لجريدة عمان:
2024-11-18@18:23:49 GMT

من أجل صناعة ذاكرة ثقافية عمانية

تاريخ النشر: 18th, November 2024 GMT

العلوم.. بمختلف أبوابها تقوم على تأريخ طويل من التراكم المعرفي، فلا علم من دون مقدمات، فمن العلوم ما يرجع إلى مئات وآلاف السنين، ومنها ما يمتد إلى بداية الوجود الإنساني.. بل هناك بحوث علمية وأطروحات فلسفية تقرأ ما قبل وجود الإنسان، وتأثيره على مسار حياة البشر، ووُجِدتْ فروع تدرس تأريخية العلوم كـ«علم العلم» و«تأريخ العلم».

وكما اهتم العلماء بخارطة العلوم؛ اهتمت الأمم بمسيرة حضارتها الطويلة، فغدت يُحسب مجدها بما حققته في ماضيها من حضارة، وبما تحققه في حاضرها من مدنية. والدول تعيد بناء ذاتها متكئة على تاريخها الحافل بالأحداث، وهي ليست أحداثًا سياسية وعسكرية فحسب، وإنما هي أيضًا أحداث اجتماعية ومعرفية؛ من أديان ومعتقدات وأساطير وآداب وفنون ومخترعات.

إن الاهتمام بمسيرة العلوم وما أنتجته الإنسانية عبر تاريخها الطويل ليس جديدًا، فهو يمتد إلى ما قبل الميلاد، فينقل عن أرسطوطاليس (ت:322ق.م) اهتمامه بتاريخ العلوم؛ الإنسانية والطبيعية، وبجَمْعِ ما يتمكن من معلومات ومواد.. بل جَمَعَ حيوانات ونباتات؛ ليجري تجاربه عليها، وقد ذُكر بأنه أقام متحفًا طبيعيًا، وأنشأ مكتبة كبيرة تحتوي على مختلف العلوم، وبهذا يعدّ أرسطو مؤسس أقدم وعاء لذاكرة ثقافية؛ تشتمل على الطبيعيات والإلهيات والفلسفات والآداب والسياسة ونحوها. وهناك من يذهب إلى أن أول متحف تأسس عام 530ق.م في بلاد ما بين النهرين، وقيل: عام 2500ق.م في بابل. وأيًا كان التاريخ الصحيح.. فالمقصود أن البشرية منذ عصورها العتيقة اهتمت بذاكرتها الثقافية.

الذاكرة الثقافية.. إرث إنساني، يتعدى الحيّز الزمكاني للمجتمع الذي يحتضنها، فهي الأحداث والمعارف والعلاقات البشرية؛ تعاونًا وتنافسًا، التي تشكّل ذهنية مجتمع ما وضميره وتؤثر على ممارسة أفراده، منذ نشأته الأولى، وتتراكم ما بقي قائمًا. وقد ينقرض المجتمع وتبقى ذاكرته محفوظة بمختلف وسائل الحفظ، فالذاكرة الثقافية.. أطول عمرًا من حاضنتها الاجتماعية. وهي كلٌ متكاملٌ؛ كلُ عنصر يؤثر على الآخر، وأي تقسيم لها فهو اعتباري لتسهيل جمع عناصرها، ثم دراستها، ولهذا الغرض؛ يمكن تصنيفها إلى تاريخية وحضارية وعلمية ووطنية وقومية. والذاكرة.. وعاء يضم كل ما يتعلق بأي علم وفن، يتسع وطابها ويضيق بحسبما تخصص له، فذاكرة الأمة أوسع من ذاكرة المجتمع، والذاكرة القومية التي تضم مجموعة من الشعوب أوسع من الذاكرة الوطنية لدولة واحدة، وذاكرة العلوم الطبيعية أكبر من الذاكرة النباتية أو الحيوانية، وهكذا في سائر الذاكرات.

الفرنسي جوستاف لوبون (ت:1931م)، والذي أصفه بـ«العين الثانية لفلسفة الحضارة»، يذهب إلى أن أخلاق الأمم تتغير ببطء شديد، وأنها تظل محافظة على أخلاق نشأتها الأولى، وهي صلبة أمام تبدل الأنظمة عبر الزمان؛ سواءً أكانت دينية أم سياسية أم عرقية. إن للأمة «جينات ثقافية» كالجينات البيولوجية في الكائنات الحية، والتحوّل في جذور بُنية الأمة هو ما يغيّر هيكلتها، ولذا؛ لابد من الوقوف على الذاكرة الثقافية للأمة لفهم أخلاقها القائمة، فمن دون جمع ذاكرتها؛ ثم دراستها بتحليلها وتفكيك مكوناتها معرفيًا، تبقى تصرفات أفرادها غير معللة ولا متوقعة، خاصةً؛ إن حكم على أخلاقها بحسبما يطفو على السطح. مثلًا؛ يمكن أن تصف أمة بأنها متسامحة، ولكن عندما يُمَس شيء من عاداتها أو معتقداتها ينفجر وريد تعصبها، وربما تصاعد دخانه إلى العنف، فهي متسامحة.. ليس لقدرتها على استيعاب المتغيّرات وإنما لأنها مخدَّرة بجمودها، فإن أردت أن توقظها من سباتها غلى دم تعصبها وكشرت عن أنياب غضبها.

لنأتِ إلى ذاكرتنا الثقافية.. إن أهم وعاء ذاكرة عرفه المجتمع العماني هو المخطوطات؛ فهي مكتنز العلوم كالتاريخ والأدب والفقه واللغة، ومستوعب الأخلاق الفردية والمزاج الاجتماعي والتلاقح الحضاري، فالمخطوط العماني قبل المكتبة والجامعة والمتحف، هذه المؤسسات.. لم نعرف معظمها إلا في زماننا. وأما المكتبات فقد كانت محدودة ثم تطورت في العصر الحديث كمًا ونوعًا. ومع أهميتها إلا أنها تبقى أمام مفهوم الذاكرة الثقافية مخازن للمعرفة ومصادر للذاكرة، تنتظر ترقيتها إلى «ذاكرة عمانية» بمفهومها الثقافي الحديث.

وكما نجد ذاكرتنا العمانية مدونة في أسفار الأولين؛ فإن ذاكرة المعاصرين؛ لاسيما كبار السن، المسماة بالذاكرة الشفهية أو التاريخ المروي، هي الأخرى تشكل رافدًا مهمًا لذاكرتنا الثقافية.. بل هي الرافد الحي، الذي علينا أن نبذل الجهد لجمع محتوياته قبل أن يغور بموت أصحابه. هناك من قاموا بجمع جانب من عناصر هذه الذاكرة؛ سواءً من الباحثين أم المؤسسات، وهي بداية جيدة وضرورية، بيد أنه من المهم تكثيف الجهود وتوحيدها، ووضع خطة علمية وعملية لطرائق الجمع، بحيث تغطي جميع البلدان العمانية.

هناك مصادر أخرى للذاكرة.. منها: النقوش القديمة كالرسمات على صفحات الحوائط الجبلية، فهي إما رموز دينية واجتماعية، أو تعبير عن وقائع حربية وسياسية واجتماعية، أو كتابات أبجدية تعود إلى ما قبل الإسلام كخط المسند الذي لم تجمع نقوشه ولم تفك رموزه في عمان حتى الآن. ومنها: الكتابات الجدارية بالخط العربي، والتي تحفل بها الجوامع والحصون والبيوت العودة «الكبيرة» ونحوها، ففيها مادة مهمة عن حوادث الدهر وصروفه المتقلبة، وعن أسماء أشخاص ووفياتهم؛ عاشوا على أرض عمان وتركوا بصمتهم عليها. ومنها: الأطلال والمواقع الأثرية، التي تحتاج إلى استنطاق بربطها بأحداث زمانها، والوضع الاجتماعي والسياسي الذي عاشه منشئوها. وبرغم الجهود الكبيرة التي بذلت في التنقيب عن الآثار الغابرة في عمان؛ إلا أن الكشف الآثاري لا يزال في بداياته، ناهيك عن قلة تحليله الثقافي وضعف ربطه بالحركة الحضارية التي سادت المنطقة حينذاك.

المعتقدات والعادات والتقاليد والألعاب الشعبية والأغاني والموسيقى.. أيضًا روافد للذاكرة الثقافية العمانية. فمعرفة مكان ظهورها؛ سواءً أكانت محلية، أم وافدة على عمان واستقرت فيها، وتتبع طريقة ممارستها، ومدى التطور الذي لحقها، كل ذلك يسهم في فك «الخارطة الجينية» للذاكرة العمانية. وعلينا ألا ننسى بأن عمان على مدى تأريخها استقبلت هجرات بشرية، وتعرضت إلى الغزو، وتمددت في حكمها إلى بقاع احتكت بسكانها، كل هذا رافد لذاكرتها. وبالجملة؛ هناك الكثير من مظان ذاكرتنا الثقافية؛ وإنما ذكرت بعضها على سبيل المثال، وتبقى على مؤسساتنا وباحثينا مواصلة جهودهم في تكوين هذه الذاكرة.

إن الذاكرة الثقافية العمانية متوزعة في أمكان كثيرة، قد لا نلقي لها بالًا، في حين هي مخازن للمعرفة ومكانز للعلم، ولذلك؛ كل الجهود العلمية مهمة لجمعها وبنائها. وفي زمننا يوجد الكثير مما يمكن الاستفادة منه لبناء هذه الذاكرة، بدءا من الجامعات والمكتبات والمراكز الثقافية والإعلام؛ بمختلف أنواعه، وليس انتهاءً بالناس الذين هم جزء من الذاكرة وناقلوها. ولابد من الإشارة إلى الجهود التي تقوم بها مؤسسات عديدة في سلطنة عمان، منها: وزارة الثقافة والرياضة والشباب؛ في جمع المخطوطات وتحقيقها، والمنتدى الأدبي؛ بوصفه مؤسسة للإنتاج العلمي، وهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، ومركز ذاكرة عمان، والمتحف الوطني، ومتحف عمان عبر التاريخ، ومتحف البليد، ومكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي، وعموم المكتبات الأهلية؛ خاصةً التي تحوي المخطوطات والوثائق.

إن ما نحتاج إليه في المرحلة القادمة من عمر الدولة الحديثة؛ وضع دراسة لمشروع متكامل للذاكرة الثقافية العمانية، يُبنى على أسس منهجية علمية؛ وتستخدم فيه أحدث أدوات التقنية الرقمية، مع فريق واسع مدرب على جمع المعلومات، وفريق من الباحثين المقتدرين على التحليل العلمي الموضوعي لمسيرة العماني؛ منذ بدأ حياته على أرض عمان حتى اليوم، مع نخبة من المفكرين والفلاسفة؛ ليسهموا في فهم الشخصية العمانية والتحولات التي أصابتها والمآلات التي تنتظرها. لم تعد الذاكرة الوطنية ترفًا علميًا ولا هدرًا ماليًا، وإنما أصبحت من ركائز ومنطلقات صناعة المستقبل الثقافي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذاکرة الثقافیة

إقرأ أيضاً:

جرعة زائدة تؤدي إلى الوفاة.. أستاذ علاج سموم يحذر من مخدر GHP وتأثيره على الذاكرة

أكد الدكتور نبيل عبد المقصود، أستاذ علاج السموم والإدمان بكلية طب القصر العيني، أن مخدر النوادي GHP يجعل الشخص المتأثر غير قادر على الاستجابة أو التصرف بشكل طبيعي تجاه أي تهديد، لافتا إلى أن ذلك بسبب يؤدي إلى تأثيرات فسيولوجية وذهنية مؤقتة، أو مزيج من الاثنين.

وأضاف «عبد المقصود» خلال مداخلة هاتفية مع الإعلامية «فاتن عبد المعبود»، ببرنامج «صباح البلد»، والمذاع على قناة «صدى البلد»، أن التأثيرات التي تنتج عن مخدر النوادي GHP تظهر على الشباب والفتيات، ويمكن ملاحظته على الجنسين.

وأشار عبد المقصود، إلى أن هناك إقبالا كبيرا من المراهقين من الجنسين على تناول مخدر النوادي، مضيفا أنه هذا المخدر يؤدي إلى الاستيقاظ بصورة مستمرة، بمعنى أنه في حالة عدم النوم بصورة طبيعية فقد يكون هؤلاء يتعاطون هذا المخدر.

وأوضح أن، مخدر النوادي يُبطّيء النشاط في الجهاز العصبي المركزي، فيشعر مستخدمه بالارتباك، مضيفا أنه سائل عديم اللون والرائحة.

وأكد أستاذ علاج السموم والإدمان بكلية طب القصر العيني، أن الجرعات الزائدة من العقار تؤدي إلى فقدان الوعي والذاكرة، وبعض الحالات قد تصل لمضاعفات كبيرة يؤدي بعضها إلى الوفاة.

وأشار إلى أن المتعاطي قد يتعرض لخطر الاختناق أثناء التقيؤ نتيجة تأثير العقار على الجسم.

GHP عقار الجرائم

يذكر أنه تم القبض أمس الجمعة، على الإعلامية و البلوجر داليا.ف بتهمة حيازة عقار GHP.

وتم تسجيل حالات اغتصاب كثيرة حول العالم كان عقار GHB المتسبب الرئيسي فيها، وكان نادرا ما يستخدم في مصر.

وبرز اسم عقار GHP في قضية الاغتصاب التي حدثت في قضية «فتاة فيرمونت».

وضمن اعترافات سفاح التجمع «كريم. م»، كان عقار GHP عاملا أساسيا لتنفيذه جميع جرائمه، فكشفت تحقيقات النيابة العامة أن سفاح التجمع استخدم عقار GHB للسيطرة على ضحاياه الثلاثة. فأكد سفاح التجمع اعتياده التعرف على الفتيات واصطحابهن لمسكنه لممارسة أفعال جنسية غير مألوفة، وتعاطي المواد المخدرة معهن، ومعاشرتهن جنسيا، وحال وقوعهن تحت تأثير تلك المواد المخدرة كان يعطيهنّ عقار GHB، ليتمكن من قتلهن وتصوير تلك المقاطع باستخدام هاتفه.

اقرأ أيضاًبرز في «فيرمونت وسفاح التجمع».. ماهو عقار GHP الذي كانت تتعاطاه الإعلامية الشهيرة؟

بعد ضبطه بحوزة الإعلامية داليا فؤاد.. ما هو مخدر الاغتصاب GHB؟

«مش بتاعتي».. الإعلامية الشهيرة تنفي حيازتها مواد مخدرة

مقالات مشابهة

  • مدارس العلوم الشرعية بحجة تنظم فعالية ثقافية بالذكرى السنوية للشهيد
  • ما أفضل الأطعمة لتحسين الذاكرة وصحة الدماغ؟
  • أستاذ علاج السموم: متعاطي مخدر GHP يفقد الذاكرة ويكون غير قادر على التحكم بقراراته
  • "الإحصائي الخليجي" يسلط الضوء على المنجزات العمانية لتعزيز التنمية المستدامة
  • المؤتلف الإنساني.. صناعة عمانية خالصة
  • السفير البحريني: العلاقات العمانية البحرينية مثالا للتجارب الناجحة ونموذجا يحتذى به
  • جرعة زائدة تؤدي إلى الوفاة.. أستاذ علاج سموم يحذر من مخدر GHP وتأثيره على الذاكرة
  • «عدسة عمان»: إطلاق كوكبة من الأقمار الصناعية العمانية خلال السنوات الـ5 القادمة
  • “تمريض” عمان الأهلية تستقبل وفداً من الملحقية الثقافية السعودية