موقف حركة النهضة وحلفائها من الثورة السورية
تاريخ النشر: 20th, December 2024 GMT
في خاتمة المقال السابق، كنا قد أشرنا إلى أن قراءة مواقف الفاعلين السياسيين والمدنيين التونسيين من الثورة السورية لا تكتمل إلا بالاشتغال على موقف أحد أهم الفاعلين السياسيين خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي؛ ألا وهو حركة النهضة. ولا يمكن فصل هذه الحركة عن حلفائها سواء أولئك الحلفاء الاستراتيجيين (ائتلاف الكرامة أو حزب المؤتمر بقيادة الدكتور منصف المرزوقي) أو أولئك الذين التقوا معها موضوعيا دون اعتراف مبدئي.
لو أردنا فهم موقف حركة النهضة من الثورة السورية، فإن الانطلاق من بيان المكتب التنفيذي للحركة يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر سيكون مدخلا جيدا، ولكنه مدخل لا يختزل تعقد الملف السوري -محليا وإقليميا- ولا تعقد المتغيرات التي حكمت مواقف الحركة منذ انطلاق الثورة السورية بصورة سلمية وتحولها التدريجي إلى نزاع مسلّح ذي تداعيات على الأمن الوطني التونسي، خاصة في ملفي الإرهاب والتسفير. ولكننا سنترك ذلك البيان ولن ندرسه إلا في موضعه من مسار الموقف النهضوي من الثورة السورية.
مهما كان موقفنا من "القوى الديمقراطية"، في ملف إفشال الانتقال الديمقراطي، أو في ملف العلاقة بمحور الثورات المضادة أو في ملف دعم الأنظمة الاستبدادية، فإن مواقفها تبدو أكثر مبدئية وأقل تأثرا بالوقائع محليا وخارجيا. ذلك أن هذه القوى دافعت عن النظام السوري في أسوأ الوضعيات التي مرّ بها، وما زالت تدافع عنه حتى بعد سقوطه
لقد كان الملف السوري من أكثر الملفات التي عمّقت التقابل بين "القوى الديمقراطية" السياسية والمدنية وبين حركة النهضة والرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي. ففي 2 شباط/ فبراير 2012 (أي على عهد حكومة الترويكا التي شهدت تحالفا سياسيا بين النهضة وحزب المؤتمر والتكتل الديمقراطي) استضافت تونس مؤتمر "أصدقاء سوريا" بحضور سبعين بلدا، بعد عرقلة روسيا والصين لمشروعي إدانة للنظام السوري. ورغم أن قطع تونس لعلاقاتها الديبلوماسية مع النظام السوري سنة 2012 (بعد مجزرة حي الخالدية في مدينة حمص) كان متوافقا مع توجهات جامعة الدول العربية وأغلب القوى الإقليمية والدولية، فإن هذا القرار السيادي لم يُرض أغلب "القوى الديمقراطية" التي اعتبرت الموقف التونسي دعما للإرهاب وضربا لمحور "المقاومة والممانعة".
لقد كان موقف حركة النهضة خلال عشرية الانتقال الديمقراطي خاضعا لضغطين كبيرين: ضغط القواعد الانتخابية والحلفاء من جهة (وهو ضغط يدعو إلى تصليب الموقف من لا شرعية النظام السوري، خاصة بعد اعتراف مؤتمر سوريا بـ"المجلس الوطني السوري" ممثلا وحيدا للشعب السوري)؛ وضغط الأغلب الأعم من مكونات المشهد التونسي أو النخب السياسية والنقابية والإعلامية والثقافية التي حاولت توظيف الأزمة السورية للربط بين الحركة والإرهاب، خاصة في ملف التسفير إلى سوريا.
فقد حاولت تلك القوى بعد نجاحها في إسقاط حكومة الترويكا أن تعيد صراعها السياسي مع حركة النهضة إلى المربع الأمني القضائي، سواء بملف "التنظيم السري" أو ملف التسفير. ولأن ملف تورط بعض الجمعيات المدنية في التسفير إلى سوريا مازال مفتوحا أمام القضاء، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى حرص "القوى الديمقراطية" على التعامل بازدواجية المعايير مع هذا الملف. فالتسفير لم يشمل فقط تورط بعض التونسيين في الحركات الجهادية السورية، بل تورط البعض الآخر في المجاميع شبه العسكرية الداعمة للنظام السوري (كتيبة محمد البراهمي). ولا شك في أن إدانة "المجاميع الجهادية" (وهو أمر منطقي بحكم عملها خارج الأطر الرسمية، بل على الضد من الموقف الرسمي التونسي الرافض لتسليح المعارضة وللتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى) لا ينفي إدانة "المجاميع التشبيحية" التي مارست السلوك نفسه، أي لا ينفي التعاطي القضائي مع التونسيين الذين حاربوا مع النظام السوري بصورة غير شرعية وخارج وصاية الدولة التونسية، بل ضد مواقفها الرسمية.
بعد دخول مرحلة التوافق مع حركة تونس منذ 2014، لم يكن لحركة النهضة من التأثير السياسي أو من القدرة التفاوضية ما يمنع الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي من فتح مكتب للخدمات الإدارية والقنصلية في سوريا منذ وصوله إلى قصر قرطاج. ورغم أن هذا القرار لم يكن يعني تطبيع العلاقات مع النظام السوري، فإنه كان خطوة في ذلك الاتجاه. فهذا القرار هو اعتراف بشرعية النظام، ولكنها خطوة لم تكن ترتقي إلى مستوى انتظارات "العائلة الديمقراطية" ومكوناتها التي دعمته ضد السيد منصف المرزوقي بمنطق "الانتخاب المفيد". فهذه الخطوة "الرمزية" لا ترتقي إلى مستوى ما وعد به خلال حملته الانتخابية بإعادة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا.
ونحن هنا لا نتفق مع السيدة مباركة عواينية (أرملة الشهيد محمد البراهمي) التي رأت أن إسقاط اللائحة البرلمانية المطالبة بإعادة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا سنة 2017 كان نتيجة صفقة بين حركة النهضة وحركة نداء تونس (إسقاط نواب نداء تونس للائحة مقابل تمرير نواب النهضة لمشروع قانون المصالحة مع بعض رموز الفساد المالي والإداري خلال حكم المخلوع). فالمرحوم الباجي لم يتردد في استضعاف حركة النهضة في ملفات أكثر إحراجا لها أمام قواعدها الانتخابية، مثل ملفات الجنسية المثلية ورفع الاحترازات عن اتفاقية سيداو (مسألة المساواة في الميراث بين الجنسين)، بل لم يتردد في فرض أحد رموز التطبيع (السيد خميس الجهيناوي) لإدارة ملف السياسة الخارجية منذ المرحلة التأسيسية.
لقد كان موقف المرحوم الباجي محكوما أساسا باعتبارات إقليمية ودولية، فالجامعة العربية وأهم القوى الدولية لم تكن قد أعطت الضوء الأخضر لتونس أو لغيرها لتطبيع العلاقات مع النظام السوري. وهو ما فهمه الأستاذ عبد الفتاح مورو، مرشح حركة النهضة للانتخابات الرئاسية سنة 2019، عندما قال: "نحن بلاد منضوية تحت منظمة عربية، ولنا سياسات مشتركة مع الدول العربية لا يمكن أن نخرج عنها"، مضيفا أن "كل تغيير يحصل (في الموقف من سوريا) ينبغي الاقتناع به داخل هذه المنظمة لننفتح على واقع جديد".
ولا شك في أن بيان حركة النهضة الصادر سنة 2019 والذي تحدث عن "مصالحة وطنية شاملة يستعيد فيها الشعب السوري حقه في أرضه وفي حياة ديمقراطية، وتضع حدا للتقاتل وما نتج عنه من مآس إنسانية" لا يخرج عن هذا النطاق، ولكنه لا ينفي أيضا أن موقف الحركة مرتبط بالتوازنات السياسية الداخلية بصورة أفقدته الكثير من المبدئية. فالارتباط الشرطي بالتوازنات المحلية والخارجية جعل مواقف الحركة براغماتية ومرتبطة بموازين القوى أكثر من ارتباطها بقاعدة مرجعية صلبة.
ومهما كان موقفنا من "القوى الديمقراطية"، في ملف إفشال الانتقال الديمقراطي، أو في ملف العلاقة بمحور الثورات المضادة أو في ملف دعم الأنظمة الاستبدادية، فإن مواقفها تبدو أكثر مبدئية وأقل تأثرا بالوقائع محليا وخارجيا. ذلك أن هذه القوى دافعت عن النظام السوري في أسوأ الوضعيات التي مرّ بها، وما زالت تدافع عنه حتى بعد سقوطه.
رغم أن عودة العلاقات الديبلوماسية بين تونس وسوريا جاءت في إطار تطبيع عربي شامل مع النظام السوري (عودة سوريا إلى الجامعة العربية بعد تعليق عضويتها منذ 2011)، فإن النهضة -ممثلةً في المستشار السياسي لرئيس الحركة السيد رياض الشعيبي- قد اعتبرت أن هذا القرار "يدخل في إطار سعي السلطات إلى البحث عما يؤيد ادعاءها بـ"تورط" الحركة في ملف التسفير إلى بؤر التوتر". وإذا كان السيد الشعيبي لا يرفض -من منطلق ما يسميه بـ"الموقف الأيديولوجي المنغلق"- عودة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا، فإنه يعتبر أن ذلك القرار قد جاء مدفوعا بـ"العقل الأمني" الباحث عما يؤيد تورط حركته في ملف التسفير، ولم يكن بحثا عن دور إيجابي في حل الأزمة السورية.
ولكن بعد مرور أكثر من سنة على عودة العلاقات الديبلوماسية بين تونس وسوريا، لا يبدو أن "مخاوف" السيد الشعيبي أو تفسيره لأسباب إعادة العلاقات مع سوريا مطابقة للحقيقة. ولذلك فإننا نعتبر أن تصريحاته لا تعكس أسباب ذلك القرار السيادي (موقف جامعة الدول العربية وحلفاء تونس الإقليميين) بقدر ما تعكس استمرارا لمنطق "المظلومية"، تلك المظلومية التي وظفتها النهضة بعد الثورة ثم أضاعت جزءا كبيرا منها بسبب خياراتها التوافقية المرفوضة حتى داخل قواعدها الانتخابية. ونحن نعني بالتوافق هنا خيار التطبيع مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة وبعيدا عن استحقاقات الثورة وانتظارات عموم التونسيين.
إثر سقوط النظام السوري أصدر المكتب التنفيذي لحركة النهضة يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر 2024 بيانا هنّأ فيه الشعب السوري بـ"انتصار ثورته". وقد حرص بيان الحركة على عدم تهنئة فصائل المعارضة أو ذكرها بالاسم، كما حرص البيان على "تصدير" التجربة التوافقية التونسية إلى سوريا تحت مسمى "الوحدة الوطنية"، وحرص أيضا على التعامل مع الثورة السورية وكأنها نسخة أخرى من الثورة التونسية وشعاراتها في الحرية والعدالة والكرامة والمساواة. كما تجنب البيان أي إشارة إلى البنية الطائفية أو الخلفية البعثية للنظام السوري. فالثورة السورية هي "انتصار الحرية على الاستبداد"، وهو موقف لا يمكن فصله عن الواقع التونسي وإكراهاته.
نرجح مواصلة الرئيس لمشروعه السياسي بمنطق البديل لا بمنطق الشريك، فإن تونس قد تعرف تقاربا بين الرئيس وبين بعض مكونات "العائلة الديمقراطية" لاستباق أي استفادة ممكنة لحركة النهضة من الثورة السورية. ولكن قد يذهب النظام إلى نوع من التهدئة أو الاحتواء لحركة النهضة، بعيدا عن منطق الإقصاء والمقاربة الأمنية للصراع السياسي. وفي كل الحالات، فإننا نستبعد حصول أي تقارب بين حركة النهضة وبين القوى اليسارية والقومية المعارضة
فالنهضة لا تستطيع مقاربة الملف السوري إلا بترسانة مفهومية "توافقية" قد تسبب لها انتقادات واسعة حتى في صفوف حلفائها السابقين (مثل الرئيس المرزوقي)، ولكنها تبعدها عن أي استهداف على أساس الهوية الأيديولوجية من طرف النظام أو حلفائه الموضوعيين، حتى داخل المعارضة اليسارية والقومية. فسقوط النظام السوري لا يعني بالضرورة سقوط سرديات الاستئصال الصلب والناعم في تونس، كما لا يعني حصول انفراجة سياسية أو تقارب بين القوى المعارضة. بل إن سقوط النظام السوري قد يعني عودة الصراعات الهوياتية في تونس على أساس ملفي التسفير والإرهاب.
ختاما، فإن سقوط النظام السوري وقيام حكومة جديدة في دمشق، هو أمر قد يفتح تونس على سيناريوهات متناقضة، وهي سيناريوهات لا يمكن أن يكون المحدد الأساسي أو النهائي فيها محليا صرفا. فطوفان الأقصى ومشروع الشرق الأوسط الجديد يلقيان بظلالهما على المشهد التونسي من خلال المحاور الإقليمية والاستراتيجيات الدولية المتناقضة.
ورغم أننا نرجح مواصلة الرئيس لمشروعه السياسي بمنطق البديل لا بمنطق الشريك، فإن تونس قد تعرف تقاربا بين الرئيس وبين بعض مكونات "العائلة الديمقراطية" لاستباق أي استفادة ممكنة لحركة النهضة من الثورة السورية. ولكن قد يذهب النظام إلى نوع من التهدئة أو الاحتواء لحركة النهضة، بعيدا عن منطق الإقصاء والمقاربة الأمنية للصراع السياسي. وفي كل الحالات، فإننا نستبعد حصول أي تقارب بين حركة النهضة وبين القوى اليسارية والقومية المعارضة.
ونحن لا نعتبر أن سقوط النظام السوري هو العلة الحقيقية لامتناع التقارب بين النهضة وبين أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" في السياق الحالي أو في أي سياق منظور، بل إننا نرد ذلك الامتناع إلى الجوهر الإقصائي واللاديمقراطي للسرديات الأيديولوجية الكبرى، كما نرده إلى المصالح المادية والرمزية والقضايا الصغرى التي توظَّف السرديات الكبرى لحمايتها وشرعنتها.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسيين الثورة النهضة سوريا سوريا تونس النهضة ثورة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العلاقات الدیبلوماسیة الانتقال الدیمقراطی سقوط النظام السوری القوى الدیمقراطیة من الثورة السوریة مع النظام السوری الدیبلوماسیة مع بین حرکة النهضة حرکة النهضة من لحرکة النهضة هذا القرار کان موقف مع سوریا لا یمکن
إقرأ أيضاً:
أحاديث الثورة السورية وتغيير المنطقة
أعادت مشاهدُ تجول السوريين في قصور أحد أكثر الأنظمة وحشية في تاريخنا المعاصر؛ ذكرياتٍ كادت تُنسى عقب اندلاع انتفاضات الربيع العربي، ورغم انتكاسة الانتفاضات في جميع الدول، فإن تجدد حيوية الملف السوري ونجاحه في الإطاحة بحكم البعث، أعادا الأمل في وصول الشعوب إلى حقوقها، وذلك دون إغفال لخطورة المسار المسلح في التغيير، ما دامت هناك إمكانية لتجنبه.
تعددت الأحاديث من هنا وهناك حول المقاومة ومحورها، وحول عمالة التنظيمات المسلحة أو تشددها الديني، وحول قدرة الاحتلال على التغيير، وحديث خاص من إخواننا القوميين عن دور سوريا في المقاومة ومحورها.
هذه الأحاديث المتعددة الاتجاهات والمعقَّدة تحتاج إلى مناقشات معمَّقة بين المختصين، لأجل التنبه لأمرين؛ أولهما، أهمية الحفاظ على الدولة السورية، وحرية الشعب في اختيار ممثليه في المؤسسات السياسية والتنفيذية كافة، وثانيهما، عدم انزلاق سوريا إلى الأنظمة العربية المتواطئة ضد القضية الفلسطينية، خاصة أن سوريا دولة محورية في المنطقة بتاريخها وحاضرها العريق، كما أنها دولة حدودية مع كيان الاحتلال ما يجعل لها أهمية كبيرة في المحيط العربي والدولي.
الأحاديث المتعددة الاتجاهات والمعقَّدة تحتاج إلى مناقشات معمَّقة بين المختصين، لأجل التنبه لأمرين؛ أولهما، أهمية الحفاظ على الدولة السورية، وحرية الشعب في اختيار ممثليه في المؤسسات السياسية والتنفيذية كافة، وثانيهما، عدم انزلاق سوريا إلى الأنظمة العربية المتواطئة ضد القضية الفلسطينية، خاصة أن سوريا دولة محورية في المنطقة بتاريخها وحاضرها العريق، كما أنها دولة حدودية مع كيان الاحتلال ما يجعل لها أهمية كبيرة في المحيط العربي والدولي
لا يزعم كاتب هذه السطور تخصصه في الملف السوري، لكن تأثير الأحداث في منطقتنا المشابه لأحجار الدومينو يجعل ما حدث في سوريا مؤثرا في مصر وباقي المنطقة، وبالتالي يسمح بمناقشة الأحداث من زوايا أخرى لا تتعلق بتشابك الأوضاع وتعقيدها في الداخل السوري.
كانت علامة الاستفهام الرئيسية تتحدث عن سبب نجاح السوريين الآن بعد 14 عاما تقريبا، ومدى ارتباط ذلك بالاحتلال الصهيوني، وهو ما تتزايد شكوكه بتفاخر نتنياهو المتكرر بأنه "يغير الشرق الأوسط".
يمكن القول، وبارتياح كبير، إن ما حدث في سوريا نتيجة ترتيبات دولية رأت أن التخلص من نظام الأسد في هذا الوقت أمر ضروري، لإضعاف حزب الله وإيران في المنطقة، فالثورة السورية تعرضت لتعطيل من جهة، وتفخيخ لها باتساع الصراع المسلح من جهة أخرى، بغرض إزهاق الربيع العربي، وإعطاء صورة لشعوبنا تقول إن الاستبداد أفضل لكم من الدخول في مواجهة مع المستبدين، وهي النتيجة التي رأيناها في سوريا واليمن وليبيا، أمّا الدول التي خاضت ثورة سلمية (مصر وتونس والجزائر والسودان) فقد تعرضت لارتدادات كارثية، وشهدت أحداثا مسلحة في حالتيْ مصر والسودان.
كما أن روسيا التي شاركت في نجدة الأسد سحبت يدها من الدعم العسكري، فضلا عن انشغال إيران وحزب الله بالصراع مع كيان الاحتلال.
أعطت هذه المشاهد مجتمعة يقينا بأن ما حدث في سوريا الآن يرتبط بالاحتلال، ووُصِمَت قيادات التنظيمات المسلحة بالعمالة، واكتمل المشهد بجملة نتنياهو السابق ذكرها. ومع التسليم بصحة الدور الغربي في رفع الحماية عن الأسد، إلا أن الجزء الغائب عن هذا المشهد، ليس الدور الصهيوني، بل الدور الفلسطيني، فالذي يغير الشرق الأوسط الآن ليس نتنياهو، بل يحيى السنوار وحركات المقاومة التي أشعلت طوفان الأقصى، ودفع الطوفانُ الدولَ الغربية إلى تجرع هزيمة (يسعون إلى تكون مؤقتة) في ملف الثورات وتغيير نظم الحكم الوكيلة عنهم، في سبيل حماية دولة الاحتلال الهشة والضعيفة.
الحقيقة أن ارتدادات "طوفان الأقصى" على المنطقة بدأت في سوريا، بعدما زلزلت الداخل الصهيوني، وأوصلته إلى حالة اشتعال داخلي اجتماعيا وسياسيا، فضلا عما كشفته من الهشاشة العسكرية، وما إلى ذلك من التفاصيل التي تشرح ما أحدثه الطوفان في الداخل الصهيوني، لذا فإن فضل ما حدث في سوريا لا يعود إلى الغرب والصهاينة، بل يعود إلى تبعات طوفان الأقصى، وهذا جانب لا ينبغي تجاهله والقفز على ما بعده وهو الدور الغربي.
هذا التخلي الغربي، أعاد لأذهان الحكومات الوكيلة له في المنطقة مخاوفها من أن الغرب لا يعبأ بحلفائه، وسيترك سقوط الأنظمة رغم خطورته على حلفاء آخرين في المنطقة، فسقوط بشار يمثل خطرا على باقي الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، سواء كانت أنظمة وراثية أو عسكرية، لكن المصالح الغربية تتفوق على أهمية الوكلاء الذين يمكن الاستغناء عنهم في طرفة عين، والمصلحة الأكبر هنا كانت كيان الاحتلال الذي يحمي مصالحهم بتمزيق المنطقة، أو حراسة منابع النفط والغاز، والاستثمارات في كيان الاحتلال تبلغ مئات المليارات من الدولارات، وهو أهم من تغيير نظامٍ ما سيسعون إلى استبداله بآخر كما حدث في مصر.
الحديث الذائع الآخر يثيره إخواننا القوميون بشكل أساسي، إذ يعتبرون بقاء بشار من مصلحة المقاومة وفلسطين، لأن نظامه يفتح لحركات المقاومة مكاتب في فلسطين، لكن ذلك الأمر يتجاهل أن هذا النظام صاحب أهدأ جبهة مع العدو الصهيوني، بل إن الاحتلال يعربد في الأجواء السورية ويقصف ما يشاء منذ عشرات السنوات في العمق السوري دون أي رد فعل، فضلا عن سكون جبهة الجولان، دون السماح حتى بمقاومة شعبية تكبد الاحتلال خسائر، فأي انتصار هذا لفلسطين في ظل عدم الاشتباك العسكري، أو حتى السماح بتشكيل مقاومة شعبية لتحرير الأرض السورية؟!
أدرك البسطاء في فلسطين نفسها، وفي قطاع غزة؛ شرف المقاومة وفخرها، أن إزاحة نظام استبدادي سيفيد قضيتهم ولن يضرها، وتحرر الدول العربية لن يؤدي إلا إلى زوال الاحتلال. هذا ما يدركه الصهيوني وصانع القرار الغربي جيدا، لذا عمدوا إلى إفشال ثوراتنا وهبَّاتنا السياسية، وهذه هي رغبتهم الحقيقية، لا كما يقول إخواننا القوميون، إن رغبة الصهاينة إزالة نظام بشار
والأهم من هذا، كيف يمكن لإزاحة نظام قمعي دموي، تسبَّب بتحويل المطالب السياسية إلى مواجهة مسلحة، ثم عمَّق الأزمة بإدخال بعد طائفي في الصراع المسلح، كيف يمكن أن تكون إزاحته أمرا غير مرغوب به؟! ما دامت عملية الإزاحة كانت بأيدي أبناء البلد، فإنها عملية مرغوبة، ثم يأتي واجب إجبار القادمين الجدد على مجافاة ما صنعه النظام السابق من استبداد واحتكار للحكم، وهذا دور السوريين الذي يتوافدون على بلدهم مرة أخرى.
لقد أدرك البسطاء في فلسطين نفسها، وفي قطاع غزة؛ شرف المقاومة وفخرها، أن إزاحة نظام استبدادي سيفيد قضيتهم ولن يضرها، وتحرر الدول العربية لن يؤدي إلا إلى زوال الاحتلال. هذا ما يدركه الصهيوني وصانع القرار الغربي جيدا، لذا عمدوا إلى إفشال ثوراتنا وهبَّاتنا السياسية، وهذه هي رغبتهم الحقيقية، لا كما يقول إخواننا القوميون، إن رغبة الصهاينة إزالة نظام بشار.
سيقوَى محور المقاومة بالحرية، ومغالطة ذلك تصب في صالح الصهيونية لا العكس كما يتوهم إخواننا، والواجب توجيه القادمين الجدد إلى مسارات الديمقراطية، وكيفية تعزيزها، وإدراك حساسية الداخل السوري، وتنوع تركيبته السياسية والاجتماعية، وأهمية الانتخابات في تعزيز مكسب الإطاحة بالأسد، وأهمية المقاومة في مشروع حرية سوريا، وعدم انتكاسة ثورتهم. فالواجب نصحهم لا التعالي عليهم أو ازدرائهم لأنهم أصحاب لِحى، أو وصمهم بالعمالة لمجرد احتفاء نتنياهو بما حدث في سوريا، فنحن أَفْرَحُ من نتنياهو بالحرية، بينما هو يفرح بتمزيق مجتمعاتنا أو وجود حكام مستبدين على شاكلة السيسي وابن زايد.
مبارك للسوريين حريتهم، وستظل أعين الجميع على سوريا حرصا على عدم لحاقها بالدول المنتكسة، كما ستظل تكلفة التغيير السلمي تكلفة مُثلى مقارنة بخطورة التغيير المسلح، لكن المستبدين هم الذين يسعون إلى رفع الأثمان المدفوعة للتخلص من استبدادهم. وشعوبنا مسالمة لأقصى درجة، تتحمل الاستبداد ولا تحمل السلاح، والإجرام الذي فاق الحد هو الذي أخرج السوريين المسالمين عن طورهم ودفعهم إلى هذه الرحلة التي لم يكونوا يتمنونها قطعا، ولا نتمناها في أي بلد آخر، بل نرجو نيل حريتنا بحناجرنا وتصويتنا الانتخابي فقط، والعائق هو الاستبداد، ودول تزعم أنها ديمقراطية أو ترعى الديمقراطية، بينما هي تدير مشروعا استعماريّا دينيّا بغيضا.