ما بين المفهوم والهوية.. بقلم:أ. د. بثينة شعبان
تاريخ النشر: 11th, November 2024 GMT
ما الحدث الذي يمكن أن يتخيله أيّ منا الذي يمكن له أن يحيد الانتباه عن الحملة الانتخابية الأمريكية وهي في أشدّ أيامها نشاطاً محموماً لإقناع الجمهور الأمريكي بالإدلاء بصوته لصالح المرشح أو المرشحة؟ عادةَ يصعب على أيّ حدث مهما عظم أن يحقّق حضوراً على الساحة الإعلامية الغربية يتجاوز وهجه وهج السباق الأمريكي الإعلامي الضخم المحموم بين حزبين لا ثالث لهما إلى البيت الأبيض وكأنه فيلم هوليودي بعنوان “الديمقراطية الأمريكية”.
وبغضّ النظر عن الموقف من الحجاب أو الشادور فإنّ ردود الفعل الغربية على هذا الحدث المنكر، المستهجن طبعاً، إن دل على شيء فإنما يدلّ على استمرار الغرب بتسليع حرية المرأة، والاستخدام الرخيص لجسدها للتعبير عن المقولة المكرّرة والزائفة عن تفوّق الغرب في احترام حقوق وإنسانية المرأة؛ المقولة التي بدأ الإعلام الغربي يكرّسها منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي حين اعتبر رفض النساء لارتداء حمّالة الصدر والخروج عن مبادئ الحشمة في الظهور شرطاً لازماً للتحرّر والمساواة بين المرأة والرجل. وفي هذا المفهوم الغربيّ المشبوه خروج عن التجربة الإنسانية برمّتها؛ فنساء أفريقيا وآسيا يعملن منذ قرون يداً بيد مع الرجال ويتبؤن المناصب المرموقة في عشيرتهن ومجتمعاتهن ومدنهن إلى درجة وصولهنّ إلى حاكمات من ملكة تدمر زنوبيا إلى شجرة الدرّ إلى سكينة بنت الحسين، صاحبة أول صالون أدبي، إلى ولّادة بنت المستكفي وغيرهنّ كثر، وفي كل أصقاع الأرض ودون أن تضطر أي من هؤلاء النسوة أو أيّ من نساء مجتمعاتهنّ على استعراض أجسادهنّ لإثبات حضورهنّ في مجتمعاتهنّ. وبغضّ النظر عن الحجاب الإسلامي، الذي يهاجمه الغرب باستمرار، فإن نظرة إلى صور المرأة عبر التاريخ تُري أن المرأة الأوروبية والآسيوية والعربية والأفريقية قد اعتمدت غطاء الرأس المتناسق مع الثوب الذي تلبسه، والذي أضفى عليها وقاراً وجمالاً.
النقطة الأساسية هنا وفي هذا المثال هي محاولات الغرب اليائسة لفرض مفاهيمه المنفلتة وأنموذجه المتعرّي على بقية شعوب بلدان العالم مستخدماً إعلامه المسير، غير مدرك أنه قد انكشف أمام العالم بعد دعمه لحرب الإبادة على غزة، وأن الصورة الإعلامية المزيفة التي روجها الغرب بعد الحرب الباردة، والتي تُري الولايات المتحدة كدولة لا يمكن لأحد في العالم الاستغناء عنها، وأنها المدينة المضيئة على التل، وأنها رمز الحرية، لم تعد هذه الصورة المزيفة ماثلة في أذهان الشعوب التي تتلقى النتائج الكارثية لسياسات الولايات المتحدة بما فيها الشعب الامريكي نفسه والذي لا يتمكن شبابه وشاباته من إنشاء أسرة نتيجة ضغط النفقات وضعف الرواتب وعدم قدرتهم على توفير الوقت والمال بإنشاء أسرة، وهذا ما يشعر به عموم الشعب الأمريكي من ضائقة مالية نتيجة هدر المال العام على الحروب الخارجية وإنفاق المليارات من أموال الشعب الأمريكي على إشعال نار الحرب في أوكرانيا وعلى تزويد كيان الإبادة الصهيوني بأحدث الأسلحة والذخائر لقتل المزيد والمزيد من الأطفال العرب . بينما الصورة التي تروّجها الإدارة للعالم هي صورة الخمسة بالمئة التي تعتاش وتجني المليارات من إشعال الحروب والفتن واستغلال الموارد الأمريكية لمراكمة ثرواتهم.
لقد ساهمت الحرب على أفغانستان وعلى العراق وعلى ليبيا وعلى اليمن وأخيراً على غزة ولبنان في إظهار الوجه الحقيقي للولايات المتحدة المتغطرس المتعطش لسفك الدماء وتدمير حياة الملايين من الناس، ولكنّ حرب الإبادة التي يقوم بها الكيان الصهيوني منذ أكثر من عام ضدّ المدنيين الأبرياء في فلسطين ولبنان وبدعم لا محدود، عسكري ومالي وإعلامي وسياسي من البلدان الغربية كلها، ومن قبل الولايات المتحدة بشكل أساسي قد كان القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير في مكانة الولايات المتحدة السياسية والأخلاقية في العالم حيث اتضح دورها المشين في تعطيل النظام الدولي، وإفشال الأمم المتحدة ومجلس الأمن للقيام بدورهما في إيقاف القتل والدمار والحصار الغربي على المدنيين العزل، وافتضح دورها في الوقوف سدّاً منيعاً في وجه تحقيق العدالة وإحقاق حقّ الشعوب في أوطانهم والدفاع عنها من أجل ضمان هويتها واستقلالها وكرامة أبنائها في العيش أحراراً على أرضها.
فإذا كان هذا الاعلام الغربي المسيّر المموّل صهيونياً وهذه الحكومات الغربية المتصهينة مهتمّة بحقوق المرأة، فأين هي من حق الحياة بكرامة للنساء الفلسطينيات اللواتي تقصف منازلهن ليلاً ونهاراً؟ وأين اهتمامهم بالنساء الحوامل اللواتي في غزّة بُـقرت بطونهن من قبل جنود متوحشين معبأين بالكراهية العنصرية حيث تمّ قتل أجنّتهن معهن وتمّ اغتصابهن؟! وأين هي الحكومات الغربية وإعلامها المكبل من السجينات الفلسطينيات اللواتي يسرُدنَ لمحاميهن إجراءات الرعب والتعذيب والإهانة التي يتّخذها جنود الاغتصاب الإسرائيلي في حقهنّ كلّ يوم وكلّ ساعة دون توجيه أيّ تهمة لهنّ لأنهنّ لم يرتكبن ذنباً سوى الدفاع عن أرضهنّ وبيوتهنّ وأولادهنّ بكل ما أوتين من قوة؟! وأين هو الغرب من الأطفال الفلسطينيين السجناء، وهو يتشدق دوماً بحقّ الطفل؟ وتدّعي ممثلة المملكة المتحدة في الأمم المتحدة أن بلادها تعطي الأولوية للنساء بالبند الخاص بـ “المرأة والسلم والأمن” غير مدركة أن لا أحد يؤمن بعد اليوم بصدق ما يقولون بعد أن أظهر النفاق الغربيّ في حرب الإبادة الصهيونية على غزة حقيقة سياسات الغرب الاستعمارية العنصرية وأنها تسعى فقط إلى الهيمنة على مقدرات شعوب العالم، وخاصة الأمة العربية، ونهب ثرواتها واستيطان أراضيها.
ولكنّ هذا الانكشاف لا يخصّ فقط شعوبنا العربية المتأثرة بشكل سلبي كبير بدعم الغرب للعدوان والاحتلال والقتل والإبادة، ولكنه أيضاً يسري، إلى حدّ ما، على الشعوب الغربية وخاصة على الجيل الشاب وطلبة الجامعات الذين تحرّكت ضمائرهم ضدّ العدوان على غزة، وانتفضوا بكل الوسائل المتاحة لهم ضدّ القتل والظلم والتهجير قبل أن يتمّ قمعهم وإخماد أصواتهم بكل وحشية. هؤلاء هم الذين هزموا الديمقراطيين في هذه الانتخابات في أول فرصة أُتيحت لهم للتعبير عن رأيهم الرافض لما يجري من جرائم إبادة وحشية؛ حيث تؤكد التحليلات أنّ الشباب الأمريكي الذي انتخب للمرة الأولى في الولايات المتحدة لم يعط أصواته للديمقراطيين، بصرف النظر عن مستقبل موقف الإدارة الجديدة مما يجري في المنطقة، ولكنّ الرسالة هي أن الكلمة الأخيرة عبر التاريخ هي للشعوب وإن تكن غطرسة الحكّام المتصهينين وأهواؤهم تعمي أبصارهم وقلوبهم عن هذه الحقيقة المثبتة فإن هذا لا يغيّر من الأمر شيئاً.
بالإضافة إلى الكوارث التي أرخت بظلالها على المفاهيم الغربية المشبوهة لتحرير المرأة والتي عملت على تسليعها فقط، فإن مفاهيم الغرب أيضاً عن الديمقراطية، مثلاً بأنها ديمقراطية ليبرالية غربية لا علاقة لها بثقافة شعوب العالم وتاريخها وتطوّر حضارتها، هو أيضاً مفهوم زائف تمرّدت عليه أمم عديدة والتي توصلت إلى نمطها الخاص بالحكم مثل الصين و إيران وماليزيا وأندونيسيا وغيرها، ودول في أمريكا اللاتينية ودول أفريقية، والمسألة واضحة بأن الشعوب سوف تصنع خياراتها وفق ما يلائم احتياجاتها وطموحاتها وبمعزل عن الدعايات والهيمنة الغربية التي سقطت أخلاقياً وسياسياً، ولن تعمد إعلامياً أو واقعياً أبداً بعد هذا الامتحان الذي فشلت فيه في الانتصار لأي من مقولاتها وادعاءاتها التي درجت على ترديدها على أسماع العالم على مدى عقود.
وبدلاً من مراجعة الذات والانخراط بتفكير نقديّ جاد يراجع عبارات سخيفة مثل “عالم مبنيّ على القواعد” ويراجع سياساتهم الوحشية في دعم كيان إرهابيّ مثل نظام نتنياهو الدموي بالمال والسلاح وترديد أكذوبة “الدفاع عن النفس” في الوقت الذي يمثل الفلسطينيون واللبنانيون جذوةً ومفهوماً أصيلاً للدفاع عن النفس، بدلاً من ذلك ينخرط الغرب مجدّداً بمحاولات يائسة لتغيير قيمة الشهادة في مجتمعاتنا وقيمة الشهامة والنخوة والحشمة، المفاهيم التي دخلت في جينات أجيالنا والتي نعتزّ ونفتخر بها، فتحاول اختراق مجتمعاتنا من خلال نشر مفاهيم وسلوكيات التعرّي والانفلات اللاأخلاقي باستخدام عبارات فاشلة مثل “الخلاص الذاتي” و”الثروة المادية والعيش الهانئ لي ومن بعدي الطوفان” وكلّ هذه المفاهيم المغلوطة التي لا تمتّ لحضارتنا وللحضارة الإنسانية العريقة بصلة . أوَ لا يخجلون من محمود البصل وحسام أبو صفية وعشرات الإعلاميين الذين يرون رفاقهم يستشهدون وينتقلوا بكاميراتهم لتصوير عدوان آخر على شعبهم وإيصاله للعالم؟! أوَ لا يخجلون من لاجئ حمل قضيته منذ سبعين عاماً ينتقل بها من أرض إلى أرض ويأبى مغادرة ترابه المقدس ولو مات عطشاً وجوعاً ولكنه لا يسمح للمعتدي الصهيوني الغريب القادم من وراء البحار أن يمرّ إلا على جسده. كلّ المفاهيم المريبة والفاشلة التي يبثّونها في محاولات يائسة لتغيير عجلة التاريخ الحضاري للبشرية لن تغيّر من مفهوم الهوية المقدس والتشبّث الشهم والرصين والتاريخي بهذه الهوية مهما بلغت الأثمان إلى أن يحقّ الحقّ ويزهق الباطل “إنّ الباطل كان زهوقا”.
أ. د. بثينة شعبان 2024-11-11sanaسابق الذهب يواصل خسائره في الأسواق العالمية انظر ايضاً وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر… ابن عربي- بقلم: أ. د. بثينة شعبانقالت محدثتي: “لقد اعتزلتُ القراءة والكتابة بعد كل الدراسات والشهادات والأبحاث والتعلّم والتعليم وبعد كل …
آخر الأخبار 2024-11-11الذهب يواصل خسائره في الأسواق العالمية 2024-11-11الأمن الروسي يحبط مخططاً أوكرانياً لاختطاف مروحية عسكرية روسية 2024-11-11الصين تطلق مجموعة جديدة من الأقمار الاصطناعية 2024-11-11لبنان.. شهداء وجرحى بغارات لطيران العدو الإسرائيلي على بعلبك الهرمل 2024-11-11الحرارة إلى انخفاض وفرصة لهطل الأمطار فوق عدة مناطق 2024-11-10إيران تدين بشدة العدوان الصهيوني على منطقة السيدة زينب وتطالب المجتمع الدولي بخطوات عملية لوقف الجرائم الصهيونية 2024-11-10واشنطن تعترف بعجز العقوبات الغربية عن تقويض الإمكانيات الدفاعية الروسية 2024-11-10مباحثات إيرانية سعودية لتعزيز التعاون العسكري 2024-11-10أرسنال يتعادل مع تشيلسي في قمة الدوري الإنكليزي 2024-11-10بزشكيان يبحث هاتفياً مع بن سلمان العلاقات الثنائية والتطورات في المنطقة
مراسيم وقوانين الرئيس الأسد يصدر مرسوماً بتنفيذ عقوبة العزل بحق قاضية في النياية العامة التمييزية 2024-11-02 مرسوم بتحديد الـ 7 من كانون الأول القادم موعداً لإجراء انتخابات تشريعية لمقعدين شاغرين في دائرتي حلب وطرطوس 2024-11-02 الرئيس الأسد يصدر مَراسيم بتعيين محافظين جدد لخمس محافظات 2024-10-17الأحداث على حقيقتها تدمير عشر طائرات مسيرة للتنظيمات الإرهابية بريفي حلب وإدلب- فيديو 2024-10-30 خروج محطة كهرباء مدينة عامودا عن الخدمة جراء عدوان تركي 2024-10-24صور من سورية منوعات الصين تطلق مجموعة جديدة من الأقمار الاصطناعية للاستشعار عن بعد 2024-11-09 مركبة الفضاء الصينية “شنتشو 19” تلتحم بنجاح بمجموعة المحطة الفضائية 2024-10-30فرص عمل الخارجية تعلن عن برنامج تدريب المقبولين للتقدم إلى المرحلة الثالثة من مسابقتها 2024-11-06 التعليم العالي تسمح للجامعات الخاصة فتح التسجيل المباشر لملء الشواغر في كلياتها 2024-11-04الصحافة ما بين المفهوم والهوية.. بقلم:أ. د. بثينة شعبان 2024-11-11 أميركا والاستثمار بالإرهاب.. بقلم: شعبان أحمد 2024-11-09حدث في مثل هذا اليوم 2024-11-1111 تشرين الثاني 1918 – انتهاء الحرب العالمية الأولى بالهدنة التي وقعتها ألمانيا مع قوات الحلفاء 2024-11-1010تشرين الأول 1975 – رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات يلقي كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في مقرها بمدينة نيويورك لأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية 2024-11-099 تشرين الثاني 2005- تفجيرات إرهابية تهز فنادق في العاصمة الأردنية عمّان. 2024-11-088 تشرين الثاني 2005- إعلان حالة الطوارئ في فرنسا بعد الاحتجاجات في ضواحي باريس 2024-11-077 تشرين الثاني 1956- الجمعية العامة للأمم المتحدة توافق على قرار يطلب من المملكة المتحدة وفرنسا و”إسرائيل” الانسحاب الفوري من مصر 2024-11-066 تشرين الثاني 1913 – القبض على مهاتما غاندي
مواقع صديقة | أسعار العملات | رسائل سانا | هيئة التحرير | اتصل بنا | للإعلان على موقعنا |
المصدر: الوكالة العربية السورية للأنباء
كلمات دلالية: الولایات المتحدة تشرین الثانی بثینة شعبان على غزة
إقرأ أيضاً:
"الفوضى الخلاقة".. بين المفهوم الغربي والتأصيل الإسلامي
قال الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الجمهورية السابق، أن مصطلح "الفوضى الخلاقة" (Creative Chaos) بدأ يترسخ في أدبياتنا السياسية كوافد غربي يحمل معه مفاهيم معقدة لا ندرك غالبًا أبعادها الفكرية ولا نظرياتها الجذرية.
هذا المصطلح يبرز أزمة فكرية عميقة في تعاملنا مع المفاهيم الوافدة، مقارنة بما قام به العلماء المسلمون في العصور الأولى من استيعاب الوافد الفكري وتأصيله في سياق يتماشى مع مبادئ الإسلام ومعايير العقل.
تذكرني هذه الأزمة بما تناوله الإمام أبو الحسن الأشعري (توفي 320 هـ - 940 م) في كتابه الصغير استحسان الخوض في علم الكلام. في هذا الكتاب، يشرح الأشعري كيفية مواجهة الأفكار الوافدة، خاصة تلك ذات الجذور اليونانية، من خلال تأصيلها أو رفضها بناءً على معايير علمية ودينية واضحة. تلك الرؤية هي ما جعل المسلمين في عصورهم الذهبية ينتقلون من التفكير الساذج إلى الفكر المستنير المتعمق، وهو ما نفتقر إليه اليوم في تعاملنا مع المصطلحات الغربية كـ"الفوضى الخلاقة".
قراءة الكون بين الإسلام والغربعلى سبيل المثال، نجد أن المسلمين أطلقوا على النسبة الثابتة للدائرة (22/7) اسم "النسبة الإلهية الفاضلة"، إدراكًا منهم لجلال الخلق وإعجاز الخالق في وضع هذه النسبة الثابتة في جميع الدوائر. هذا الوصف يفتح أفقًا لقراءة الكون قراءة ربانية تعكس عظمة الخالق.
أما الفكر الغربي الحديث، فقد أطلق على ذات النسبة اسم "النسبة الطبيعية" (π) معزولًا عن أي بُعد روحي.
هذه الفجوة بين القراءة الروحية للكون عند المسلمين والقراءة العلمية المجردة في الفكر الغربي تظهر بوضوح في النظر إلى مفاهيم مثل "الفوضى"؛ حيث يدرس الغرب نظريات "الفوضى الخلاقة" في سياق القوانين الخفية التي تحكم العشوائية الظاهرة في الكون.
الفوضى الخلاقة: بين العلم والفكرنظريات الفوضى الحديثة ليست مجرد مصطلحات سياسية بل هي مفاهيم علمية نشأت في الغرب لدراسة الظواهر العشوائية التي تبدو بلا قانون واضح. هذه النظرية حظيت بشهرة واسعة بفضل روايات وأفلام شهيرة مثل حديقة الديناصورات لمايكل كريشتون (1990)، حيث استُخدمت فكرة الفوضى لشرح كيفية استنساخ ديناصورات تسببت في كوارث غير متوقعة.
كما نجد مثالًا آخر في قصة صوت الرعد التي تعتمد على فكرة أن تغييرًا صغيرًا، كضربة جناح فراشة في الشرق، قد يؤدي إلى إعصار ضخم في الغرب.
النظرية نفسها تعود جذورها إلى عالم الرياضيات الفرنسي هنري بونيكير، الذي واجه معضلة رياضية عُرفت بـ"حركة الأجسام الثلاثة في إطار واحد من الجاذبية". هذا التحدي استمر قرنين من الزمن دون حل، مما دفع العلماء إلى البحث في الظواهر العشوائية ومحاولة فهمها.
مقارنة منهجية: الفكر الإسلامي والنظريات الحديثةبينما يشير العلماء الغربيون إلى "العشوائية" في الظواهر التي لا يمكن تفسيرها أو التنبؤ بها بسهولة، نجد أن الفكر الإسلامي ركز على الربط بين المسببات والغايات بمنهج متوازن يجمع بين العقل والنقل. هذه الرؤية الإسلامية الشاملة تتيح لنا فهمًا أعمق للظواهر الكونية وارتباطها بالخالق، بدلًا من الاكتفاء بالنظرة المادية البحتة.
إن استخدام مصطلح مثل "الفوضى الخلاقة" دون إدراك جذوره ومعانيه قد يؤدي إلى استيراد مفاهيم بعيدة عن سياقنا الثقافي والديني. ما نحتاج إليه هو إعادة إحياء منهجية التأصيل التي طرحها الإمام الأشعري وغيره من علماء الإسلام، بحيث نتمكن من التعامل مع المصطلحات والمفاهيم الوافدة بما يثري فكرنا ومجتمعنا.
الفوضى، إذا نظرنا إليها من زاوية إسلامية، لا يمكن أن تكون "خلاقة" بمعناها المادي المجرد؛ لأن الإبداع والخَلْق مرتبطان بالانسجام والنظام الذي أوجده الله تعالى. لذا، ينبغي علينا أن نتبنى قراءة واعية ومتعمقة لهذه المفاهيم، بما يعزز من ارتباطنا بقيمنا وأصولنا الفكرية.