صحيفة الاتحاد:
2025-01-03@00:53:49 GMT

رؤية لترجمة الآداب المكتوبة بالألمانية

تاريخ النشر: 17th, August 2023 GMT

كمال عبد الحميد

أخبار ذات صلة فائزون بـ«تحدي القراءة» في مصر: الإمارات أهدتنا الفرح والمعرفة الأدب.. وتحديات المناخ

الترجمة؛ ترجمة الأدب تحديداً، طالما كانت وستظل موضوعاً للجدل، وما بين قول إيطالي شائع بخيانة المترجم، وقولٌ آخر باستحالة وجود لـ «الترجمة النهائية المطلقة»، تظل الترجمة في جوهرها عملية إبداعية تتطلب جهداً ووعياً وثقافة وحساسية بالغة، إذ إن الوصول إلى روح النص المستهدف يتطلب حسب المترجمة الشابة آية عبد الحكيم: (أرفع ما يمكن أن يبلغه المترجم، لا سيما مترجم الآداب، أن يكون على دراية واسعة وعميقة بفيلولوجيا هذه اللغة، وتاريخ تطورها، والآلية التي تتطور بها).


في حديثها إلى (الاتحاد الثقافي) تسرد آية عبد الحكيم جوانب من تجربتها مع الترجمة ومشروعها لبناء صورة حقيقية منصفة للآداب المكتوبة باللغة الألمانية، وتسليط الضوء على الأدب النمساوي تحديدًا، إضافة إلى رؤيتها وعلاقتها الخاصة والمتفردة مع اللغة الألمانية وجمالياتها.
بداية تضيء آية عبد الحكيم على نشأتها والإشارات الأولى الدالة على شغفها، تقول: أنا من مواليد القاهرة. بدأ شغفي بالقراءة والمطالعة منذ سن مبكرة؛ حيث كانت الرغبة في تقليد  الجَدّ وهو يقرأ الجريدة. بعدها التهمت مكتبة أبي، ما سمح لي بقراءته وما منعني منه وكنت أقرأه سرًا، لاعتقاده بأنه ليس مناسبًا بعد. إن ألذ وأمتع ما قرأت في أثناء هذه الفترة الكتبُ التي مُنعت منها. وفي سن الخامسة عشرة عثرت على الكوميديا الإلهية لـ«دانتِه» (هكذا تفضل آية أن تكتبه بدلاً عن الترجمة الشائعة «دانتي»)، والتي كانت حافزًا عظيمًا لتعلُّم الإيطالية والرغبة في الترجمة. أما بخصوص الدراسة فقد التحقت بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية بالإسكندرية، ولم أستطع استكمال فصل دراسي واحد؛ وجدت أنني سأضيع وقتًا كبيرًا من دون استفادة حقيقية لأسباب ترجع إلى المنهجية والمادة المدروسة. وحولت مسار دراستي إلى علوم اللغة الألمانية وآدابها بكلية الألسن؛ نظرًا لأني  أنهيت الثانوية وقد تعلمت الإيطالية والألمانية وبعضًا من الإسبانية والإنجليزية طبعًا. كنت على دراية بأن اللغات عوالم غامضة مغرية أحب الطرق على أبوابها كي أقوض جهلي بأكثر الطرق عذوبة، لا سيما عندما يكون باللغة الألمانية. أما عن الترجمات التي أنجزتها فالأولى نوڤيلا «الموت في البندقية» لتوماس مان ثم «الهروب بلا نهاية» للنمساوي يوزِف روت، بعدها رواية «أيوب» لنفس الأديب، تلاها روايتان قصيرتان لصديقه تسڤايج. ويعد روت أحد أهم مكونات مشروعي الترجمي المرتكز على  بناء صورة حقيقة منصفة للآداب المكتوبة باللغة الألمانية، وتسليط الضوء على الأدب النمساوي تحديدًا، فبجانب إعدادي لترجمة «مارش راديتسكي» و«مدفن الكبوشيين»، أترجم حاليًا روايتين قصيرتين للنمساوي آرتور شنيتسلَر. وتظل ترجمة توماس مان، بخاصة الجبل السحري، مشروعًا قائمًا ومراوغًا طوال الوقت، لكنه يحتاج مزيدًا من الاستقرار لإتمامه كما يليق به. 

شرارة البدء
تنتقل آية عبد الحكيم إلى الحديث عن علاقتها باللغة الألمانية، وترجماتها عنها حتى الآن، ولماذا اختارت أعمالاً من دون غيرها، وما هي الشروط الواجب توافرها في أي عمل تتصدى لترجمته، وعلاقتها بالنص قبل الترجمة، تجيب: عنادي سيد تجربتي مع الألمانية. لقد ظلمتها البروباجندا ظلمًا أضخم من صعوبتها. أردت تعلمها تنكيلًا بغموضها وعصيانها لكن ما حدث كان أنني همتُ بها. بدأ الأمر من «الساعات» لـ «ريلكه». أردت قراءة هذه الأشعار بلغتها. لكن شرارة البدء الحقيقية كانت من هكذا تكلَّم زارادشت، بالتحديد نشيدا الليل والرقص اللذان دفعاني إلى البدء، فلو أردت شكر نيتشه لن يكون لأنه ثَقَف في عقلي شيئًا بل لأنه ألقى بي في هذه اللغة حيث الأصالة والأريحية مع حركة التاريخ في آن واحد، فضلًا عن الرقة والشاعرية والدقة والوضوح الناجم من العمق. هذه الحماسة وهذا العناد هما قطبا اختياري للنصوص، بحيث لا بد وأن يحتوي النص على جماليات هذه اللغة والأسلوب ومكابدته للفناء: توجد نصوص ضد الفناء ولا يكون البشر هم جمهورها الحقيقي، بل يلعب الزمن هذا الدور الفارق. على سبيل المثال أول ما ترجمت كما ذكرت كانت نوڤيلّا «الموت في البندقية» لتوماس مان. والجدير بالذكر أنها الترجمة الخامسة للرواية نفسها، والآن أعد مخطوطة جديدة لها، منقحة بعد سنوات النضج من العمل في الترجمة، هذا الشغف لم يجِئ إلا من تفرد النص في تناول موضوعه بهذه اللغة. في سياق متصل جاء اختياري للـ «الهروب بلا نهاية». لدينا في الأدب العالمي المكتوب عقب الحرب العالمية الأولى روايتان شهيرتان: واحدة فرنسية للفذ سيلين «رحلة إلى آخر الليل» وهي سبب شروعي في تعلم الفرنسية نظرًا لرداءة الترجمات حتى ترجمها عاصم عبد ربه، والثانية ألمانية «كل شيء هاديء في الجبهة الغربية» لريمارك. ربما تتفوق رواية روت على هاتين الروايتين في عمق التحليل بصورة مكثفة ليست صعبة وممتعة، الرواية تقول باختصار إنني يمكنني سرد التاريخ بأدق تفاصيله بتتبع أحداث وجود شخصية واحدة بلغة بسيطة وشديدة الدقة. هذه السمة رئيسة في أدبه، لعلَّ ذلك نابع من كونه درس علوم اللغة الألمانية وآدابها كذلك. لقد تجلَّت بوضوح شديد في رواية «أيوب» التي على وشك الصدور لأول مرة باللغة العربية عن دار ميتافورا للنشر؛ إذ أعاد حكاية يومية تكاد تغيب من فرط وجودها للحياة، حكاية قديمة جدًا كما هو ظاهر من عنوانها التراثي «أيوب» وأكسبهما «الحكاية إلى جانب اللغة نفسها» بعدًا جديدًا سوف يغير نظرة القاريء العربي عن الأدب الألماني برمته.  

ضوء جديد
من يقرأ ترجمات آية عبد الحكيم يكتشف أن ثمة علاقة خاصة وعميقة بينها وبين  مكونات المفردات وتراكيبها ودلالاتها، وربما يندر في جيل الشباب أن يكون لدى المترجم هذا الحرص البالغ على الغوص خلف المفردات، لذلك سألتها عن رؤيتها لعلاقة المترجم باللغة التي يترجم عنها، عمَّا تعنيه الترجمة لها، عن النظرة التقليدية للمترجم، عن القول بالخيانة.
تجيب آيه عبد الحكيم: علاقة المترجم باللغة التي يترجم عنها، أي لغة، ينبغي في رأيي أن تكون مؤسسة ليس على الاتقان وحسب، وليس أيضًا على ديمومة الفهم المتعمق لهذه اللغة ومنطقها وطريقة رؤيتها للعالم والأشياء بدءاً من النغمات الصوتية وحتى المضامين والتصورات الفكرية المعبرة عنها في صورة كلمة أو مفردة فقط، لأن أرفع ما يمكن أن يبلغه المترجم، لا سيما مترجم الآداب، أن يكون على دراية واسعة وعميقة بفيلولوجيا هذه اللغة، وتاريخ تطورها، والآلية التي تتطور بها، هذا مما لا ريب فيه من خلال القراءة المتخصصة وغير المتخصصة من قصص وروايات وشعر إلخ.. لأن تمكُّنه مما سبق، جميعًا، إلى جانب تمكنٍ مماثل للغته الأم، يجعلا من العلاقة بينهما علاقة صحية ونبيلة وحيوية غير آلية أو صنمية، الأمر يستغرق وقتًا وجهدًا عظيمًا يتخلله ربما عشرات الصفحات في تحليل جملة أو مفردة واستنطاقها كي تفرغ لنا ما في جبتها كله، كيلا تكون منزعجة أو متوارية أو غامضة في جسدها اللغوي الجديد، أقصد في مرادفها في اللغة الهدف. يمكننا القول إن هذا جزء مما تعنيه الترجمة لي. 
تضيف آية: ذلك فضلًا عن كون الترجمة عملية بحث وتنقيب ومفاضلات ومقارنات وتنقية تتم من خلال القراءة أولًا لاختيار النص، ثم تأتي بعد ذلك هذه الرحلة التي نضفي فيها عليه مصدر ضوء جديد؛ فالترجمة من وجهة نظري عمل فني يوازي العمل الفني الأصلي أيً كان جنسه. هي فن الحركة، الحركة كما أفهمها ألمانيًا بكلمة «Bewegung»؛ إذ جمعت هذه المفردة دلالة التحرك الفيزيقي وكذا التحرك الوجداني، حيث أن كل نص يظل محليًا حتى يُترجم، أو إلى أن يتقن جميع البشر اللغة المكتوب بها وهذا مما لا يمكن وجوده. ويؤسفني قول إننا لم نكون أية نظرة بعد، بصورة حقيقية، حتى تكون هناك نظرة تقليدية له وأخرى أكثر نضجًا وتثقُّفًا. لكن على أية حال.. ما زال ينظر إلى المترجم بصفته ذلك الشخص الذي يخلو عمله من الاقتراب من المثالية أو الإتقان، المترجمون خائنون كما يقول الإيطاليون؛ غير أن واحدًا من أولئك الطليان كتب كتابًا في الترجمة أعده من أعظم ما كتب في الموضوع، ولن أعرض لأفكاره هنا بل سأكتفي بعنوان الكتاب الدقيق والعظيم، قال: Dire quasi la stessa cosa أي قول نفس الشيء تقريبًا: هذه ال «تقريبًا» نقضت كل تصور تقليدي عن الترجمة والمترجم، تلك الخيانة هي المساحة التي تتمسك فيها كل ثقافة بتفردها وتأبى أن تصير عالمية، وهذا أمر محمود، ومنه يتجلَّى مكون من جوهر الترجمة، إذ إنها في المقام الأول عمل اجتماعي يحاول تقويض السياج وخلق مساحات رحبة للانفتاحٍ على الآخر، وأحب أن أردف: تقريبًا! هذه الأخيرة يتناقص اتساعها بما نثري الترجمة به من هوامش ضرورية وحواش ومقدمات أو تعليقات، وبالمناسبة أود أن أبيَّن أهمية مقدمات النصوص المترجمة، وإنها ليست تأويلًا أو وجهة نظر كاتبها عن العمل، إن تأويل النصوص لا يمكن أن تتسع له مقدمة أو يفعل تعليق، إنها مجرد مداخل لتمهيد أراضٍ يجهل بها القاريء، في معظم الأحيان، كليةً. 

تحديات وطموحات 
في إجابتها عن سؤال حول واقع الترجمة في مصر تحديداً، والظروف والتحديات التي يواجهها المترجمون الشباب، تقول آية عبد الحكيم إن رؤيتها لحركة الترجمة الأدبية في مصر حاليًا تحاول أن تكون متفائلة أكثر مما هي عليه.. مضيفة: إن الجهد والإخلاص المبذول من قبل المترجمين الشباب، نحتاج  أضعافه كي نتجاوز ركام المعرفة المتوهمة عن الآخر، وكذا لنتجاوز أصنامًا اكتسبت صنميتها من عدم معرفة. ويبدو أنني اخترت البدء بهذا التحدي نظرًا لكونه أثقلها. دعني أخبرك إن بعض القراء مصابون بما أحب تسميته بـ «معرفة مونتالِه» نسبة إلى الشاعر الإيطالي أوجّينو مونتالِه وقصته الشهيرة المتعلقة بكتابته واحدة من أمتع قصائده عن نوع من الورود يصادفه أثناء تمشية فيدهشه جماله ويمدحه كأنه يراه لأول مرة، وقد دهشت السيدة التي كانت معه من تصرفه، لأنه كتب بالفعل قصيدة جميلة عن هذا النوع بالتحديد من الورود، فردَّ عليها بأن قصائده، إذن، كانت عن الكلمات لا عن الأشياء! أود قول إننا في الواقع لم نقرأ شيئًا كثيراً بعد مما أنتجته الأمم الأخرى: مُتَرجمًا. يرجع ذلك لأسباب عديدة منها الحذف. فالحذف في الترجمات قضية أكبر وأعمق مما تبدو عليه؛  إن السلطة التي مارسها بعض مترجمينا السابقين، وكذا الداخلون في عملية الترجمة، على النصوص بالحذف والتبديل، تكاد تفوق سلطة كل المحررين الأدبيين في تهذيب النصوص، مع مراعاة الفارق والآلية، فالأول قد يحذف من النص كي يصبح أجمل، أما ما فعله بعض مترجمينا كان مشوِّهًا للغاية. إن ما يعجبني في جيلنا، وبعض الجيل السابق علينا، أننا ندرك، معظمنا، بوضوح ما تمَّ فعله ونعمل على إصلاحه قدر إمكاننا وإمكاناتنا.. لا سيما ما أراه في اللغة الروسية والإسبانية مؤخرًا وكذا الألمانية والإيطالية، على أمل أن تتسع الدائرة لتشمل لغات مثل الهنجارية والهولندية إلخ. أما عن التحديات الخاصة بالمقابل المادي فليس بخفي أن أجور الترجمة الأدبية متهالكة، لا يوجد مترجم قادر على التفرغ التام والإخلاص الصميم للترجمة، ذلك راجع بصورة أساسية إلى ما يمر به نظام عالمنا الاقتصادي من توعك، الأمر الذي تحترف بعض دور النشر استغلاله لصالحها، والاستثناء كما تعلمون غير نافٍ للقاعدة.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الترجمة الأدب الألماني هذه اللغة

إقرأ أيضاً:

استعراض لترجمة رواية ساماهاني (SAMAHANI) للروائي عبد العزيز بركة ساكن

ترجمة ميادة إبراهيم وعادل بابكر
بقلم : عمر محمد الأمين الوادي شعيري

تمهيد
صدرت رواية ساماهاني [وهي مفردة سواحيلية تعني "سامحني"] للروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن باللغة العربية في طبعتها الأولى عام 2017 من دار مسيكلياني للنشر والتوزيع في تونس العاصمة، وصدرت ترجمتها الإنجليزية في عام 2024م من فوندري إيديشنز (FOUNDRY EDITIONS) في المملكة المتحدة، بترجمة ميادة إبراهيم وعادل بابكر.
وقد حصلت الترجمة الإنجليزية على جائزتين، جائزة (ENGLISH PEN AWARD)، وجائزة باوباب (BaoBaB) الأفريقية.
غلاف طبعة الترجمة الإنجليزية من إعداد هيلين مارشال، ويهدف تصميم الأنماط الموجودة على أغلفة منشــورات فوندري إيديشنز (FOUNDRY EDITIONS)، والتي هي مستوحاة من صور البحر في اللوحات الإسلامية المصغرة، لتوثيق الإرث البصري للبحر الأبيض المتوسط.
مدخل
جاءت الرواية في 222 صفحة من القطع المتوسط، وقد ضمت الصفحة الداخلية للغلاف ترجمة موجزة لكلٍ من الروائي عبد العزيز بركة ساكن والمترجمين.
• يعد عبد العزيز بركة ساكن المولود عام 1963 في مدينة كسلا بشرق السودان من أبرز أدباء السودان، وهو يعيش الآن في دولة النمسا، حيث أرغمه النظام العسكري الإسلامي في الخرطوم على الهجرة من بلده، كما أن معظم أعماله الرئيسة محظورة في وطنه، ومع ذلك يتم تداول كتبه سراً وتوزيعها عبر الإنترنت بين القراء السودانيين من جميع الأجيال.
 وقد فازت روايته "الجنغو: مسامير الأرض" بجائزة الطيب صالح الإبداع الروائي في عام 2009م، كما فازت ترجمتها الفرنسية بجائزة الأدب العربي (Prix de la literature) 2020 التي يقدمها معهد العالم العربي.
 كما حققت ترجمة رواية “ساماهاني” إلى اللغة الإنجليزية جائزتين، كانت الأولى جائزة (ENGLISH PEN AWARD)، وكانت الثانية جائزة باوباب (BaoBaB) الأفريقية..
اختير الكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن كاتباً لمدينة "غراتس" النمساوية، وهي منحةٌ من أجل التفرغ للكتابة لعامٍ كاملٍ والمشاركة في الفعاليات الثقافية بالمدينة.
• ميادة إبراهيم مترجمة أدبية مقيمة في كوينز بنيويورك ولها جذور في الخرطوم ولندن، وهي تترجم بين العربية والإنجليزية. تم ترشيح ترجماتها لجائزة بشكارت Pushcart ونشرت في عدد من دور النشر من بينها ويلوز هاووس Willows House في جنوب السودان، وآرشبيلاغو بوكس وArchipelago books، وDolce Stil Criollo، و128 Lit. وهي تعمل مديرة التحرير في دار تيلتيد آكسيس برس Tilted Axis Press.
• عادل بابكر مترجم سوداني من وإلى اللغتين الإنجليزية والعربية، يعيش في أبو ظبي، وله عدد من المؤلفات والتراجم منها "منسي: رجل نادر على طريقته" للطيب صالح (بانيبال بوكس، 2020)، و"مختارات من الشعر السوداني الحديث: " (جامعة نبراسكا، 2019)، وكتاب "The Beauty Hunters: Modern Sudanese Poetry, Evolution and Impact" (مطبعة جامعة نبراسكا، 2023) والعديد من الروايات والقصص القصيرة لكتاب سودانيين مشهورين.
متن الرواية:
يقول الروائي (نصٌ مفتوحٌ على التاريخ، دون أن يحاكيه، يستلهم منه.... وزمانه ذاكرة الاستبداد التي لم يوصد بابها بعد....) مسرح الأحداث جزيرة زنجبار والبر الأفريقي المقابل لها والمعروف حاليا بسواحل تنزانيا وكينيا.
التساؤل (من يملك من؟ من أين جاءت الحريّة إلى أفريقيا؟ وهل وصلت فعلاً؟ وهل كانت هدية على طبقٍ بمدافع بريطانية وفرنسية وألمانية؟ أم ثورةٌ وثمرةُ نضالٍ لأرواحٍ كابدت الشقاء وأنهكها التعذيب؟ حتى تاقت نفوسها للانعتاق؟
ساماهاني إبداءُ أسفٍ وطلبٌ بعد أن نكتب السؤال الأخير لماذا الآن؟).
جاءت الروايّة في 25 فصلا، أدرج الروائي في بداية الرواية اقتباسات استهلالية:
• استهلها بإيراد المثل السواحيلي: "المُحب ليس له وازع"،
• ثم وصيّة الحكيم الفولاني شيرنو بكار لتلميذه آمادو همباتي با: "يجب أن يُقاوم الشرُ بقوة الخير والحب، عندما يدمر الحب الشر، يقتله إلى الأبد. أمّا القوة فلا تستطيع أن تدفن الشر إلا بصورة مؤقتة، لأنّ الشر بذرة عنيدة، حالما تُدفن تنمو في السر، وتظهر مرة أخرى وهي أكثر بشاعة"،
 القول المأثور عن سيدنا عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟"
• ثم أورد في نهاية الرواية قول كارل ماركس: "في التاريخ، كما في الطبيعة، التعفّن مخبر الحياة"،
وكم تمنيّت لو أن االروائي قد أورد الحديث القدسي:" يقول - صلى الله عليه وسلم-: (قالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولَمْ يُعْطِ أجْرَهُ).
تجري أحداث الرواية بأسلوب استرجاع الحوادث والوقائع مع إمساك الروائي بالخيط الناظم لها جميعاً ليدير المشاهد بصورة تصاعدية صوب النهاية التي خطط لها، وكان الخيط الناظم لها جميعاً هو توق كل إنسان فردٍ لنيل حريته الشخصية بالنسبة للمسترقين منهم برغم تعدد الشخصيات وتنوع أنواع الأسر والاستعباد الواقع عليها، علاوة على تحرر القبيلة وطرد الشر من أرضها! إن التطلع والتشوف للحريّة الفردية وللجماعة والقبيلة تتدافع وتتشابك وتتداخل مع الانفعالات الذاتية من رغبة في الانتقام وفي الثأر والغضب وحتى السعي لتحقيق مرامٍ ذاتية عند البعض!، وقد تصطدم كل هذه الكثافة الانفعالية مع الحكمة المتراكمة الموروثة والحنكة عند أفراد القبيلة وزعمائها وحكمائها وكبار السن فيها فهم الملاذ والملجأ بحكم الحنكة والتجربة والقائمين على الجانب الروحي فيها، أكان ذلك، كريم معتقدات، أو ديانات ربانية قدمت مع الدخلاء عربا كانوا أم أوربيين.
هذا التنازع والتضاد والتعارض بين الانفعالات الشخصية والحكمة والموضوعية قد يؤدي أحيانا لاشتباكها، وعندما ينتصر الشر الذي في قلب الإنسان أو يجري تغليب الانفعال الذاتي على موروث الحكمة في محاربة الشر في ذات الإنسان والدعوة للخير تنطلق صيحة "ساماهاني" إبداء لأسفٍ أو اعتذار!!!
استخدم المؤلف الاستهزاء والتهكم والسخرية اللاذعة والتصوير الكاريكاتيري لرسم المشاهد أياً كان مسرحها، داخل قصور السلطان أو في السوق أو في داخل الغابة أوفي مجتمع القبيلة، مع استدعاء المسترق ليس فقط من وضع التهميش الذي وضع فيه، ولكن أيضاً من حال الفرز والإقصاء الاجتماعي ووضعه في قلب الحدث واستعادة صوته (مثل استرداد سندس لصوته، وهو الذي خرس وفقد صوته بعد خضوعه لعملية الإخصاء لتأهيله كخادم مرافق للأميرة!! مثله مثل والده والذي أُخصي هو الآخر لإعداده كخادم مرافق للسلطان، ولم يستعد سندس صوته إلا حينما دخل شباب القبيلة [وكان قد رتب لهم ذلك] داخل القصر بعد أن اقتحموا مستودع الأسلحة وأخذوا البنادق والذخيرة استعداداً للثورة! حينها فقط استعاد سندس صوته وتكلم فجأة بعد صدمة استمرت أكثر من عشر سنوات: "أنا سأذهب معكم، وسأخذ الأميرة أيضاً معي، انتظروني لحظة".).
ثم نجد المغنية أوهورو (تعني الحريّة، لاحظ الإيحاء في الاسم) هي الوطنية الوحيدة التي ليس لها ارتباط فعلي بالمؤسسة .... حرة مثل الريح، وطليقة كطيور النورس التي تملأ أفق المحيط بالرفرفة. ولأنها وصفت نفسها وتصرفت كساحرة وابنة للشيطان ما استطاع أحد من النخاسين أو البحارة السكارى أو الشهوانيين الوصول إليها فهي كما الحريّة متمردة وعصيّة على الأسر ولكن عندما طرق كهفها المسجونون بقيادة مطيّع العبد المخصي استقبلتهم ومدت يدها لهم!! وهي التي كانت تردد في السوق دائما ترانيم وتغريدة الثورة والغد الآتي:
"أنا الساحرة ابنة الشيطان
من يقترب مني هلك
جئت من الجحيم وإليه سأعود"
"علينا أن نصبح أمة
شعبا حرا طليقاً كما كنا منذ أن خلقنا الرب،
وهذا طريقٌ طويل، ولكن كل الطرق الطويلة تبدأ بالمشيئة،
بالإصرار....
وعندما تضع رجلك على الدرب فقد وصلت
فالحر سيد نفسه".
فهذا نشيد وطني بامتياز ويدعو للثورة ليكون الفرد سيد نفسه وأن نصبح أمة!!
وبانتقال هذه الجماعة من وضع الفرز الاجتماعي والإقصاء الذي وُضِعتْ فيه إلى بؤرة صُنع الحدث والبطولة اصطحبت معها ثقافتها وأعرافها وتقاليدها وقيّمها، ولهذا حفلت الملحمة بالكثير من الأقوال المأثورة والحكم المقتبسة من واقع حياة المجتمع والقبلية، علاوة على الخرافات والسحر والتعاويذ، فنجد أن زعيم القبيلة والساحر والأعمى يستخدمون الحكمة والأقوال المأثورة في حججهم وحجاجهم مع الشباب ومحاولة تغليب صوت العقل وتجنب الاندفاع والانفعالات مع التذكير بأعراف القبيلة وقيمها ككابحٍ ضابطٍ للتصرف ولردع السلوك الطائش، فمثلاً من أقوال زعيم القرية:
• "إذا عملت عمل الشيطان فستصبح شيطاناً، إنك لا تجفف النهر انتقاماً من تمساح ابتلع والدك".
ومع أنه كان يدير عملية التحضير للثورة بل رتب للهجوم على مخزن السلاح في الجزيرة بترتيب مع (سندس) إلا أنه ضد الاندفاع والانفلات الطائش، فيقول بثقة تامة:
• "أقول لكم سيأتي يوم تنتقمون فيه، آجلاً أو عاجلاً، ولكن سيأتي حتماً، وسيتحمل كل مجرم ثقل ما فعل".
• "والغراب لا يترك عشه لطائر السمبر، لأنه أكبر منه حجما، وأكثر سواداً، وأعلى صوتاً وأطول منقاراً، ولكن يظل يهاجمه إلى أن يرحل".
واجتماعياً عندما اندفعت جموع الأهل تتقدمهم مغنية الحي محرضة للفتك بسندس والأميرة (إنهما روحان شريران ناقصان تافهان مشؤومان) ووجودهما سيجلب اللعنّة على الجميع، خرج الزعيم وخاطبهم بقوله:
• (القاتل يُقتل، وقاتلُ الغريب يُقتل هو واخوه).
فهدأت الجموع وتركت له أمر تدبير التصرف مع هذا الثنائي الملعون! وكيفية إبعادهم! فهذا قائد محنك ومتمرس عينه على هدفه، وبمثل هذه الحكمة نجد أن الجد الأعمى يحاول أن يعيد لحفيده مَواَنا واإمْبُوا (ابن الكلبة) اليتيم لرشده "الشر لا يقاوم بالشر".
من منظور آخر، ينقل الروائي ساكن العبد إلى بطولة الرواية، ويتصور ماضيه، ويضعه داخل المجتمع، ويكشف عن ثقافته المفقودة، ويستعيد صوته.
اختار المؤلف في السرد للشخصيات المحورية أسماء تحمل مدلولات إيحائية، فمثلا اسم السلطان (سليمان بن سليم) (الذي باركه الرب مؤخرا) والذي انتهى به الأمر عارياً ومخصياً بأيدي المسجونين في قبو قصره!! و(لطيفة) هو اسم ابنته الوحيدة اليتيمة المدللة المرحة، والتي تعشق البحر، وها هي تردد بالعربية على الشاطئ بعد أن استهواها المنظر، وكارثة الردى تحلق فوقها، مقطعا آسراً حفظته من فرقة القصر الموسيقية، والمقطع للصوفي الشهير الجنيد:
يا نَسيمَ الريح قولي لِلرَشا +++ لَم يَزِدني الوِردُ إلا عَطشا
لي حَبيبٌ حُبُّهُ وَسطَ الحَشا+++ إِن يَشَأ يَمشي عَلى خَدّي مَشى
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ+++ إِن يَشَأ شِئتُ وَإِن شِئتُ يشأ
والتي تتوق إلى التحرر من والدها المستبد السلطان وزوجها زير النساء، انتهى بها المطاف مغتصبة قتيلة وجسدا مسجى على صخرة قرب الشاطئ، فالنقاء الذي في قلبها جعلها قربانا لتحرير روح أمٍ توفيت بعد أن وطئها السلطان ونزفت حتى الموت هي الأخرى!
ثم نجد(سندس) الصبي الأسير الذي أُخصي ليكون مرافقا الأميرة انتهى به الحال أن صار عشيقها!! و(مطيّع) والده المخصي هو الآخر مرافق السلطان قائدا للمساجين! في القديم كانت العرب تسمى رقيقها بأسماء جميلة مثل (جميل ومطيع وسندس) بينما تختار الأسماء المرعبة والقبيحة والحوشية للأبناء (ليث وصخر وضرغام والقعقاع) لإفزاع الأعداء.
أما مَواَنا واإمْبُوا (ابن الكلبة) اليتيم والذي أرضعته كلبة جده -ومن هنا جاء اسمه-، والذي يضحك كما تنبح الكلاب هَوْ هَوْ، والذي يقول عن نفسه:(إنه يد للإثنين عدالة الرب وظلم الشيطان!!)، فهو يعمل للثورة ويدعو لها ولهذا حثّ (سندس) للانضمام للثوار بل قاد شبابها للاستيلاء على السلاح من قصر الأميرة! ولهذا يقول:" وحينها لن نغفر ولدينا الإرادة، وأنا بالذات لدي من الشر ما يكفي لهزيمتهم. لدي رغبة كبيرة في الانتقام، أمي تأتيني كل يوم في الحلم وتسألني: لماذا أنت نائم؟ يقول أهلنا إن للحكايات أرواحا!" فقد مزج بين الإثنين توقه للحرية والانتقام لأمه طلباً للثأر وجعل ذلك همه ورسالته التي يسعى لتحقيقها.
وقصته مع حلم أمه الذي يطاره ليلاً مماثل للخرافة لدى الشعوب الأخرى، فمن الخرافات العربية قبل الإسلام خرافة (الهامة) وهي تتعلق بقضية الأخذ بالثأر والذي يعتبر أمراً مقدساً: فالعرب الجاهليون كانوا يؤمنون بأن هناك طائراً خرافياً يخرج من هامة القتيل ويظل يحوم حول قبره صائحاً: أسقوني.. أسقوني. يريد سُقيا الدم بالثأر فهو متعطش لدم القاتل. فإذا قُتِل القاتل ارتاحت روح القتيل.
فقد قال ذو الإصبع العدواني في ابن عمه:
"يا عمروُ إن لم تدعْ شتمي ومنقصتي
أضربْك حتى تقول الهامة: أسقوني"
"كما نجد شبيها لها في مسرحية هملت لشكسبير، حيث يظهر له شبح أبيه المقتول قاصّاً عليه سر مقتله بالتواطؤ بين أمه وعمه وطالباً الثأر منهما حتى تنطفئ ناره:
أنا روح أبيك، وقد حُكِم عليّ بأن أطوف
في الليل زمناً وفي النهار،
بأن أتضوّر جوعاً في اللهب
سردتُ على مسامعك قصةً،
أخفُّ لفظة فيها تعذّب نفسك،
وتجمّد دمَك الفتي.
وداعاً يا هملت. لا تنسني!
عبر القرون الداميات "
وهو عند الاخرين من غير أهله" إنه كلب البئر الملعونة. بئر الرب!"، وعند سندس" إنه الشر الذي في قلب الإنسان ".
وقد نطق بحكم وأقوال مأثورة إن كان عند حديثه عن الثورة ومبرراتها وحتمية انتصارها أو عند الحديث عن الانتقام والثأر الشخصي بالنسبة له، فهو يقول: "" لا يوجد دم أرخص من دم ولا روح أرخص من روح".
دمك دم أمي دم أمي دمك
دم أمي دمك دمك دم أمي
وفي المشهد الختامي يصرخ "ساماهاني" طالباً الغفران من جده الحكيم الضرير، ومن سندس لأنه خدعه، ومن قلبه لأنه لن يكون رحيماً، ثم يخاطب الأميرة أن ليس له خيار سوى الدم، إن خلاصي هو خلاصك أنت أيضا!
"أغفر لي يا جدي لقد خدعتك، سامحني يا سندس، لقد خدعتك، سامحني يا قلبي فلن أكون رحيماً، روح امي تنتظر الآن. القتلى لا يغفرون، تقول لي أمي كل يوم في الحلم، أريد أن أرتاح. ولا ترتاح أرواح المقتولين أبداً ما لم يقدم إليهم الدم المستحق. سامحيني أيتها السيدة، ليس لدي خيار آخر، لم يترك أبوك لي خياراً سوى الدم. إن خلاصي هو خلاصك أنت أيضا، ولا يساوي دم أمي سوى دمك. لو كنت شريرة فاسدة لنجوت، فالنقاء الذي في قلبك قدمك قربانا لتحرير روح أمي من بئر ظلم أبيك."
إذا لم تكن هي عدالة الرب فهو ظلم الشيطان، وما أنا سوى يد للاثنين معا: لقد قبلت التكليف؟"
ثم هرول صائحاً بأعلى صوته "ساماهاني"!!
أما سندس العاشق فقد أحنى رأسه على الجسد المسجى، سقطت منه دمعة على وجهها، وهمس في أذنها بصوتٍ مشروخٍ" "ساماهاني "
وختمت الرواية باقتباس قول كارل ماركس "في التاريخ كما في الطبيعة، التعفن مخبر الحياة"!!
****
ختمت الترجمة بهذه الإضافة أو التعقيب:(إن التاريخ المأساوي العميق للاستعمار يشفر تجربة الذات الاستعمارية في اللغة نفسها، ويقع على عاتق الفنان فك رموزها وكشفها. نأمل أن نكون قد قدمنا مساهمة إيجابية في أحد هذه المشاريع من خلال هذه الترجمة).
وتأتي هذه الترجمة للروايّة إلى اللغة الإنجليزية في إطار الجهد المبذول لفتح النوافذ أمام الأدب السوداني ليطل على القراء والقارئات باللغات الأخرى ولمشاركة الآخرين إبداعنا وثقافتنا وتراثنا وتقاليدنا، وأنّا لم نكن عبئاً على الآخرين لا غير.
****

بقلم : عمر محمد الأمين الوادي شعيري
ديسمبر 2024م

oelamin1@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • فتح باب التسجيل لدورة اللغة الأسبانية في جامعة حلوان
  • الحكيم يعلق على التوجه لتمديد عمل مفوضية الانتخابات
  • فتح باب التسجيل لدورة اللغة الإسبانية - المستوى الأول بجامعة حلوان
  • الترجمة والنقد.. السِّياق والمُنجْز
  • مركز اللغات بجامعة حلوان يعلن عن بدء التسجيل دورة اللغة الإنجليزية فى المجال الرياضى
  • استعراض لترجمة رواية ساماهاني (SAMAHANI) للروائي عبد العزيز بركة ساكن
  • بدء التسجيل بدورة اللغة الإنجليزية في جامعة حلوان
  • ندوة بالمركز القومي للترجمة لمناقشة كتاب الفولكلور المصري
  • بدء التسجيل بدورة اللغة الإنجليزية في المجال الرياضي بآداب حلوان
  • #هذه_أبوظبي.. غزال في جزيرة السعديات بعدسة حورية بنت عبد الحكيم المفلحي