اهتم بقضايا الوطن ولم يغفل المهمشينتلك هى المرأة التى أدهشتهمُنعت بعض قصائده فى الستينيات ونشرت بعد الانفتاحلم يكتب سيرته كاملة واكتفى بشعره
وكأنى ما عشت حياتى
لقد حلقت فوقها
كما يحوم طائر فوق غابة تحترق
وها هو المساء يوشك!
هكذا تطرق كلماته آذاننا وكأنها إنذار بقرب الرحيل، ليأتى غياب جسده المفاجئ والصادم مدويا، ثقيلا، جارحا.
صحونا ذات صباح جريح على خبر رحيل الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، عن عمر يناهز 87 عاما، ليلحق بكل الكبار الذين غادرونا بعد أن ملأوا قلوبنا إبداعا وسحرا.
ويعد «أبوسنة» من أبرز شعراء جيل الستينيات، وأحد أهم رواد المدرسة الحداثية فى الشعر، تعبر قصائده عن مشكلات الواقع الذاتى والموضوعى ومصدر هذا الشعور الدائم بالقلق والوجع والبحث عن الخلاص، القصيدة لديه متحررة من مكان يأسر وزمان يفيض.
*بروفايل
ولد الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة عام 1937 فى قرية «الودى» التابعة لمركز الصف بالجيزة، وتخرج فى كلية الدراسات العربية عام 1964، وعُين محررًا فى الهيئة العامة للاستعلامات، ثم مشرفًا على البرامج الإذاعية والنقدية بإذاعة القاهرة، وتدرج فى وظائفه إلى أن صار مديرا لإذاعة البرنامج الثقافى، قبل الإحالة إلى المعاش.
من دواوينه: «قلبى وغازلة الثوب الأزرق»، «حديقة الشتاء»، «الصراخ فى الآبار القديمة»، «أجراس المساء»، «تأملات فى المدن الحجرية»، «البحر موعدنا»، «مرايا النهار البعيدة»، «رماد الأسئلة الخضراء»، «رقصات نيلية»، «شجر الكلام»، «أغانى الماء»، ومسرحيتا «حصار القلعة» و«حمزة العرب». وعشر دراسات نقدية.
حصل «أبوسنة» على عدة جوائز منها: جائزة الدولة التشجيعية فى الشعر، وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1984، وجائزة كفافيس 1990، وجائزة الدولة للتفوق عام 2001.
تمنى «أبوسنة» فى حداثة سنه أن يكون سكرتيرا عاما للأمم المتحدة بسبب إعجابه الشديد بـ«داج همرشولد» أمين عام الأمم المتحدة الذى تولى المسئولية فى خمسينيات القرن الماضى، قدم أبو سنة عددا من البرامج الإذاعية مثل ألوان من الشعر وبرنامج مع النقاد وبرنامج قصيدة وشاعر وبرنامج حدائق الأوراق.
* الطرقة الأولى للشعر
عن أول ما سكن أذنيه وقلبه من شعر، قال أبوسنة فى حوار صحفى سابق له، هو بيتان للمدرس الأوليّ، كان يُدرس له فى مدرسة «الودى»، وقد هجاه لأنه كان طفلًا مشاغبًا.
*المرأة التى أدهشته
مثلت المرأة لدى أبوسنة مساحة واضحة فى تجربته الشعرية، خاصة فى ديوانه الأول «قلبى وغازلة الثوب الأزرق»، قصيدة: «لا تسألى»، وقد عبر أبوسنة عن افتتانه بالمرأة الريفية فى بداية حياته، فكانت هذه المرأة تُلهمه من خلال صورةٍ لها علاقة بالخيال أكثر مما لها علاقة بالواقع، وربما أثرت وفاة والدته وهو فى سن السابعة فى اهتمامه بالمرأة،
فكانت تجربته العاطفية متأثرةً بهذا الوجع الذى أصابه فى الطفولة، ففتن بالمرأة التى تتصف بالحنان والقدرة على الاحتواء والسمو.
واستوقفه الشعر العذرى لـ«جميل بن معمر»، مجنون ليلى قيس بن الملوح، كثير بن عبدالرحمن (كثير عزة)، كما فتن بشعر عمر بن أبى ربيعة، واعتبره أكثر جرأة وعصرية من سابقيه.
* نازك الملائكة مفجرة تجربته الحداثية:
دائما ما كان يؤكد تأثير نازك الملائكة فى تجربته، وأنها هى التى ألهمته الكتابة بهذا الشكل الجديد فى القصيدة الحديثة، فقد طالع ديوانها الذى صدر فى نهاية الخمسينيات والذى حمل عنوان: «قرارة الموجة»، فكان ذلك النوع من الشعر مدخله إلى مدرسة الشعر الحديث.
** القصيدة السياسية وعلاقته بناصر
يتجلى اعجاب أبوسنة بـ«عبدالناصر»؛ فقد نشأت وتشكلت ثقافته ووجدانه فى إطار الرؤية القومية الوحدوية الإنسانية.
واتسمت قصائده خاصة تلك التى كتبها فى بداية الستينيات بمحاورة فكرة الحرب والسلام والتحولات الاجتماعية الكبرى والوجود الاجتماعى، ربما وصفها هو بـ«القصائد الوطنية القومية الإنسانية».
وهناك تفجرات فى تجربته الشعرية مثل ديوانه «تأملات فى المدن الحجرية»، هذه التفجرّات تلامس الواقع والأحداث سواء كانت حربًا أو سلامًا، وتلامس ملامح لشخصياتٍ كانت تعيش فى هذه المرحلة مثل الرئيس جمال عبدالناصر، وتلك قصيدته عن «السد العالى»، امتزج فيها البعد التاريخى والواقعى والإنسانى والوطنى والقومى، وعلى الرغم من أنها قصيدة قصيرة إلا أنها تجمع كل هذه الخيوط لتقدم رؤيةً للإرادة المصرية التى كانت وراء بناء هذا المشروع العملاق، أيضًا هناك قصيدة «أغنية لعبدالناصر» فى ديوان «حديقة الشتاء»، وكذلك قصيدة بعد وفاته، لكن ملامح جمال عبدالناصر تشيع فى عدد من القصائد فى تلك المرحلة.
* المهمشون فى شعره
ورغم اهتمامه بالقضايا الكبرى، إلا أنه كان مهموما بالمهمشين، فكتب قصيدته الشهيرة «غريب من قِنا « 1960 عن عامل بناء مجهول، واحد من هؤلاء الفقراء المهمشين الجياع، الذين يبنون المدن ويسكنون القبور…
وتسأل سيدة فى الطريق/ ومن ذا القتيل؟
ويهمس صوت جليل/ (غريب أتى من قنا)
ويعمل بين رجال البناء/ هوت رِجله ثم زلت وحم القضاء.
* قصائد ممنوعة ونشرت فى عهد السادات
فى حوار صحفى سابق له مع جريدة الاهرام أكد أبوسنة أن هناك قصائد لم يستطع نشرها فى الستينيات، وهى قصائد موجودة فى ديوانه «حديقة الشتاء»، وفى مرحلة الرئيس محمد أنور السادات، تم نشرها فى ديوانه «تأملات فى المدن الحجرية»، وهو ديوان كان فى غاية الأهمية والخطورة، مؤكدا أنه لم يتصور أن ينشر، ولكنه نُشر عن الهيئة العامة للكتاب.
* النقد فى كتاباته:
ساهم فى رصد تراث شعراء الستينيات والكتابة عن هذا الجيل فى كتابه «آفاق شعرية» الذى تحدث فيه عن الموجات المختلفة لـ«جيل الستينيات»، كما يعد أول من التفت إلى شعراء السبعينيات، وقدمهم من خلال مجلة «الكاتب» التى كان يرأس تحريرها الشاعر صلاح عبدالصبور، وكذلك كتب عنهم فى كتابه: «دراسات فى الشعر العربى».
ولم تقف كتاباته النقدية عند الشعراء والكتاب المصريين، بل امتد بصره لآخر التخوم العربية فى الشعر، فراح يعدد الشعراء والكتاب العرب فى تجاربه النقدية، مثيرا العديد من القضايا الأدبية المهمة التى كانت تجلب عليه غبار المعارك العربية خاصة من جيل السبعينيات.
** سيرة ذاتية لم تكتمل
لم يمِل لكتابة سيرته كاملة، ربما لمحنا بعضا منها فى كتابه: «أصوات وأصداء»، وكذلك فى مقدمة ديوانه «تعالى إلى نزهة الربيع»، وأيضًا فى مجلة «فصول».
هكذا يرحل عنقود العظماء حبة وراء حبة، ليخلفوا لنا وجعا لا يهدأ، وشعورا بالمسئولية يتعاظم تجاه إبداعهم، وربما كل ما نملك أن نطالب بإعادة نشر أعمال الراحل محمد إبراهيم أبوسنة، بعد أن نفدت كل الطبعات من منافذ الهيئة، حتى يظل إبداعه وارفًا فى صحراء حياتنا.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: بقضايا الوطن فى الشعر
إقرأ أيضاً:
«دم النار» للمتوكل طه.. جسر بين الكلاسيكية والحداثة
يتفرد الشاعر والكاتب الفلسطيني المتوكل طه بثلاث خواص: الأولى، ثراء قاموسه الشعري واتساعه، وثانيا، اشتغاله الدؤوب على مشروع شعري ثقافـي، تمتد فـيه كلاسيكيته الشعرية إلى أفق حداثي متزن، وثالثا، أنه أغزر الأدباء الفلسطينيين إنتاجًا، فقد بلغ عدد كتبه ما يفوق الستين كتابا، وقصة غزارة إنتاج الكاتب الفلسطيني لديها سياق ومبررات خاصة، يتمثل هذا السياق بشعور الكاتب الفلسطيني بأنه فـي سباق مع الزمن، وألّا فرصة لديه سوى بالكتابة، التي يعتبرها ردا مناسبا على مجازر الاحتلال، ويرتبط السياق أيضا برغبته فـي الفضفضة عما بداخله من غضب وحسرة وحيرة واختناقات، تسبب بها أشرس وأطول احتلال فـي العالم، عاش المتوكل كل حروب البلاد وانتفاضاتها، وشارك فـي النضال الفلسطيني جسديا وشعريا وثقافـيا، وقد شكلت كتبه التي كتبها فـي فترات سجنه الطويلة شهادات ووثائق تاريخية وأدبية جمالية لحياة الأسير الفلسطيني صموده وأحلامه، وقصصه. أمامنا كتاب جديد للمتوكل طه: (دم النار.. توقيعات على جدران غزة) من الإصدارات الجديدة لاتحاد الكتاب الفلسطينيين، الكتاب مهدى: إلى (غزة التي يجرحها الماء) وهو نصوص ماتعة ومحيرة لا تنتمي لجنس أدبي وحيد فهي ابنة الشعر والسرد والتشكيل والسينما والرقص، تجربة الشاعر وخصوصا فـي كتبه الشعرية والنثرية الأخيرة، تحاول التفلت من عقالها والذهاب إلى أفق حداثي يتجاوز حدود المعقول فـي الكتابة الكلاسيكية الفلسطينية، لكن الشاعر الأصيل الصادق فـي تعبيره، لا يسمح للتجربة بالتوغل فـي أدغال الحداثة، مخافة فقدان البوصلة والرؤية التي يحرص على الحفاظ عليها، والتي تشكل جوهر مشروعه الثقافـي الكامل وهي الدفاع عن حق الفلسطيني فـي الإبداع والحياة بشكل طبيعي، اكتشف الشاعر منطقة مناسبة ترضي رغبته فـي التجديد من جهة وتحافظ على أصالته من جهة أخرى، فمد جسرا بين كلاسيكيته وحداثته، وبقي يكتب ضمن هذا الحيز، بلغة يعرف بها اتساعا وحيوية ونضارة. فـي هذا الكتاب (دم النار) يتجلى هذا الجسر كأبهى ما يكن التجلي، فـيذهب إلى جراح غزة الفظيعة، يستنطق إرادتها وحزنها، انكسارها وصلابتها، بنصوص فاتنة تستعير من السرد رقصه ومن الشعر عذوبته. على الغلاف الأخير يكتب الشاعر مراد سوداني رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين على الغلاف الأخير: (هذه نصوص مسفوحة كسيّال وردة الشهداء المهروسة تحت جنازير دبابات الغول الاحتلالي، نصوص جوالة فـي التفاصيل اليومية وأهوال مقتلة غزة التي أعلنت مركزانية التوحش العالمي). وعن تجربة الموكل وسماتها العامة فـي كتاب (دم النار) يقول الشاعر وليد الشيخ: (مفردات الشاعر طه غنية وطازجة، حتى عندما يستدرجها من المعاجم القديمة، إلا أنه يوظفها بشكل أخّاذ، اللغة مطياعة تحت يديه، يعيد إنتاجها، فتصبح أكثر ألقا وحيوية)، من نصوص الكتاب اخترنا هذا النص: (غزة مناديل الدخان وسعفة العويل وفاحشة الجار وبيت العزاء المبعثر وأخدود السواد الكاوي، ولطمة البنت على أبيها، وتغريبة الضياع والنزوج، ورماد الحكاية، وورق المصحف، ووجه العذراء، وسقوط السقف على الرضيع، وغزة جنازة الحمامة، ونعش العروس، ورمح الوثني البغيض، ورقصة المذبوح على تلة المغيب، وانتظار الطعنة وأصيص الزهر الذاوي). الشاعر فـي سطور الدكتور المتوكل سعيد صالح طه نزال، شاعر وكاتب وروائي، ولد فـي قلقيلية مدينة بفلسطين، ونشأ نشأة أدبية، فوالده هو الشاعر سعيد بكر طه، تلقى المتوكل الشعر على يديه. حصل المتوكل على بكالوريوس فـي الآداب من جامعة بير زيت عام 1981، وحصل على ماجستير فـي الآداب، وعلى الدكتوراة فـي الأدب والنقد من جامعة اليرموك فـي الأردن، وعلى الدكتوراة فـي الفنون والآداب من معهد الأبحاث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية فـي القاهرة عام 2005. عمل صحفـيًا منذ منتصف الثمانينيات، وعمل محاضرا فـي أكثر من جامعة فلسطينية. وله نشاط سياسي وطني ضد الاحتلال الإسرائيلي تعرض بسببه للاعتقال عدة مرات. أسّس (بيت الشعر) فـي فلسطين مع عدد من الأدباء الفلسطينيين، وترأس لمدة ثمانية أعوام وعمل مشرفا عاما ومحررا مسؤولا لمجلة الشعراء، ولمجلة أقواس لمدة ثمانية أعوام، كما عمل مشرفا عاما لدارة الاستقلال للثقافة والنشر، ورئيس تحرير المنصّة الثقافـية، ورأس منظمة (شعراء بلا حدود) فـي فلسطين، وهو من أعضاء مجلس أمناء جائزة فلسطين الدولية للإبداع والتميّز، فـي رصيده العديد من الدراسات والدواوين والكتب النثرية والنقدية والفكرية. |