في ذكراها السادسة طبيعة وأهداف ثورة ديسمبر
تاريخ النشر: 6th, December 2024 GMT
بقلم : تاج السر عثمان
١
اشرنا سابقا الي أن الذكرى السادسة لثورة ديسمبر تمر في ظروف الحرب اللعينة الجارية التي اشعلها الإسلاميون مع صنيعتهم الدعم السريع، بهدف السلطة والثروة، بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر 2021 الذي اعاد التمكين لهم في الأرض، وأكد ذلك الصراع الجاري حاليا بين الإسلامويين والبرهان، فهي حرب تهدف للمزيد من التمكين لهم، وتصفية الثورة ونهب ثروات البلاد من المحاور الاقليمية والدولية التي تسلح طرفي الحرب التي أدت لنزوح الملايين، ومقتل واصابة وفقدان عشرات الآلاف، وتدمير البنيات التحتية ومرافق الدولة الحيوية، والأسواق والبنوك ومواقع الإنتاج الصناعي والزراعي، وباتت تهدد بتقسيم البلاد، اضافة لتدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية والصحية والأمنية، مع إطالة أمدها والمزيد من الابادة الجماعية وجرائم الحرب كما في التهجير الجاري من مناطق الجزيرة ودارفور وكردفان والخرطوم.
مما يتطلب اوسع جبهة جماهيرية لوقف الحرب واسترداد الثورة.
في الذكرى السادسة لثورة ديسمبر، نعيد نشر هذا المقال حول طبيعة وأهداف ثورة ديسمبر التي يجب العض عليها بالنواجذ،والسير بها قدما حتى تحقيق أهدافها ومهام الفترة الانتقالية.
٢
جاءت ثورة ديسمبر استمرارا لتقاليد شعبنا الثورية والقانون الأساسي لثوراته ضد الأنظمة الاستعمارية والديكتاتورية التي تبدأ بتراكم المقاومة الجماهيرية ضدها التي ما أن يتم اخماد كل منها علي أنفراد حتي تشتعل من جديد في مواقع أخري ، ويستمر التراكم النضالي حتي الثورة أو الانتفاضة الشاملة التي تطيح بالنظام بعد توفر الظروف الموضوعية والذاتية للثورة والتي أهمها أن تصبح الحياة لا تطاق من الجماهير ووجود القيادة الثورية التي علي استعداد لقيادة الثورة حتي النصر، حدث ذلك في الثورة المهدية 1885 التي اتخذت شكل الكفاح المسلح ، وثورة الاستقلال 1956 ، وثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة مارس – أبريل 1985 التي اتخذت شكل النضال السلمي الجماهيري وأطاحت بالنظام عن طريق الإضراب السياسي العام والعصيان المدني الذي أصبح من التجارب الراسخة في تاريخ السودان الحديث وكسلاح تشهره الجماهير عندما تنضج الظروف الموضوعية والذاتية لتغيير الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة التي تسومها سوء العذاب بمصادرة حقوقها وحرياتها الأساسية والحروب والفقر والمسغبة والدمار ، ونهب ثروات البلاد والتفريط في أراضيها وسيادتها الوطنية.
٣
ما يميز ثورة ديسمبر التي مازالت جذوتها متقدة، أنها واجهت تنظيما إسلامويا فاشيا بمليشياته الدموية سخر كل موارد وثروات البلاد لمصلحة وحماية أقلية طفيلية إسلاموية ضيقة ، وبذل جهدا كبيرا في أن يسد منابع الثورة باقتلاع المؤسسات الحديثة والخدمية والمشاريع الزراعية والحيوانية في المدن والريف ، فقام بتصفية وخصخصة السكة الحديد والنقل النهري والخطوط الجوية والبحرية ، والمصانع وقومية الخدمة المدنية والنظامية والتعليم ، ومشاريع الجزيرة والنيل الأبيض والأزرق والقاش وطوكر وجبال النوبا.الخ ، وحاول السيطرة علي النقابات تحت اسم نقابة المنشأة ودمجها في الحزب الحاكم كما فعل نظام النميري.
٤
كما فعل الاستعمار البريطاني عمق النظام سياسة ” فرق تسد ” باحياء عصبية القبيلة والتناحر القبلي والعنصري ، وسؤال القبيلة في الوثائق الرسمية ، والتمييز بسبب الدين، وقمع المرأة ، في محاولة يائسة لضرب وتدمير الوطنية السودانية وقيم التسامح الديني التي تبلورت قبل حوالي قرنين من الزمان، في المدن والمشاريع الحديثة ومؤسسات التعليم والخدمة المدنية والنظامية ، وأشعل نيران الكراهية والعنصرية ، ونيران حرب الابادة في الجنوب وجنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور ، وارتكب جرائم حرب أدت إلي أن يكون رموز النظام مطلوبين أمام المحكمة الجنائية الدولية. كما مارس النظام اسوأ أنواع القمع في تاريخ السودان الحديث من تشريد لأكثر من 350 ألف من الخدمة المدنية والنظامية ، إضافة لما تم تشريدهم بسبب الخصخصة وبيع أصول وممتلكات الدولة والقطاع العام.، كما مارس التعذيب الوحشي للمعارضين السياسيين والنقابيين بهدف كسر اراداتهم.
٥
قام النظام بالدعوات الكاذبة للحوار والحلول الجزئية ونقض العهود والمواثيق بهدف اطالة عمره، مما أدي لفصل الجنوب وإعادة إنتاج الحرب والأزمة بشكل أعمق من السابق.
قام بتفتيت الأحزاب وقوى المعارضة، باستخدام سياسة “سيف المعز وذهبه” ، واحتكار السلاح والإعلام والمال بضرب الرأسمالية الوطنية المنتجة ، بهدف إطالة عمره ، والإعلان غير الرسمي لحالة الطوارئ لمدة ثلاثين عاما.
كل هذا القمع المهول لم يحمى النظام ، ربما يكون قد أطال عمره ، لكن مقاومة شعب السودان لم تتوقف في الداخل و الخارج . استمر التراكم النضالي الذي فت من عضد النظام ، حتي انفجر في ثورة ديسمبر الحالية بعد أن نضجت ظروفها الموضوعية والذاتية.
٦
أكدت تطورات الأحداث أن الأوضاع بعد هذه الثورة واستمرارها لن تكون كما كانت في السابق ، وأن تحولا سياسيا واجتماعيا وفكريا بدأ يتخّلق، ارتفعت فيه رايات الوطنية السودانية ، وشعارات الديمقراطية وحكم القانون واستقلال القضاء ، وقيم التسامح واحترام المرأة ورفض التمييز ضدها، ودولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن الدين أو العرق أو الثقافة أو الجنس ، استنادا للتجربة المريرة التي عاشها شعب السودان الذي أدرك أن سر قوته في وحدته ، وسلمية وجماهيرية الثورة ، ولا بديل غير السير قدما حتي نجاح الفترة الانتقالية وتفكيك النظام الفاسد ومؤسساته القمعية والاقتصادية والإعلامية.
٧
هزت الثورة ساكن النظام وفشل القمع في اخماد نيرانها بما في ذلك حالة ومحاكم الطوارئ التي زادت نيران الغضب ضده ، واعادت للاذهان أيام الديكتاتور نميري الأخيرة التي أعلن فيها حالة ومحاكم الطوارئ بعد تطبيق قوانين سبتمبر 1983 بهدف وقف المقاومة الجماهيرية التي كانت متنامية ضده، لكن ذلك لم يعصم النظام من مصيره وسقط في انتفاضة ابريل 1985.
٨
واجه النظام حصارا من الراي العام المحلي والعالمي بسبب استخدامه للقمع المفرط بالضرب بالهراوات والغاز المسيل للدموع، واطلاق الرصاص الحي مما أدي لاستشهاد الكثيرين ، وجرح المئات ، واعتقال الآلاف ، والتعذيب الوحشي للمعتقلين حتي الاستشهاد ، واقتحام البيوت وحرقها ب” البمبان” ، وخرق الدستور بإعلان حالة ومحاكم الطوارئ والأحكام بالسجن والغرامة والجلد للمشاركين في المظاهرات والمواكب السلمية التي يكفلها الدستور.
إضافة لمجزرة فض الاعتصام البشعة التي فشلت في اخماد نيران الثورة ، بل زادتها اشتعالا واستمرار المطالبة بالقصاص ولجنة التحقيق الدولية المستقلة.
٩
استمرت الثورة بمختلف الأشكال من مليونيات ومظاهرات ووقفات احتجاجية وعرائض واضرابات.الخ ، رغم التسوية بعد التوقيع علي "الوثيقة الدستورية" التي كرّست هيمنة المكون العسكري وقننت دستوريا مليشيات الدعم السريع ، وابقت علي التحالفات العسكرية الخارجية التي زجت بالسودان في محور حرب اليمن واستمرار إرسال القوات لها، وابقت على القوانين المقيدة للحريات، وأعادت إنتاج السياسات الاقتصادية التي ابقت على استمرار التبعية لمؤسسات الرأسمالية العالمية من بنك وصندوق نقد دوليين، والخضوع لشروطهما في تخفيض العملة ورفع الدعم عن السلع ، والاعتماد علي العون الخارجي بديلا للتوجه للداخل ، والاسراع في استعادة الأموال المنهوبة ، وإصلاح النظام المصرفي، وعود شركات المؤتمر الوطني والجيش والدعم السريع من ذهب وغيرها للمالية. الخ.
١٠
كما رفض بعض أفراد القوات النظامية في الجيش والشرطة ضرب المواطنين العزل مما أدي لفصلهم من الخدمة، مما يتطلب مواصلة النضال لعودتهم مع المفصولين العسكريين من النظام الفاسد ، ورفض بعض القضاة العمل في محاكم الطوارئ التي نسفت أسس الاجراءات للمحاكم العادلة التي تكفل حق الدفاع والاستماع لشهود الدفاع..الخ، وغير ذلك من تفكك وتصدع بنية النظام القمعية وتنظيماته الفوقية.
١١
أكدت الثورة استمرار جذوة الثورات في المنطقة العربية ” الربيع العربي” ضد الأنظمة الفاسدة التي امتدت لتشمل شعوب اوربا وأمريكا ، وتزامنت مع ثورة شعب السودان ثورة الشعب الجزائري ضد العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة. كما وجدت تضامنا واسعا من شعوب العالم والأحزاب الشيوعية والعمالية والوطنية ومنظمات حقوق الإنسان، وبعض الدول التي استنكرت القمع الوحشي للمظاهرات السلمية وحالة الطوارئ وطالبت باحترام حقوق الانسان واطلاق سراح المعتقلين فورا.
١٢
طرحت الثورة قضايا مهمة تحتاج لمتابعة انجازها ومواصلة النضال من أجلها مثل :
– سياسة خارجية تقوم علي الاحترام والمنفعة المتبادلة وحسن الجوار والسيادة الوطنية ، وعدم الارتباط بالاحلاف العسكرية ، وسحب القوات السودانية من اليمن .
– استعادة أراضي وموانئ السودان مثل ” حلايب وشلاتين والفشقة ..الخ.
– استعادة أموال الشعب المنهوبة التي هربها الإسلامويون الفاسدون إلي دول مثل : ماليزيا التي تبلغ عشرات المليارات من الدولارات إضافة لقيمة الأصول في تلك الدول ، مما دمر اقتصاد البلاد وأوصلها للدرك السحيق الذي تعيشه الآن. إضافة لفتح ملفات صفقات تأجير وبيع ملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية التي بلغت مدة بعضها 99 عاما ، واستعادة اصول وممتلكات الدولة المنهوبة.
– الخروج من الحلقة المفرغة ” ديمقراطية – انقلاب- ديمقراطية..الخ ” ، وقيام نظام ديمقراطي راسخ ومستدام تتصارع فيه الطبقات والأحزاب ببرامجها المختلفة بحرية ، وحل مشاكل الديمقراطية بالمزيد من الديمقراطية ، وعدم إعادة إنتاج الأزمة بتسويات تبقي علي جوهر النظام السابق مع تعديلات شكلية في رأس النظام، ولابديل غير تفكيك النظام وإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات والترتيبات الأمنية لقومية القوات النظامية تحت إشراف الحكومة المدنية، وحل وتفكيك المليشيات ” دعم سريع ، الدفاع الشعبي، جيوش الحركات. الخ”.
– الترتيبات الأمنية والحل الشامل والعادل لقضايا مناطق الحروب بوقف الحرب ومحاسبة مجرميها ، وتسليم البشير والمطلوبين للجنايات الدولية، وعودة النازحين أراضيهم ومنازلهم وتعويضهم ، وعودة المستوطنين لمناطقهم والتنمية المتوازنة ، ودولة المواطنة التي تسع الجميع، وقيام المؤتمر الدستوري الذي يحدد شكل الحكم ، واعداد دستور ديمقراطي بمشاركة الجميع ، وقانون انتخابات ديمقراطي بمشاركة، يفتح الطريق لقيام انتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة الانتقالية تشارك فيها كل المناطق المتأثرة بالحروب ، وعدم الوقوع في خطأ التسرع في قيام انتخابات مبكرة تجاهلت مناطق الحروب ، كما حدث بعد ثورة أكتوبر1964 ، وانتفاضة أبريل 1985.
– قيام الخدمة المدنية علي أساس المهنية والكفاءة والشفافية ، لا علي محاصصات سياسية، تعيد إنتاج أساليب النظام الإسلاموي الفاسد .
١٣
وأخيرا ، فان ضمان نجاح الفترة الانتقالية رهين بترسيخ الاتي:
* الديمقراطية التي تستهدف انتشال الوطن من الانقاض والدمار الفظيع الذي تعرض له علي أساس الوطنية السودانية ، ودولة القانون واستقلال القضاء ، والقصاص للشهداء ومتابعة المفقودين ،وفصل السلطات التنفيذية – التشريعية – القضائية ، وحرية تكوين الأحزاب والنقابات والاتحادات والصحافة والتعبير والنشر. الخ.
* قيام دولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن الدين أو الثقافة أو العرق أو اللون أو الجنس.
*وقف الحرب بالحل العادل لقضايا مناطق الحروب الذي يخاطب جذور الأزمة
* وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية والتنمية المتوازنة بين أقاليم السودان.
* إعادة تأهيل المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية ودعم الصادر وتقوية الجنية السوداني ، وتوفير فرص العمل للعاطلين ، وجذب الكفاءات السودانية للمشاركة في تنمية ونهضة البلاد.
* التسوية العادلة بدون تسويف لأوضاع المفصولين تعسفيا.
* سياسة خارجية تقوم علي المنفعة المتبادلة والسيادة الوطنية وحسن الجوار.
*توفير حق ومجانية التعليم العام والعلاج والخدمات.
*قيام المؤتمر الدستوري ، وإجازة دستور ديمقراطي بمشاركة الجميع، والمحاسبة
* إعادة ممتلكات وثروات البلاد المنهوبة.
* المحاسبة وعدم الافلات من العقاب،.
* حل كل المليشيات وجيرش الحركات وقيام الجيش القومي المهني الموحد الذي يعمل تحت إشراف الحكومة المدنية.
*قانون انتخابات ديمقراطي لضمان انتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة الانتقالية.
alsirbabo@yahoo.co.uk
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الفترة الانتقالیة الخدمة المدنیة ثورة دیسمبر
إقرأ أيضاً:
سوريا الثورة وفلسطين.. الأسس والمحاذير
في بداية الانتصار العظيم والاستراتيجي للثورة السورية يوم 8 كانون الأول / ديسمبر 2024 انتشرت بسرعة مقولة "فرحانين، ولكن ..." وكانت تشمل طيفا واسعا ومتناقضا من المتبنين لها، وكانت فلسطين في أغلب الحالات من المسببات الرئيسية للتحفظ سواء ممن كانوا يعتقدون خطأ (أو يوهمون أنفسهم بذلك بكل وعي) بأن سوريا كانت حليفا للفلسطينيين أو ممن فاجأهم حجم الصمت الذي بادلت بها الإدارة الجديدة لسوريا الهجمة غير المسبوقة من جيش الكيان المحتل على مقدرات سوريا العسكرية وحتى أراضيها.
كنت من الرافضين قطعا لهذا التحفظ في البداية لأن حجم الزلزال الاستراتيجي الذي خلفه انتصار الثورة السورية كان حدثا على قدر من العظمة والهيبة والمفاجأة ما يجعل من هذا التحفظ عملية تفريغ خاطئة لشحنات أيديولوجية خاطئة على انتصار يضاهي، وقد يفوت في حجمه، زلزال السابع من أكتوبر في غزة.
فمثل هذا التحفظ غير المفهوم في الأيام الأولى لهذا النصر العظيم يفرغ هذا الانتصار العظيم والاستراتيجي للشعب السوري من معانيه وزخمه الروحي والعاطفي لأمة طال بها زمن القهر تحت نير الاستعمار الغاشم والاستبداد القاتل، وذلك بغض النظر عن الزاوية التي نقارب منها الصمت الذي كان في وقتها غريبا (والذي هو الآن أكثر من محير) للقيادة الجديدة تجاه الاعتداءات المتواصلة للآلة الحربية الصهيونية على الأراضي والسيادة السورية.
كان ما تم فقط من إخلاء السجون وتحرير الآلاف من السجناء (وبينهم عدد مهم من الفلسطينيين ومن العرب الذي سجنوا من اجل دعمهم لقضية فلسطين) يكفي لجعل هذا الانتصار كاملا بكل المقاييس.
كما لا يخفى على أحد أن النظام البعثي الأسدي لم يكن يوما حليفا حقيقيا لفلسطين وأهلها، وإنما كان حليفا موضوعيا للهيمنة الصهيونية التي سلمها مرتفعات الجولان على طبق من ذهب ودون إطلاق رصاصة واحدة، ولم يناكفها بأية رصاصة طوال أكثر من خمسين سنة من حكمه. كما أن رفضه للمشاركة في معركة طوفان الأقصى بالرغم من الإصرار الإيراني على ذلك هو الذي يفسر إلى حد بعيد سهولة نفض إيران يدها من هذا النظام بمجرد ظهور العلامات الأولى على تهاويه في زمن قياسي.
كان ما تم فقط من إخلاء السجون وتحرير الآلاف من السجناء (وبينهم عدد مهم من الفلسطينيين ومن العرب الذي سجنوا من اجل دعمهم لقضية فلسطين) يكفي لجعل هذا الانتصار كاملا بكل المقاييس. بل إن السخافة بلغت بهذا النظام الديكتاتوري العائلي الطائفي أن اختار اسم فلسطين لواحد من أبشع أفرعه الأمنية التي كانت مختصة بملاحقة الفلسطينيين والتنكيل بهم وبمن ساندهم من العرب، علما وأن "احتضانه" المؤقت لقيادة حماس كان تبعا لأوامر إيران وليس قرارا سياديا لحكم آل الأسد. ولتأكيد المؤكد كانت مجازر مخيم اليرموك بعد ثورة 2011 أكبر شاهد على حقيقة معاداة النظام البعثي الأسدي لفلسطين وقضيتها فقتل منهم الآلاف وشرد البقية مع إخوانهم من السوريين في سوريا وخارجها.
بل إن النظام البعثي الأسدي كان هو المقتل الذي ضرب منه محور المقاومة وفي مقدمتها حزب الله وإيران الذين كان مكشوفين للآلة الحربية والاستخباراتية الصهيونية في سوريا وتلقيا منها ضربات موجعة، علما وأن هذه الضربات لم تستهدف مسؤولين من النظام وإنما قيادات وكوادر ومقدرات المحور.
إذا توضحت لنا هذه المقدمات المهمة، فلا بد من التنصيص على مقدمة أخرى محورية وهي أن تحديات الوضع الجديد في سوريا هي على أقدار كبيرة جدا من التعقيد والتشابك التي لا تسمح بفسحة لإطلاق الخلاصات السهلة أو النظرية أو المغامرة برسم سيناريوهات مستقبلية دقيقة.
فعملية تثبيت الانتصار وتحديد الأولويات والعمل عليها والبحث في أفضل السبل لتنزيلها لن تكون سهلة بالمرة في ظل مركب فريد من التحديات والتدخلات (سياسات الابتزاز الاستعماري الغربي باستعمال سلاح العقوبات وفزاعات الأقلية والمسخ الثقافي عبر القضايا الجاهزة حول المرأة والحريات الشخصية، تحديات الإرهاب الداخلي المتمثل في تنظيم الدولة والانفصالية الكردية ذات الأجندة الخارجية وحتى الصهيونية المعلومة للجميع، الاستفزازات العسكرية الصهيونية، الانشطار الداخلي على خلفيات طائفية ودينية وعرقية وحتى جهوية ومصلحية في ظل غياب كامل لأية تجربة سياسية في التعايش والتداول، الوضع الاقتصادي الكارثي، تحديات عودة أكثر من 11 مليون لاجئ سوري إلى بلادهم، الخ).
وعليه، فإن مطالبة القيادة الجديدة لسوريا بموقف "حربي" من الاعتداءات الإسرائيلية المتعاظمة يعد قفزا عن الواقع المعقد الذي رسمنا بعض ملامحه آنفا والحال أنها لا تزال تعاني من متابعة فلول النظام المسلحين الذين يمكن توظيفهم بسهولة من قبل عديد الجهات التي لا يساعدها أن يتحول الزلزال السوري بإسقاط النظام البعثي الأسدي إلى قصة نجاح تملك سوريا كل مقوماته البشرية والجغرافية والاستراتيجية.
إلا أن ذلك لا يمنع من استخلاص مفاده أن الموقف الذي عبرت عنه القيادة الجديدة لسوريا بشأن الاستفزازات الصهيونية هو أحد أكبر نقاط ضعفها، بالنظر إلى أن آداءها في بقية الملفات الأخرى يعد بمقاييس موضوعية (الزمن، الظروف المعقدة، الخ) يعد مفاجأة إيجابية جدا وتعبيرا عن نضج كبير في مقاربة الانتصار العظيم بعقل هادئ ورصين وهو ما اعترف به الصديق قبل العدو.
فكما إنه لم يكن مطلوبا من الحكومة الانتقالية في سوريا ولا قيادتها العسكرية أن تستجيب بشكل غير محسوب للاستفزازات الإسرائيلية (التي تهدف إلى إرباك المشهد السوري الجديد واستغلال فرص من قبل المحتل الذي غرق في عجزه عن استغلال انتصاراته التكتيكية وفشل في تحقيق أي انتصار استراتيجي منذ بداية طوفان الأقصى)، ولكن كان لا مفر من التعبير عن موقف سياسي قوي ومباشر ضد هذه العربدة الصهيونية، وخاصة وضع الفاعلين الدوليين أمام مسؤولياتهم، والخروج إلى الناس (الشعب السوري أولا ثم بقية شعوب الأمة وأحرار العالم) والرد على سفاهات نتنياهو وعربدة جيشه المجرم.
فاستمرار هذه العربدة إلى حد الآن مع التزام القيادة الجديدة (التي لا تعوزها الكفاءة السياسية ولا الخطابية الاتصالية) بصمت غريب جعلت نفوس ملايين الأحرار من سوريا وخارجها تنقبض ولا تطيق أحيانا الاستمرار في متابعة أخبار سوريا وهي تطالعنا ببلوغ هذه الاستفزازات حدا مقززا عبر التوغلات التي التهمت مساحات واسعة والضربات الجوية التي لا تكاد تنقطع وإطلاق الرصاص على المواطنين السوريين في البلدات الحدودية والاستهداف الجوي الواسع والمركز لمقدرات الشعب السوري العسكرية وحتى البحثية والعلمية.
ذلك أن المقاربة الشاملة المتوازنة التي لا تعيد إنتاج التناقضات الوهمية التي يؤسس عليها المستبدون خذلانهم لقضية فلسطين هي التي تفرض على حكام دمشق الجدد أن يكون لهم موقف أوضح وأقوى. فضرورات الاستقرار وتصفية التركة الأسدية وإعادة الحياة لبلد كان شبه ميت وإعادة رسم العلاقات العربية والدولية لسوريا لا يبرر كل هذا الصمت وهذا القبول بما يفعله الصهاينة دون رادع.
بل إني من الذين يعتبرون أن القيادة الجديدة لسوريا لها ورقة رابحة كبرى أمام المجتمع السياسي الدولي بكل ما يكتنفه من نفاق وازدواجيات لا تحصى ولا تعد، وهي تحذيرهم بأن مصلحة الجميع (وهو ما يقر به الجميع بدون استثناء وما قد يكون بالرغم من كل شيء حقيقة من الصعب القفز عليها) في سوريا جديدة مستقرة لا يمكن أن يترافق مع هذا الكم من العدوان الجارف من قبل الآلة الحربية الصهيونية.
كما إنني أعتقد جازما أن هذا الموقف القوي الواضح هو أحد أكبر انتظارات شعبنا الذي يذبح في غزة وعموم فلسطين، مما سيشعرهم بأن سوريا التي قد لا يسمح لها وضعها الجديد بأن تكون فاعلا مباشرا في الأحداث تقدم لهم ضمانات بانها ستكون بشعبها المحرر وديمقراطيتها الحقة (التي لا تؤسس على محاصصات مناطقية ولا طائفية ولا عرقية ولا على دروس الغرب المعادي في ممارسته لأسس الحرية والديمقراطية وسيادة الشعوب واحترام الخصوصيات الثقافية والتاريخية لهذه الشعوب) سندا حقيقيا على المستوى الاستراتيجي للحق الفلسطيني في التحرر والتحرير والعودة.
لقد أخطأ النظامان البعثيان (الصدامي والأسدي) وقبلهما النظام الناصري خطأ قاتلا في الاستبداد بشعوبهما بحجة المقاومة ونصرة فلسطين، ولا يجب أن يخطئ الحكام الجدد لدمشق في أن يتصوروا أن سلامتهم تمر عبر مهادنة الكيان المحتل وداعميه بشكل مخل وعبر التنازلات التي قد لا تتوفر بعد ذلك الفرصة للتراجع عنها. فهذا الصمت المتواصل إلا من بعض التصريحات اليتيمة هنا وهناك وعموما خلف الأبواب المؤصدة هو خطأ استراتيجي فادح على أكثر من صعيد سيزيد من عربدة الصهاينة ومن طمع داعميهم في إلحاق سوريا الجديدة المسالمة (أكثر من اللازم) بقطار التطبيع أو على الأقل الصمت والخذلان.
فأما من أرادت القيادة الجديدة تحييده بهذا الصمت، فإنه سيزداد طمعا في مزيد ابتزازها في هذا الملف وغيره وصولا إلى تحييدها موضوعيا عن هموم أمتها وفي مقدمتها الظلم التاريخي غير المسبوق الذي جعل من غزة أرضا لأكبر مقتلة وحشية في التاريخ.
كما أن هذا الصمت يخدم الدعاية السخيفة للمؤامرة الصهيو ـ أمريكية التي أسقطت النظام "الممانع" لبشار الأسد، بالرغم من الحجج الدامغة على كونه وأبيه خائنان من الصنف الأول لفلسطين وقضيتها وشعبها.
وأخيرا، فإن هذا الصمت قد يؤسس لا قدر الله لفشل التأسيس الجديد لدولة منخرطة في هموم أمتها بحجة إرضاء الجميع، وهو الأمر الذي حكم على الانتقالات الثورية في تونس ومصر على وجه الخصوص بالفشل الذريع لأن من تريد إرضاءه سيظل يتعامل معك بشعار (لو خرجت من جلدك لما عرفتك) إلى أن يتمكن من تدجينك تماما وصولا إلى الانقلاب عليك عند أول فرصة سانحة.
إن هذا التأسيس المنشود لن ينجح إذا كانت غايته القصوى تأسيس تجربة قطرية معزولة عن القضايا الكبرى والمصيرية لأمتنا العربية والإسلامية.
لقد أخطأ النظامان البعثيان (الصدامي والأسدي) وقبلهما النظام الناصري خطأ قاتلا في الاستبداد بشعوبهما بحجة المقاومة ونصرة فلسطين، ولا يجب أن يخطئ الحكام الجدد لدمشق في أن يتصوروا أن سلامتهم تمر عبر مهادنة الكيان المحتل وداعميه بشكل مخل وعبر التنازلات التي قد لا تتوفر بعد ذلك الفرصة للتراجع عنها.
فالشعوب الحرة حقا (ضمن مفهوم المواطنة الحقيقية التي لا تعترف بالمحاصصات أيا كانت) والديمقراطية بحق هي المعول عليها حقا في أن تنصر فلسطين وقضيتها، وعلى هذا تعقد كل الآمال في أن تكون الثورة السورية هي الفقرة الأولى في هذا التأسيس التحرري الحقيقي الذي لا تعفيه ضرورات معالجة الواقع القريب بكل صعوباته وتحدياته المعقدة من ترك البوصلة موجهة نحو القضايا الكبرى والحاسمة وفي مقدمتها وعلى راسها فلسطين.
*كاتب وسياسي تونسي مقيم في جينيف