في ذكراها السادسة طبيعة وأهداف ثورة ديسمبر
تاريخ النشر: 6th, December 2024 GMT
تاج السر عثمان
(1)
أشرنا سابقا إلى أن الذكرى السادسة لثورة ديسمبر تمر في ظروف الحرب اللعينة الجارية التي أشعلها الإسلاميون مع صنيعتهم الدعم السريع، بهدف السلطة والثروة، بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر 2021 الذي أعاد التمكين لهم في الأرض، وأكد ذلك الصراع الجاري حاليا بين الإسلامويين والبرهان، فهي حرب تهدف للمزيد من التمكين لهم، وتصفية الثورة ونهب ثروات البلاد من المحاور الإقليمية والدولية التي تسلح طرفي الحرب التي أدت إلى نزوح الملايين، ومقتل وإصابة وفقدان عشرات الآلاف، وتدمير البنيات التحتية ومرافق الدولة الحيوية، والأسواق والبنوك ومواقع الإنتاج الصناعي والزراعي، وباتت تهدد بتقسيم البلاد، إضافة لتدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية والصحية والأمنية، مع إطالة أمدها والمزيد من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب كما في التهجير الجاري من مناطق الجزيرة ودارفور وكردفان والخرطوم.
في الذكرى السادسة لثورة ديسمبر، نعيد نشر هذا المقال حول طبيعة وأهداف ثورة ديسمبر التي يجب العض عليها بالنواجذ، والسير بها قدما حتى تحقيق أهدافها ومهام الفترة الانتقالية.
(2)
جاءت ثورة ديسمبر استمرارا لتقاليد شعبنا الثورية والقانون الأساسي لثوراته ضد الأنظمة الاستعمارية والديكتاتورية التي تبدأ بتراكم المقاومة الجماهيرية ضدها التي ما أن يتم إخماد كل منها علي انفراد، حتى تشتعل من جديد في مواقع أخرى، ويستمر التراكم النضالي حتى الثورة أو الانتفاضة الشاملة التي تطيح بالنظام بعد توفر الظروف الموضوعية والذاتية للثورة، والتي أهمها أن تصبح الحياة لا تطاق من الجماهير ووجود القيادة الثورية التي علي استعداد لقيادة الثورة حتى النصر، حدث ذلك في الثورة المهدية 1885 التي اتخذت شكل الكفاح المسلح، وثورة الاستقلال 1956، وثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة مارس – أبريل 1985 التي اتخذت شكل النضال السلمي الجماهيري، وأطاحت بالنظام عن طريق الإضراب السياسي العام والعصيان المدني الذي أصبح من التجارب الراسخة في تاريخ السودان الحديث وكسلاح تشهره الجماهير عندما تنضج الظروف الموضوعية والذاتية لتغيير الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة التي تسومها سوء العذاب بمصادرة حقوقها وحرياتها الأساسية والحروب والفقر والمسغبة والدمار، ونهب ثروات البلاد والتفريط في أراضيها وسيادتها الوطنية.
(3)
ما يميز ثورة ديسمبر التي مازالت جذوتها متقدة، أنها واجهت تنظيما إسلامويا فاشيا بمليشياته الدموية سخر كل موارد وثروات البلاد لمصلحة وحماية أقلية طفيلية إسلاموية ضيقة، وبذل جهدا كبيرا في أن يسد منابع الثورة باقتلاع المؤسسات الحديثة والخدمية والمشاريع الزراعية والحيوانية في المدن والريف، فقام بتصفية وخصخصة السكة الحديد والنقل النهري والخطوط الجوية والبحرية، والمصانع وقومية الخدمة المدنية والنظامية والتعليم، ومشاريع الجزيرة والنيل الأبيض والأزرق والقاش وطوكر وجبال النوبا.الخ، وحاول السيطرة علي النقابات تحت اسم نقابة المنشأة ودمجها في الحزب الحاكم كما فعل نظام النميري.
(4)
كما فعل الاستعمار البريطاني عمق النظام سياسة” فرق تسد” بإحياء عصبية القبيلة والتناحر القبلي والعنصري، وسؤال القبيلة في الوثائق الرسمية، والتمييز بسبب الدين، وقمع المرأة، في محاولة يائسة لضرب وتدمير الوطنية السودانية وقيم التسامح الديني التي تبلورت قبل حوالي قرنين من الزمان، في المدن والمشاريع الحديثة ومؤسسات التعليم والخدمة المدنية والنظامية، وأشعل نيران الكراهية والعنصرية، ونيران حرب الإبادة في الجنوب وجنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، وارتكب جرائم حرب أدت إلى أن يكون رموز النظام مطلوبين أمام المحكمة الجنائية الدولية. كما مارس النظام أسوأ أنواع القمع في تاريخ السودان الحديث من تشريد لأكثر من 350 ألفاً من الخدمة المدنية والنظامية، إضافة لما تم تشريدهم بسبب الخصخصة وبيع أصول وممتلكات الدولة والقطاع العام.، كما مارس التعذيب الوحشي للمعارضين السياسيين والنقابيين بهدف كسر إراداتهم.
(5)
قام النظام بالدعوات الكاذبة للحوار والحلول الجزئية، ونقض العهود والمواثيق بهدف إطالة عمره، مما أدي لفصل الجنوب وإعادة إنتاج الحرب والأزمة بشكل أعمق من السابق.
قام بتفتيت الأحزاب وقوى المعارضة، باستخدام سياسة “سيف المعز وذهبه”، واحتكار السلاح والإعلام والمال بضرب الرأسمالية الوطنية المنتجة، بهدف إطالة عمره، والإعلان غير الرسمي لحالة الطوارئ لمدة ثلاثين عاما.
كل هذا القمع المهول لم يحم النظام، ربما يكون قد أطال عمره، لكن مقاومة شعب السودان لم تتوقف في الداخل والخارج. استمر التراكم النضالي الذي فت من عضد النظام، حتى انفجر في ثورة ديسمبر الحالية بعد أن نضجت ظروفها الموضوعية والذاتية.
(6)
أكدت تطورات الأحداث أن الأوضاع بعد هذه الثورة واستمرارها لن تكون كما كانت في السابق، وأن تحولا سياسيا واجتماعيا وفكريا بدأ يتخّلق، ارتفعت فيه رايات الوطنية السودانية، وشعارات الديمقراطية وحكم القانون واستقلال القضاء، وقيم التسامح واحترام المرأة ورفض التمييز ضدها، ودولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن الدين أو العرق أو الثقافة أو الجنس، استنادا للتجربة المريرة التي عاشها شعب السودان الذي أدرك أن سر قوته في وحدته، وسلمية وجماهيرية الثورة، ولا بديل غير السير قدما حتى نجاح الفترة الانتقالية وتفكيك النظام الفاسد ومؤسساته القمعية والاقتصادية والإعلامية.
(7)
هزت الثورة ساكن النظام، وفشل القمع في إخماد نيرانها بما في ذلك حالة ومحاكم الطوارئ التي زادت نيران الغضب ضده، وأعادت للأذهان أيام الديكتاتور نميري الأخيرة التي أعلن فيها حالة ومحاكم الطوارئ بعد تطبيق قوانين سبتمبر 1983 بهدف وقف المقاومة الجماهيرية التي كانت متنامية ضده، لكن ذلك لم يعصم النظام من مصيره، وسقط في انتفاضة أبريل 1985.
(8)
واجه النظام حصارا من الرأي العام المحلي والعالمي بسبب استخدامه للقمع المفرط بالضرب بالهراوات والغاز المسيل للدموع، وإطلاق الرصاص الحي مما أدي لاستشهاد الكثيرين، وجرح المئات، واعتقال الآلاف، والتعذيب الوحشي للمعتقلين حتى الاستشهاد، واقتحام البيوت وحرقها ب” البمبان”، وخرق الدستور بإعلان حالة ومحاكم الطوارئ والأحكام بالسجن والغرامة والجلد للمشاركين في المظاهرات والمواكب السلمية التي يكفلها الدستور.
إضافة لمجزرة فض الاعتصام البشعة التي فشلت في إخماد نيران الثورة، بل زادتها اشتعالا واستمرار المطالبة بالقصاص ولجنة التحقيق الدولية المستقلة.
(9)
استمرت الثورة بمختلف الأشكال من مليونيات ومظاهرات ووقفات احتجاجية وعرائض وإضرابات.الخ، رغم التسوية بعد التوقيع علي “الوثيقة الدستورية” التي كرّست هيمنة المكون العسكري، وقننت دستوريا مليشيات الدعم السريع، وأبقت علي التحالفات العسكرية الخارجية التي زجت بالسودان في محور حرب اليمن واستمرار إرسال القوات لها، وأبقت على القوانين المقيدة للحريات، وإعادة إنتاج السياسات الاقتصادية التي أبقت على استمرار التبعية لمؤسسات الرأسمالية العالمية من بنك وصندوق نقد دوليين، والخضوع لشروطهما في تخفيض العملة ورفع الدعم عن السلع، والاعتماد علي العون الخارجي بديلا للتوجه للداخل، والإسراع في استعادة الأموال المنهوبة، وإصلاح النظام المصرفي، وعود شركات المؤتمر الوطني والجيش والدعم السريع من ذهب وغيرها للمالية. الخ.
(10)
كما رفض بعض أفراد القوات النظامية في الجيش والشرطة ضرب المواطنين العزل؛ مما أدي لفصلهم من الخدمة، مما يتطلب مواصلة النضال لعودتهم مع المفصولين العسكريين من النظام الفاسد، ورفض بعض القضاة العمل في محاكم الطوارئ التي نسفت أسس الإجراءات للمحاكم العادلة التي تكفل حق الدفاع والاستماع لشهود الدفاع..الخ، وغير ذلك من تفكك وتصدع بنية النظام القمعية وتنظيماته الفوقية.
(11)
أكدت الثورة استمرار جذوة الثورات في المنطقة العربية” الربيع العربي” ضد الأنظمة الفاسدة التي امتدت لتشمل شعوب أوربا وأمريكا، وتزامنت مع ثورة شعب السودان ثورة الشعب الجزائري ضد العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة. كما وجدت تضامنا واسعا من شعوب العالم والأحزاب الشيوعية والعمالية والوطنية ومنظمات حقوق الإنسان، وبعض الدول التي استنكرت القمع الوحشي للمظاهرات السلمية وحالة الطوارئ، وطالبت باحترام حقوق الإنسان وإطلاق سراح المعتقلين فورا.
(12)
طرحت الثورة قضايا مهمة تحتاج إلى متابعة إنجازها ومواصلة النضال من أجلها مثل:
– سياسة خارجية تقوم علي الاحترام والمنفعة المتبادلة وحسن الجوار والسيادة الوطنية، وعدم الارتباط بالأحلاف العسكرية، وسحب القوات السودانية من اليمن.
– استعادة أراضي وموانئ السودان مثلاً” حلايب وشلاتين والفشقة..الخ.
– استعادة أموال الشعب المنهوبة التي هربها الإسلامويون الفاسدون إلى دول مثل: ماليزيا التي تبلغ عشرات المليارات من الدولارات إضافة لقيمة الأصول في تلك الدول، مما دمر اقتصاد البلاد، وأوصلها للدرك السحيق الذي تعيشه الآن. إضافة لفتح ملفات صفقات تأجير وبيع ملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية التي بلغت مدة بعضها 99 عاما، واستعادة أصول وممتلكات الدولة المنهوبة.
– الخروج من الحلقة المفرغة” ديمقراطية – انقلاب- ديمقراطية..الخ”، وقيام نظام ديمقراطي راسخ ومستدام تتصارع فيه الطبقات والأحزاب ببرامجها المختلفة بحرية، وحل مشاكل الديمقراطية بالمزيد من الديمقراطية، وعدم إعادة إنتاج الأزمة بتسويات تبقي علي جوهر النظام السابق مع تعديلات شكلية في رأس النظام، ولا بديل غير تفكيك النظام وإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات والترتيبات الأمنية لقومية القوات النظامية تحت إشراف الحكومة المدنية، وحل وتفكيك المليشيات” دعم سريع، الدفاع الشعبي، جيوش الحركات. الخ”.
– الترتيبات الأمنية والحل الشامل والعادل لقضايا مناطق الحروب بوقف الحرب ومحاسبة مجرميها، وتسليم البشير والمطلوبين للجنايات الدولية، وعودة النازحين أراضيهم ومنازلهم وتعويضهم، وعودة المستوطنين لمناطقهم والتنمية المتوازنة، ودولة المواطنة التي تسع الجميع، وقيام المؤتمر الدستوري الذي يحدد شكل الحكم، وإعداد دستور ديمقراطي بمشاركة الجميع، وقانون انتخابات ديمقراطي بمشاركة، يفتح الطريق لقيام انتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة الانتقالية تشارك فيها كل المناطق المتأثرة بالحروب، وعدم الوقوع في خطأ التسرع في قيام انتخابات مبكرة تجاهلت مناطق الحروب، كما حدث بعد ثورة أكتوبر 1964، وانتفاضة أبريل 1985.
– قيام الخدمة المدنية علي أساس المهنية والكفاءة والشفافية، لا علي محاصصات سياسية، تعيد إنتاج أساليب النظام الإسلاموي الفاسد.
(13)
وأخيرا، فإن ضمان نجاح الفترة الانتقالية رهين بترسيخ الآتي:
الديمقراطية التي تستهدف انتشال الوطن من الأنقاض والدمار الفظيع الذي تعرض له علي أساس الوطنية السودانية، ودولة القانون واستقلال القضاء، والقصاص للشهداء ومتابعة المفقودين، وفصل السلطات التنفيذية – التشريعية – القضائية، وحرية تكوين الأحزاب والنقابات والاتحادات والصحافة والتعبير والنشر. الخ. قيام دولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن الدين أو الثقافة أو العرق أو اللون أو الجنس. وقف الحرب بالحل العادل لقضايا مناطق الحروب الذي يخاطب جذور الأزمة. وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية والتنمية المتوازنة بين أقاليم السودان. إعادة تأهيل المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية ودعم الصادر وتقوية الجنيه السوداني، وتوفير فرص العمل للعاطلين، وجذب الكفاءات السودانية للمشاركة في تنمية ونهضة البلاد. التسوية العادلة بدون تسويف لأوضاع المفصولين تعسفيا. سياسة خارجية تقوم علي المنفعة المتبادلة والسيادة الوطنية وحسن الجوار. توفير حق ومجانية التعليم العام والعلاج والخدمات. قيام المؤتمر الدستوري، وإجازة دستور ديمقراطي بمشاركة الجميع، والمحاسبة إعادة ممتلكات وثروات البلاد المنهوبة. المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب،. حل كل المليشيات وجيوش الحركات وقيام الجيش القومي المهني الموحد الذي يعمل تحت إشراف الحكومة المدنية. قانون انتخابات ديمقراطي لضمان انتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة الانتقالية.alsirbabo@yahoo.co.uk
الوسومتاج السر عثمان بابوالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الفترة الانتقالیة الخدمة المدنیة ثورة دیسمبر
إقرأ أيضاً:
السودان.. قصة الثورة والفترة الانتقالية وطموحات العسكر تحت الضوء
محمد تورشين.. باحث سوداني متخصص في الشؤون المحلية والقضايا الأفريقية
جاءت الثورة السودانية في 19 ديسمبر 2018 متأخرةً ثماني سنوات عن "الربيع العربي"، ولكنها انطلقت من نفس الدوافع، ومجريات الأحداث، والآثار. بدأت الفترة الانتقالية في السودان عقب سقوط نظام المؤتمر الوطني برئاسة عمر البشير في أبريل 2019. انفرد الجيش بالسلطة عبر تشكيل مجلس عسكري، لكن سرعان ما تراجع عن ذلك بسبب الاحتجاجات والرفض الجماهيري. وسرعان ما توصل المكون العسكري مع القوى السياسية إلى صيغة توافقية لتقاسم السلطة عبر الوثيقة الدستورية بوساطة إقليمية.
وأبان أحداث فض اعتصام القيادة العامة بالخرطوم من قِبَل الأجهزة الأمنية، بدأ إعلان قوى الحرية والتغيير* بالتصدع، ويعود ذلك إلى تباين وجهات النظر في القضايا المتعلقة بالفترة الانتقالية. لكن مع توقيع اتفاقية جوبا للسلام بين الحكومة والحركات المسلحة*، وصلت الخلافات إلى مرحلة اللاعودة، حيث انقسمت قوى الحرية والتغيير، الحاضنة السياسية للحكومة، على ذاتها.
تفاقم الخلافات والتباين في القضايا محل النزاع أسهم في إنتاج أزمة سياسية لا تقل خطورة عن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، مما دفع الجيش للاستيلاء على السلطة مدعومًا من قِبَل قوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية). تصاعدت وتيرة الأزمة في السودان في ظل رفض إقليمي ودولي للانقلاب وعدم الاعتراف به، حيث فشلت الجهات ذات الصلة بالانقلاب في إعلان حكومة جديدة.
مشكلة الدراسة:
يشير مصطلح "الفترة الانتقالية السودانية" إلى الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية التي تلت سقوط نظام الرئيس عمر البشير. بدأت الفترة الانتقالية في أبريل 2019 واستمرت حتى أكتوبر 2021، حين وقع الانقلاب العسكري بقيادة عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، على شركائه في الحكم.
تتمحور المشكلة حول فهم دوافع وأسباب الانقلاب العسكري، ولماذا فشلت الفترة الانتقالية في السودان في التوصل إلى توافق وطني.
أسئلة الدراسة:
1 ـ ما هي الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية قبل الثورة؟
2 ـ ما هي التحديات التي واجهت الفترة الانتقالية؟
3 ـ ما هي الأسباب التي أعاقت استكمال الانتقال الديمقراطي في السودان؟
خلفية تاريخية عن الأوضاع السياسية قبل الثورة
في يونيو 1989، تمكّنت الجبهة الإسلامية في السودان من تنفيذ انقلاب على نظام الحكم الديمقراطي الثالث، الذي جاء بعد الثورة التي أطاحت بنظام مايو بقيادة جعفر نميري في عام 1985. استيلاء الجبهة الإسلامية على السلطة كان نتيجة شراكة بين القوى السياسية بقيادة حسن الترابي والجيش بقيادة عمر البشير، إلا أنّ هذا التحالف لم يدم طويلًا. سرعان ما بدأت الخلافات تظهر في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية، نتيجة استمرار الحرب في جنوب السودان، التي اندلعت مع تمرد جون قرنق على حكومة نميري عام 1983.
أثّرت الحرب في جنوب السودان والعقوبات الدولية التي فرضتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على النظام الجديد. جاءت هذه العقوبات بعد أن استضاف نظام الخرطوم قيادات إسلامية بارزة مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهم. أدّى توتر العلاقات بين عناصر النظام إلى انقسامه إلى تيارين: تيار القصر الرئاسي بقيادة عمر البشير وحزبه المؤتمر الوطني، وتيار المعارضة بقيادة حسن الترابي وحزبه المؤتمر الشعبي.
هناك عوامل عدة تؤكد أن التحول الديمقراطي في السودان متعثر ويصعب التنبؤ بنتائج ذلك لعدة أسباب. أهم هذه الأسباب هو أن العسكر طامعون في الحكم ولا يرحبون بالديمقراطية. كما أن الثورة السودانية تعثرت في تحقيق أهدافها المتمثلة في الانتقال من مرحلة الاستبداد والفساد إلى الحرية السياسية.هذا الانقسام الداخلي ساهم في تأجيج الحرب في دارفور عام 2003. ورغم توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا، نيروبي، بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، النظام الحاكم سعى من خلال اتفاقية السلام الشامل الانفكاك من العزلة الدولية ، إلا أنّ أزمة دارفور كانت ذات انعكاسات خطيرة عليه ، من خلال جرائم حرب وانتهاكات ضد الإنسانية استمرت وأثّرت بشكل كبير على النظام. حيث ارتكبت مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) جرائم حرب وإبادة جماعية بحق المدنيين في دارفور. أدّى ذلك إلى إحالة قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت مذكرات توقيف بحق الرئيس عمر البشير وقيادات أخرى، مثل وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين، ووزير الدولة بالداخلية أحمد هارون، وزعيم المليشيات علي كوشيب.
من ناحية أخرى، كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان تسعى إلى الانفصال عن السودان، وحقّقت ذلك في يوليو201٣. أدّى الانفصال إلى تدهور اقتصادي كبير، حيث أثّرت خسارة الموارد على الاقتصاد، مما رفع معدلات التضخم وقلّل من القدرة الشرائية للمواطنين. وتفاقمت الأوضاع مع توسع رقعة الاحتجاجات الشعبية المناوئة ضد النظام الحاكم .
وفي ظلّ هذه الظروف، انشقّ وزير الإعلام غازي صلاح الدين وأسس حركة الإصلاح الآن، مما زاد من تعقيد المشهد السياسي. سعت الحكومة إلى إجراء إصلاحات تهدف إلى إشراك القوى السياسية في الحكم وتنظيم انتخابات عامة، لكنّ هذه الجهود فشلت بسبب تدخلات إقليمية. على سبيل المثال، أُجبرت الخرطوم على قطع علاقاتها مع طهران والمشاركة في عاصفة الحزم في اليمن.
مشاركة الحكومة السودانية في عاصفة الحزم اعتمدت بشكل كبير على قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)،كعنصر ممكن التعويل عليه في مشروع الثورة المضادة . مما عزّز مكانته كعنصر أساسي في النظام. استخدمت قواته لإخماد الاحتجاجات الشعبية المناوئة للنظام في عام 2013، التي كادت أن تؤدي إلى سقوط النظام
انفجار الأوضاع في السودان
في ديسمبر 2018، انطلقت الاحتجاجات الشعبية المناوئة للنظام في السودان، حيث بدأ تجمع المهنيين السودانيين بتنظيم المظاهرات والاحتجاجات التي سرعان ما انتشرت في كل المدن. وفي أبريل 2019، تدفقت الحشود نحو مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم للاعتصام والمطالبة بإسقاط النظام. وسط الاعتصام، انتشرت أنباء تفيد بأن الجيش على وشك إصدار بيان بالغ الأهمية .
في وقت لاحق، أعلن وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف أن الجيش سيتولى إدارة شؤون البلاد بعد استقالة الرئيس عمر البشير، وأعلن تشكيل مجلس عسكري انتقالي مع فرض حالة الطوارئ وحظر التجول. بالتزامن مع هذا الإعلان، انتشرت تقارير تؤكد وضع البشير وعدد من كبار مساعديه في الإقامة الجبرية، فيما بدأت القوى السياسية مشاوراتها مع القادة العسكريين.
أدى وزير الدفاع عوض بن عوف القسم رئيسًا للمجلس العسكري الانتقالي، واختير كمال عبد المعروف نائبًا له، إلا أن القوى السياسية رفضت هذا الترتيب، واعتبرت أن المجلس العسكري امتدادٌ لنظام البشير. تصاعدت وتيرة الاحتجاجات الشعبية مطالبة بإسقاط المجلس العسكري.
تشكّل المجلس العسكري الأول من قيادات بارزة مثل عوض بن عوف، كمال عبد المعروف، صلاح قوش، جلال الشيخ، الطيب بابكر، ومصطفى محمد مصطفى. لكن سرعان ما شهد المجلس تغييرات بعد استقالة بن عوف، ليترأسه الفريق أول عبد الفتاح البرهان. غادر كمال عبد المعروف المجلس، بينما صعدت أسماء جديدة مثل إبراهيم جابر الذي حلّ مكان الفريق أول الفرضي المطري.
بعد تولّي الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، بدأن أوراقه تترتب بصورة واضحة ، خرجت أسماء وصعدت أخرى واستقرت عضويته لتضمّ: عبد الفتاح البرهان، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، صلاح عبد الخالق، جمال عمر، ياسر العطا، وشمس الدين كباشي.
فض اعتصام القيادة العامة
في يوم الإثنين الموافق للثالث من يونيو 2019، وقعت مجزرة القيادة العامة، التي عُرفت إعلاميًا بـ"مجزرة الخرطوم"، حين اقتحمت قوات مسلحة تابعة للمجلس العسكري، مدعومة من قوات الدعم السريع، مقر الاعتصام. استُخدمت الأسلحة الثقيلة والخفيفة والغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين السلميين. أسفرت المجزرة عن مقتل 66 شخصًا وإصابة مئات آخرين، وفق التقديرات الرسمية.
الاعتصام، الذي استمر قرابة شهرين، كان يهدف إلى إسقاط نظام الإنقاذ وإقامة حكم مدني ديمقراطي. لكن ضعف التنسيق بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري أثّر على المطالب الشعبية التي كانت تسعى إلى تغيير جذري في النظام لولا تماهي قوى الحرية والتغيير مع المجلس العسكري.
الوثيقة الدستورية، وانطلاق الشراكة
الوثيقة الدستورية هي ثمرة الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين المجلس العسكري والقوى السياسية "الحرية والتغيير"، بهدف الانتقال إلى حقبة جديدة في تاريخ السودان. وتم التوقيع على الوثيقة الدستورية المكوّنة من 28 صفحة و78 بندًا في أغسطس 2019، لتكون المرجعية الأساسية للفترة الانتقالية لمدة 39 شهرًا. وهي القانون الأعلى في البلاد، وتسود أحكامها على جميع القوانين.
الأطراف الموقعة على الوثيقة
المكوّن العسكري، "المجلس العسكري سابقًا"، الذي تولّى السلطة عقب سقوط البشير مباشرة، ويرأسه الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان. والمكوّن المدني المتمثل بـ"قوى إعلان الحرية والتغيير"، التي تنضوي تحتها عدة أحزاب.
نصّت الوثيقة الدستورية على 78 بندًا، جاء أبرزها تحديد "مدة الفترة الانتقالية بـ39 شهرًا اعتبارًا من توقيع الإعلان الدستوري، على أن تُجرى انتخابات في نهايتها. وتُعطى الأولوية في الأشهر الستة الأولى من الفترة الانتقالية لإرساء السلام بين الفصائل السودانية في المناطق التي تشهد نزاعات". ومن أبرز البنود الأخرى: "تشكيل الحكومة الانتقالية، والعمل على إجراء إصلاحات قضائية واقتصادية، ووضع أسس سياسة خارجية متوازنة".
كما نصّت الوثيقة على أن "يتألف المجلس السيادي من 11 عضوًا، هم 6 مدنيين و5 عسكريين. وستتولى شخصية عسكرية رئاسته في الأشهر الـ21 الأولى، على أن تخلفها شخصية مدنية للأشهر الـ18 المتبقية. ويُشرف المجلس على تشكيل إدارة مدنية انتقالية قوامها حكومة ومجلس تشريعي، على أن يُسمي تحالف قوى الحرية والتغيير رئيس الحكومة، ويُصادق المجلس السيادي على تعيينه".
تشكيل الحكومة والمجلس التشريعي
نصّت الوثيقة على أن "تتألف الحكومة من 20 وزيرًا على الأكثر، يختارهم رئيس الوزراء من بين مرشحين يقترحهم التحالف، باستثناء حقيبتي الدفاع والداخلية اللتين يختار وزيريهما الأعضاء العسكريون في المجلس السيادي". ويتم تشكيل المجلس التشريعي في غضون 90 يومًا من توقيع الاتفاق، على أن تُخصص نسبة 67% من مقاعده لتحالف قوى الحرية والتغيير، أما النسبة المتبقية فتكون متاحة للأحزاب الأخرى غير المرتبطة بالبشير.
وأقرّت الوثيقة أن "تكون القوات المسلحة وقوات الدعم السريع جزءًا من المؤسسة العسكرية بإمرة قائد القوات المسلحة. ويكون جهاز المخابرات العامة هيئة تنظيمية مهمتها جمع المعلومات وتحليلها وتقديم تقارير بشأنها إلى السلطات المعنية، ويكون جهاز الاستخبارات خاضعًا للسلطة التنفيذية".
الوثيقة الدستورية هي التي منحت الدعم السريع الشرعية ، باعتبار أن القوات ارتكبت جرائم وانتهاكات واسعة النطاق إزاء المدنيين في دارفور عندما أوكلت لها مهام التصدي للحركات المسلحة التي تقاتل نظام عمر البشير .حيث أغفلت الوثيقة الدستورية الحديث عن مسألة الدمج والتسريح ، ومن هنا بدأ الدعم السريع في التمدد والاستفادة من العلاقات الخارجية التي اكتسبها إبان مشاركته في عاصفة الحزم.
دور اتفاقية جوبا للسلام في إعادة تشكيل المشهد السياسي في السودان
بعد أشهرٍ من المفاوضات بين ممثلي الحكومة الانتقالية في الخرطوم والجبهة الثورية، وهي تحالفٌ عريضٌ يضم عددًا من القوى السياسية والفصائل المسلحة، تم توقيع اتفاقية في أكتوبر ٢٠٢٠، بمدينة جوبا، عاصمة دولة جنوب السُّودان، تناولت قضايا قومية، واتفاقياتٍ إقليمية. ونظرًا إلى تعدد الحركات المسلحة واختلاف أجنداتها السياسية، اتفقت الأطراف المعنية على إنشاء خمسة مساراتٍ إقليمية للتفاوض المنفرد، لمراعاة الخصوصية لكل مسارٍ ومشكلاته. وتشمل المسارات الخمسة مسار دارفور (حركة العدل والمساواة، وجيش تحرير السُّودان ـ المجلس الانتقالي، وتجمع قوى تحرير السُّودان)، ومسار الشرق (الجبهة الشعبية ومؤتمر البجا المعارض)، ومسار الشمال (كيان الشمال وحركة تحرير كوش السُّودانية)، ومسار الوسط (الحزب الاتحادي الديمقراطي المعارض)، ومسار النيل الأزرق وجنوب كردفان (الحركة الشعبية لتحرير السُّودان ـ شمال).
حيث شملت الاتفاقية قضايا المواطنة، وتقاسم السلطة والثروة، وإدارة التنوع بأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية، ومبادئ العدالة الانتقالية القائمة على محاسبة مرتكبي الجرائم، وتعويض الضحايا، وتحقيق المصالحة الوطنية. بناءً عليه، اشتملت اتفاقية القضايا القومية على ٣٠ مادة، استندت إليها اتفاقيات المسارات الفرعية. ومن أهم المواد التي جاءت في اتفاقية القضايا القومية، المادة التي نصَّت على فترة انتقالية تكون مدتها ٣٩ شهرًا، "يبدأ سريانها من تاريخ التوقيع على اتفاق السلام".
وبموجب هذه المادة سوف يتم تعديل الوثيقة الدستورية، وتمديد الفترة الانتقالية التي تم التوصل إلى اتفاقٍ بشأنها بين المجلس العسكري والقوى السياسية في أغسطس ٢٠١٩. واستثنت المادة (٣) ممثلي الأطراف الموقعة على اتفاقية القضايا القومية من نص المادة (٢٠) من الوثيقة الدستورية، الذي يُسقط حق أعضاء مجلس السيادة والوزراء في الفترة الانتقالية من الترشح في الانتخابات العامة التي يتم إجراؤها بنهاية الفترة الانتقالية. ويعطي هذا الاستثناء شاغلي المناصب الدستورية المشار إليها في الفترة الانتقالية حق الترشح في الانتخابات العامة، بشرط "أن يُقدموا استقالاتهم قبل ستة أشهرٍ من نهاية الفترة الانتقالية المتفق عليها، ولتنظيماتهم الحق في اختيار من يخلفهم في تلك المواقع".
كما اقتضت المواد (٤) و(٥) و(٦) إجراء التعديلات التالية على الوثيقة الدستورية: أولًا، تمثيل الأطراف الموقعة على اتفاقية جوبا بثلاثة أعضاءٍ إضافيين في مجلس السيادة؛ وتمثيلهم في مجلس الوزراء بخمس وزارات وفقًا للإجراءات المعمول بها في الوثيقة الدستورية، أي ما يعادل ٢٥٪ من أعضاء مجلس الوزراء؛ وتمثيلهم في المجلس التشريعي بنسبة ٢٥٪، أي أن يحصلوا على ٧٥ مقعدًا من مقاعد المجلس المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية بـ ٣٠٠ مقعد. وعلى مستوى الحكم الولائي (الولايات)، نصَّت الاتفاقية على تخصيص ١٠٪ من الوظائف القيادية العليا لممثلي أطراف الاتفاقية في الولايات التالية: الشمالية، ونهر النيل، وسنار، والجزيرة، والنيل الأبيض، وشمال كردفان، وغرب كردفان. أما بقية المواد الخاصة باتفاقية القضايا القومية فقد تناولت القضايا الإجرائية المتعلقة بإنفاذ العدالة الانتقالية، والتعداد السكاني، والإعداد للانتخابات العامة، وتشكيل المفوضيات المتخصصة، وانعقاد مؤتمر نظام الحكم، والمؤتمر الدستوري وكتابة الدستور، ووضع آليات مراقبة الاتفاقية وتنفيذها على أرض الواقع.
لم تشمل اتفاقية جوبا للسلام كل الحركات المسلحة، وأهمها الحركة الشعبية لتحرير السُّودان/شمال جناح عبد العزيز آدم الحلو، وحركة تحرير السُّودان جناح عبد الواحد محمد نور. وكانت حركة الحلو جزءًا من مفاوضات جوبا، لكنها انسحبت منها في أغسطس ٢٠٢٠، احتجاجًا على رئاسة محمد حمدان دقلو (حميدتي) لوفد التفاوض الحكومي. وقد بررت الحركة موقفها بأن قوات الدعم السريع قواتٌ معادية للسلام ومهددةٌ لأمن المواطنين العُزَّل، لذلك لا يجوز أن يكون قائدها الأعلى رئيسًا لفريق الحكومة الانتقالية المفاوض في جوبا. وإلى جانب ذلك، طالب الحلو المفاوضين باتخاذ موقفٍ واضحٍ من قضية فصل الدين عن الدولة، باعتبارها ركنًا رئيسًا في مشروع السلام العادل والدائم. وقد حاولت الحكومة الانتقالية التغلب على هذه العقبة لكن لم تفلح الجهود المبذولة، أسهمت اتفاقية جوبا للسلام في إعادة تشكيل المشهد السياسي في السودان، حيث نشأت تحالفات جديدة، بانقسام قوى الحرية والتغيير إلى المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية ، فمنذ البدء في تنفيذ الاتفاق دخلت القوى السياسية في تجاذبات داخلية، وبدأت المحاصصات الحزبية، بالرغم من أن الوثيقة الدستورية تؤكد أن الحكومة الانتقالية تتكون من كفاءات وطنية غير حزبية. فعدم الالتزام بنصوص الوثيقة الدستورية أدخل الفترة الانتقالية في متاهات التنافس السياسي والأيديولوجي.
انعكاسات انقلاب أكتوبر على الفترة الانتقالية في السودان
في مشهدٍ لم يعد غريبًا على ثورات الربيع العربي، خرج رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أوَّل "عبدالفتاح البرهان"، في 25 أكتوبر 2021، ليُعلِن الانقلاب على شركائه في المرحلة الانتقاليَّة، ويَحل جميع المؤسَّسَات المنبثقة عنها، ويَعتقل قيادات القوى السياسية التي كان من المنتظر أن تتسلم السلطة في السودان وفق الاتفاق الذي وقَّعه العسكر والمدنيُّون، الذين مثلهم ائتلاف "قوى إعلان الحريَّة والتغيير"، شريك المجلس العسكري في الحكم.
مشاركة الحكومة السودانية في عاصفة الحزم اعتمدت بشكل كبير على قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)،كعنصر ممكن التعويل عليه في مشروع الثورة المضادة . مما عزّز مكانته كعنصر أساسي في النظام. استخدمت قواته لإخماد الاحتجاجات الشعبية المناوئة للنظام في عام 2013، التي كادت أن تؤدي إلى سقوط النظامينبغي الإشارة إلى تشكيلة المؤسسة العسكرية في السودان، حيث تضم، إلى جانب الجيش، قوات الدعم السريع، وهي وحدة شبه عسكرية انبثقت عن ميليشيات الجنجويد المدعومة سابقًا من نظام البشير، والتي اتُّهمت بارتكاب انتهاكات أثناء صراع دارفور. وهنا نجد ثنائية القيادة العسكرية: الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة السودانية، من ناحية، والفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد الدعم السريع، من ناحية أخرى.
يبدو السجل الرسمي للبرهان نظيفًا، ولم تُوجَّه أصابع الاتهام إليه من قبل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، حيث وُجِّهت اتهامات للبشير وآخرين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أثناء الصراع في دارفور.
محاولة الاستيلاء على السلطة لم تكن المرة الأولى منذ سقوط حكومة البشير؛ بل شهدت البلاد عدة انقلابات وُصِفت بالفاشلة. لكن هذه المرة، أكَّد البرهان في بيان صحفي تم بثُّه في القنوات الرسمية "تعليق العمل ببعض المواد في الوثيقة الدستورية، وتجميد عمل لجنة إزالة التمكين، وقيام الانتخابات في 2023".
بعد عاميْن من بداية المرحلة الانتقاليَّة، وقبيل نقل السلطة إلى المدنيّين، تفجَّرت الأزمات بين المكونيْن العسكري والمدني في حكم السودان جرَّاء خلافات شديدة على قضايا مهمَّة، وتردِّي الأوضاع العامَّة، واتهام العسكر للقوى السياسية بعدم الاكتراث بمشكلات المواطنين السودانيّين. كما اتَّهمت "قوى الحريَّة والتغيير" العسكريّين بمحاولة النكوص عن مسار التحوُّل المدني الديمقراطي، والانقسام والتشظِّي، وتبني مشروعات فرديَّة.
شدَّدت القيادات العسكريَّة السودانيَّة على وجود خلافات عميقة داخل قوى إعلان الحريَّة والتغيير تسببت في تدهور الأوضاع في البلاد، والتهديد المباشر بحشد الأنصار والمؤيدين في الشارع من كلا الجانبيْن.
انقسام قوى الحرية والتغيير أسهم في انقسام الشارع السوداني، وذلك من خلال اعتصام القصر الجمهوري الذي كان بتنسيق وإشراف الكتلة الديمقراطية التي انشقَّت عن قوى الحرية والتغيير. يعود انقسام قوى الثورة إلى عدم الالتزام بالوثيقة الدستورية، رغم التقصير في التنفيذ والنواقص.
ذروة التصعيد كانت في شرق السودان، حيث جَرَت عمليَّة إغلاق عقدت المشهد السياسي والاقتصادي، وأربكت حسابات الحكومة المركزيَّة بسبب انقطاع السلع الاستراتيجية التي تصل من موانئ البحر الأحمر إلى العاصمة الخرطوم وبقيَّة الولايات. ثم أعلن الجيش في 21 سبتمبر/أيلول عن إحباط محاولة انقلابيَّة قام بها ضبّاط ومدنيون مرتبطون بنظام الرئيس "عمر البشير".
تعرض المكون المدني بعدها لحملة انتقادات شديدة اللهجة من جانب العسكر، حيث اتهم رئيس مجلس السيادة السوداني، "عبدالفتاح البرهان"، القوى السياسيَّة بأنها كانت سببًا فيها، وقال إن "القوى السياسيَّة انشغلت بالصراع على السلطة والمناصب"، وإن "شعارات الثورة، من الحريَّة والعدالة، ضاعت وسط خلافات القوى السياسيَّة".
وأضاف أن سبب تدهور الأوضاع الاقتصاديَّة الأساسي هو "الصراع على السلطة بين مكونات الحكومة الانتقاليَّة من المدنيّين". وكرَّر "حميدتي"، النائب الأوَّل لرئيس مجلس السيادة، الاتهامات نفسها للسياسيّين، قائلًا إنهم "أهملوا المواطن في معاشه وخدماته الأساسيَّة".
دعت أحزاب وكيانات وتجمعات نقابيَّة سودانيَّة الشعب السوداني إلى العصيان المدني والتظاهر رفضًا لخطوة قائد الجيش، وللمطالبة باستعادة الحكومة الانتقاليَّة المدنيَّة وتحقيق مطالب الثورة الشعبيَّة.
انخرطت أعداد كبيرة في الاحتجاجات، وانعكس ذلك في عدم تمكن الأطراف المعنية بالانقلاب من تشكيل حكومة جديدة. فضلاً عن ذلك، برزت الخلافات على السطح بين الجيش وقائد الدعم السريع، الراعي الرسمي للانقلاب.
اتفقت الحكومات العربيَّة على أنها تراقب الأوضاع بقلق واهتمام، وتدعو إلى احتواء الموقف وعدم التصعيد من جميع الأطراف، وتطالب الفرقاء في السودان بضبط النفس، والتهدئة، وتغليب الحكمة، والعمل لمصلحة الشعب السوداني.
لم تُدِن الدول العربيَّة الانقلاب العسكري، ولم تذكر البيانات العربيَّة شيئًا عن العودة إلى المسار الديمقراطي، وكأنها تدعو إلى الرضا بالأمر الواقع.
أكدت تقارير صحفيَّة عديدة وجود تأييد عربي للانقلاب؛ فقد ذكرت صحيفة "تلغراف" البريطانيَّة أن الانقلاب في السودان حظي بدعم من الحلفاء الإقليميّين في مصر والإمارات. كما ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكيَّة أن الانقلاب الذي جرى في السودان تقف وراءه مصر ودول خليجيَّة. موقف الدول العربيَّة واقعي باعتباره يتسق مع مشروع الثورة المضادة.
على المستوى الأفريقي، قرَّر مجلس السلم والأمن بالاتحاد الأفريقي تعليق مشاركة السودان في جميع الأنشطة حتى عودة السلطة التي يقودها المدنيّون، واعتبر أن إجراءات البرهان تهدد بعرقلة تقدُّم العمليَّة الانتقاليَّة وإغراق السودان في دوامة عنف.
يعود ذلك إلى رؤية الاتحاد الأفريقي الرافضة لكل الانقلابات العسكرية، مما أسهم في الحد من ظاهرة الانقلابات العسكرية.
أما القوى الغربيَّة، فأدانت أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا الانقلاب العسكري، وأعلنت أمريكا تعليق مساعدات بقيمة 700 مليون دولار كانت تستهدف دعم الانتقال الديمقراطي بالسودان.
من جانبها، رفضت روسيا وَصْف ما حدث في السودان بالانقلاب. وفشل مجلس الأمن في اتخاذ موقف قوي في هذا الشأن بسبب اعتراض روسيا على تضمين بيان المجلس أيَّ إدانة لإجراءات الجيش السوداني. لدى موسكو أطماع بالحصول على قاعدة بحرية في البحر الأحمر وشرعت في تفاهمات مع الجيش، لذا من الضروري دعم مواقف قائد الجيش عبدالفتاح البرهان. وفي الجانب الآخر، لديها علاقات جيدة مع قوات الدعم السريع.
في نوفمبر 2021، تم توقيع اتفاق بين رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك والمكون العسكري، سمح بموجبه بعودة رئيس الوزراء للحكم مرة أخرى. إلا أن القوى السياسية "قوى الحرية والتغيير - المجلس المركزي" اعترضت على ذلك، مما اضطر رئيس مجلس الوزراء السابق عبدالله حمدوك إلى الاستقالة.
ختاماً، يمكن القول إن هناك عوامل عدة تؤكد أن التحول الديمقراطي في السودان متعثر ويصعب التنبؤ بنتائج ذلك لعدة أسباب. أهم هذه الأسباب هو أن العسكر طامعون في الحكم ولا يرحبون بالديمقراطية. كما أن الثورة السودانية تعثرت في تحقيق أهدافها المتمثلة في الانتقال من مرحلة الاستبداد والفساد إلى الحرية السياسية. ويرجع ذلك إلى عوامل عدة أثرت بشكل مباشر، منها الانقسام السياسي بين القوى السياسية، بالإضافة إلى أن البعد الإقليمي كان له انعكاسات على المشهد السوداني، مما أدى إلى مزيد من السيطرة من قبل العسكر. وأصبحت الحكومة تمارس مهاماً ليست من اختصاصات الفترة الانتقالية، مما أعاق المرحلة الانتقالية. ورغم أن الحكومة الانتقالية أنجزت بعض الملفات، فإنها عجزت عن تحقيق التقدم في ملفات أخرى. ولا شك أن انقلاب أكتوبر قد أجهض تجربة التحول الديمقراطي في السودان.