هل ينقذ بايدن سلام الشرق الأوسط وينقذ إرثه أيضا؟
تاريخ النشر: 30th, November 2024 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
عندما يخرج الرئيس الأمريكي جو بايدن من مكتبه في يناير، فقد تخرج على إثره احتمالات تسوية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بموجب حل الدولتين، وهي الاحتمالات الضعيفة أصلا. إذ يرفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المفهوم في حد ذاته. وقد أمضى خليفة بايدن، أي الرئيس المنتخب دونالد ترامب، فترة ولايته الأولى في ترويج نشط لأكثر أحلام نتنياهو توسعية.
منذ إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948، كانت اللحظات الوحيدة التي بدا فيها الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني قابلًا للحل هي التي تولت فيها الولايات المتحدة المسؤولية. ولطالما كانت السياسة الداخلية هي التي تحدّ كم الضغط الذي يمكن لأي رئيس أمريكي أن يفرضه. وتسنح الآن لبايدن فرصة لم تسنح لأي من أسلافه: فقد تخفف من جميع القيود السياسية الداخلية في لحظة تشهد بوضوح أمسَّ الاحتياج إلى الضغط الأمريكي. وقد أتيحت لأسلافه جميعا فترة البطة العرجاء، فلم تتزامن تلك الفترات قط مع مثل هذه اللحظة الحاسمة في الصراع.
ليس الوضع الراهن بالمناسب لأحد. والفلسطينيون هم أوضح الضحايا، ففي العام الماضي، قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من أربعين ألف شخص في غزة، فضلًا عن حوالي سبعمائة في الضفة الغربية (غير الخاضعة لسيطرة حماس). وإسرائيل واقعة في فخ من صنع يديها: فهي لا تستطيع الاحتفاظ بهويتها بوصفها دولة ديمقراطية ودولة يهودية دستورية مع الاحتفاظ باحتلال تحكم به أكثر من خمسة ملايين فلسطيني من غير مواطني إسرائيل. والولايات المتحدة، إذ توفر الغطاء الدبلوماسي لاحتلال يعده معظم العالم غير شرعي - وإذ توفر الأسلحة التي يعتمد عليها هذا الاحتلال - نسفت مصداقيتها، وحجَّمت قدرتها على الدفاع عن القانون الدولي وانتقاد الفاعلين السيئين من قبيل الصين وإيران وروسيا. فلا بد من عمل ما.
وفي حين أن دفء بايدن الشخصي تجاه الشعب الإسرائيلي دفء عميق، فهو ليس بالدفء الحصري. ولقد رأيت هذا رأي العين عندما عملت معه طوال تسع سنوات في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ. لم تكن لديه أدنى خبرة بالحكم، وقد درست الأنثروبولوجيا وتخصصت في الإسلام. لكن بايدن وظَّفني لمساعدته على فهم المجتمعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط وآسيا التي لم تكن لديه دراية كبيرة بها. والتعاطف هو القوة العظمى من قوى بايدن، وقد رأيته يبديه مرارًا لأشخاص خارج الدائرة التي يألفها. ولقد حان الوقت لأن يظهر تعاطفا حقيقيا مع الشعب الفلسطيني، الذي عانى معاناة هائلة خلال الهجوم الإسرائيلي الذي يسَّرته سياسات بايدن نفسها.
ثمة خطوات ثلاث مهمة يمكن أن يتخذها بايدن في أسابيعه الأخيرة، من خلال العمل التنفيذي فقط، ومن شأنها أن تخفف معاناة الفلسطينيين وتحافظ على إمكانية حل الدولتين، ومن شأنها أيضًا أن تكون أفضل طريقة لتعزيز أمن إسرائيل في المدى البعيد. يجب أن يعترف بايدن بدولة فلسطينية، وأن يرعى إصدار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارا بشأن حل الدولتين، وأن يعمل على تفعيل التشريعات الأمريكية الحالية بشأن نقل الأسلحة. وسوف تكون هذه الإجراءات الثلاثة بسيطة نسبيا - ويصعب التراجع عنها. ويمكنها معًا أن تساعد على تغيير مسار الشرق الأوسط، الذي يتجه بسرعة صوب الكارثة.
الإنجاز
ليس الاعتراف بالدولة الفلسطينية بالخطوة المتطرفة مثلما يبدو. ففي الوقت الراهن تعترف 146 دولة من أصل 193 دولة في الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية، وتضم هذه الدول أكثر من دزينة من الدول الحليفة في حلف شمال الأطلسي. وإذا غيّرت الولايات المتحدة موقفها فقد تحذو بقية الدول الرافضة حذوها بين عشية وضحاها. يجب أن يعترف بايدن بفلسطين بمثل ما اعترف الرئيس هاري ترومان بدولة إسرائيل في عام 1948، بعد إحدى عشرة دقيقة فقط من إنشاء الدولة، أي بجرة قلم. في حالة ترومان، كان الاعتراف الرسمي يتألف فقط من بيان مكتوب نصه: «لقد نما إلى علم هذه الحكومة أن دولة يهودية قد أعلنت في فلسطين، وقد طلبت حكومتها المؤقتة الاعتراف بها. وتعترف الولايات المتحدة بالحكومة المؤقتة باعتبارها السلطة الفعلية لدولة إسرائيل الجديدة». في ذلك الوقت، كانت جيوش إسرائيل وأربعة من جيرانها لا تزال تتقاتل بشأن خطة الأمم المتحدة لإقامة دولتين - واحدة يهودية وأخرى فلسطينية - ولم تكن لغة هذا الاعتراف الرئاسي ملزمة للولايات المتحدة بدعم أي تفاصيل محددة للتسوية النهائية. فعلى بايدن أن يصوغ بيانا بسيطا بالقدر نفسه، أو أن يستخدم صياغة ترومان البسيطة نموذجا له.
وعلى بايدن أيضًا أن يرعى قرارا من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتكوين إجماع دولي على حل الدولتين. فلا يزال الإطار الدولي الحالي لتسوية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني مقصورا على قرارات مجلس الأمن 242 و338 و1397. ويدعو القراران 242 و338، الصادران في أعقاب حرب عام 1967 وحرب عام 1973 على الترتيب، إلى وقف القتال وإعادة الأراضي المحتلة (إلى مصر والأردن وسوريا حسبما يفترض). ولا يذكر أي من القرارين شيئا عن سكان هذه الأراضي الفلسطينيين بل ولا يذكر كلمة «الفلسطينيين» نفسها. أما القرار 1397، الصادر في عام 2002، فلا يعدو أن يؤكد «رؤية لمنطقة تعيش فيها دولتان، هما إسرائيل وفلسطين، جنبًا إلى جنب داخل حدود آمنة ومعترف بها».
بوسع بايدن أن ينظّم إصدار قرار يعترف صراحة بدولة فلسطينية ذات سيادة في الأراضي التي احتلتها إسرائيل منذ عام 1967. ومن غير المرجح أن يستعمل أحد حق النقض: فقد اعترفت روسيا والصين بالفعل بالدولة الفلسطينية، وأشار زعماء من فرنسا والمملكة المتحدة، على مدى العام الماضي، إلى استعدادهم لمثل هذا الاعتراف قبل اكتمال تسوية تفاوضية. وأخيرا، يجب على بايدن أن يعمل على تفعيل القوانين الأمريكية القائمة والخاصة بنقل الأسلحة إلى إسرائيل. فقد بات أحد أسوأ الأسرار المحفوظة في واشنطن معلنًا الآن، وهو أن القوانين الأمريكية المتعلقة بنقل الأسلحة تحمل علامة نجمة غير مرئية تستثني إسرائيل. وثمة ما لا يقل عن قانونين رئيسيين طال التأخر في تطبيقهما. القانون المعروف بقانون ليهي - أو بالأحرى القسم (620 إم) من (قانون المساعدات الخارجية) لعام 1961، وفقًا لتعديله في يناير 2014 وهو الذي يحكم المساعدات العسكرية الأمريكية المقدمة من وزارة الخارجية. (وهذا الإجراء، وقانون آخر حاكم للمساعدات المقدمة من وزارة الدفاع، يستمد اسمه من راعيه السيناتور الديمقراطي باتريك ليهي عن ولاية فيرمونت الذي شغل منصب عضو مجلس الشيوخ الأمريكي من عام 1975 إلى عام 2023 وكان من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان في الكونجرس). ولا لبس في لغته: «لا يجوز تقديم أي مساعدة بموجب هذا القانون أو قانون مراقبة تصدير الأسلحة إلى أي وحدة من قوات الأمن في دولة أجنبية إذا توافرت لوزير الخارجية معلومات موثوقة تفيد بأن هذه الوحدة ارتكبت انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان».
ينطبق هذا القانون على جميع البلاد التي تتلقى مساعدات عسكرية أمريكية. وقد كتب تشارلز بلاها، وهو دبلوماسي تقاعد أخيرا، في يونيو 2024 أن «مسؤولي الوزارة يصرون على أن الوحدات الإسرائيلية تخضع لمعايير التدقيق التي تخضع لها الوحدات في أي دولة أخرى. وقد يصح هذا من الناحية النظرية. ولكن، من الناحية العملية، هذا ببساطة ليس صحيحا». ولكلماته هذه ثقل خاص: إذ كان بلاها على مدى سبع سنوات ونصف السنة هو مسؤول وزارة الخارجية المكلف بفحص تحويلات الأسلحة للتأكد من امتثالها لقانون ليهي. وقبل بضعة أسابيع، كان ليهي نفسه، المتقاعد حاليا، قد وجّه تحذيرًا أيضًا إذ قال: إنه «منذ إقرار قانون ليهي، لم تعتبر أي وحدة من قوات الأمن الإسرائيلية غير مؤهلة للحصول على مساعدات أمريكية، برغم التقارير المتكررة والموثوقة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان واعتياد عدم إنزال العقاب المناسب على الجنود والشرطة الإسرائيليين ممن ينتهكون حقوق الفلسطينيين».
ويبدو أن أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية الأسبوع الماضي بحق نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف جالانت تشكّل «معلومات موثوقة» عن انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وكذلك لعدد كبير من الإجراءات الأخرى الموثقة جيدًا التي اتخذتها السلطات الإسرائيلية منذ أكتوبر 2023. فقد تلقت وزارة الخارجية ما يقرب من خمسمائة تقرير حول استعمال إسرائيل أسلحة زودتها بها الولايات المتحدة في هجمات على المدنيين في غزة. وبعد غزو إسرائيل للبنان الشهر الماضي، اتهمت المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان إسرائيل بارتكاب «أعمال وحشية في لبنان، من بينها أعمال عنف تهدف إلى بث الرعب بين المدنيين والحرب العشوائية».
والقانون الثاني الذي يجب على بايدن تفعيله هو قانون ممر المساعدات الإنسانية. ويحظر هذا القانون جميع عمليات نقل الأسلحة إلى أي دولة «تحظر أو تقيد بأي شكل آخر نقل أو تسليم المساعدات الإنسانية الأمريكية إلى أي دولة أخرى». ورفض إسرائيل باستمرار السماح بأكثر من قطرة من المساعدات إلى غزة دفع إدارة بايدن إلى إنفاق 230 مليون دولار لبناء رصيف عائم متقن في ربيع العام الحالي - لم يتم العمل به إلا لثلاثة أسابيع فقط وتمكن خلال ذلك الوقت من تسليم مساعدات أقل من القطرة التي تدفقت عن طريق البر في أربعة أيام فقط في الفترة نفسها. وفي أغسطس، انتهى تقرير إشرافي صادر عن المفتش العام للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى أن قوات الدفاع الإسرائيلية جانبت الصواب إذ أعطت الأولوية لمتطلباتها التشغيلية والأمنية على تسليم المساعدات الإنسانية.
وقبل ثلاثة أسابيع من يوم الانتخابات، أبلغ وزيرا الخارجية والدفاع الأمريكيان إسرائيل علنًا بإمهالها شهرًا للوفاء بالوعود التي قطعتها في مارس من هذا العام لإزالة العوائق أمام الجهود الإنسانية، مستشهدين على وجه التحديد بقانون ممر المساعدات الإنسانية. لكن الموعد المحدد مر في 12 نوفمبر دون أي رد أمريكي. ونجح نتنياهو في خداع بايدن.
الانحصار
هل يمكن لأي من هذه الإجراءات التنفيذية أن تستمر بعد الانتقال الرئاسي؟ لقد أمضى ترامب ولايته الأولى، في نهاية المطاف، في تمكين أجندة نتنياهو، وتشير اختياراته الوزارية إلى أن إدارته لن تفعل الكثير لكبح جماح إسرائيل.
قد يحاول ترامب التراجع عن تطبيق القوانين المتعلقة بنقل الأسلحة. وقانون ممر المساعدات الإنسانية يحتوي على استثناء رئاسي، فبوسعه التراجع عن أي قرار بتفعيله دون التعرض لأكثر من السخرية الدولية. ولكن قانون ليهي الحاكم لوزارة الخارجية لا يحتوي على مثل هذه الثغرة. ففور اعتراف الوزارة رسميا بوجود «معلومات موثوقة» عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، لا يمكنها قانونيًا أن تقرر الاستمرار في تسليم الأسلحة. ولا يمكن قانونًا أن يأمر ترامب وزير خارجيته بأن يقطع بما إذا كانت اشتراطات ليهي قد استوفيت. ولن يكون من مخرج قانوني إلا عملية محسوبة بعناية يتم من خلالها «إصلاح» الأطراف المذنبة بارتكاب انتهاكات جسيمة - بما يعني أن المسار الوحيد لخروج دولة تعتبر مذنبة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من حظر ليهي هو التوقف عن ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
قد يحاول ترامب إلغاء الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ولكن ما من سابقة لمثل هذا الإجراء. فقد اعترفت الولايات المتحدة رسميا بما يقرب من مائتي دولة، لكنها لم تعترف رسميا قط، في حدود معلوماتي، بعدم وجود دولة. فيمكن أن يوجه ترامب قانونييه إلى إعلان أي شيء يرغب فيه، ولكن فور أن تعترف كل دولة تقريبا في العالم بدولة فلسطينية، فسوف تكون معركة فردية إلى حد ما. وسيكون قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يفرض حل الدولتين متجاوزا قدرة أي رئيس أمريكي على إلغائه.
لن ينشئ هذا البرنامج من العمل التنفيذي عملية سلام جديدة، ولكن تأثيره سوف يكون كبيرا. فمن شأنه، أولًا: أن يبقي احتمال تقرير المصير الفلسطيني حيا، وإن تكن حياة معتمدة على أجهزة الإنعاش وفي غياب هذا الإجراء، من المرجح أن تضم إسرائيل بعض أو كل الأراضي المحتلة خلال السنوات الأربع المقبلة. وثانيا: قد يغير هذا البرنامج من الديناميكية السياسية داخل إسرائيل نفسها: إذ يظل حل الدولتين هو السبيل الوحيد الممكن لاحتفاظ إسرائيل بهويتها، وتظل حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة مفتقرة إلى الشعبية بشدة. وثالثًا: من شأن هذا البرنامج أن يمنح الولايات المتحدة النفوذ للضغط على إسرائيل من أجل إبرام صفقة تاريخية، وإذا كان ترامب لم يبد تعاطفا مع الفلسطينيين، لكنه أظهر رغبة عميقة في دخول التاريخ بوصفه صانع صفقات جيوسياسية. قبل أقل من عامين، كانت المقارنات تعقد بين إرث بايدن وإرث أحد أعظم الرؤساء الأمريكيين، وهو فرانكلين روزفلت. واليوم، لا يعقد أحد هذه المقارنات، ويندد العديد من الديمقراطيين والتقدميين بسلوك بايدن بشأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ومن الممكن أن توفر هذه الخطوة بعيدة النظر نهاية أفضل لفصل السياسة الخارجية في قصته، بوصفه رئيسًا حشد تحالفًا عالميًا للدفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لا للأوكرانيين فقط ولكن للفلسطينيين أيضا.على مدار العام الماضي، لم يظهر بايدن نفسه بمظهر الجريء، ناهيك بالراديكالي. لكنه على مدار مسيرة حياته المهنية، ظل باستمرار يفاجئ من يعدونه الرجل الأكثر قابلية للتنبؤ في واشنطن. ولا أعرف هل سيقرر بايدن عام 2024 إنهاء حياته العامة بلفتة شجاعة وبطولية. لكن بايدن الذي عملت معه كان سيوجه فريقه لوضع مثل هذه الخطة.
جوناه بلانك مساعد باحث سياسي أول في مؤسسة راند وزميل بحثي زائر في معهد الشرق الأوسط بجامعة سنغافورة الوطنية. عمل في ما بين عامي 1999 و2009 مدير السياسات لدى السيناتور جو بايدن لجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، وبين عامي 1999 و2001 مستشارًا لبايدن في شؤون الشرق الأوسط.
خدمة فورين أفيرز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الصراع الإسرائیلی الفلسطینی المساعدات الإنسانیة جسیمة لحقوق الإنسان بالدولة الفلسطینیة الولایات المتحدة وزارة الخارجیة انتهاکات جسیمة للأمم المتحدة الشرق الأوسط حل الدولتین قانون لیهی مجلس الأمن على بایدن قانون ا رئیس ا
إقرأ أيضاً:
تركيا في الشرق الأوسط الجديد: لاعب أم صانع قواعد؟
تولي تركيا أهمية مركزية لمنطقة الشرق الأوسط باعتبارها العمق الإستراتيجي لأمنها القومي العسكري والاقتصادي، وسعت أنقرة خلال عقود مضت عبر بوابات الطرق الدبلوماسية المرنة والأدوات الاقتصادية، ثم الخيارات العسكرية، لضمان مصالحها الحيوية الجيوسياسية في المنطقة، وخاصةً مع الدول المحاددة لها؛ حيث تعاملت مع هذه الدول كحقيقة جغرافية وتاريخية وعسكرية تربطها بها على امتداد قرون عديدة، وزاد من ظهور الدور التركي المؤثر وتصاعده خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تراجع قدرات دول عربية مهمة كالعراق، وسوريا.
علاقات تركيا مع دول الشرق الأوسط جمعت بين السعي لإحلال السلام من خلال مساهمتها في تخفيف حدة المشاكل بينها وبين هذه الدول بغض النظر عن قربها أو بعدها عن حدودها، وفي ذات الوقت طرح نفسها كشريك استثماري يمكن الوثوق بقدراته بما يجعل من بوابة مشاريع التنمية الاقتصادية في دول الشرق الأوسط وبخاصة الإقليمية منها، مفتاح النجاح في تمكينها من الولوج إلى دوله كقوة مركزية اقتصادية هائلة.
ومثلما نجحت في إيجاد دور مهم لها في تطوير التنمية الاقتصادية، نجحت أيضًا في مطاردة أعدائها أو مواجهتهم عسكريًا، كما هو الحال مع حزب العمال الكردستاني المحظور، وأيضًا خلال أزمتها مع اليونان التي وصلت إلى حدود المواجهة العسكرية؛ بسبب تنازُع البلدين حول جزر في بحر إيجه في العامين: 1987، و1996، بما أظهر قدراتها العسكرية وجرأة قيادتها على اتخاذ القرارات الضامنة لسيادتها ومصالحها.
إعلاناقتصاديًا وبحسابات منهجية دقيقة سعت أنقرة إلى تقليص حدّة التحسس الإستراتيجي بينها وبين دول الجوار العربي، التي رأت في التوجه التركي محاولة "لعَثْمنة" المنطقة عبر بوابات الاقتصاد، فنجحت في إنشاء مجالس تعاون اقتصادية إستراتيجية مع العراق، سوريا، الأردن ولبنان، كما حقّقت نجاحًا لافتًا في علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، التي شهدت تطورًا متسارعًا وصل إلى حدود إنشاء منتدى تركي- خليجي عربي، بات اليوم أحد مظاهر التوافق الإستراتيجي في مجالات الاستثمار متعدد التخصصات الصناعية، الزراعية، السياحية والعسكرية.
وسلطت المتغيرات الجذرية في الشأن السوري، الضوء على الدور التركي بشقَّيه؛ المعلن وغير المعلن، في التحضير لعوامل نجاح الفصائل المسلحة المعارضة في السيطرة وبشكل سريع ولافت على دمشق والمحافظات والمدن السورية، وأيضًا في تهيئة الأرضية السياسية لقبول هذه المتغيرات من قبل دول إقليمية وعالمية، باستثناء إيران التي تمثل -وفق رؤى هذه الفصائل ومن ورائها تركيا- الداعم الأساس لنظام الأسد طيلة أكثر من 13 سنة.
ما حدث في سوريا أبرز بشكل كبير وخطير الدور التركي المتوقّع في الشرق الأوسط الجديد، وهو أمرٌ حظي، وما زال، باهتمام كبير من قبل مراكز صنع القرار ومؤسسات الدراسات الإستراتيجية الأميركية والغربية، كما شكّل خارطة طريق جديدة لعلاقات أنقرة مع منظومة دول الخليج العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ودولة قطر، ولعدة أسباب أهمها المتغيرات الإيجابية الحاصلة في سوريا وبدعم تركي مثل تطورًا نوعيًا كبيرًا في تغيير الواقع الجيوسياسي في المنطقة والذي تمثّل بإنهاء الدور الإيراني في سوريا، بما يعنيه من انحسار مشروعها الإستراتيجي في المنطقة.
تركيا الناجحة في تعاملها مع القوى الدولية كالولايات المتحدة، وروسيا، ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، سعت لتعزيز نفوذها في المنطقة من خلال سياسة خارجية نشطة، تعتمد على مزيج من الدبلوماسية والقوّة العسكرية، والأخيرة كانت لمعالجة واحدة من معضلات الأمن القومي التركي التي تمثّل الجماعات الكردية في شمال العراق وسوريا مثل وحدات حماية الشعب (YPG)، وحزب العمال الكردستاني (PKK).
إعلانوتقف قضية الجماعات الكردية المسلحة المعارضة للدولة التركية والتي تصنفها كجماعات إرهابية، كأحد العوامل الرئيسية الدافعة للتحرك التركي بثقله المشهود في حسم الأمور لصالح الفصائل السورية المسلحة.
الجماعات الكردية المعارضة لتركيا التي حصلت خلال السنوات الأخيرة على دعم سياسي أميركي – إسرائيلي تمثل بالاعتراف والدعم اللوجيستي لقوات سوريا الديمقراطية (قسَد)، هذه القوات مثلت في فترة ما بعد الأسد (عقدة) الوفاق الوطني السوري.
لكن تركيا التي كانت ترفض أي صيغة تمنح الأكراد دورًا موسعًا في سوريا، باتت تدرك أن تجاهل القضية الكردية لم يعد خيارًا عمليًا، خصوصًا بعد نجاحها في إقناع زعيم حزب العمال، الكردي المسجون في تركيا عبدالله أوجلان بتوجيه رسالة حثّ فيها مقاتلي حزبه على التخلي عن السلاح وحظر نشاطه العسكري؛ لذلك شجّعت أنقرةُ دمشقَ على منح الأكراد حقوقًا متساوية مع بقية مكونات الشعب السوري، في خطوة تعكس توازنًا جديدًا في تعاملها مع هذا الملف، وكان ثمرة ذلك التوجّه التركي توقيع الرئيس السوري أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي اتفاقًا يقضي "بدمج" كافة المؤسّسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية والحقول النفطية والمنافذ الحدودية في إطار الدولة السورية، وتحت نظام المواطنة المتساوية.
لقد عززت مجريات الأمور من دور تركيا في الشرق الأوسط الجديد، فالقوتان الكبيرتان في سوريا الأسد إيران وروسيا، تعاملتا مع الدخول التركي المحكم لسوريا بشيء من الواقعية بغية الحفاظ على نفوذهما هناك بعد أن تستقرّ الأوضاع، وتتوضح صورة الموقف المضطرب في ذلك البلد.
ومع انحسار المشروع الإيراني وتصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة والضفة، ولبنان، وسوريا، وربما إيران، تبقى تركيا الضامن الوحيد لدول المنطقة التي يمكن الركون إليها للتعامل مع واشنطن وتل أبيب لإيقاف هستيريا العدوان الإسرائيلي، والضغط باتجاه الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل خلال عملياتها الدموية والتدميرية ضد هذه الدول.
إعلانإسرائيل تراقب النفوذ التركي في سوريا بحذر شديد، حيث تقدر أهمية العلاقة مع تركيا وضرورة التعامل معها، بخصوصية لتجنب المشاكل الجدية معها؛ فآخر ما تخشاه تل أبيب أن تحادد تركيا عبر بوابة سوريا، كما تولي موضوع الشراكة الإستراتيجية بين دمشق وأنقرة والتي تشكّل قضية إنشاء قواعد دفاع جوي تركية عاجلة وسط البلاد لحماية الأجواء السورية جانبًا كبيرًا من المتابعة.
وهذا يفسّر قيام إسرائيل خلال الفترة التي أعقبت نجاح الثورة السورية بشنّ عمليات عسكرية عديدة داخل الأراضي السورية، كما قضمت مناطق أخرى تشكل مواقع إستراتيجية عسكرية مهمة داخل الأراضي السورية. إضافة إلى سعيها لإثارة ما يزعزع الاستقرار والأمن داخل سوريا لمشاغلة تركيا عبرها تحسبًا لأي تطورات جيوسياسية خلال السنوات المقبلة .
العراق الذي شهد أدوارًا متعددة للمليشيات الموالية لإيران، والتي تعتبر تركيا ندًا عقائديًا لها، تحرك رسميًا لكسب ودّ أنقرة لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بإطلاق الحصص المائية لنهرَي دجلة والفرات، وأخرى لكبح جماح المليشيات الكردية التركية في شمال العراق، وفسح المجال الجوي والأرضيّ والاستخباراتي لتركيا لملاحقتها، مع منحها التراخيص لإقامة معسكرات لقواتها في مناطق حيوية بمحافظات دهوك ونينوى كمنطلقات لأعمال عسكرية دائمة.
ومع كل ذلك فإنّ الحكومة العراقية تعلن إدانتها بعضَ العمليات العسكرية التركية داخل العمق العراقي في كردستان العراق. وأيضًا توسّع العمليات العسكرية في المنطقة، وزيادة الحضور العسكري والاستخباراتي في كل الشمال العراقي، لكن بذات الوقت لا تمتلك هذه الحكومة الكثير من أوراق الضغط على أنقرة لثنيها عن ذلك، خصوصًا مع تصاعد موازين التبادل التجاري بين البلدين والتي قدّرت بـ(20) مليار دولار، والمشروع الاقتصادي الإستراتيجي الكبير المتمثّل بـ(طريق التنمية) لربط ميناء الفاو العراقي بالحدود التركية بسكك حديد وطرق برية بقيمة 17 مليار دولار.
إعلانإيران، التي كانت حتى يوم سيطرة الفصائل المسلحة السورية على دمشق، تمثل القوة الرئيسية لنظام الأسد بما تعنيه (القوة) من معانٍ أمنية واستخباراتية واجتماعية وعقائدية، لكن، وخلال أيام معدودة وبشكل دراماتيكي انهارت هذه (القوة) لتحل محلها تركيا، وبشكل أكثر إحكامًا وتحكمًا بمجريات الأمور، وبات الدور التركي من حيث الوزن والتأثير في المشهد السوري والإقليمي، هو الأبرز والأكثر تنظيمًا.
وتتميز أنقرة عن طهران بقدرتها على الحوار الإيجابي في الساحة الدولية والإقليمية والمحلية من خلال قدراتها الاقتصادية والعسكرية المؤثرة في المنطقة دون الولوج في مشاريع مذهبية طائفية ميزت الحراك الإيراني.
كما أن الولايات المتحدة ترحب- خصوصًا بوجود الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فترته الرئاسية الثانية- بسوريا المتوافقة مع تركيا، بما يعني تحجيم دور إيران في هذا البلد. سياسات ترامب المعلنة تجاه طهران والإستراتيجية التي ستتبعها إيران في مواجهة هذه السياسات ستعني الكثير في تمكين تركيا من الولوج بقوة إلى الشرق الأوسط الجديد، لأن أية عمليات عسكرية ستوجَّه نحو إيران ستعني تفرّد أنقرة بمشهد الشرق الأوسط المقبل.
لقد حرصت تركيا على طمأنة دول الخليج العربي بموضوع ملء الفراغ في سوريا بعد سقوط بشار الأسد لضمان مصالح جميع الدول، ووقفت المملكة العربية السعودية في مقدمة المؤيدين لهذا التغيير، وكذلك بقية دول مجلس التعاون الخليجي التي رأت ضرورة دعم السلطات الجديدة دوليًا، والحفاظ على وحدة وسلامة أراضي سوريا، ومنع الجماعات المتطرفة من نشر الفوضى فيها وفي المنطقة.
ونجحت تركيا إلى حد كبير في تحقيق التعاون مع الرياض لتنسيق رؤية مشتركة لمستقبل سوريا ومنع أي خلاف أو تنافس قد يؤدي إلى توترات بين البلدين، هذا التنسيق يعني فيما يعنيه كسب الاهتمام الدولي لرفع العقوبات المفروضة على سوريا الأسد والتعامل من النظام الجديد بإيجابية ودعم إعادة إعمار البلاد، وتقديم المساعدات الإنسانية والاقتصادية للشعب السوري، وهو موقف ما كان ليكون قبل أقل من عقد من الزمن، لكن نجاعة السياسة الخارجية التركية الفاعلة آتت تأثيرها في المشهد التركي- الخليجي بوضوح.
إعلانمنذ أكثر من عقدين من الزمن والعالم يسمع ترديد دول كبرى ومؤسسات بحثية عديدة، مصطلح "الشرق الأوسط الجديد"، وقد كانت هذه التلميحات أو الإعلانات بصيغها المختلفة تأتي من قادة تحرّكوا فعلًا تجاه الشرق الأوسط؛ بهدف تغييره مثل الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش ووزراء خارجيته ودفاعه، بالإضافة إلى إفادات وتهديدات قادة إسرائيليين، ومحللين سياسيين، ومراكز دراسات المستقبلات.
وقد ظن الكثيرون عام 2003 أن إيران ستكون لاعبًا أساسيًا في مراكز قوى هذا الشرق الجديد بحسب القدرات التي منحتها لها ظروف سقوط نظام صدام حسين، واحتلال العراق، والتسهيلات الأميركية لانسياحها في هذا البلد، وسوريا، ولبنان وسواها.
لكن إيران لم تحسن التعامل مع هذا المتغير، وسعت إلى تأسيس مشروعها الشرق أوسطي المرتكز على مفهوم "تصدير الثورة"، بما تسبّب في زعزعة الأمن الإقليمي، وظهور التيارات الجهادية الإرهابية التي جعلت الشرق الأوسط منطقة غير آمنة ومصدرًا للإرهاب.
لهذا السبب، ومع تطلّعها النووي غير المرغوب به دوليًا وإقليميًا، فإن الدور التركي بإسلامه "العلماني"وتحالفاته الإستراتيجية مع حلف شمال الأطلسي، وعلاقاته الوثيقة مع المنظومة الغربية والشرقية، وأيضًا محيطه العربي، وتميزه اقتصاديًا كأحد أهم الاقتصادات الفاعلة عالميًا وإقليميًا، يبقى هو الخيار الأمثل لشرق أوسط جديد تعاد به موازنات المنطقة، وتتحدد فيه آمال وتطلعات دوله بما يسمح بظهور مناطق اقتصادية هائلة تجعل طريق السلام والاستقرار والأمن غاية جميع دوله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline