العـرب والغـرب والمعـرفـة المتبادَلـة
تاريخ النشر: 13th, November 2024 GMT
يعـتـقـد العـرب والمسلمون أنّهم يعرفـون الغرب - ثـقافةً واجتماعاً سياسيّاً ومنظوماتِ قـيمٍ - بما يكـفي لِيَسُوغ لهم الحكـمُ عليه: سلـباً وإيـجابـاً؛ من هذا الموقع ومن ذاك. ويعتـقـد الغربيّون، من جهتهم، أنّهم يعرفون العرب والمسلمين - ديناً وحضارةً ومجتمعات - بما يجوز لهم معه أن يصدروا أحكاماً عليهم «مطابِقة» أو «صحيحة».
وقد تجـد بين هـؤلاء وأولئك مَن يدّعي أنّه يَعـرِف آخَـرَهُ أكـثر ممّا يعـرفُه ذلك الآخَـر، ويَسُوق للاستدلال على ذلك الكثيرَ ممّا في حوزته من القرائن والشّواهـد - مصدوقِها والمكـذوب - التي يقوم بها الدّليلُ على ما يذهب إليه. بل إنّ الغالب على كلّ فريقٍ منهما ادّعاؤُهُ التّـفـوُّقَ على الثّاني في المعرفة به، حتّى بالنّسبة إلى أولئك الذين لا يجهرون بذلك الاعتـقاد من الجانبيْـن. بعيداً عن لعبةِ المقارنات بين مَـقامات المَعَارف التي لـدى كـلّ مجتـمعٍ وثـقافـةٍ عن آخَـرِهما - والتي ينغمس فيها بعضٌ من هنا ومن هناك - ما من مناصٍ من الاعتراف بأنّ قـدْراً مّا من العِـلْم بعالمَيْ الغـرب والعـرب والإسلام تَحَصَّل لدى كـلّ مجموعةٍ اجتماعيّة وثـقافـيّة عن الأخرى، بمعزلٍ عمّا يمكن أن يخالِط بعضَ ذلك العِلْـم، أو أكـثـرَه، من مزاعـمَ أو، على الأقـلّ، من ميْـلٍ - صريحٍ أو مضمَـر- إلى تضخيم قيمته أو مدى موضوعـيّـتـه. لا يـتبـيّـن مَـنَاطُ ذلك الاعـتراف إلاّ متى أحرزنا نجاحاً في أن نَـمِـيـز بين المصادر التي منها مَأْتى ذلك العِلْم أو تلك المعرفة المتبادَلة بالآخَـر؛ وهذه مهمّة تستدعي من الجَهـد كـثيرَه: إن على صعيد الاستطلاع والسَّـبْـر، أو على صعيد تصنيف أنماط ذلك العِـلْم بالآخَـر ومستوياتـه. على أنّ المدخل الأساس إلى ذلك هـو الإبَـانة - السّريعة - عن وجوه تلك المعرفة المتبادَلة، والشّروط الموضوعيّة التي حصلت فيها، والبيئات التي وقعتْ في نطاقها فصولُ الاتّصال والتّواصل بين العالميْـن اللّذيْـن تبادلا الصُّـوَر والتّمـثُّـلات عن بعضهما؛ ففي ذلك ما يُسعِـف عمليّـةَ التّبيُّـن الواقعيّ والمنطقيّ لحجّـيّـةِ قـوْلِ كلّ فريقٍ بحيازة معرفةٍ بآخَره. وليس شرطاً لاستقامةِ أمْـرِ هذا التبيُّـن أن نعود به إلى زمنٍ سحيـقٍ من العلاقة بين العالَميْن، بل تكفي تجربةُ الصّلات الحديثة والمعاصرة بينهما (منذ قرنين مثلاً) لتكون مختَـبَراً ملائماً لفحص فرضيّة المعرفة المتبادَلة تـلك. تكـوّنت معرفةٌ بالغـرب من قِـبل العرب والمسلمين منذ ابتـدأ الاحتكاكُ بين العالَميْـن، في نهايات القـرن الثّامن عشر، حتّى اليوم وتطوّرت مع الزّمن متأثّـرةً بحوادثَ كبيرة على طريق العلاقة أو على طريق التّطـوُّر التّاريخيّ العامّ. من البيّن أنّها معرفة صُـقِـلَت في مجرى النّـموّ وانتقـلت من «معرفة» انطباعيّـة مبْناها على ما انطبع في الذّهن من مشاعرَ وانطباعات، في لحظة الاتّصال الأولى، إلى معرفة أدنى إلى التّـكامل من سابقاتها الجزئـيّـة، وأقرب من المحتوى من سابقـتها الدّائرة على سطوح الغرب وقـشوره؟ ولقد ظلّ يسع تلك المعرفة أن تستـفـيدَ من مواردَ وإمكانـيّاتٍ أتاحها تطـوُّر الصّلة بين العالميْـن من أجل إنماء ذاتها وتغـذيتها باستمرار. لعلّ أظهر تلك المُـتاحات من الموارد تلك المتمثّـلة في حيازة المعرفة بألْسُن الغـرب وثـقافـته؛ وفي يُسْـر الاتّصال اليوميّ المباشر من طريق تجربة العيش المشترك في مجتمعات العالميْن، خاصّةً في مجتمعات الغـرب التي استقبلت موجاتٍ متعاقـبةً إليها من المهاجرين العرب والمسلمين. قـد لا تكون هذه المُتاحات فـتحت إمكاناً فعليّاً لتصويب العلاقة بين العرب والغرب لكـنّها، قطعاً، وفّرت فرصاً أجزلَ لتـنمية المعارف المتبادَلة، وصارت في حُكْم البوابّات الأعرض التي وَلج منها الوعيُ العربيّ إلى عالَم الغرب قصد فهْـمه وبناءِ معرفةٍ به، بصرف النّـظر - في سياقـنا الابتـدائيّ هـذا - عـمّا يمكن أن يكون عليه مضمونُ تلك المعرفة ومدى «انطباقها» على موضوعـها. نظيرُ هذه المعرفة تَكَـوَّن لدى الغـرب عن العـرب منذ نـيّـفٍ وقرنين؛ منذ داهمت عساكرُه ديارَهم وأحكَمَتْ إداراتُه الاستعماريّة قبضتها على شعوبهم. ولقد خضعت هذه المعرفة لِمَا خضعتْ له الأولى من أحكام التّـطوّر فوجدتْ نفـسها، هي الأخرى، تـنـتـقـل من لحظة اكـتـشاف منظومات تلك المجتمعات العربـيّة الموطوءةُ أراضيها، واكتـشافِ اختلافها عن مألوف الغـرب، إلى لحظة العِلْم التّـفصيليّ بتلك المنظومات وقواعدِها المؤسِّسة. وسواء تعلّق الأمر في هذه الأخيرة بمعرفة المؤسّسة الكولونيالـيّـة وأجهزتها عـالَم الاجتماع العربيّ، الواقع تحت سيطرتها العسكريّـة والسّياسيّة، ومنظومات اعتـقاداته وعوائـده، أو تعلَّق بمعرفة النّخب الفـكريّة الغربـيّة - والمستشرقون في جملتها- ذلك العالَم وتراثَه الثّـقافيّ والدّينيّ وتاريخَه السّـياسيّ، فهي اتّسعـتْ نطاقـاً - في الحاليْـن - وتعـمّـقـت أكـثـر من ذي قـبـل نظراً إلى ما أتاحه الاتّصـالُ المباشر بعالم العرب والمسلميـن من إمكانـيّـات شتّى للوقـوف على كـثـيـرٍ ممّا كان محجوباً عن مجتمعات الغـرب ونُخبـه من ظواهـرَ ومعطيـات، في ما مضى، أو الوقوف على ما كـان العِلْـمُ به لا يُجـاوِز، في السّابـق، نطاق تمـثُّـلاتٍ شاحبةِ الملامـح. من البيّـن، إذن، أنّ معـرفةً مّـا متبادَلـة بين العـرب والغـرب تكـوّنت خلال المائـتيْ عام المنصرمة لا تُوزَن بمكايـيل معارف الماضي ولا هي تُـقَـاسُ بتلك المعارف، لأنّها فاقـت في الحجم والمحتوى سابقاتها التي تكـوّنت لمئات السّـنين، بين العالميْـن، في الحقـبة التي سبقت بداية القرن التّـاسع عشر. بهذا المعنى، لا يصدُر الغربيّـون ولا العـرب عن ادّعاءٍ حين يزعُـمون لأنـفـسهم حيازةَ مثـل تلك المعرفة عن آخَـر كـلٍّ منهما. غـير أنّ السّؤال الأجدر بالمـقاربـة، في المعرض هـذا، ليس السّؤال الذي يستـقصي في شأن وجود هـذه المعرفة أو عـدم وجودها، بـل الذي ينصـرف إلى البحث في نـوع تلك المعرفة التي لدى فريـقٍ عن آخـر والميدان الذي تدور عليه وفيه. هكذا لا نستطيع أن نجيب، على نحـوٍ مقـنع، عن سـؤالٍ من قـبيل: هل نعرف بعضَـنا بعضَـا؟ إلاّ مـن طريق البحث في سؤالٍ أدقّ عن تلك المعرفـة: ماذا نعـرف عن بعـضنا بالتحـديـد؟ |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تلک المعرفة ذلک الع
إقرأ أيضاً:
رباعية القيادة العلمية .. من هنا نبدأ
إذا تابعنا التفاعل على حسابات شركة تيسلا موتورز على وسائل التواصل الاجتماعي، وقمنا بمقارنته مع الحراك على حساب إيلون ماسك -المؤسس المساعد لمصانع تيسلا، ومديرها التنفيذي- سنجد أن الجمهور يتفاعل مع قائد الابتكار بشكل مضاعف، وهي طبيعة البشر في كل مكان وزمان، فالمنتج النهائي للابتكار مهما بلغت عظمته إلا أن الاهتمام يتمحور دائمًا حول العقل المبتكر الذي أنتجه، والذي بوسعه أن ينتج ابتكارات أخرى عظيمة ومؤثرة، وهذا الذي جعل من موضوع القيادة والإدارة في العلوم حديث الساعة، ومحور النقاشات الفكرية والفلسفية، ولكن السؤال المهم هو من أين نبدأ في تسخير قوة العلم عبر القيادة الناجحة والمتمكنة؟ قبل ذلك كله، يشهد العالم تغييرات في قدرات التكنولوجيا متعددة الأبعاد، والتي تتمثل في الابتكارات التحويلية، والتقنيات المتقدمة، وبذلك أصبحت القطاعات العلمية والبحثية والابتكارية قطاعات اقتصادية في المقام الأول، وفضلًا عن ذلك، تحتاج هذه القطاعات للقدرات والكفاءات العلمية الضخمة، والاستثمارات الهائلة الموجهة في الإنفاق على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والابتكار، وتعد مخرجات البحوث العلمية من أهم مدخلات صناعة القرارات وصياغة الخطط والسياسات، كما يتمتع المجتمع العلمي بمكانته المميزة مع مجموعة من الاختلافات، والقواسم المشتركة عبر السياقات التنظيمية الأكاديمية منها والصناعية، وفي ريادة الأعمال، وهذا بدوره يفرض ضرورة التركيز بشكل استراتيجي على الإدارة والقيادة العلمية، ورغم عدم وجود فوارق جوهرية في ملفات الإدارة، وموضوعات القيادة في جميع القطاعات، إلا أن القيادة العلمية لها مفاتيحها التي تتلاءم مع طبيعة المجتمع العلمي. فإذا سألنا أنفسنا عن الصورة النمطية للباحث أو المبتكر، نجد أن الفكرة السائدة التي تعمّقت في أذهاننا هي تلك التي تصور عالمًا في المختبر، ويقوم بالتجارب بمفرده لتحقيق الاختراعات العلمية الخارقة، وهذا التأطير قد ظل عالقًا في التفكير المجتمعي والمؤسسي، ونتجت عنه ثقافة سادت الأوساط الأكاديمية والبحثية التي ظلت لعقود طويلة تنظر إلى الباحثين والمخترعين كأفراد مستقلين، وبأنهم يخوضون تجربة الاكتشافات العلمية وهم مدفوعون ذاتيًا وجوهريًا بالفضول العلمي، والطبيعة الواثقة والموجهة بالضمير نحو سبر أغوار المعرفة لصالح البشرية، وفي السياق نفسه، تبدو عملية إنتاج المعرفة وكأنها مسعى موضوعي خالٍ من العناصر الإنسانية والاجتماعية التي تتطلب الإدارة، وهذا التأطير هو الذي تسبب في تهميش محور الإدارة والقيادة العلمية، وقد بدأت الأوساط الفكرية والفلسفية مؤخرًا في التركيز على أهمية الإدارة في ممارسات المجتمع العلمي، وأن الإنتاج المعرفي يبدأ بإرساء القيادة العلمية. فقد يكون من الصعب على فرق البحث العلمي الإلمام بجميع الأبعاد الاجتماعية والتنظيمية العديدة للإنتاج المعرفي، فجميع هذه الفرق تضم المختصين بالحقول المعرفية، وهم باحثون قضوا سنوات من حياتهم في دراسة التخصصات العلمية والحقول المعرفية ليصبحوا باحثين أكفاء وناجحين، ولكن قد تنقصهم المهارات الإدارية والقيادية، فإما أن تكون الدراسة لا تتضمن تخصصات فرعية في الإدارة، أو أن الدورات القصيرة في القيادة التي انضموا إليها تنطبق عليها المقولة الإدارية «ناقصة في أفضل الأحوال، وغائبة في أسوأ الأحوال»، وهذا ما يفرض أهمية اكتشاف وبناء مهارات القيادة والإدارة التي تناسب العمل المعرفي والتخصصي، وبذلك فإن المهارات المعرفية هي أولى رباعية القيادة العلمية. وكما لا يمكن فصل العملية المعرفية عن الدوائر المؤسسية الأخرى، مثل القطاعات المانحة للتمويل، والقطاعات الإنتاجية، وعالم الأعمال، والمجتمع، فإن المهارات الاجتماعية تشكل أهمية بالغة مع طبيعة العمل البحثي والابتكاري المعقدة والإبداعية في آن واحد، إذ يشكل رأس المال الاجتماعي البعد الثاني من رباعية القيادة العلمية، وخاصة لكون عملية إدارة ممارسات المجتمع البحثي والابتكاري هي تفاعلية بين حاملي المعرفة، ومنتجي التقانة، والمستفيدين منها، والممولين لها، وطلبة العلم، مما يضع على القيادة العلمية أعباءً كثيرة مقارنةً بالقيادة الإدارية، ويستوجب إرساء نماذج الممارسات والقيادة التي تأخذ في الاعتبار خلق مناخات عمل تراعي أخلاقيات البحث العلمي والابتكار، وتزويد الباحثين والعلماء والمبتكرين بمهارات اتصال تمكنهم من نقل الأفكار المعقدة بفعالية إلى الفئات غير المتخصصة، وهي مهارة حيوية في عالم اليوم وللمستقبل، إذ يتوجب على المجتمع العلمي التواصل الفعال مع صناعي السياسات، ووسائل الإعلام، والمجتمع لتعزيز بناء الشراكات الاستراتيجية القادرة على استقطاب التمويل، وزيادة الوعي بالقضايا العلمية، وبناء الثقة بأهمية المعرفة والعلوم في معالجة التحديات المعقدة بصورة تتماشى مع القيم والاحتياجات المجتمعية، وإبراز دور المخرجات البحثية والمعرفية في دعم اتخاذ قرارات أكثر استنارة، وأكثر فاعلية على إحداث الأثر المنشود. لقد أصبحت طبيعة البحث العلمي والابتكار أكثر تعددًا للتخصصات، وتكاملًا مع المؤسسات والقطاعات، مما يستوجب الفهم الواعي بأهمية المهارات التنفيذية التي تمثل البعد الثالث من رباعية القيادة العلمية، فبناء فرق التطوير التقني، وإدارة التمويل البحثي، وتتبع ديناميكيات المهام البحثية، والتقريب بين وجهات النظر والمهارات والخبرات المتنوعة، وتحري المرونة والكفاءة في التعامل مع تعقيدات التمويل، والامتثال للحوكمة المؤسسية هي في صميم تنفيذ المشروعات البحثية والابتكارية، ومع تنامي دور الباحثين والعلماء في دعم التوجهات الاستراتيجية بعيدة المدى، فقد أصبحت القيادة العلمية في أمس الحاجة إلى مهارات التفكير الاستراتيجي، وهنا يأتي البعد الاستراتيجي لتكتمل رباعية القيادة العلمية، إذ تعد العقلية الاستراتيجية ضرورية في دعم المبادرات التي لديها القدرة على تحويل المجالات العلمية إلى فرص اقتصادية واجتماعية، مع استشراف الاتجاهات المستقبلية، وتحديد فرص الابتكار، والمساهمة في تشكيل الأجندة العلمية. إن القيادة العلمية الرصينة ليست مجرد إضافة اختيارية للعملية المعرفية، ولكنها عنصر أساسي في بلورة دور المجتمع العلمي في النمو الاقتصادي والاجتماعي، وتأصيل إنتاج المعرفة لكونه مسعى إنسانيًا عميقًا يبدأ بإرساء ركائز قيادية تتكامل فيها المهارات المعرفية، والذكاء الاجتماعي، وكفاءة العمل التنفيذي، والحس الاستراتيجي القادر على إتاحة مزيج فريد من الدقة المعرفية، والفكر الإبداعي، وروح التعاون والتكامل، حيث تتميز البيئة المهنية للعمل البحثي والابتكاري بكونها معقدة ومتعددة الأوجه ومتطلبة، من حيث ترسيخ الثقافة، وتنمية الباحثين للانتقال بسلاسة بين الأبعاد الاجتماعية والتنظيمية للممارسات العلمية بما يساهم في تعزيز جودة الإنتاج المعرفي. |