقات سابقة (نيفاشا، ابوجا، الشرق،. الخ) وتحولت لمناصب ووظائف دون الاهتمام بمشاكل جماهير مناطق النزاعات المسلحة في التنمية والتعليم والصحة وخدمات المياه والكهرباء وحماية البيئة، وتوفير الخدمات للرحل و الخدمات البيطرية، وتمّ إعادة إنتاج الحرب وفصل الجنوب، من المهم الوقوف سدا منيعا لعدم تكرار تلك التجارب.
جاء انقلاب ٢٥ أكتوبر 2021 ليطلق رصاصة الرحمة على الوثيقة الدستورية الذي وجد مقاومة جماهيرية كبيرة، وفشل حتى في تشكيل حكومة، مما أدي للتدخل الإقليمي والدولي لفرض الاتفاق الإطاري الذي أعاد الشراكة وكرس الدعم السريع واتفاق جوبا، وقاد للصراع على السلطة والثروة بين قيادتي الدعم السريع والجيش، الذي اتخذ شكل دمج الدعم السريع في الجيش و فجر الصراع المكتوم، وقاد للحرب الجارية حاليا.
٦
من العرض السابق تتضح الخطوات التي سارت عليها القوى المضادة للثورة كما في تغيير نسب المجلس لإجهاض الثورة التي رفضتها لجان المقاومة وتجمع المهنيين ، في مواجهة ومقاومة مستمرة لقواها التي أكدت استمرارية جذوتها ، وكان طبيعيا أن ينفرط عقد ” تحالف قوى الحرية والتغيير”، وينسحب منه الحزب الشيوعي وقبل ذلك جمد حزب الأمة نشاطه فيه، بعد أن سارت بعض مكوناته في خط “الهبوط الناعم “والتحالف مع المكون العسكري لإعادة إنتاج سياسات النظام البائد القمعية والاقتصادية وتحالفاته العسكرية الخارجية ، ومنهج السلام الجزئي الذي يعيد إنتاج الحرب ولا يحقق السلام المستدام.
كل ذلك يتطلب بمناسبة الذكرى السادسة للثورة أوسع حراك في الشارع بمختلف الأشكال وقيام أوسع تحالف من القوى الراغبة في استمرار الثورة واستعادة مسار الثورة على أساس ” ميثاق قوى الحرية والتغيير في يناير 2019 وتطويره)، وتحقيق الديمقراطية والتحول الديمقراطي، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ، وعودة كل شركات الذهب والبترول والجيش والأمن والدعم السريع وشركات الماشية والمحاصيل النقدية والاتصالات لولاية المالية، ودعم الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي بما يقوي الصادر والجنية السوداني وتوفير العمل للعاطلين من الشباب، ورفض السير في السياسة الاقتصادية للنظام البائد في رفع الدعم وتخفيض العملة والخصخصة،، وانجاز مهام الفترة الانتقالية وتفكيك التمكين والانتقال للدولة المدنية الديمقراطية التعددية ، ورفض الحلول الجزئية في السلام بالحل الشامل والعادل الذي يخاطب جذور المشكلة.
– إلغاء كل القوانين المقيدة للحريات ، وإلغاء قانون النقابات 2010، واجازة قانون نقابة الفئة الذي يؤكد ديمقراطية واستقلالية الحركة النقابية، ورفع حالة الطوارئ ، واطلاق سراح كل المحكومين ونزع السلاح وجمعه في يد الجيش وحل جميع المليشيات (دعم سريع ومليشيات الكيزان وجيوش الحركات. الخ) وفقا الترتيبات الأمنية، وتكوين جيش قومي موحد مهني تحت إشراف الحكومة المدنية. لضمان وقف الحرب واستعادة مسار الثورة. وعودة النازحين لمنازلهم وقراهم وإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
– تسليم البشير والمطلوبين للجنائية الدولية ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب وضد الانسانية.
– عودة النازحين لقراهم وحواكيرهم ، وإعادة تأهيل وتعمير مناطقهم ، وعودة المستوطنين لمناطقهم ، وتحقيق التنمية المتوازنة.
– السيادة الوطنية ووقف ارسال القوات السودانية لمحرقة الحرب في اليمن، فلا يمكن تحقيق سلام داخلي، والسودان يشارك في حروب خارجية لا ناقة له فيها ولا جمل، والخروج من المحاور العسكرية، وقيام علاقاتنا الخارجية مع جميع دول العالم علي اساس المنفعة والاحترام المتبادل، وتصفية كل بؤر الارهاب والحروب في السودان.
alsirbabo@yahoo.co.uk
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الوثیقة الدستوریة الفترة الانتقالیة الحریة والتغییر الدعم السریع منهج السلام کما فی
إقرأ أيضاً:
ثنائي الابادة
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
حفل وسطنا الغنائي بثنائيات نشرت الطرب والبهجة منذ ميرغني جمعة وود المامون مرورا بثنائي العاصمة ووصولا للاخوات خيري. ومعلوم ان اداء الغناء بشكل ثنائي وجماعي هو اكثر صعوبة من الغناء الفردي، لاحتياجه لانسجام (هارموني) عالٍ بما يشبه توحيد المشاعر والاحاسيس، وإلا حدث نشاز يفسد البهجة والطرب. واذا ما فارقنا الغناء وعرجنا علي الرياضة، فهي بدورها حفلت بثنائيات او تفاهم وانسجام خاص بين لاعبين (حمد والديبة حاجة عجيبة) او اكثر، انعكس بصورة ايجابية علي مستوي المتعة والنتائج. اما من الناحية الدرامية فمن بمقدوره نسيان ابداعات فرقة الاصدقاء المسرحية.
ويبدو ان حالة الانسجام والتوافق العابرة للانشطة الفنية والرياضية والاجتماعية، كانت سمة لحياة لم تختبر ضنك العيش والتحول لسلسلة من الفواجع المتعاقبة كقطع الليلة المظلمة. وهو انحطاط في مستوي الحياة وانحدار في منسوب القيم، ارتبط بالصعود والسيطرة المطلقة لنظام الانقاذ الطالح. الذي لم يفسد الحياة السياسية فحسب، وانما كامل الحياة بعد افراغها من مضمونها بحجة تطهيرها واسلمتها. ليؤسس هذا الغلو في التعاطي مع السلطة والاستحقار للمواطنين والاستخفاف بمؤسسة الدولة كمنظومة محكمة وتقنية فنية، لما نعانيه الآن من حرب قذرة دمرت البلاد وافنت اهلها واظلمت المستقبل.
ومبرر (الرمية النوستالوجية) السابقة، انها عبرت عن مرحلة تاريخية لم تشهد انقطاعات فجائية عن ماضي البلاد وتراث وثقافتها وخبرات ومنجزات ومكتسبات اهلها. ولتعكس من باب المقارنة ما بلغناه في شأن الثنائيات من تفاهة وعمالة رخيصة واجرام دموي في حق الشعب وتدمير طاول بلاده، وذلك ممثل بثنائي الابادة حميدتي/البرهان. لتعبر هذه الثنائية الاجرامية بدورها خير تعبير عن مرحلة الانقاذ وما آلت اليه البلاد واحوال اهلها بعد حكمهم العضوض. والحال انه ومنذ صعود هذا الثنائي المتآمر الي صدارة المشهد السياسي والسلطوي عقب الثورة، وهو مزود بسجل حافل من الجرائم والارتزاق في دارفور واليمن والارتهان لمحور الشر والكيزان. تم اغراق الثورة في الدماء وبيعها بثمن بخس لاعداءها، الشئ الذي عجل بخراب ليس الثورة كمشروع خلاص وانما الدولة نفسها.
فمعلوم وبسبب تكوين الرجلين الاجرامي ومن يقف خلفهما، بالاضافة الي طموحات مالية وسلطوية مجنونة، انتقل السودان من الحرب الاهلية كما عاشها الجنوب، الي نمط حروب الابادة المستهدفة للاعراق كما حدث في دارفور. ومن يومها اصبح السودان دولة منبوذة وضيف دائم داخل اروقة مجلس الامن ومجالس حقوق الانسان، تتساقط عليها الادانات والعقوبات كدولة تهدد حياة مواطنيها. بل اصبح التدخل في شئونها كدولة قاصرة (عدو لنفسها والآخرين) هو المحرك لفعلها وردة فعلها، لدرجة اصبح وصف دولة نفسها لا ينطبق عليها إلا تجاوزا!
وكما اعتدنا علي هروب اهل الانقاذ وقادة الجيش من تحمل تبعات اعمالهم، مرة بالانكار والمغالطات والاكاذيب، ومرة بالتلاعب بالالفاظ وتوظيف المصطلحات والقوانين عكس غاياتها. تم تغيير اسم مليشيا الجنجويد الي قوات الدعم السريع ومنحها صفة شرعية داخل منظومة شرعة الانقاذ الاحتيالية، للابقاء عليها وتلافي اثر سمعتها السيئة. والشاهد في الموضوع ان الاستهتار وحب البقاء في السلطة باي ثمن، دفع قادة الانقاذ كعساكر ومدنيين التغاضي عن حرمة الامن القومي، ليفقدوا السلطة ونفقد بلادنا مع كم هائل من الانتهاكات المريعة والدمار غير المسبوق.
واكثر ما تمظهر خواء الانقاذ كمنظومة حكم شمولي، هو صراع السلطة الطفولي بين العسكر والمدنيين. والذي حسم بسهولة لصالح العسكر، مما يعكس ان المصلحة المحمية بالقوة هي الموجه لجل الاسلاميين وليس الله! وعليه، منذ سيطرة البشير علي الحكم اصبح الكل في الكل، وما يستتبعه من الكيزان وقادة الجيش مجرد كورس يبحث عن مصالحه، والاصح الحفاظ علي ما اغتنمه من ممتلكات الدولة، مع توفير الغطاء السياسي للبشير (من كان يقوي علي مواجهته ولا يطمح في شراء وده وعلي راسهم علي عثمان ونافع، فما بالك بناس قريعتي راحت!). والبشير كشأن غالبية قادة الجيش السوداني الذين ابتلينا بهم، فهو محدود الذكاء مفرط الشك والتوجس والنرجسية. حاول ان يتذاكي بغباء عبر الاستعانة بمليشيا الجنجويد كقوات همجية لا تعرف الرحمة، لتحجيم طموح السلطة لدي المنافسين سواء من داخل الجيش او جهاز الامن او الغرف السرية للاسلاميين.
وما لم يكن يتوقعه احد، ان هنالك اسوأ من البشير واكثر غباء وضعف وخواء ونفاق وتلاعب بمصير البلاد وشعبها إلا بعد الظهور المشؤوم للبرهان، الذي تجسدت فيه كل عبر الزمان. والمفارقة انه اتته فرصة تاريخية ليتحول لاسطورة تتحدث عنها الاجيال اذا ما اخلص للثورة وتخلص من اعداءها، ليعيد للدولة مسارها الصحيح والسياسة فضاء حرياتها والجيش هيبته. ولكن عوضا عن ذلك نسج تحالف وثيق مع الد اعداء الثورة، بل وارتضي لنفسه ان يكون مجرد محلل لمجمل نشاطات حميدتي المخربة للدولة والمهددة لحياة المواطنين! ومن هنا مصدر غموض وغرابة العلاقة التي ربطت بين الرجلين، ليصبحا وجهان لعملة واحدة عنونها المكر والغدر، والعمل من اجل السلطة بكافة الوسائل دون الاكتراث للنتائج. وبما ان كلا الرجلين لا يمثلان اكثر من ادوات لتمرير مشروع يتجاوز قدراتهم المتواضعة، بقدر ما يتلاءم مع طموحاتهم وميكافليتهم واجرامهم. فهذا ما جعل مصيرهما يتخذ ذات المسار سلما وحربا، غض النظر عن حقيقة المشاعر المتبادلة والخطابات المعلنة والاحاديث المرسلة. واذا صح اعلاه او لم يصح، فالمؤكد ان طبيعة الصلة الغامضة بين الرجلين، وكيفية تصدرهما المشهد دون استحقاق واهلية، هي ما حكم غموض هذه الحرب وجعلها كقصص اجاثا كريستي التي لا تُحل عقدت جرائمها الشائكة إلا في النهاية وبطريقة غير متوقعة؟! بدليل حرب تدخل عامها الثالث وما زال التخمين هو ما يحكم جل التحليلات والقراءات، او هي محكومة بالمواقف المسبقة او مصالح المتعاطين معها غض النظر عن الخبرات والمؤهلات.
المهم، منذ تكوين المليشيا باطورها المتعددة بتعدد اغراضها وارتباط البرهان بها، والي قيام الثورة وانتصار تحالف الرجلين في توجيه السلطة في مسار محدد، يخدم طموحاتهما السلطوية المتوافقة مع المشروع الاماراتي/الاسرائيلي، الضارب بجذوره منذ وصول جحافل حميدتي العاصمة واحاطتها بطريقة مدروسة، ووصولا للانقلاب علي الثورة. كانت العلاقة سمنا علي عسل، او وقوع البلاد تحت السيطرة المطلقة لحميدتي/الامارات/اسرائيل. وهو ما بدأ يتغير مع دخول الاسلامويين وزيادة نفوذ المصريين علي الخط بعد الانقلاب، الشئ الذي هدد طموحات حميدتي واكسب البرهان مساحة للمناورة للضغط علي الرعاة الخارجيين (الامارات مجرد مخلب قط).
وبعد فشل الاتفاق الاطاري واندلاع الحرب بدأ الغموض سيد الموقف، او في الحقيقة توضحت بعض الحقائق، وعلي راسها ان المليشيا ليست اكثر من اداة قذرة في يد الخارج، والمطلوب منها ارهاب واهانة ونهب المواطنين وتدمير مؤسسات البلاد لتهيئتها لما هو مخطط له دون اعتراض. ولكن السؤال اين موقع البرهان من هذه الحرب التي خلطت الاوراق؟ وما علاقته بالمشروع السالف ذكره؟ ما دوره في هذا الغموض الذي يكتنف الحرب، ويحكم علي كامل المشهد بالضبابية؟ وقبل ذلك يتجسد لب الغموض في التساؤل حول المكاسب التي يجنيها شخص يطمح في السلطة، من تقديم كل العون لاكبر منافس له؟!! وما يثير البلبلة ولا يبعث علي الاطمئنان، ليس ان حديث الرجل يخالف فعله، وكاننا امام اخطبوط متعدد الرؤوس او ممثل يلعب ادوار متعددة وجميعها مخادعة، ولكن لان بيئة المؤامرات والاجرام والفساد هي التي تناسب امثاله، بما ينذر بالشر المستطير لمجرد وجوده في المشهد باي شكل كان.
وما اثار الشجون والاصح الاسي والمواجع هو الحديث المنسوب اليه عن القاء مسؤولية تكوين وتضخم المليشيا علي نظام البشير! مع ان القاصي والداني وصولا للاجنة في بطون امهاتها، يعلمون يقينا ان ما قدمه البرهان للمليشيا يزيد عشرات الاضعاف عن ما قدمه ليس البشير وانما حميدتي نفسه للمليشيا؟! لانه ببساطة سلمه الجمل بما حمل، وتولي بصورة غريبة (محامي الشيطان)، عبء الدفاع عن هذه الخدمة المريبة؟! وهذا غير الاموال التي اغدقها عليها مجانا حتي شك البعض انه شريك فيها! اما عن تمتين علاقاته الخارجية فحدث ولا حرج، لدرجة امتلاك حميدتي لطائرة خاصة طاف بها ارجاء الكون لتمكين مخطط استيلاءه علي السلطة بقوة السلاح! فهل بعد كل ذلك ياتي ليتنصل من المسؤولية بكل سهولة، وكأن جرمه مجرد خدش في حادث حركة، وليس تدمير البلاد عن بكرة ابيها وقتل ونهب وتشريد اهلها؟! بل لو امتلك ذرة شجاعة واقل حظ من الاستقامة الاخلاقية والسوية الانسانية، لاعترف بالجرم الشنيع واعتذر عنه وبرره باي سبب، او اقل درجة من الذكاء تدعوه للتظاهر بعمل ذلك ولو بطريقة بهلوانية. ولكن واحدة من مصائب هذه البلاد اجتماع التفاهة والبلادة والتبلد، في كل من يتصدي لحكمها بالقوة المسلحة.
والحال كذلك، طالما البرهان يتهرب من مسؤولية تحمل تبعات اقواله وافعاله، فهذا مؤشر للاصرار علي المضي في ذات الطريق الذي اوردنا المهالك، مما يجعله غير مؤهل البتة للبقاء في منصبه، ناهيك ان يتحكم في مستقبل البلاد ومصير العباد. لكل ذلك تصبح هذه الحرب في احد جوانبها هي حرب البرهان للسيطرة علي البلاد، وكل ما ترتب عليها من دمار للبلاد واذلال للعباد يتحمل مسؤوليته كاملة دون ان ينتقص ذلك من جرم حميدتي شيئا. ومن هذه الزاوية هي ليست حرب كرامة ولا يحزنون، لانه لا كرامة لمن لا كرامة له، او من ظل عصا في يد اعداء الثورة يهشون بها علي الثوار ويجهضون بها احلام الثورة، وكذلك لمن ظل يتعرض لاهانات حميدتي واخيه دون ردة فعل رجولية (يكرب قاشه). ولكنها تظل حرب كرامة وبطولة ورجولة لكل مقاتل صادق يتصدي عن وطنية حقة، لهمجية واعتداءات المليشيا القذرة علي الممتلكات والاعراض واستقلال البلاد.
لكل ذلك يصبح الرهان علي البرهان للانتصار في هذه الحرب ودحر المليشيا هو امر مشكوك فيه، لما سلف ذكره من تناقضات تكتنف الاقوال والافعال وغموض يحيط بمجريات الحرب نفسها! وقبل كل شئ ما هي مصلحته في دحر مليشيا علمها الرماية وشد ساعدها علي الجيش. والذي للغرابة ما زال يتولي قيادته! إلا اذا كانت المليشيا مجرد اداة قذرة وتلعب دورها القذر وتنتهي بانتهاءه! خاصة ان راعي الضان في الخلاء يعلم ان عائلة دقلو المالك الحصري للمليشيا غير مؤهلة لا اخلاقيا ولا سياسيا ولا وطنيا للدور الذي تدعي انها نذرت مليشياتها له.
وعليه يصبح كل من يدعم البرهان او يتبني خطاباته المراوغة ووعوده العرقوبية، هو شريك له و يتحمل قسط من جرائمه. مع العلم ان الموقف من البرهان لا يعني ذات الموقف من الجيش باي حال من الاحوال، وهو يخوض هذه الحرب المفروضة عليه ضد المليشيا الهمجية. ولو ان الجيش كمؤسسة يتحمل بدوره وزر السماح بتكوين وتضخم هذه المليشبيا ووصولها لهذه المرحلة، سواء بصمته علي قيادته الانقلابية وهي تتآمر عليه، او بالتورط في العملية السياسية باسقاط النظم الديمقراطية، ومن ثمَّ ادخال البلاد في نفق مظلم يزداد ظلاما مع مرور الايام، خاصة مع زيادة توغل الجيش في السلطة، والتوسع في الانشطة الاقتصادية المدنية.
اما المجرم الآخر حميدتي شريك البرهان وشبيهه، فهو من النماذج التي تظهر كل عدة قرون وتقودها طموحاتها الطائشة وعقدها العرقية وتشوهاتها النفسية، الي ابادة الآلاف وهي علي استعداد للخوض في دماء الملايين دون ان يطرف لها جفن. فهو من صنف هتلر وموسوليني وهولاكو ونتنياهو إلا انه يفوقهم جهلا وتفاهة وتحللا من كل الاعراف والقيم وما يمت للحضارة بصلة. فهذا الاهطل الموهوم الذي صدق انه فريق بحق، بل ومؤهل للقيادة والحكم، وليس مجرد اداة تخريب، تصور ان اقرب طريق للقصر هو هدم القصر نفسه، وان الاسلوب الامثل لحكم البلاد هي نهبها وتحطيمها وقتل شعبها وتشريدهم، وان الاستعانة بسرديات الديمقراطية والدولة المدنية وقضايا الهامش والتحريض علي الجلابة بطريقة متخلفة ومقززة، هي الغطاء القادر علي اخفاء مشروعه الخاص/عمالته ومبرر لانتهاكات قواته.
ولذلك طبيعي ان لا نتوقع منه اعتذار جاد عن جرائمه ونهبه وانتهاكاته بحق الابرياء وتخريبه المنشآت الحيوية، لانه ببساطة لا يملك غيرها، بل هي نفسها سبب وصوله الي ما هو فيه. اي كاحد الادوات القذرة لحماية المافيا الاسلام/عسكرية، قبل ان يتحول الي خدمة اسياده الجدد في الخليج. لان الولاء لمن يدفع اكثر ويقدم المغريات ويرفع سقف الوعود بالاستفراد بحكم البلاد (وكانه لم يكن الحاكم الفعلي في ظل جبن وخوار نفس الزول، ولكنها حماقة الجُهال)!
ولكن ان يتجرأ حميدتي بالقاء كامل المسؤولية علي عاتق البرهان، ليخرج كالشعرة من العجين من تبعات ما احدثاه من تدمير للدولة لم يٌشهد له مثيل ( إلا حريق روما/نيرون وخراب سوبا/عجوبة) فهذا استهبال يفوق حدود الاحتمال. اما ظهور تسجيلات تحمل خطابات (مشروع سياسي) للمجرم حميدتي كل حين، وهي مدبجة بمداد ما يسمي مستتشارون وحلفاء، مع العلم ان حميدتي لا يفقه عنها شيئا سوي جهد القراءة المتعثرة! فهي المهانة عينها للسياسة والثقافة والفكر والقضايا الجادة والمسؤولية الوطنية، وهذا غير الاستهانة بعذابات الضحايا! وكأن كل ما شهدناه من فظائع حرب قذرة قضت علي الاخضر واليابس من جانب المليشيا علي وجه الخصوص، هي ثمن للتباري في منافسة انشائية لمن يكتب موضوع سياسي اجود جلبا للاعجاب والتصفيق! او كأنه من قلة البرامج والمشاريع المطروحة منذ استقلال الدولة الخاطئ. ولكن يبدو ان الاستثمار في هذه الخطب/الخطابات الحماسية علي قول محجوب شريف، هو مورد رزق للبعض ومداعبة طموح للبعض الآخر وتنفيس عن نفوس مكروبة لهؤلاء الحلفاء والمستشارين. لانه يستحيل علي شخص يحترم نفسه او مكانته او يتحلي باقل قدر من المسؤولية والكرامة والسوية البشرية، ان يقبل العمل او مجرد الاقتراب من مجرم محترف مثل حميدتي، ناهيك ان يتبني الاخير مشاريع وطنية او برامج خيرة وهو الغارق في العمالة والارتزاق حتي اذنيه، ويحفل سجله بجرائم ضد الانسانية، لا تضع له مكانا في المسقبل إلا امام المحكمة الجنائية الدولية (وهذا اذا صح انه عائش ولم يهلك كغيره من الطغاة رحمة بالعباد).
وعموما الاسوا من هذه الحرب القذرة المدمرة، ان لا يُعاقب من تسبب فيها وساهم في استفحالها وكساها بالغموض. اما الاكثر سوء من ذلك، ان يتحول الانقلابيان مجرما الحرب ومجهضا الثورة الي ابطال يقدم لها الدعم والمساندة للبقاء في سدة السلطة. اقلاه ان لم نستطع ازاحتهما بحكم اختلال توازن القوي مع الجهات الداعمة لكلا الرجلين، من اجل تمرير اجندتها الراعية لمصلحتها حصرا. فهذا لا يمنع ان لم يستوجب التصدي لطموحاتهما الخطرة وفضح مخططاتهما المشبوهة بكل الوسائل السلمية، مع السعي لفتح بلاغات ضدهما في كل المحاكم خارج البلاد، حتي ياتي اليوم الذي يتم فيه القصاص، لانصاف الضحايا ومنع تكرار مثل هذه الفظائع، وقطع الطريق علي نماذجهم من الوصول للسلطة.
اخيرا
هذه الحرب التي تدخل عامها الثالث تعادل ثلاثة حروب كل منها استمرت ثلاثة عقود من جهة الانتهاكات والتدمير. والسبب انها حرب تستهدف اولا المدنيين والبنية التحية وثانيا العسكر واحتمال عرضيا! وامر ذو دلالة كما اكد من لا اشك في قوله، ان الدمار الهائل الذي طال مصفاة الجيلي استثني مستودعات شركات البترول الخاصة! وعند ربط ذلك مع الحماية الي يوفرها الطرفان المتقاتلان لخط انابيب بترول الجنوب. يتضح ان هنالك تفاهمات واتفاقات بين الطرفين المتقاتلين علي تجنب الحاق الضرر بمصالح الراسمالية/الرؤوس من كلا الجانبين. والسؤال والحال كذلك، هل ارواح المدنيين او حماية البنية التحية لا تستحق مثل هذه التفاهمات؟ وهل ايقاف الحرب ومعالجة الخلافات ان وجدت تستعصي علي ذات التفاهمات؟ وهل نهب ثروات الشعوب اتخذت اسلوب جديد، كتدمير البلدان والرجوع مرة اخري لتعميرها بمبالغ طائلة، كما حدث في العراق، الذي تم فيه الشق الاول بنجاح (التدمير) ولم يحالف الحظ الشق الثاني (التعمير) بعد ان تم اهدار جل مخصصات التعمير/التنمية في الفساد؟
وخلاصة الامر يبدو حالنا كما قال حميد (لكن قدرك يا انسان بلدا هاص هيصة جبانة/ طال الناس التريانيين (الروبيضات) ضلو الله الما ضلانا). والله يصلح الحال ودمتم في رعايته.