نظير عياد : الفتوى لا تتم إلا بمرورها بمراحل متنوعة
تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT
قال الدكتور نظير محمد عيَّاد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، إن مصطلح "الفلسفة" يُطلق ويُراد به معانٍ متعددة تتباين بحسب العصور والمدارس الفكرية والثقافات، فهو يشير أحيانًا إلى البحث عن الحقيقة والوجود والأخلاق والمعرفة، كما يركز أحيانًا أخرى على تحليل اللغة والمفاهيم والأسس الفكرية، وفي سياق الشريعة الإسلامية، يمكن أن تُفهم الفلسفة بوصفها أداةً عقلية لدراسة الحكمة الإلهية في الوجود والإنسان والتفكير في ظواهر الكون والخلق، كما تنعكس في مصادر التشريع وأصول الفقه؛ مما يجعل التفلسف منهجًا لإدراك الحقائق بعمق يربط بين العقل والوحي.
وأضاف خلال كلمته في مؤتمر "الفلسفة الإسلامية حاضرها ومستقبلها في العالم" المنعقد في الفترة من 7 حتى 9 ديسمبر، بالتعاون بين دار الإفتاء المصرية والجمعية الفلسفية المصرية: بدءًا من موضوع المؤتمر والفكرة التي يستهدفها فإننا نقف على أمرين، الأول: تقدير وتعظيم التعاون بين "دار الإفتاء المصرية" و"الجمعية الفلسفية بمصر" في خدمة القضايا الفقهية والإسلامية والوطنية المتنوعة والمستجدة، الثاني: مناقشة دَور الفلسفة الإسلامية في نشر الوعي الثقافي الإسلامي وإظهار الفكر الوسطي، وتعزيز قِيَم التسامح والتعايش، وتأطير القضايا والمسائل الفقهية والمجتمعية في إطارات دينية إسلامية مناسبة تُسهم في تحقيق الاستقرار والتماسك الوطني والمجتمعي.
وأوضح المفتي أننا حين نتحدَّث عن "الفلسفة الإسلامية"، نجد أنها تتفرَّع إلى معنيين رئيسين: الأول: هو المعنى العام، الذي يشمل كل بحث عقلي نشأ في ظل الحضارة الإسلامية، كالعلوم الكلامية والتصوف وأصول الفقه، وكلها تعتمد على إعمال العقل في استنباط الأحكام وفهم النصوص وتجديد النظر في القضايا الدينية لتطويعها للزمان والمكان وعقلنة الموضوعات الإسلامية وإدراك منطقها. الثاني: المعنى الخاص، وهو ذلك البحث الفلسفي الحر الذي برز في أعمال الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم، حيث ركز على إدراك حقائق الأشياء بمناهج عقلية منهجية، وهنا يظهر تكامل الفلسفة الإسلامية مع الفقه والشريعة، حيث لم تكن الفلسفة مجرد تجريد نظري، بل وسيلة لفهم الحكمة الإلهية وتطبيقها في واقع الحياة، مما يجعلها علمًا يرتبط بالأخلاق والتشريع بقدر ارتباطه بالوجود والمبادئ الكونية.
وأشار إلى أن واقع الفلسفة الإسلامية المعاصرة يعكس جدلية التفاعل بين التراث والحداثة، فمن جهة، لا يزال بعضهم يتوقع من الفلسفة الإسلامية أن تحاكي أنساقًا تقليدية، مثل فلسفة أرسطو أو أفلاطون، أو حتى الفارابي وابن رشد، دون مراعاة للتحولات الكبرى التي طرأت على الفكر البَشري في ظل الثورة العلمية الحديثة، موضحًا أن هذه التحولات لم تُلغِ الفلسفة، بل أعادت تشكيلها من جديد، حيث ظهرت بدائل وأفكار جديدة ضمن فلسفة الأخلاق والقيمة وفلسفة العلوم، وفلسفة السياسة... ومن هذا المنطلق، فإن الحكم على الفلسفة الإسلامية بأنها قاصرة لأنها لا تمتلك نسقًا تقليديًّا متكاملًا، هو حكم يُغفل طبيعةَ المتغيرات التي يشهدها العالم.
كما أشار إلى أنَّ بعضهم قد يسمِّي عصرنا أحيانًا عصر "ما بعد الفلسفة"، حيث تراجعت الأدوار التقليدية للفلسفة لصالح العلم والتكنولوجيا، كما أشار العديد من المفكرين، لكن هذا لا يعني نهاية الفلسفة الإسلامية، بل يدعوها إلى تطوير مقاربات جديدة تراعي التحديات المعاصرة والإشكاليات المستحدثة، وهو ما يعكس للجميع أهمية هذا المؤتمر الكريم وقيمة أهدافه الحضارية والدينية، مؤكدًا أن الفلسفة الإسلامية التي ازدهرت في عصورها الذهبية على أيدي علماء مثل: ابن سينا وابن رشد، شهدت فترات انحسار نتيجة ظروف تاريخية معينة، لكنها اليوم أمام فرصة جديدة للنهضة وإحياء حركة الثقافة والوعي الفلسفي الديني، وهذا يستدعي ضرورة إحياء التراث الفلسفي الإسلامي وقراءته بروح العصر وشخصيته المتجددة، مع أهمية التفاعل مع الفلسفات العالمية التي تعزز من قدرة الفلسفة الإسلامية على تقديم إسهامات حيوية في الحوار الثقافي ونشاط فكري ديني يخدم التحادث المعاصر.
وفي الإطار ذاته أكَّد فضيلة المفتي ضرورةَ تعزيز التفكير النقدي الذي يمثل أداة حيوية لإنقاذ الفلسفة العربية والإسلامية المعاصرة، من خلال مواجهة الهيمنة الثقافية الغربية والتأثيرات غير الواعية للإعلام الحديث، وإن التفكير النقدي يمكن الأجيال الجديدة من استلهام الأفكار العالمية دون فقدان الهوية الثقافية والوحدة الدينية، مما يعزز قدرتهم على الإبداع الفلسفي في إطار عربي وإسلامي أصيل، كما يسهم التفكير النقدي في التصدي للتضليل الإعلامي الغربي والكشف عن الأجندات الخفية، مما يخلق جيلًا واعيًا وقادرًا على تحليل القضايا الفكرية المعقدة ويعمل الفكر في كل جديد يطرأ. بالإضافة إلى ذلك، يشجع على إعادة قراءة التراث الفلسفي برؤية نقدية، تجمع بين احترام الماضي ومواكبة الحاضر، في سبيل بناء مستقبل أكثر إبداعًا للفكر الفلسفي الإسلامي.
وأردف قائلًا: ونحن نستشرف مستقبل الفلسفة الإسلامية يجب أن نأخذ بعين الاعتبار ضرورة تجاوز المسارات التأطيرية والتنظيرية للماهية إلى مستوى الفاعلية والإسهام المباشر في حاضر الفكر البشري واستشراف مستقبله، وهذا ما يتميز به الفكر الفلسفي الإسلامي عن غيره؛ لأنه قادر على تحويل القيم الدينية إلى قيم إنسانية مشتركة فاعلة في المجتمع، ومن هنا تنشأ الحضارة وتتكون وتزدهر.
وتابع: وإننا -من وجهة نظري- قد وقعنا في الخطأ مرتين؛ مرة عندما ظننا عدم قدرتنا على توليد أنساق فكرية فلسفية جديدة، ووقفنا عند ما تركه لنا التراث الفلسفي الإسلامي في جميع مجالاته ومحتوياته. والأخرى عندما وقفت دراستنا وبحوثنا الفلسفية عند مجرد المفاهيم والمضامين الفلسفية بمعزل عن واقع المجتمع ومشكلاته المتعددة؛ لذا يجب أن نضع في حسباننا ضرورة تجاوز هذه الأخطاء لننطلق نحو المستقبل الفلسفي المنشود.
وأضاف المفتي: من وجهة نظري لا يمكن أن تتحول الفلسفة الإسلامية إلى مؤثر في الحوار الحضاري العالمي إلا إذا تم تفعيل الجهود المبذولة نحو تجلية الجوانب والأبعاد والأنساق الإنسانية والحضارية في الشريعة الإسلامية، وهذا ما نسعى إليه في "دار الإفتاء المصرية"؛ حيث إننا نراعي في الفتاوى التي تصدر من الدار جميع الأبعاد الإنسانية والحضارية التي يجب أن تحققها الفتوى الدينية في واقع المستفتي أو المجتمع.
ونحن نؤمن أن الفتوى في الأساس ليست إلا فكرة فلسفية واجتهادًا عقليًّا ينظر في المسألة محل الإفتاء نظرة عميقة حتى يستوعبها ويحيط بكل جوانبها وأبعادها، ثم بعد ذلك يستدعي النصوص ذات الصلة بها ليحللها، ويفكر فيها بعمق ودقة، حتى يستنبط الحكم الشرعي المناسب منها، ثم ينظر في واقع المستفتي ويطابق بينه وبين الحكم الشرعي مطابقة دقيقة، ليصوغ في نهاية الأمر هذا الحكم صياغة دينية فلسفية دقيقة ومُحكَمة يراعي فيه مقاصد الشريعة الإسلامية، ويبرز فيه الجوانب الإنسانية والحضارية، ويحقق فيه مصلحة المستفتي بما لا يتعارض والمصلحة العامة للوطن والمجتمع.
وأوضح أنَّ الفتوى لا يمكن أن تتم إلا إذا مرت بمراحل متنوعة يتحكم فيها إعمال النظر الفلسفي والعقلي مع النص الديني والشرعي بشكل متكامل ومتناغم؛ ومن ثم يظهر اهتمامنا بضرورة تأهيل المفتين تأهيلًا فكريًّا وفلسفيًّا ومنهجيًّا دقيقًا حتى تحقق الفتوى غايتها في مراعاة الجوانب الإنسانية والحضارية والمجتمعية وتحقيق المصالح الشرعية.
وقال: من المهم -أيضًا- الإشارة هنا إلى أن "التجديد الفقهي والإفتائي" لا يمكن له أن يتم بشكل صحيح ومناسب إلا إذا كانت الفلسفة الإسلامية إحدى أهم ركائزه وأعمدته الأصيلة، وأن أي تجديد فقهي لا يراعي المفاهيم والمضامين الفلسفية سيغرق لا محالة في براثن التكرار أو التقليد أو الجمود أو التعصب أو البعد عن الفكر المجتمعي. مؤكدًا أن كل هذا مؤداه إلى التصلب بما لا يضيف جديدًا يُذكَر في السرديات الفقهية والإفتائية؛ لأن التفكير الفلسفي الفقهي وبكل بساطة سيحقق ثلاثة أمور، الأول: أنه سيخرج المسائل الفقهية من ضيق القوالب الجامدة الصلبة إلى سعة المرونة والحركة الحضارية الواقعية والمتجددة. الثاني: أنه يؤطر للمسائل الفقهية ويؤصل لها من جميع الجوانب الشرعية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والتربوية، والنفسية، والتاريخية، والقانونية، وهذا ما يؤهله للاستدامة والصالحية لكل زمان ومكان. الثالث: قدرته على صياغة منهاج ديني وإنساني للتعايش بين الناس جميعًا؛ لأنه لا يقف عند النصوص الدينية مجردة عن الإطارات الإجرائية والواقعية لتحقيق هذا التعايش، كما أنه يمثل ضابطًا معرفيًّا وثقافيًّا إنسانيًّا لجميع الخطابات الدينية والإنسانية، بالإضافة إلى تميزه بترتيب الأولويات الدينية والإنسانية في القضايا الملحَّة ذات الصلة.
وفي ختام كلمته أكد المفتي على ضرورة تعزيز التداول الفلسفي داخل الفكر والدراسات الإسلامية؛ واقترح أن تحتوي الدراسات الأكاديمية والعلمية على الرؤية الفلسفية للموضوعات البحثية؛ حتى نضمن أمرين، الأول: موضوعات بحثية جديدة. الثاني: معالجات عصرية للمشكلات والظواهر المجتمعية، لافتًا النظر إلى ضرورة تعزيز التداول الفلسفي في المضامين التعليمية والبحثية لضمان نشر الوعي الفلسفي بين الدارسين والمتعلمين، حتى نصل في النهاية إلى الوعي الكامل بين أفراد المجتمع.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الإفتاء الفلسفة مفتي الجمهورية الفلسفة الإسلامية القضايا الفقهية المزيد المزيد الفلسفة الإسلامیة الفلسفی الإسلامی جمیع ا
إقرأ أيضاً:
ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟ «3- 13»
ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟
قراءة في كتاب (عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام)، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس/ ومؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، 2024
(3- 13)
إهداء المؤلف لكتابه:
“إلى شعوب السودان والإسلام والإنسانية جمعاء، وهي تتوق إلى التحرير والتغيير، فإني أهديكم هذا الكتاب، مستدعياً مقولة المفكر التونسي الدكتور يوسف الصديق: (محمود محمد طه هو المنقذ)”. المؤلف
بقلم سمية أمين صديق
أستهل المؤلف الدكتور عبد الله الفكي البشير كتابه بقائمة تتضمن أهم الوقائع والأحداث التاريخية التي تمت مناقشتها في الكتاب، وقد بلغت (135) حدثاً. قدم تعريفاً بكل حدث، وتاريخ وميدان وقوعه، إلى جانب بعض التفاصيل المتعلقة بالحدث. وجاء كل ذلك في تسلسل تاريخي، يكتب التاريخ ويبين تفاصيل الحدث. وحتى أعطي القراء صورة عن ذلك، أقدم بعض النماذج، مثلاً: 1901: تأسيس أول مؤسسة دينية رسمية في السودان. لقد أنشأ الحاكم العام البريطاني لجنة العلماء برئاسة الشيخ محمد البدوي (1841-1911)، وبعضوية عدد من العلماء، وعُرفت بمجلس العلماء، ومشيخة العلماء، وهيئة العلماء. كانت اللجنة تابعة للحاكم العام، وتعمل كمؤسسة استشارية له في الشؤون الدينية. أصبحت اللجنة، فيما بعد، ولا تزال، هيئة علماء السودان. وكان لها دوراً كبيراً في تحجيم الحوار الفكري، وتكييف المزاج الديني في وجهة التشدد والغلو، خاصة فيما يتصل بالموقف من محمود محمد طه، حيث تبنت تكفيره وتنميط صورته، وكذلك تكفير تلاميذه الإخوان الجمهوريين وتنميط صورتهم، من خلال توجيه الأئمة والوعاظ والخطباء بإعلان ذلك من على منابر المساجد، وفي حلقات الدرس، وعبر مخاطبة عامة الناس بالبيانات التكفيرية، كما سيرد التفصيل لاحقاً. كذلك 8 نوفمبر 1902: افتتاح كلية غردون التذكاريةGordon Memorial College، حالياً جامعة الخرطوم، وأيضاً 1912: قيام المعهد العلمي بأم درمان(أزهر السودان)، وعُين الشيخ أبو القاسم هاشم (1856– 1934) شيخاً له. وبذا يكون السودان قد شهد أول مؤسسة حديثة للتعليم الديني. نشأ المعهد على غرار الأزهر، وظل شيخه شيخاً لهيئة علماء السودان، حتى تحوَّل المعهدإلى جامعة.لقد أصبح في العام 1965أول جامعة إسلامية في البلاد، عرفت، ولا تزال، باسم جامعة أم درمان الإسلامية. كان المعهد، وهيئة علماء السودان، والجامعة، فيما بعد، أول وأكبر المؤسسات الدينية الرسمية انتاجاً للمعرفة الدينية، إلى جانبالقيام بدور الوصي الديني، فضلاً عن نشر ثقافة التكفير، خاصة في مواقفها من محمود محمد طه وتلاميذه الإخوان الجمهوريين، كما سيرد التفصيل لاحقاً. وهكذا حتى آخر حدث تناوله الكتاب، وهو: 12يوليو 2020: السودان يلغي المادة (126) مادة الردة عن الإسلام: لقد أعلن نصر الدين عبدالباري، وزير العدل في السودان إلغاء المادة (126) مادة الردة عن الإسلام في القانون الجنائي لعام 1991، وأضاف الوزير بأن المادة الملغاة استُبدلت بتجريم التكفير، قائلاً: إن تكفير الآخرين بات “مهددا لأمن وسلامة المجتمع”.
محمود محمد طهمن خلال تتبع فصول الكتاب ومحاوره نقف مع المؤلف، عند المحطات المختلفة وهو ينقلنا عبر فصول الكتاب، لنتعرف على سيرة ومواقف الأستاذ محمود محمد طه، ودعوته، ونتبع المؤلف، وهو يعرفنا على نشاطات وحركة الإخوان الجمهوريين وآليات الدعوة التي أُتبعت في النشر والتعريف بالفهم الجديد للإسلام، كذلك المراحل المختلفة التي مرت بها. ثم يعرج بنا الكاتب إلى دور العلم وأروقتها، ويسلط الضوء على الاهتمام المتنامي من الأكاديميا بفكر الأستاذ محمود محمد طه وطرحه (الفهم الجديد للإسلام) هذا الاهتمام الذي له مدلوله،ووزنه. يقول عبد الله: إن اهتمامنا بالأكاديميا لا يجئ من تفضيل لها أو إغفال للعلم التجريبي الروحي، وإنما لكونها إحدى آليات العلم التجريبي المادي، الذي هو، كما يقول محمود محمد طه: “أعظم شيء في صدور الناس الآن” وهو ميدان تفوق الرسالة الثانية من الإسلام عليه، وبزها له بمعجزتها، التي هي علمية القرآن، كما يقول محمود محمد طه. وقد فصَّل عبد الله في ذلك، وعن دور الجامعات وغرضها، في الفصل التاسع من الكتاب، كما سيأتي الحديث.
جاء الفصل الأول بعنوان: الفصل الأول “محمود محمد طه: الميلاد والمناخ العام الفكري والسياسي”، وتناول المحاور الآتية: الميلاد و النشأة، وإلغاء الخلافة العثمانية و انتهاء لقب الخليفة أو سلطان المسلمين، وميلاد الأحزاب السودانية: تأسيس الحزب الجمهوري،لا تفاوض.. لا تعاون.. لا مهادنة مع المستعمر وإنما المواجهة و المقاومة و الصدام، وأول سجين سياسي منذ ثورة 1924، والاعتكاف و العمل من أجل غاية أشرف من المعرفة بل المعرفة و سيلة إليها، والإعلان عن الفهم الجديد للإسلام،لمحة عن أعمال محمود محمد طه، والإخوان الجمهوريون: من أين جاءت التسمية؟ ومتى بدأ اطلاقها؟، والموقف من الاستعمار و المعرفة الاستعمارية، وظهور مناهج نقد المعرفة الاستعمارية و الدعوة لتفكيك الذاكرة الاستعمارية، ونقد محمود محمد طه للمعرفة الاستعمارية.
وقف المؤلف عند ميلاد الأُستاذ محمود محمد طه بمدينة رفاعة الواقعة على الشاطئ الشرقي للنيل الأزرق بوسط السودان، في العام 1909. وأعطى صورة عن المناخ العام في السودان وفي الفضاء الإسلامي والعالمي. وقد أوضح بأن السودان كان وقتئذٍ يخضع لإدارة الحكم الثنائي الإنجليزي/ المصري بموجب اتفاقية الحكم الثنائي المبرمة في 19 يناير 1899م، بعد القضاء على الثورة المهدية في عام 1898. وكانت أفريقيا والدول العربية كلها تخضع للاستعمار الأوروبي. جاء التكالب الأوروبي على أفريقيا بعد أن شهدت أوروبا عصر النهضة متزامناً مع حركة الإصلاح الديني في القرنين الخامس والسادس عشر، ثم قيام الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وازدهار النظام الرأسمالي. عاشت أوربا تحولات وتغييرات واسعة في مختلف المجالات الاقتصادية-الاجتماعية والثقافية والفكرية، ولا تنفصل تلك التحولات والتغيرات في تقاطعاتها مع آثار الثورة الفرنسية التي اندلعت، عام 1789، ونشوب الحرب العالمية الأولى مابين (1914-1918). كان من أهم نتائج الحرب نهاية الإمبراطوريات القديمة. فقد تمت تصفية تركة الدولة العثمانية في اتفاقية سيفر عام 1920م بتجريد تركيا من كل توابعها الإقليمية وانتهت إلى دولة صغيرة تحدها اليونان وأرمينيا. ومن نتائج الحرب العالمية الأولى كذلك قيام الثورة البلشفية في روسيا القيصرية وظهور الاتحاد السوڤيتي عام 1917.
عبد الله الفكي البشيروأضاف المؤلف بأن آثار تلك التحولات والتغييرات والأحداث الجسام، لم تتوقف عند حدود أوروبا الجغرافية وجوارها أو الإمبراطوريات المنافسة، بل تعدت ذلك وألقت بظلالها ونتائجها على كل شعوب الأرض. لقد خضعت الشعوب المستعمرة في كل مناحي حياتها إلى سياسات الدول المستعمرة. ولم تك تلك السياسات سوي نتائج لتفاعلات الواقع الأوربي على مختلف أصعدته:الدينية والثقافية والاقتصادية مرهوناً بالصراعات والمنافسة من أجل السيطرة على الأرض والشعوب والعقول. ويواصل المؤلف بأنه (في هذا المناخ الكوكبي ولد محمود محمد طه والسودان يحبو نحو الحداثة، ويبحث عن مرتكزة الحضاري، ولا يزال. فقد ظل السودان يدور في فلك العالم العربي والإسلامي منفصلاً عن إرثه الحضاري ومغيباً عن ذاتيته الضارب جذرها في القدم، وقد تضافرت عوامل شتي لخلق الوضعية الهشة، فقد شهد العالم العربي والإسلاميانطلاق الحركات الإصلاحية داخل الإمبراطورية العثمانية وولاياتها خلال القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وكان شعار تلك الحركات التغيير والتجديد، والإسهام في الحضارة الحديثة، مع الحفاظ على الهوية الإسلامية. وعن تلك الحركات يقول عبد الله: و قد اتخذت هذه الحركات توجهات وتيارات مختلفة، منها ذات النزعة السلفية، ومنها العقلانية الليبرالية المتفتحة، وكانت هناك الدعوة الوهابية بقيادة محمد بن عبد الوهاب (1703-1791)، في شبه جزيرة العرب التي دعت إلى اتباع السلف في أمور العقيدة، والحركة السنوسية بقيادة محمد بن السنوسي، ( 1787-1859) بليبيا، و التي جمعت بين النزوع الوهابي في الإصلاح الديني، و النزوع الصوفي و معاداة الاستعمار . أما الحركة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد بن عبد الله المهدي فقد تبنت الجهاد ضد المستعمر، ودعت إلى الرجوع إلى الدين الحق وإلغاء المذاهب الأربعة. كذلك برز عدد من المصلحين مثل جمال الدين الأفغاني (1839-1897)،الذي رفع شعار الوحدة/ الجامعة الإسلامية القائمة على قيم الإسلام الأصيلة المؤدية إلى اكتساب القوة والعقل والفضيلة، والإمام محمد عبده (1848-1902)، الذي حاول التواصل والتجاوز في مسيرة الإصلاح، وحاول تعريف الإسلام الحقيقي وربط ذلك بمعطيات المجتمع الحديث، ليصل إلى أن الإسلام صالح لأن يكون أساساً للحياة المعاصرة. أما عبد الرحمن الكواكبي (1848-1973)، فقد انفتح على علم الاجتماع الإنساني، وسلط جام غضبه على الحكم المطلق ودعا للمطالبة بالحقوق، وشخص أمراض المسلمين. وواجه كل من رفاعة الطهطاوي(1801-1873)، وخير الدين التونسي(1810-1890)، سؤال التوفيق بين الحضارة الغربية المتفوقة والمبهرة، وبين حضارتهم الراكدة والغافلة.وكان أيضاً، محمد رشيد رضا ( 1865-1935)، الذي أصدر مجلة المنار، وقد حلت محل مجلة العروة الوثقي، في التجديد الديني، و الدعوة إلى الجامعة الإسلامية. حاول بدوره تصحيح العقيدة والدفاع عن الإسلام، وإصلاح نظام التربية والتعليم، والانفتاح على تدريس العلوم العصرية.
كذلك وقف المؤلف عند أحد الأحداث الكبرى في الفضاء الإسلامي، ألا وهو إلغاء الخلافة العثمانية وانتهاء لقب الخليفة أو سلطان المسلمين. يقول المؤلف أدي قرار إلغاء نظام الخلافة العثمانية في يوم 3 مارس 1924،بقيادة مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938)، بعد أن استمرّت لأكثر من أربعة قرون، إلى انتهاء، ولأول مرة، لقب الخليفة أو سلطان المسلمين في العالم الإسلامي السني. ترتب على ذلك الكثير من التبعات، كان منها تقافز الأسئلة حول علاقة الدين بالدولة، دينية أم مدنية الدولة، وبداية مرحلة النقد لبعض الثوابت الدينية. ويحدثنا دكتور عبد الله؛ أنه في العام الذي تلي إلغاء الخلافة العثمانية وانتهاء لقب الخليفة، استهل الشيخ علي عبد الرازق (1888-1966)،هذه المرحلة بإصدار كتابه:الإسلام وأصول الحكم في الخلافة والحكومة في الإسلام، في العام 1925. ويقول المؤلف أثار هذا الكتاب معركة، كما يرى عروس الزبير (الجزائر) تعد من أشد المعارك الفكرية، وكان لها الأثر البليغ في طبيعة واتجاه الحركة التاريخية التي عرفتها وتعرفها المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة. وأشار عبد الله: إلى رأي حيدر إبراهيم علي (السودان) الذي نظر إلى كتاب علي عبدالرازق باعتباره تدشين لمرحلة التناول النقدي لبعض الثوابت الدينية من داخل المؤسسة الدينية (الأزهر) نفسها، مما جعل ردود الفعل في مثل هذه الحدة. ويضيف حيدر بأن البعض اعتبر صدور الكتاب أشد وقعاً من قرار مصطفي كامل اتاتورك، إلغاء الخلافة، لأنه مجرد قرار سياسي لم يستهدف العقيدة مباشرة. وتحدث عبدالله مورداً آراء آخرين عن كتاب الشيخ علي عبدالرازق، قائلاً: عمّد البعض، كما هي سعاد تاج السر علي (السودان) في دراستها: (دين، وليس دولة: التبرير الإسلامي لعلي عبد الرازق، العلمانية السياسية)، الشيخ علي عبد الرزاق باعتباره “الأب الروحي للعلمانية في الإسلام”. ويري كثيرون بأن أسئلة الشيخ عبد الرزاق حول علاقة الدين والدولة، دينية أم مدنية الدولة في المجتمعات العربية -الإسلامية، لاتزال ماثلة، وحية، وملحة. قدم عبدالله تفصيلاً عن كتاب علي عبدالرازق وتبعاته على مؤلفه وآثاره في الفضاء الإسلامي، وكتب عبد الله معبراً عن رأيه في كتاب الشيخ علي عبد الرزاق، قائلاً: لقد أحدث الكتاب عاصفة من السجال و العراك الفكري، استمرّت لنحو مائة عام، ولاتزال. طُبع خلالها الكتاب نحو 40 طبعة. وظهر أمام طرح الشيخ عبدالرازق موقفان: موقف المختلفين الرافضين للطرح، وكان على رأس هؤلاء، موقف هيئة كبار العلماء بالأزهر، وعلماء الدين، والسلفيين، ودعاة تطبيق الشريعة الإسلامية، و الموقف الثاني، اشتمل على المتفقين مع الطرح، والداعين لحرية الرأي، ومنهم المنادين بفصل الدين عن الدولة، والداعين للاستفادة من التجارب الإنسانية في نظم الحكم. ثم أوضح عبدالله بأن هناك موقفاً جديداً، انطلاقاً من الفهم الجديد للإسلام لصاحبه محمود محمد طه، وهو موقف يختلف عن موقف الفريقين آنفي الذكر وغيرهما، وسيأتي قريباً في كتابنا الذي يحمل عنوان: محمود محمد طه و السياسة (1-5): أطروحة علي عبد الرازق من الإسلام و أصول الحكم في ميزان الفهم الجديد للإسلام.
حدثنا عبد الله عن سيرة الأستاذ محمود محمد طه وفقدانه لوالديه وهو دون الثانية عشرة من عمره. فقد تُوفيت والدته عام 1915، وهو ابن السادسة، وتُوفي والده عام 1920، فعاش حياة وصفها الأستاذ محمود محمد طه، قائلاً: “حياتي كلها يُتم”. نشأ الأستاذ محمود محمد طه، مابين مدينة رفاعة وقرية الهجيليج التي تبعد عنها نحو خمسة عشر كيلو متراً. أوضح عبدالله بأن الأستاذ محمود محمد طه بدأ بمرحلة الكُتاب، وأكمل تعليمه الأوّلي بمدينة رفاعة، و بنهاية عام 1931 أتمّ المرحلة الوسطي، فانتقل إلى الخرطوم، ليلتحق عام 1932 بكلية غردون، ليتخرج منها عام 1936 في قسم المهندسين. وفور تخرجه عمل مهندساً برئاسة مصلحة سكك حديد السودان، بمدينة عطبرة شمال السودان. ومن الوهلة الأولى تجلت ثوريته تجاه الإدارة الاستعمارية، إذ دخل في مواجهات وصدامات مستمرة مع المسؤولين البريطانيين ورؤسائه في العمل، وقاد ثورة تصحيحية في نادي السكة الحديد فانتزع حق دمقرطة إدارته باعتباره تنظيماً للعاملين، وليس مِلكاً للمؤسسة حتى يرأسه رئيسها، وانتهي حرمان العمال من دخوله، فضلاً عن إثراء الحركة الثقافية والسياسية بالمدينة. ويواصل عبد الله، مُصوراً لنا رد الفعل الذي احدثته ثورية الأستاذ محمود محمد طه فيقول :( أمام هذه الثورية ضاقت إدارة السكة الحديد ذرعاً، فعمدت على إبعاده بنقله إلى المناطق النائية، فما كان منه إلا وأن تقدم باستقالته في العام 1942، ليتحرر من الوظيفة الحكومية.) جاءت استقالة الأستاذ محمود محمد طه، من وظيفته مع نُذر الحرب العالمية الثانية 1939-1945، وكانت الحركة الوطنية السودانية، بقيادة طلائع المتعلمين خريجي مؤسسات التعليم الحديث، قد تبلورت بظهور مؤتمر الخريجين الذي تأسس في فبراير 1938، بأثر هندي واضح. ويبين عبد الله أن هذا الحراك السياسي تلخص بتكوين الأحزاب السودانية في منتصف أربعينات القرن الماضي، والحرب العالمية تضع أوزارها عام 1945. تشكلت الحركة السياسية في طرحي الوحدوية ( وحدة مع مصر) والاستقلالية ( الاستقلال في تحالف مع التاج البريطاني).
يقول عبد الله: “حضر محمود محمد طه مع بعض رفاقه في مناخ تكوين الأحزاب السودانية ليعلنوا يوم الجمعة 26 أكتوبر 1945 عن تأسيس الحزب الجمهوري، برئاسة محمود محمد طه”. يقول عبدالله تقرأ دعوة الأستاذ محمود محمد طه إلى الجمهورية والاستقلال التام على أنها دعوة لتحرير الفكر السياسي و مناخه من الثنائية التي غرسها الاستعمار، وتجلت وتعمقت مع قيام الأحزاب السودانية، حيث الأحزاب التي تنادي بالوحدة مع مصر تحت التاج المصري، و الأحزاب الاستقلالية التي كانت مُتهمة بالدعوة إلى تاج محلي بالتحالف مع بريطانيا. فكلاهما كان (ملكياً). وأورد عبدالله، قائلاً: يري محمود محمد طه، بأن توخي الحكم الجمهوري “لايجعل فضلاً لمواطن على آخر إلا بقدر صلاحيته وكفاءته للاضطلاع بالأعباء المنوطة به، ولأنه، من ناحية أخري، لايقيد الناس بضرب من ضروب الولاء والتقديس اللذين لا مصلحة للإنسانية فيهما”. يُضاف إلى ذلك، كان محمود محمد طه، يري:”أن النظام الجمهوري هو أرقى ما وصل إليه اجتهاد العقل البشري في بحثه الطويل عن الحُكم المِثالي”. ثم ذكر عبدالله بأن مواجهة الأستاذ محمود للاستعمار كانت قوية ومستمرة، ولخصها عبدالله من واقع بيانات الحزب الجمهوري ومقالات الأستاذ محمود بأنها: “لا تفاوض..لا تعاون .. لا مُهادنة مع المستعمر وإنما المواجهة والمقاومة والصدام، فكان هو أول سجين سياسي منذ ثورة1924. يقول المؤلف: سُجن محمود محمد طه لمدة (50 يوماً) وكانت خلال الفترة (الأحد 2 يونيو -الاثنين 22 يوليو 1946)، وهو ما عُرِف بالسجن الأول، في أدبيات الجمهوريين. وبينّ المؤلف بأن ما يدعو للدهشة والاستغراب، هو أن سبب هذا السجن لا تجد له أثراً في صحائف المؤرخين وفي كتابات الكثير من الكتاب، وإنما تجد حديث لا يمت للوقائع بصلة. يقول المؤلف إن سبب هذا السجن، هو موقف الاستاذ محمود محمد طه من إنشاء الإدارة الاستعمارية، للمجلس الاستشاري لشمال السودان، وهو مجلس يختص بمديريات شمال السودان دون جنوبه، فدعا الأستاذ محمود محمد طه، لمقاومته وعدم الاعتراف به، وعدم الالتزام بما يصدر عنه من تشريعات، باعتباره فصلاً مبكراً لجنوب السودان. ليكون بذلك أول سجين بل الوحيد من أجل قضية جنب السودان. وقد أطلقت صحيفة الرأي العام السودانية على رئيس الحزب الجمهوري، محمود محمد طه، صفة أول سجين سياسي في البلاد.
نلتقي في الحلقة الرابعة.
ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟ «2- 13»
الوسومالرسالة الثانية من الإسلام السودان د. عبد الله الفكي البشير سمية أمين صديق محمود محمد طه يوسف الصديق