عربي21:
2025-01-16@02:46:17 GMT

سردية الخطر الجاثم في تونس: الحدود والآفاق

تاريخ النشر: 15th, November 2024 GMT

مهما كان موقفنا من التأويل الرئاسي للفصل 80 من الدستور، فإن تفعيل هذا الفصل يوم 25 تموز/ يوليو 2021 قد مثّل لحظة مفصلية في التاريخ السياسي للبلاد. فسواء أكان هذا التفعيل انقلابا على دستور 2014 -كما يقول المعارضون- أم كان تأويلا ما فوق دستوري-كما يقول أنصار تصحيح المسار- فإنّ "ميراث" المسار المتعثر للانتقال الديمقراطي من جهة أولى، وطبيعة المشروع السياسي للرئيس من جهة ثانية قد نقلا حالة الاستثناء من الوضع المؤقت الموجه نحو "إعادة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال" إلى المرحلة الانتقالية الموجهة نحو "التأسيس الجديد".

ولم يكن ذلك ممكنا إلا في إطار سردية سياسية ترى أن "الخطر الداهم" المذكور في الدستور هو مجرد أثر منبثق من خطر أعمق سمّاه الرئيس في بعض تصريحاته بـ"الخطر الجاثم"، وهو ما يعني واقعيا عدم وجود علاقة تلازمية أو شرطية بين "إعادة السير العادي لدواليب الدولة"؛ وبين إعادة منظومة الحكم التي يرى الرئيس أنها قد "خانت الأمانة" وتلاعبت بوعي المواطنين وبأقواتهم.

وسنحاول في هذا المقال أن نتدبر معنى "الخطر الجاثم" في السردية السياسية لتصحيح المسار، وكذلك حدود هذا المعنى وآفاقه فيما يُسميه الرئيس بـ"حرب التحرير الوطني".

رغم أن العديد من المعارضين -خاصة في الموالاة النقدية- يؤرخون لما يسمونه بالانحراف السلطوي (أي كسر أفق انتظارهم من تصحيح المسار باعتباره إخراجا للنهضة من مركز الحياة السياسية وتقاسم للسلطة مع الرئيس في إطار نظام رئاسي) بالأمر الرئاسي عدد 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021، فإن هذه الأطروحة لا تصلح إلا للتأريخ لبؤس تلك المعارضة وغلبة منطق الرغبة على مواقفها، بل قد تكون حجة على صوابية موقف الرئيس منها ومن انتهازيتها، فمنذ إعلان "الإجراءات"، كان الرئيس قيس سعيد واضحا في موقفه من الديمقراطية التمثيلية بمؤسساتها السياسية وأجسامها الوسيطة.

إننا أمام سردية سياسية تطرح نفسها بديلا للديمقراطية التمثيلية، وتطرح مشروعها السياسي باعتباره لحظة "فرز تاريخي بين الحق والباطل وبين الصدق والكذب" انطلاقا من التسوية بين الخطرين الداهم والجاثم. فالخطر الداهم ليس مجرد حدث عابر ومؤقت، إنه في جوهره خطر جاثم لا يمكن التخلص منه بالتسويات السياسية وبـ"الحوار الوطني" وبمنطق الشراكة، بل يستدعي بديلا سياسيا شاملا ينهي الحاجة للديمقراطية التمثيلية
ومنذ شهر آب/ أغسطس 2021 أعلن رئيس الدولة أن "الخطر الداهم هو خطر جاثم، فالمؤسسات السياسية وبالشكل الذي كانت تعمل به هي خطر جاثم على الدولة، وليس داهما كما جاء في الفصل 80 من الدستور أو الفصل 46 من دستور 1959، فالبرلمان نفسه خطر على الدولة"، وأعلن رفضه لما يسمّى بـ"الحوار الوطني" لغياب من يستحق المحاورة (الحوار مع من؟)، وهو خيار سياسي استراتيجي سيستدعي بالضرورة ثالثة الأثافي في "تصحيح المسار": "لا مجال مرة أخرى للرجوع إلى الوراء".

إن التسوية بين الخطر الداهم والخطر الجاثم ليست مجرد عملية بيانية، فهي أداة ضرورية للفصل بين إنقاذ الدولة ومؤسساتها وبين "المؤسسات السياسية" التي هيمنت على الحكم بعد الثورة، خاصة البرلمان والأحزاب الحاكمة والمعارضة على حد سواء. وإذا كنا نستطيع أن نفهم موقف الرئيس من البرلمان في ظل النظام البرلماني المعدّل، حيث يكون مجلس النواب هو مركز السلطة (أي مركز الفساد حسب سردية تصحيح المسار)، فإن من حقنا أن نتساءل كيف يكون البرلمان خطرا جاثما في النظام الرئاسي الذي كرسه دستور 1959؟

إن الربط بين "دستور الثورة" و"دستور الاستقلال" في توصيف البرلمان باعتباره خطرا جاثما يعكس موقفا نقديا من البرلمان ذاته في ظل الديمقراطية التمثيلية، وما يحكمها من آليات ومؤسسات سواء في النظام الرئاسي أو في النظام البرلماني المعدّل. إننا أمام نقد جذري للديمقراطية التمثيلية ذاتها، وهو نقد لم يكن الرئيس يخفيه منذ حملته الرئاسية سنة 2019 عندما طرح تأسيسا جديدا يكون في ظل الديمقراطية المباشرة أو المجالسية.

عندما اعتبر الرئيس شرعية البرلمان "شرعية وهمية" وانتقد التضخم التشريعي الذي لا علاقة له بانتظارات المواطنين بسبب ارتباطه بنيويا بالمال الفاسد وبالصفقات السياسية المشبوهة، فإنه لا يطعن فقط في الممارسات السياسية للأحزاب و"عديد الأطراف التي تتعامل معهم"، بل هو ينزع الشرعية عن البرلمان ذاته وما يحكمه من فلسفة سياسية في ظل الليبرالية الاقتصادية.

فالفساد السياسي والاقتصادي هو سمة ملازمة للبرلمان مهما كان شكل النظام السياسي في ظل الديمقراطية التمثيلية، ولذلك فإن الخصم الأصلي لخيار اللاعودة إلى الوراء ومقابله الفكري سيكون هو الديمقراطية التمثيلية، أما مؤسساتها السياسية وأجسامها الوسيطة فإنها مقابله الموضوعي وخصمه بالتبعية. وهو ما لم يفهمه دعاة الحوار الوطني والموالاة النقدية، ولم يفهمه أيضا من يعتبرون أنفسهم "معارضة جذرية"، فكل هؤلاء -حسب سردية تصحيح المسار- هم جزء من الوراء/الماضي، ولا يمكن أن يكونوا جزءا من التأسيس/المستقبل.

إننا أمام سردية سياسية تطرح نفسها بديلا للديمقراطية التمثيلية، وتطرح مشروعها السياسي باعتباره لحظة "فرز تاريخي بين الحق والباطل وبين الصدق والكذب" انطلاقا من التسوية بين الخطرين الداهم والجاثم. فالخطر الداهم ليس مجرد حدث عابر ومؤقت، إنه في جوهره خطر جاثم لا يمكن التخلص منه بالتسويات السياسية وبـ"الحوار الوطني" وبمنطق الشراكة، بل يستدعي بديلا سياسيا شاملا ينهي الحاجة للديمقراطية التمثيلية ذاتها.

شيطنة كل من يرفض منطق الولاء المطلق أو كل من يتخذ مسافة نقدية من النظام وخياراته؛ ستنحرف بـ"حرب التحرير الوطني" عن أهدافها الاستراتيجية لأنها ستضعف الجبهة الداخلية وستخلل القاعدة الأخلاقية لهذه الحرب باعتبارها صراعا "بين الحق والباطل وبين الصدق والكذب"
ورغم أن الخطاب الرسمي لا يُصرح بأنّ الديمقراطية التمثيلية هي عدوه الأساسي في "حرب التحرير الوطني"، فإن المنطق الداخلي لسردية تصحيح المسار يجعل هذا الاستنتاج منطقيا. فالفساد الاقتصادي أو الإداري أو حتى الأخلاقي هو فساد بنيوي يتعامد وظيفيا مع الفساد السياسي، ولا يمكن -حسب المنطق الكامن في تصحيح المسار- أن نواجه أشكال الفساد المجتمعي إلا بضرب واجهاتها الحزبية ومؤسساتها السياسية، أي بإلغاء الحاجة إلى الأحزاب ومراجعة معنى استقلالية الأجسام الوسيطة حتى داخل المجتمع المدني.

حسب سردية تصحيح المسار، فإن "الاستقلالية" عن أجهزة الدولة أو اتخاذ مسافة نقدية من نظام الحكم لا تعني بالضرورة استقلالية عن "الغرف المظلمة" في الداخل أو عن مراكز القرار الأجنبية، بل قد يكون مطلب الاستقلالية مجرد غطاء لتنفيذ أجندات تتحرك بالضرورة ضد "حرب التحرير الوطني". ورغم وجود شواهد كثيرة على أنّ "الاستقلالية" هي مجرد مجاز يخفي وراءه حقائق لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية، فإن تعميم هذا الحكم أو "تسييسه" تفقده الكثير من مصداقيته.

فشيطنة كل من يرفض منطق الولاء المطلق أو كل من يتخذ مسافة نقدية من النظام وخياراته؛ ستنحرف بـ"حرب التحرير الوطني" عن أهدافها الاستراتيجية لأنها ستضعف الجبهة الداخلية وستخلل القاعدة الأخلاقية لهذه الحرب باعتبارها صراعا "بين الحق والباطل وبين الصدق والكذب". وفي ظل غياب المحكمة الدستورية، بل في ظل عدم إرساء تلك المحكمة بقانون يضمن استقلالها عن السلطة التنفيذية، فإن الثنائيات الأخلاقية غير المتكافئة (الحق/الباطل؛ الصدق/الكذب) قد تتحوّل إلى مفاهيم سلطوية تحكّمية لا ضابط لها، وهو ما يعني أن "حرب التحرير الوطني" تحتاج إلى جهة تحكيمية ذات مصداقية تمنع انحراف السلطة.

إذا كانت الديمقراطية التمثيلية بمؤسساتها السياسية وأجسامها الوسيطة هي جذر الخطر الجاثم على الدولة حسب تصحيح المسار، فإن على الديمقراطية المباشرة أن تثبت أنها ليست خطرا جاثما جديدا، أو مجرد واجهة مختلفة لمنظومة الاستعمار الداخلي. فـ"حرب التحرير الوطني" هي حرب مشروعة، ولكن لا يكفي لتأكيد مشروعيتها أن تدعيَ أنها تحارب "الباطل" و"الكذب" اللذين تجمّعا في "البرلمان" بتشريعاته وبالعلاقات المشبوهة داخليا وخارجيا لنوابه وأحزابه.


إن "حرب التحرير الوطني" تحتاج إلى الذهاب بالتسوية بين الخطرين الداهم والجاثم إلى نهاياتها المنطقية، ونحن نذهب إلى أن "تصحيح المسار" لم يدفع بعملية "التأسيس الثوري الجديد" إلى حيث ينبغي أن يصل. ونحن نقصد بذلك أن اعتبار البرلمان -أو الديمقراطية التمثيلية كلها- خطرا جاثما على الدولة هو قطع لنصف الطريق في التأسيس لمشروع التحرير الوطني،"حرب التحرير الوطني" تحتاج إلى الذهاب بالتسوية بين الخطرين الداهم والجاثم إلى نهاياتها المنطقية، ونحن نذهب إلى أن "تصحيح المسار" لم يدفع بعملية "التأسيس الثوري الجديد" إلى حيث ينبغي أن يصل أما النصف الباقي فقد أشار إليه الرئيس في بعض تصريحاته عندما تحدث عن العائلات الأربعين التي تتحكم في الاقتصاد الوطني بفضل خيارات "دولة الاستقلال" ومشروع "التحديث".

ختاما، لا شك عندنا في أن مواجهة "عائلات الاقتصاد الريعي" -وما يرتبط بها من لوبيات داخلية ومصالح أجنبية في المستويين المادي والرمزي- هي مهمة لا تتعارض مع مشروع تصحيح المسار، بل هي عندنا علة وجوده ذاتها على الأقل في المستوى الخطابي. ولكن تلك المواجهة لا يمكن أن تكون فعّالة إذا ما انحصرت في المستوى "الناعم" وغير المباشر (الاقتصاد التضامني والشركات الأهلية) أو بقيت في مستوى المواجهة الموضعية والجزئية (الصلح الجزائي).

فتفكيك منظومة الاستعمار الداخلي يحتاج إلى قرارات "تاريخية" في مستوى التشريعات، ولكن تلك التشريعات لا ينبغي أن تنحصر في البعدين الاقتصادي أو السياسي، بل يجب أن تكون محكومة بمشروع شامل لبناء المشترك المواطني ومقومات السيادة الحقيقية. وهو مشروع لا يمكن أن يستويَ على سوقه ما لم تسنده نظرة نقدية لكل الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة ولخياراتها المجتمعية الكبرى في مرحلة الاستعمار غير المباشر، أي في مرحلة التحديث الزائف باعتباره أيديولوجيا تأبيد التبعية والتخلف بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا.

x.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه تصحيح المسار تونس تصحيح المسار قيس سعيد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة صحافة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدیمقراطیة التمثیلیة الحوار الوطنی على الدولة بین الخطر لا یمکن

إقرأ أيضاً:

الطريق إلى تحرير منظمة التحرير من خاطفيها

ليس كل ما سندلي به من أفكار وتساؤلات، يقع بالضرورة "خارج الصندوق". بعضها من داخله وبعضها الآخر من خارجه، هذا ليس مهمًا، فالأهم منه، أن حالة "الاستعصاء" المتحكّمة بالمشهد الفلسطيني الداخلي الراهن، والممتدة لما يقرب من عقدين من الزمان، باتت تملي اعتماد مقاربات مغايرة، فليس من الحكمة أن تمضي القوى الفلسطينية الفاعلة، فصائل وشخصيات ومجاميع ومؤسسات، في الرهان على "استخراج الزبدة من الماء"، وليس من الفطنة، سلوك الطريق ذاته مرارًا وتكرارًا، وانتظار الوصول إلى نهايات مختلفة.

وضع حدٍ للدوران العبثي في الحلقة المفرغة ذاتها، بات شرطًا ومتطلبًا، للتصدي بكفاءة، لاستحقاقات المرحلة الإستراتيجية الجديدة، التي يبدو أن الفلسطينيين، شعبًا وقضية ومقاومة وحقوقًا، على وشك ولوجها.

لا حصر للموضوعات والعناوين التي يتعين التفكير، وإعادة التفكير بها. في هذه المقالة، سننتقي اثنين منها، نعتقد أنهما "الأكثر أهمية" من بينها، وبصيغة يؤمل معها إثارة نقاش حول مضامينهما، بعيدًا عن المواقف المسبقة، والاتهامات المعلّبة، و"روح القبيلة وعصبياتها القاتلة".

مصالحة أم "تجارة وهم"؟

ونبدأ بمسألة الدعوات التي لا تكل ولا تمل، للحوار والمصالحة بين الأفرقاء المنقسمين على أنفسهم، و"ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي"، والتي كلما شددت على وجوب الحوار وإلحاحية المصالحة، اتسعت الشقة بين المتخاصمين.

إعلان

أكثر من "دزينة" من المشاريع والمبادرات، صدرت في قرابة "دزينة" من المدن والعواصم، ذهبت جميعها أدراج الرياح. "سياحة المصالحة" وصور الأيادي المتشابكة لفرسان الحوار في خواتيم اجتماعاتهم، باتت تثير ضجر الفلسطينيين، دع عنك التصريحات الطافحة بالتكاذب التي لا تساوي الحبر الذي كتبت به، وسرعان ما يغيب أثرها، قبل شروق شمس اليوم التالي.

أكثر التطورات خطورة، التي شهدتها القضية الفلسطينية خلال العقدين الأخيرين، لم تكن سببًا كافيًا ومقنعًا لإنهاء الانقسام. لا الحروب المتعاقبة على غزة، ولا الضم الزاحف للضفة الغربية، ولا الانتهاكات المتمادية لحرمة المقدسات والأقصى. لا صفقة القرن والاعتراف الأميركي بسيادة إسرائيل عليها، ولا حرب التطويق والتطهير والإبادة التي تشن على الشعب الفلسطيني، كانت سببًا مقنعًا لنبذ الانقسام أو حتى لرفع شعار "الوحدة في الميدان".

لم تبقَ دولة عربية أو صديقة، إلا وأدلت بدلائها في "المجهود الحربي" الرامي لإقناع الأطراف بتنحية خلافاتها، والالتقاء على "كلمة سواء"، بعد أن سلّمت هذه الأطراف بعجز "قوة الدفع المحلية" الشعبية والفصائلية، عن إنجاز هذه المهمة. حتى الدول العظمى، التي لم تشتهر بدور الوسيط النزيه، دخلت على الخط، فكانت حوارات موسكو وإعلان بكين. ومرة تلو المرة، بقي الانقسام، وغابت المصالحة، وخاب ظن الوسطاء.

اليوم، وبعد أكثر من خمسة عشر شهرًا من "الطوفان" و"حرب الإبادة"، لم تعد الوسائل والأدوات القديمة في التعامل مع ملف الانقسام، ملائمة أبدًا. اليوم وغدًا، وبعد ما جرى ويجري في جنين ومخيمها، لم يعد جائزًا ولا مستساغًا، الاستمرار في اجترار الشعارات والمناشدات ذاتها، لا سيما في ضوء اتضاح معالم طريق التكيف مع مخرجات الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية، والسعي المحموم لتقديم "أوراق اعتماد" لإدارة ترامب، ومحاولة اجتياز امتحان الجدارة للتأهل لليوم التالي لغزة، بدءًا من مخيم جنين.

إعلان

اليوم، يبدو حديث المصالحة وحواراتها، أقرب إلى "بيع الأوهام"، وفعل من أفعال التضليل والتعمية على خطورة ما جرى ويجري، عن قصد حينًا، وعن غير قصد في أغلب الأحيان.

اليوم، لم يعد جائزًا "توزيع دم المصالحة على القبائل الفلسطينية"، فمن يتحمل وزر الانقسام واستمراره وتعمقه، هو القيادة الفلسطينية في رام الله، لا سيما بعد أن أظهرت فصائل المقاومة، "استماتة" في الدعوة والاستجابة لنداءات الوحدة والوفاق الوطني، في إطار المنظمة، وتحت مظلة السلطة. اليوم يتعين تسمية المسؤولين عن تأبيد الانقسام بأسمائهم.

بخلاف ذلك، نكون قد وقعنا في المحظور، عن حسن نيّة أو لانتهازية طافحة، أو ربما، طلبًا للسلامة، لا فرق.

صحيح أن حماس في محطات سابقة، بالذات في ذروة الربيع العربي، تحملت قسطًا من وزر الانقسام، حين انصرفت رهاناتها إلى تطورات وتحولات إقليمية مواتية، وغالبًا من ضمن مقاربة لحركات الإسلام السياسي لا تقيم وزنًا جديًا لفكرة المشاركة. لكن الصحيح أيضًا، أن القيادة المتنفذة في المنظمة والسلطة وفتح، سدّت بإحكام سبل الشراكة وأغلقت أبوابها في وجه حماس والجهاد وفصائل المنظمة، بل وحتى في وجه قيادات فتحاوية وازنة، لا ذنب لها، سوى أنها تعتد بنفسها وإرثها ووجهات نظرها.

واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يتغذى تعنت "المقاطعة" بالتطورات الأخيرة المتسارعة في الإقليم، وتراجع مكانة ما كان يعرف بمحور المقاومة، والذي عُدّت المقاومة الفلسطينية، حلقة مركزية في سلسلته التي كانت ممتدة من قزوين إلى شرق المتوسط.

وبالرغم من حسن النوايا (أو سوئها)، فإن الدوران في حلقة الرهانات المفرغة، على إنجاز المصالحة، أفضى إلى نتيجتين ضارَّتين:

الأولى: انصراف الجهد الوطني الفردي والجماعي، الذي بذل في غير مكانه، عن هدف التأسيس لحركة وطنية وشعبية فلسطينية جديدة، بديلة وناهضة، بعد أن جرى تضخيم أثر المصالحة ومفاعيلها، بل والتعامل معها، برومانسية فائقة، لا تحتمل الأصوات الخادشة للذائقة التصالحية العامة. والثانية: تمكين القيادة المتنفذة في السلطة وفتح والمنظمة، من "فترة سماح" ممتدة، يحاذر الجميع خلالها من تحميلها وزر الانقسام، أو الخروج عليها، أو البحث عن بدائل لها، من داخلها أو من خارجها. إعلان

ولم يكن بمقدور هذه القيادة أن تذهب بعيدًا في مشوار الهبوط بسقف التوقعات الفلسطينية، وبمسار التنسيق الأمني مع الاحتلال، وكبح جماح "غضب الضفة الغربية" بدءًا بالحرب على جنين ومخيمها، لولا المضي في إشاعة الوهم عن مصالحة وطنية إنقاذية ستحصل ذات يوم، ينشطر معها التاريخ الفلسطيني إلى ما قبلها وما بعدها.

"بقرة مقدسة"

أما القضية الثانية، التي باتت "بقرة الفلسطينيين المقدسة"، فتتجلى في حكاية "الممثل الشرعي الوحيد"، ومنظمة التحرير التي قيل عنها إنها "وطن الفلسطينيين إلى أن يتحرر وطنهم".

تلك القضية التي ما إن تشرع في الحديث فيها أو عنها، حتى تنهال عليك الاتهامات بتبديد وحدة الشعب والكفاح والقضية والتمثيل، مع أن القاصي قبل الداني، يدرك أن المنظمة لم يبقَ منها سوى "خاتمها"، بعد أن تحولت إلى دائرة من دوائر السلطة، أو قل: أقل دوائرها أهمية، وأنها في قطيعة، مع شعبها في مختلف أماكن تواجده، قبل أوسلو، وبالأخص بعد قيام السلطة، وسط تواطؤ شاركت فيه أطراف قيادية في المنظمة وحكومات عربية ومراكز دولية، استمرأت حكاية إحلال السلطة محل المنظمة، واختزال الشعب الفلسطيني بسكان الضفة والقطاع، وإسقاط الشتات وأصحاب الأرض الأصليين خلف الخط الأخضر، من النصاب السياسي والكفاحي والقانوني للشعب الفلسطيني.

لسنا بحاجة لمن يذكرنا بأن المنظمة، كممثل شرعي وحيد، كانت مكسبًا بارزًا للشعب الفلسطيني، ولا بكون عشرات الدول تعترف بها بصفتها هذه، لا بكونها تجسيدًا لوحدة الشعب والأرض والقضية.

فلطالما نافحنا وقاتلنا دفاعًا عن المكتسب الذي لم يترك القائمون عليه مناسبة طيلة السنوات العشرين الماضية، أو أزيد من ذلك، لتفريغه من محتواه الكفاحي والتمثيلي، إلى أن وصلنا إلى الحالة التي لا تستدعى فيها المنظمة، إلا للتوقيع على أكثر القرارات والاتفاقات خطورة وإضرارًا بالأرض والشعب والقضية، لم تكن أوسلو أولها، ولن تكون الخطوات والسياسات الكارثية للسلطة، آخرها. لقد أخذ "المكسب الأهم لشعبٍ فلسطيني، بالتحول إلى عبء عليه ومصدر تهديد لمشروعه الوطني"، هذه النتيجة التي لا تخطئها العين، إن لم يجرِ استدراك ما يمكن تداركه.

إعلان

لا حاجة للدخول في "تنازع" مع المنظمة على وحدانية التمثيل وشرعيته، فهي معركة في غير معترك، لكن ذلك لا يمنع، بل يوجب، التوجه بثبات وعزيمة، لمنازعة المنظمة على ما كان يومًا قواعد ومنظمات شعبية واجتماعية، كانت الركيزة والحاضنة والرافعة، لـ "الممثل الشرعي الوحيد".

لا حاجة لمزاحمة المنظمة في المحافل الدولية والإقليمية، بقدر ما تشتد الحاجة للبرهنة على أن السلطة والمنظمة في وضعيتيهما الحاليتين، لا تمثلان شعب فلسطين وأشواقه وطموحاته، وأن "الشرعية" في وادٍ، وشعبها في وادٍ آخر.

لا حاجة لتقديم طلبات الاعتراف بأي جسم فلسطيني جديد، بل بخلق مركز جذب وتمثيل، يرغم العالم على عدم الاكتفاء بزيارة "المقاطعة" عند الحديث في الشأن الفلسطيني.

هذا يحدث الآن على أية حال، فكل ما يجري من مفاوضات عن غزة وحولها، تكاد رام الله أن تكون خارجه، والدوحة شاهد على ذلك، إذ تحوّلت إلى وجهة للزائرين، ممن يريدون التحدث مع المقاومة، مباشرة أو عبر طرف ثالث، وسط قناعة تامة، بأن مركز ثقل القرار الفلسطيني، الآن وحول غزة، ليس في رام الله ولا في مقاطعتها.

وضع كهذا، قد يحمل سمة "الاستثناء" و"التأقيت"، وقد يتحول إلى وضع دائم. وفي الحالتين، يتعين العمل على بلورة مركز ثقل وطني فلسطيني، لا يقتصر على المقاومة، ولا على غزة وجدل الحرب والتهدئة فيها وعليها.

يجب أن تتبلور جبهة وطنية فلسطينية عريضة، من الفصائل والمنظمات والشخصيات والجماعات والجمعيات، تشكل مركزًا ثانيًا، إن لم نقل أولًا، لصنع القرار الوطني الفلسطيني. وأن يشرع في مزاحمة القيادة المتنفذة على الحضور والتمثيل، واقعيًا، إلى أن تحين ساعة "تحرير منظمة التحرير" من أيدي خاطفيها، وبث روح ودماء جديدة في عروقها المتيبسة.

"ليس باسمنا"، شعار يجب أن ترفعه كتلة فلسطينية وازنة، في كل مرة يصدر فيها عن رام الله قرار أو إجراء، مواقف أو سياسات، يُشتمّ منها، رائحة تفريط أو تنازل. ويتعين ممارسة "التعرض الخشن" للسلطة والمنظمة، من دون دم أو سلاح، في كل مرة يفهم، أنها تقوم بأدوارٍ نيابة عن الاحتلال، في جنين أو غيرها، أو توطئة للتكيف مع مسارات مذّلة، أو التأهل لإدوار مشبوهة لا تصب في مصلحة الشعب وقضيته وكفاحه الوطني العادل والمشروع.

إعلان

يتعين على طلائع الشعب الفلسطيني، الوطنية والكفاحية، أن تتصدى لسيوف الابتزاز التي تشهر في وجهها وتسلط على أعناقها، في كل مرة، تقرر فيها، توحيد الصفوف وتجميع القوى، لاستنقاذ مشروعها الوطني، أو تنظيم شعبها وتأطيره، أو مزاحمة "شرعية لا شعبية لها"، والسعي من دون تردد أو استحياء، لـ"شرعنة" ثقلها الشعبي، المحصن بفواتير الشهادة والتضحيات.

يجب أن تخرج هذه القوى والطلائع، من شرنقة الأدوات القديمة في التعامل مع "شرعية مختطفة"، لأن تحريرها واستردادها، بات مقدمة ضرورية للتحرر الوطني العام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • إنتهاء خلاف أسرة شكري سرحان بواسطة نقابة المهن التمثيلية
  • انتهاء خلاف أسرة شكري سرحان مع عمر متولي بواسطة نقابة المهن التمثيلية (صور)
  • Adobe تختبر التحرير المشترك المباشر على Photoshop
  • علامات الخطر في الأطفال حديثي الولادة ونصائح لرعاية المولود
  • اللجنة السياسية للكتلة الديمقراطية تعقد اجتماعا ببورسودان لمخاطبة قضايا الراهن السياسي والحل الوطني
  • الطريق إلى تحرير منظمة التحرير من خاطفيها
  • استخبارات العدو: “الخطر اليمني يتجاوز الردع التقليدي”
  • استخبارات العدو: “الخطر اليمني يتجاوز حدود الردع التقليدي”
  • الرئيس السابق لاستخبارات العدو: “الخطر اليمني يتجاوز حدود الردع التقليدي”
  • معرض إثنو ليبيا.. سردية تاريخ القبائل الليبية في عمل يجمع الفن التشكيلي بالأدب