هل ينقذ بايدن سلام الشرق الأوسط وينقذ إرثه أيضا؟
تاريخ النشر: 30th, November 2024 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
عندما يخرج الرئيس الأمريكي جو بايدن من مكتبه في يناير، فقد تخرج على إثره احتمالات تسوية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بموجب حل الدولتين، وهي الاحتمالات الضعيفة أصلا. إذ يرفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المفهوم في حد ذاته. وقد أمضى خليفة بايدن، أي الرئيس المنتخب دونالد ترامب، فترة ولايته الأولى في ترويج نشط لأكثر أحلام نتنياهو توسعية.
منذ إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948، كانت اللحظات الوحيدة التي بدا فيها الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني قابلًا للحل هي التي تولت فيها الولايات المتحدة المسؤولية. ولطالما كانت السياسة الداخلية هي التي تحدّ كم الضغط الذي يمكن لأي رئيس أمريكي أن يفرضه. وتسنح الآن لبايدن فرصة لم تسنح لأي من أسلافه: فقد تخفف من جميع القيود السياسية الداخلية في لحظة تشهد بوضوح أمسَّ الاحتياج إلى الضغط الأمريكي. وقد أتيحت لأسلافه جميعا فترة البطة العرجاء، فلم تتزامن تلك الفترات قط مع مثل هذه اللحظة الحاسمة في الصراع.
ليس الوضع الراهن بالمناسب لأحد. والفلسطينيون هم أوضح الضحايا، ففي العام الماضي، قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من أربعين ألف شخص في غزة، فضلًا عن حوالي سبعمائة في الضفة الغربية (غير الخاضعة لسيطرة حماس). وإسرائيل واقعة في فخ من صنع يديها: فهي لا تستطيع الاحتفاظ بهويتها بوصفها دولة ديمقراطية ودولة يهودية دستورية مع الاحتفاظ باحتلال تحكم به أكثر من خمسة ملايين فلسطيني من غير مواطني إسرائيل. والولايات المتحدة، إذ توفر الغطاء الدبلوماسي لاحتلال يعده معظم العالم غير شرعي - وإذ توفر الأسلحة التي يعتمد عليها هذا الاحتلال - نسفت مصداقيتها، وحجَّمت قدرتها على الدفاع عن القانون الدولي وانتقاد الفاعلين السيئين من قبيل الصين وإيران وروسيا. فلا بد من عمل ما.
وفي حين أن دفء بايدن الشخصي تجاه الشعب الإسرائيلي دفء عميق، فهو ليس بالدفء الحصري. ولقد رأيت هذا رأي العين عندما عملت معه طوال تسع سنوات في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ. لم تكن لديه أدنى خبرة بالحكم، وقد درست الأنثروبولوجيا وتخصصت في الإسلام. لكن بايدن وظَّفني لمساعدته على فهم المجتمعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط وآسيا التي لم تكن لديه دراية كبيرة بها. والتعاطف هو القوة العظمى من قوى بايدن، وقد رأيته يبديه مرارًا لأشخاص خارج الدائرة التي يألفها. ولقد حان الوقت لأن يظهر تعاطفا حقيقيا مع الشعب الفلسطيني، الذي عانى معاناة هائلة خلال الهجوم الإسرائيلي الذي يسَّرته سياسات بايدن نفسها.
ثمة خطوات ثلاث مهمة يمكن أن يتخذها بايدن في أسابيعه الأخيرة، من خلال العمل التنفيذي فقط، ومن شأنها أن تخفف معاناة الفلسطينيين وتحافظ على إمكانية حل الدولتين، ومن شأنها أيضًا أن تكون أفضل طريقة لتعزيز أمن إسرائيل في المدى البعيد. يجب أن يعترف بايدن بدولة فلسطينية، وأن يرعى إصدار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارا بشأن حل الدولتين، وأن يعمل على تفعيل التشريعات الأمريكية الحالية بشأن نقل الأسلحة. وسوف تكون هذه الإجراءات الثلاثة بسيطة نسبيا - ويصعب التراجع عنها. ويمكنها معًا أن تساعد على تغيير مسار الشرق الأوسط، الذي يتجه بسرعة صوب الكارثة.
الإنجاز
ليس الاعتراف بالدولة الفلسطينية بالخطوة المتطرفة مثلما يبدو. ففي الوقت الراهن تعترف 146 دولة من أصل 193 دولة في الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية، وتضم هذه الدول أكثر من دزينة من الدول الحليفة في حلف شمال الأطلسي. وإذا غيّرت الولايات المتحدة موقفها فقد تحذو بقية الدول الرافضة حذوها بين عشية وضحاها. يجب أن يعترف بايدن بفلسطين بمثل ما اعترف الرئيس هاري ترومان بدولة إسرائيل في عام 1948، بعد إحدى عشرة دقيقة فقط من إنشاء الدولة، أي بجرة قلم. في حالة ترومان، كان الاعتراف الرسمي يتألف فقط من بيان مكتوب نصه: «لقد نما إلى علم هذه الحكومة أن دولة يهودية قد أعلنت في فلسطين، وقد طلبت حكومتها المؤقتة الاعتراف بها. وتعترف الولايات المتحدة بالحكومة المؤقتة باعتبارها السلطة الفعلية لدولة إسرائيل الجديدة». في ذلك الوقت، كانت جيوش إسرائيل وأربعة من جيرانها لا تزال تتقاتل بشأن خطة الأمم المتحدة لإقامة دولتين - واحدة يهودية وأخرى فلسطينية - ولم تكن لغة هذا الاعتراف الرئاسي ملزمة للولايات المتحدة بدعم أي تفاصيل محددة للتسوية النهائية. فعلى بايدن أن يصوغ بيانا بسيطا بالقدر نفسه، أو أن يستخدم صياغة ترومان البسيطة نموذجا له.
وعلى بايدن أيضًا أن يرعى قرارا من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتكوين إجماع دولي على حل الدولتين. فلا يزال الإطار الدولي الحالي لتسوية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني مقصورا على قرارات مجلس الأمن 242 و338 و1397. ويدعو القراران 242 و338، الصادران في أعقاب حرب عام 1967 وحرب عام 1973 على الترتيب، إلى وقف القتال وإعادة الأراضي المحتلة (إلى مصر والأردن وسوريا حسبما يفترض). ولا يذكر أي من القرارين شيئا عن سكان هذه الأراضي الفلسطينيين بل ولا يذكر كلمة «الفلسطينيين» نفسها. أما القرار 1397، الصادر في عام 2002، فلا يعدو أن يؤكد «رؤية لمنطقة تعيش فيها دولتان، هما إسرائيل وفلسطين، جنبًا إلى جنب داخل حدود آمنة ومعترف بها».
بوسع بايدن أن ينظّم إصدار قرار يعترف صراحة بدولة فلسطينية ذات سيادة في الأراضي التي احتلتها إسرائيل منذ عام 1967. ومن غير المرجح أن يستعمل أحد حق النقض: فقد اعترفت روسيا والصين بالفعل بالدولة الفلسطينية، وأشار زعماء من فرنسا والمملكة المتحدة، على مدى العام الماضي، إلى استعدادهم لمثل هذا الاعتراف قبل اكتمال تسوية تفاوضية. وأخيرا، يجب على بايدن أن يعمل على تفعيل القوانين الأمريكية القائمة والخاصة بنقل الأسلحة إلى إسرائيل. فقد بات أحد أسوأ الأسرار المحفوظة في واشنطن معلنًا الآن، وهو أن القوانين الأمريكية المتعلقة بنقل الأسلحة تحمل علامة نجمة غير مرئية تستثني إسرائيل. وثمة ما لا يقل عن قانونين رئيسيين طال التأخر في تطبيقهما. القانون المعروف بقانون ليهي - أو بالأحرى القسم (620 إم) من (قانون المساعدات الخارجية) لعام 1961، وفقًا لتعديله في يناير 2014 وهو الذي يحكم المساعدات العسكرية الأمريكية المقدمة من وزارة الخارجية. (وهذا الإجراء، وقانون آخر حاكم للمساعدات المقدمة من وزارة الدفاع، يستمد اسمه من راعيه السيناتور الديمقراطي باتريك ليهي عن ولاية فيرمونت الذي شغل منصب عضو مجلس الشيوخ الأمريكي من عام 1975 إلى عام 2023 وكان من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان في الكونجرس). ولا لبس في لغته: «لا يجوز تقديم أي مساعدة بموجب هذا القانون أو قانون مراقبة تصدير الأسلحة إلى أي وحدة من قوات الأمن في دولة أجنبية إذا توافرت لوزير الخارجية معلومات موثوقة تفيد بأن هذه الوحدة ارتكبت انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان».
ينطبق هذا القانون على جميع البلاد التي تتلقى مساعدات عسكرية أمريكية. وقد كتب تشارلز بلاها، وهو دبلوماسي تقاعد أخيرا، في يونيو 2024 أن «مسؤولي الوزارة يصرون على أن الوحدات الإسرائيلية تخضع لمعايير التدقيق التي تخضع لها الوحدات في أي دولة أخرى. وقد يصح هذا من الناحية النظرية. ولكن، من الناحية العملية، هذا ببساطة ليس صحيحا». ولكلماته هذه ثقل خاص: إذ كان بلاها على مدى سبع سنوات ونصف السنة هو مسؤول وزارة الخارجية المكلف بفحص تحويلات الأسلحة للتأكد من امتثالها لقانون ليهي. وقبل بضعة أسابيع، كان ليهي نفسه، المتقاعد حاليا، قد وجّه تحذيرًا أيضًا إذ قال: إنه «منذ إقرار قانون ليهي، لم تعتبر أي وحدة من قوات الأمن الإسرائيلية غير مؤهلة للحصول على مساعدات أمريكية، برغم التقارير المتكررة والموثوقة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان واعتياد عدم إنزال العقاب المناسب على الجنود والشرطة الإسرائيليين ممن ينتهكون حقوق الفلسطينيين».
ويبدو أن أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية الأسبوع الماضي بحق نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف جالانت تشكّل «معلومات موثوقة» عن انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وكذلك لعدد كبير من الإجراءات الأخرى الموثقة جيدًا التي اتخذتها السلطات الإسرائيلية منذ أكتوبر 2023. فقد تلقت وزارة الخارجية ما يقرب من خمسمائة تقرير حول استعمال إسرائيل أسلحة زودتها بها الولايات المتحدة في هجمات على المدنيين في غزة. وبعد غزو إسرائيل للبنان الشهر الماضي، اتهمت المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان إسرائيل بارتكاب «أعمال وحشية في لبنان، من بينها أعمال عنف تهدف إلى بث الرعب بين المدنيين والحرب العشوائية».
والقانون الثاني الذي يجب على بايدن تفعيله هو قانون ممر المساعدات الإنسانية. ويحظر هذا القانون جميع عمليات نقل الأسلحة إلى أي دولة «تحظر أو تقيد بأي شكل آخر نقل أو تسليم المساعدات الإنسانية الأمريكية إلى أي دولة أخرى». ورفض إسرائيل باستمرار السماح بأكثر من قطرة من المساعدات إلى غزة دفع إدارة بايدن إلى إنفاق 230 مليون دولار لبناء رصيف عائم متقن في ربيع العام الحالي - لم يتم العمل به إلا لثلاثة أسابيع فقط وتمكن خلال ذلك الوقت من تسليم مساعدات أقل من القطرة التي تدفقت عن طريق البر في أربعة أيام فقط في الفترة نفسها. وفي أغسطس، انتهى تقرير إشرافي صادر عن المفتش العام للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى أن قوات الدفاع الإسرائيلية جانبت الصواب إذ أعطت الأولوية لمتطلباتها التشغيلية والأمنية على تسليم المساعدات الإنسانية.
وقبل ثلاثة أسابيع من يوم الانتخابات، أبلغ وزيرا الخارجية والدفاع الأمريكيان إسرائيل علنًا بإمهالها شهرًا للوفاء بالوعود التي قطعتها في مارس من هذا العام لإزالة العوائق أمام الجهود الإنسانية، مستشهدين على وجه التحديد بقانون ممر المساعدات الإنسانية. لكن الموعد المحدد مر في 12 نوفمبر دون أي رد أمريكي. ونجح نتنياهو في خداع بايدن.
الانحصار
هل يمكن لأي من هذه الإجراءات التنفيذية أن تستمر بعد الانتقال الرئاسي؟ لقد أمضى ترامب ولايته الأولى، في نهاية المطاف، في تمكين أجندة نتنياهو، وتشير اختياراته الوزارية إلى أن إدارته لن تفعل الكثير لكبح جماح إسرائيل.
قد يحاول ترامب التراجع عن تطبيق القوانين المتعلقة بنقل الأسلحة. وقانون ممر المساعدات الإنسانية يحتوي على استثناء رئاسي، فبوسعه التراجع عن أي قرار بتفعيله دون التعرض لأكثر من السخرية الدولية. ولكن قانون ليهي الحاكم لوزارة الخارجية لا يحتوي على مثل هذه الثغرة. ففور اعتراف الوزارة رسميا بوجود «معلومات موثوقة» عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، لا يمكنها قانونيًا أن تقرر الاستمرار في تسليم الأسلحة. ولا يمكن قانونًا أن يأمر ترامب وزير خارجيته بأن يقطع بما إذا كانت اشتراطات ليهي قد استوفيت. ولن يكون من مخرج قانوني إلا عملية محسوبة بعناية يتم من خلالها «إصلاح» الأطراف المذنبة بارتكاب انتهاكات جسيمة - بما يعني أن المسار الوحيد لخروج دولة تعتبر مذنبة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من حظر ليهي هو التوقف عن ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
قد يحاول ترامب إلغاء الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ولكن ما من سابقة لمثل هذا الإجراء. فقد اعترفت الولايات المتحدة رسميا بما يقرب من مائتي دولة، لكنها لم تعترف رسميا قط، في حدود معلوماتي، بعدم وجود دولة. فيمكن أن يوجه ترامب قانونييه إلى إعلان أي شيء يرغب فيه، ولكن فور أن تعترف كل دولة تقريبا في العالم بدولة فلسطينية، فسوف تكون معركة فردية إلى حد ما. وسيكون قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يفرض حل الدولتين متجاوزا قدرة أي رئيس أمريكي على إلغائه.
لن ينشئ هذا البرنامج من العمل التنفيذي عملية سلام جديدة، ولكن تأثيره سوف يكون كبيرا. فمن شأنه، أولًا: أن يبقي احتمال تقرير المصير الفلسطيني حيا، وإن تكن حياة معتمدة على أجهزة الإنعاش وفي غياب هذا الإجراء، من المرجح أن تضم إسرائيل بعض أو كل الأراضي المحتلة خلال السنوات الأربع المقبلة. وثانيا: قد يغير هذا البرنامج من الديناميكية السياسية داخل إسرائيل نفسها: إذ يظل حل الدولتين هو السبيل الوحيد الممكن لاحتفاظ إسرائيل بهويتها، وتظل حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة مفتقرة إلى الشعبية بشدة. وثالثًا: من شأن هذا البرنامج أن يمنح الولايات المتحدة النفوذ للضغط على إسرائيل من أجل إبرام صفقة تاريخية، وإذا كان ترامب لم يبد تعاطفا مع الفلسطينيين، لكنه أظهر رغبة عميقة في دخول التاريخ بوصفه صانع صفقات جيوسياسية. قبل أقل من عامين، كانت المقارنات تعقد بين إرث بايدن وإرث أحد أعظم الرؤساء الأمريكيين، وهو فرانكلين روزفلت. واليوم، لا يعقد أحد هذه المقارنات، ويندد العديد من الديمقراطيين والتقدميين بسلوك بايدن بشأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ومن الممكن أن توفر هذه الخطوة بعيدة النظر نهاية أفضل لفصل السياسة الخارجية في قصته، بوصفه رئيسًا حشد تحالفًا عالميًا للدفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لا للأوكرانيين فقط ولكن للفلسطينيين أيضا.على مدار العام الماضي، لم يظهر بايدن نفسه بمظهر الجريء، ناهيك بالراديكالي. لكنه على مدار مسيرة حياته المهنية، ظل باستمرار يفاجئ من يعدونه الرجل الأكثر قابلية للتنبؤ في واشنطن. ولا أعرف هل سيقرر بايدن عام 2024 إنهاء حياته العامة بلفتة شجاعة وبطولية. لكن بايدن الذي عملت معه كان سيوجه فريقه لوضع مثل هذه الخطة.
جوناه بلانك مساعد باحث سياسي أول في مؤسسة راند وزميل بحثي زائر في معهد الشرق الأوسط بجامعة سنغافورة الوطنية. عمل في ما بين عامي 1999 و2009 مدير السياسات لدى السيناتور جو بايدن لجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، وبين عامي 1999 و2001 مستشارًا لبايدن في شؤون الشرق الأوسط.
خدمة فورين أفيرز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الصراع الإسرائیلی الفلسطینی المساعدات الإنسانیة جسیمة لحقوق الإنسان بالدولة الفلسطینیة الولایات المتحدة وزارة الخارجیة انتهاکات جسیمة للأمم المتحدة الشرق الأوسط حل الدولتین قانون لیهی مجلس الأمن على بایدن قانون ا رئیس ا
إقرأ أيضاً:
2024 .. عام لا كالأعوام !
يمكن القول ان التداعيات الجيوسياسية التي حدثت في النصف الثاني من العام المنصرم (2024) تعتبر من أخطر التداعيات في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وهي تداعيات من نوع استراتيجي سيخلف في عالم السياسة والمحاور والمعادلات التي تحكم المنطقة العربية؛ اهتزازات ذات تأثير كبير في هذه المنطقة.
ذلك أن بدايات التغيير الجيوسياسي الكبير وغير المسبوق الذي حدث في النصف الثاني من العام المنصرم ستتداعى معه سياسات ومعادلات تحكم وسيطرة ظلت لأكثر من4 عقود تأخذ بخناق المنطقة العربية ضمن سياق بدا من الواضح اليوم أنه كان خصما عن استقرارها.
وإذا كان العام قبل الماضي هو الذي انطلقت معه شرارة التحولات عبر حدث 7 أكتوبر الذي انطلق من غزة تحت اسم عملية «طوفان الأقصى» فإن ما جرى بعد ذلك من تطورات في فلسطين وسوريا ولبنان هو تغيير سيطبع آثاره لفترة طويلة في المنطقة. إن ما حدث في العام قبل الماضي والعام المنصرم، من تطورات ينبئ بالمزيد منها ومن تلك النوعية ذات الأثر الثقيل، وهي تطورات لها علاقة عضوية بالمحور الذي انهارت فيه قوى وحركات وأنظمة «الممانعة» في كل من فلسطين ولبنان وسوريا، بحيث يمكننا القول أن هناك المزيد من أثر التحولات سيطال منطقة المشرق العربي، وربما تطور الوضع المرتبط بمحور الممانعة إلى آفاق تغيير كبرى في الشرق الأوسط.
ستأتي سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة في ظل قيادة ترامب بترتيبات عرف العالم ضرباً منها خلال ولاية ترامب السابقة بين عامي 2016 - 2020 وكان من أهم ملامح تلك السياسات التي سنها ترامب في الشرق الأوسط؛ اغتيال شخصية كان لها أثر كبير في المنطقة العربية ضمن محور الممانعة (الجنرال قاسم سليماني) وكذلك انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الذي أبرمته مع إيران برعاية دولية، أي اتفاق عام 2015 إلى جانب خطوات أخرى خطيرة وغير مسبوقة أحدثها ترامب في علاقته مع اسرائيل، مثل؛ نقل سفارة الولايات المتحدة في اسرائيل من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، وغيرها من خطوات بدت أكثر من جريئة في سياسات رؤساء الولايات المتحدة السابقين.
التحولات الجيوسياسية الكبيرة التي حدثت في النصف الثاني من العام المنصرم في هذه المنطقة على خلفية عملية طوفان الأقصى يبدو أنها كانت بالنسبة لإسرائيل بمثابة لحظة مؤاتية انتظرتها طويلا لإطلاق يدها في تطبيق مخططات كانت تحتاج إلى لحظة استراتيجية.
ما حدث في العام الماضي، ستليه أحداث أخرى في هذا العام الجديد، لكن من المؤسف القول أن طبيعة هذه التحولات الجيوسياسية في المنطقة العربية هويتها الدراماتيكية لم تكن تعبيرا جديدا عن نظرية الساحة التي ظلت تمثلها المنطقة العربية وتتلقى الضربات التحويلية فيها من فاعلين إقليميين ودوليين لاتزال حتى اليوم لهم القدرة على الإمساك بالمصير السياسي للمنطقة من خارجها!
بمعنى آخر، قد لا تبدو التغييرات التي حدثت في سوريا ولبنان وغزة من تداعيات عملية طوفان الأقصى بمثابة تعبير إرادي للدخول في مرحلة جديدة بقدر ما هي تداعيات فرضتها معادلات جديدة شكلتها قوى إقليمية ودولية مؤثرة.
ربما نشهد في العام الجديد تداعيات أخرى في أكثر من منطقة بالشرق الأوسط، وإذا صح ذلك، يمكننا القول ان الجانب الذي نتوقع أنه بقي من مرحلة استكمال التغيير الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط هو الجانب الذي سيكون أكثر تأثيرا في المنطقة. ذلك أنه قد بدا من الوضوح بمكان أن تأثيرات تداعيات قضية الشرق الأوسط من ناحية، والحرب الأوكرانية الروسية من ناحية ثانية، وتداعي نفوذ ماسمي بمحور الممانعة من ناحية ثالثة، هي التأثيرات التي قد يترتب على حسم بعضها - على الأقل - في هذا العام الكثير من عوامل صنع الاستقرار في المنطقة والعالم.
وإذا صح أن الرئيس ترامب يريد، هذه المرة، أن يكون أكثر خبرةً من سنوات ولايته الماضية حيال الملفات الثلاثة السالفة، فإن في تاريخ الرجل من القدرة على اتخاذ القرارات العملية ما قد يلعب دورا كبيرا في الاستفادة من التغييرات الجيوسياسية التي حدثت في النصف الثاني من العام المنصرم؛ باتجاه إحلال الأمن والسلم في أكثر من منطقة، لاسيما في الملف الأكثر استعصاءً ؛ قضية الشرق الأوسط!