قراءة مختلفة لـنظام التفاهة بعد طوفان الأقصى
تاريخ النشر: 1st, November 2024 GMT
رغم أهمية الأطروحات التي أوردها الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتاب "نظام التفاهة" (2015)، فإننا نرى أن النقد الجذري الذي يمكن أن يوجه لهذا الكتاب المرجعي -في مستوى "اللامفكر فيه" بخيار شخصي من المؤلف، أو "ما يُمنع التفكير فيه" بحكم هيمنة اللوبي الصهيوني على الجامعات والإعلام- هو علاقة "نظام التفاهة" بما أسميناه بـ"الإمبريالية في مرحلتها المتصهينة".
فسيطرة "التافهين" على مفاصل السلطة ومراكز إنتاج القرار وعلى أدوات توجيه الرأي العام لا تعكس البنية العميقة للنظام العالمي، وليست مجرد مصادفة أو رمية من غير رام. ونحن نذهب إلى أن ما أسماه الكاتب بـ"نظام التفاهة" هو مجرد سطح أو هو أثر مقصود لاستراتيجية "عقلانية" بالغة التعقيد والقوة، ماديا وفكريا. وهي استراتيجية مُعولمة تجعل من الصعب على أي تفكير -بما في ذلك التفكير المعادي للصهيونية- أن يُفكر خارج سقفها إلا عند توفر شروط "إيمانية" وفكرية ومراجعات جذرية مؤلمة؛ تتحقق فيها معاني الكتابة المقاومة باعتبارها النقيض الحقيقي للكتابات/السرديات المتصهينة.
خلافا لآلان دونو الذي يركز على السياقات الغربية لتأكيد مقولاته التحليلية، فإننا معنيون في هذا المقال بالمجال العربي الإسلامي باعتباره الحاضنة الأولى للمقاومة، بل باعتباره موضوع سلطة أولئك "التافهين" الذين يحكمون مراكز القرار الغربي عبر وكلاء يمكن وصفهم بأنهم "تافهون من الدرجة الثانية". فإذا كان "التافه" في الغرب ينتج "المعرفة" و"التقنية" وينتج أيضا النماذج التفسيرية (البراديغمات)، فإن صنيعته -أي "التافه" العربي أو المسلم- لا ينتج شيئا غير تقديس "التافه الأصلي" باعتباره مرجعا نهائيا للمعنى وخالقا أوحد للكلمات النهائية، أي تلك الكلمات التي ليس وراءها إلا الموت أو الجنون أو الصمت على حد عبارة أحد الفلاسفة. إذا كان "التافه" في الغرب ينتج "المعرفة" و"التقنية" وينتج أيضا النماذج التفسيرية (البراديغمات)، فإن صنيعته -أي "التافه" العربي أو المسلم- لا ينتج شيئا غير تقديس "التافه الأصلي" باعتباره مرجعا نهائيا للمعنى وخالقا أوحد للكلمات النهائية، أي تلك الكلمات التي ليس وراءها إلا الموت أو الجنون أو الصمت على حد عبارة أحد الفلاسفةولعل احتفاء أغلب النخب الجامعية و"المثقفين" و"الإعلاميين" بكتاب آلان دونو -رغم اعتباره مراكز البحث الغربية والجامعات الكبرى والصحافة أعمدة لنظام التفاهة- هو أكبر دليل على حالة البؤس التي تعيشها تلك النخب.
لقد قرأت النخب العربية "نظام التفاهة" باعتباره شأنا غربيا، أو باعتباره توصيفا عاما لا ينطبق عليهم بالضرورة. وإذا كان دونو نفسه يعلن صراحة أن "قطب الرحى في سيطرة التافهين على كل مفاصل الحياة المعاصرة يبدأ وينتهي بالميادين الأكاديمية" (بلال رامز بكري، مدونات الجزيرة)، فإن النخب الأكاديمية -من أساتذة وخبراء ومثقفين- لم يجدوا في هذه الملاحظة ما يدعو إلى التفكير في أدواتهم المعرفية وأدوارهم الاجتماعية. وعوض أن يكون الكتاب مناسبة لنقد الذات أو لمراجعة علاقتها بالمرجع الغربي "المتصهين"، تحوّل "نظام التفاهة" إلى أداة للتمركز حول الذات وتأكيد تناقضها مع "التافهين المحليين"، أي تناقضها مع عامة الشعب ومع كل المخالفين سياسيا وأيديولوجيا.
لم تكن صيحة الفزع التي أطلقها آلان دونو في كتابه كافيةً لإيقاظ أغلب النخب العربية من نرجسيتهم واستعلائهم المعرفي الكاذب المبني على التذيل المطلق لـ"مركز التفاهة المُعولمة". وإذا كان الفيلسوف الاسكتلندي دافيد هيوم قد أيقظ الفيلسوف الألماني كانط من سباته الدوغمائي، فإنّ دونو -من باب المفارقة- قد وفّر للنخب "الوظيفية" ترسانة نظرية لشرعنة سُباتها وتأبيد أساطيرها لإعادة إنتاج أدوارها التقليدية المضادة جوهريا للثورة والديمقراطية ولمشروع "الحكم معا"، والاعتراف المتبادل بين الإسلاميين والعلمانيين.
ومهما كانت الأسباب التي حالت بين دونو وبين الدفع بتحليلاته إلى تدبر العلاقة بين "نظام التفاهة" والصهيونية (أي إلى نقد الإمبريالية في لحظتها المتصهينة)، فإن طوفان الأقصى قد وفّر للنخب العربية والإسلامية مناسبة لفعل ذلك. فإذا لم تكن الصهيونية تاريخيا هي منبع "نظام التفاهة"، فإنها قد أصبحت قاطرته الأساسية وارتبطت معه بعلاقة تلازمية، خاصة بعد تأسيس الكيان. ولذلك لا يمكن لنا الآن-وهنا أن نفهم "نظام التفاهة" في الغرب أو في هوامشه الوظيفية التي تُسمى مجازا دولا وطنية إلا باستحضار تلك العلاقة.
لمّا همّش آلان دونو قضية العلاقة الانصهارية بين نظام التفاهة وبين الإمبريالية في لحظتها الحالية (أي لحظتها المتصهينة)، فإنه لم يطرح على نفسه البحث في الاستعارة الخفية أو التوليدية لذلك النظام "الدهري" (أي المعارض بالضرورة للتعالي وللغيبيات باعتبارها موجهات أساسية للتفكير وللسلوك). فإذا كانت الإمبريالية في لحظتها المريكانتلية (التجارية) وفي بداياتها الرأسمالية قد استندت إلى استعارات "إنجيلية" صريحة أو معلمنة بدرجات متفاوتة، فإن الإمبريالية في لحظتها المتصهينة محكومة أساسا باستعارات يهودية جلية أو خفية. ونحن نذهب إلى أن "عبادة العجل الذهبي" (المال، السلطة، الوجاهة الاجتماعية، الجنس.. الخ) ليست إلا الدين المرئي للإمبريالية المتصهينة عند الغوييم (غير اليهود)، أما الديانة الخفية لمن يتحكمون في هذه الإمبريالية فهي مرتكزة على "البقرة الحمراء" وما تحمله من دلالات قيامية في اليهودية أو المسيحية المتهوّدة (خاصة عند البرتستانت). وهو ما يعني أن الإمبريالية في لحظتها المتصهينة ليست سوى مشروع ديني لا يمكن أن يستويَ على سوقه إلا بعولمة نظام التفاهة (عبادة العجل الذهبي) وتسليط التوافه على "الغُوييم".
ونحن لا نعني بالتوافه هنا الأشخاص الطبيعيين فقط، بل نعني أيضا الأشخاص غير الطبيعيين (مثل الجمعيات والمنظمات المدنية والأحزاب، بل الأيديولوجيات والسرديات الكبرى).
إن "التفاهة" لا تحكم الفضاء العام ولا تهيمن على الوعي الجمعي بالأشخاص الطبيعيين مباشرةً، بل هي تحتاج إلى "أجسام وسيطة" ومؤسسات وسرديات وظيفية وأدوات دعاية. ولا شك في أن الصهيونية -عبر وكلائها المحليين الصرحاء أو عبر "التافهين" الذين يخدمونها بلا وعي- قد عملت منذ إنشاء الكيان -بل قبله- على الدفع بالتافهين إلى مركز القرار ومراكز إنتاج المعرفة عبر حلفائها في القوى الاستعمارية. ولا شك أيضا في أن هؤلاء "التافهين" قد حولوا كل الكلمات/القضايا الكبيرة (مثل العدالة، التحرر، التحديث، الديمقراطية، الوحدة العربية، الخلافة، المواطنة، الإسلام، حرية المرأة، المجتمع المدني، الأحزاب.. الخ) إلى كبائر في خدمة قضاياهم الصغرى، كما يقول المناضل الاجتماعي والمفكر الديكولونيالي التونسي الأمين البوعزيزي.
أكد الطوفان أن التوافه الأخطر على "الإسلام المقاوم" هم الطائفيون ومنتحلو التنوير والتحديث، وهو ما يعني ضرورة مراجعة علاقتنا بهاتين السرديتين. فإذا كانت السردية الطائفية تشدنا إلى البنية الاستبدادية الدينية وإلى شيوخ السلاطين باعتبارهم الآلة الأيديولوجية لتأبيد الظلم والتخلف والتبعية، فإن السردية التنويرية تشدنا إلى البنية الاستبدادية المُعلمنة وإلى عبادة العقل الغربي
ونحن نعني هنا بالقضايا الصغرى تلك القضايا التي تفيض عن المصلحة الشخصية لأصحابها لتشمل مصلحة الطائفة أو التنظيم أو الجهة أو الفئة المهنية (الجيش مثلا)، أي كل شبكات الرعاية المتبادلة التي تُشرعن امتيازاتها بنسق حجاجي زائف مداره "المصلحة الوطنية العليا".
إذا صحّ لنا اعتبار "طوفان الأقصى" مدخلا للاستبدال العظيم في مستوى الأشخاص والسرديات والكيانات -وهو أمر مؤكدٌ كيما كانت مخرجات الصراع الحالي بين الكيان وجناحي المقاومة أو الإسلام المقاوم- فإن أوكد معاني الاستبدال هو تغيير ما بالعقول والقلوب، أي تغيير ما في أنفسنا بالمصطلح القرآني. لقد أكد الطوفان أن التوافه الأخطر على "الإسلام المقاوم" هم الطائفيون ومنتحلو التنوير والتحديث، وهو ما يعني ضرورة مراجعة علاقتنا بهاتين السرديتين. فإذا كانت السردية الطائفية تشدنا إلى البنية الاستبدادية الدينية وإلى شيوخ السلاطين باعتبارهم الآلة الأيديولوجية لتأبيد الظلم والتخلف والتبعية، فإن السردية التنويرية تشدنا إلى البنية الاستبدادية المُعلمنة وإلى عبادة العقل الغربي؛ باعتباره أداة ترسيخ الانقسام والتخلف والتراتبيات الاجتماعية المرتبطة وظيفيا بالمركز الغربي.
رغم أننا لا نعتبر "الإسلام المقاوم" إسلاما ما بعد الطائفي (رغم انفتاحه استراتيجيا على هذا الإمكان)، فإنه يطرح إجابة "ميدانية" من المفروض أن تدفعنا -نحن "التافهين من الدرجة الثانية"- إلى مراجعة علاقتنا بمقدساتنا الطائفية وأوهامنا الحداثية على حد سواء. ولكنها مراجعة تبدو مؤجلة عند أغلب "النخب" الطائفية والتنويرية التي ما زال سدنتها يرون أنفسهم خارج نظام التفاهة بل عدوه الأساسي. ولن نجانب الصواب إذا ما قلنا بأن "آلية الإنكار" قد حوّلت تلك "النخب" موضوعيا إلى أجسام وظيفية في خدمة الصهيونية "المستعربة"، بصرف النظر عن ادعاءات أصحابها ومزايداتهم على بعضهم بعضا.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المقاومة الطائفية الاسلام المقاومة الطائفية أيديولوجيا مقالات مقالات مقالات رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة نظام التفاهة فإذا کان
إقرأ أيضاً:
هل قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة تجعل الله ينظر لقائلها ويغفر له؟
تكثر الاستفهامات والأسئلة عن حقيقة هل قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة تجعل الله ينظر لقائلها ويغفر له؟، والتي يزيد معها الحرص والانتباه بقدر العظمة والمنزلة، وحيث إننا في شهر شوال المبارك وآية الكرسي أعظم آيات القرآن، والصلاة هي ثاني أركان الإسلام الخمس من هنا ينبع السؤال عن هل قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة تجعل الله ينظر لقائلها ويغفر له؟ ، باعتباره أحد أسرار آية الكرسي الخفية ، وهي إحدى آيات سورة البقرة، ولعل حث رسول الله لنا على قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة يشير إلى فضلها العظيم، الذي لا ينبغي تضييعه أو الاستهانة به وتفويته، فقد تحمل معها مفتاحًا لبوابات الخير والرزق والبركة، وهذا ما يطرح السؤال عن هل قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة تجعل الله ينظر لقائها ويغفر له؟.
قال الشيخ عويضة عثمان، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إن قراءة آية الكرسي بعد صلاة الفرض أو السنة لها فضل عظيم ونقرأها بعد الصلاة مباشرة.
واستشهد " عويضة" في إجابته عن هل قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة تجعل الله ينظر لقائها ويغفر له؟، بما روي عن جابر بن عبدالله وأنس بن مالك ، وحدثه الشوكاني في الفوائد المجموعة، الصفحة أو الرقم : 299، حديث : ( مَن قرأَ آيةَ الكرسيِّ في دبرِ كلِّ صلاةٍ ، خرقَت سبعَ سمواتٍ ، فلَم يلتَئم خرقُها حتَّى ينظرَ اللَّهُ إلى قائلِها فيغفرُ لَهُ ، ثمَّ يبعَثُ اللَّهُ ملَكًا فيَكْتبُ حسَناتِهِ ويمحو سيِّئاتِهِ إلى الغدِ من تلكِ السَّاعةِ) ، وهو حديث إسناده باطل وله سند آخر فيه مجاهيل.
وجاء أن لقراءتها بعد كل صلاة مكتوبة أجر عظيم، حيث إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ آية الكرسي بعد كل صلاةٍ؛ حيث قال -عليه الصلاة والسلام-: «مَن قرأَ آيةَ الكرسيِّ دبُرَ كلِّ صلاةٍ مَكْتوبةٍ، لم يمنَعهُ مِن دخولِ الجنَّةِ، إلَّا الموتُ»، أنها تحفظ القارئ لها من العين، والسحر، والمس؛ إذ إن الله- تعالى- جعلها حرزًا من الشيطان، والجن والسحرة، والمشعوذين، فمن قرأها في الصباح حفظه الله تعالى حتى المساء، ومن قرأها في المساء حفظه الله تعالى حتى الصباح، كما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأها عند النوم؛ ليدفع بها الشياطين.
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير آية الكرسي من سورة البقرة: هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها أفضل آية في كتاب الله .. عن أُبي هو ابن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أي آية في كتاب الله أعظم قال: الله ورسوله أعلم فرددها مرارا ثم قال: آية الكرسي».
ودلت السنة النبوية على فضل قراءة آية الكرسي بعد الصلاة ، فروى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: عن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، إِلا الْمَوْتُ». أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والطبراني في المعجم الكبير، وابن السني.
ويوضح الحديث أن المداومة على قراءة آية الكرسي بعد الصلاة ويستمر على قراءتها يستحق الجنة والفاصل بينه وبينها هو الموت لأنه بالموت قد انقطع العمل واستحق الجزاء -الجنة-، وآية الكرسي هي قوله تعالى: «اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» سورة البقرة الآية 255، وسميت بهذا الاسم لذكر الكرسي فيها، ومن يقرأها في الليل أو النهار بأي عدد (أقلها ثلاث مرات) تشرح الصدور وتكشف الهموم والغم والكربات وتحفظ النفس والأولاد والمال.
فضل قراءة آية الكرسي بعد الصلاةقال الإمام ابن كثير رحمه الله عن فضل قراءة آية الكرسي بعد الصلاة ، مفسرًا آية الكرسي من سورة البقرة: هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها أفضل آية في كتاب الله .. عن أُبي هو ابن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أي آية في كتاب الله أعظم قال: الله ورسوله أعلم فرددها مرارا ثم قال: آية الكرسي».
دلت السنة النبوية على فضل قراءة آية الكرسي بعد الصلاة ، فروى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: عن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، إِلا الْمَوْتُ». أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والطبراني في المعجم الكبير، وابن السني.
ويوضح الحديث أن المداومة على قراءة آية الكرسي بعد الصلاة ويستمر على قراءتها يستحق الجنة والفاصل بينه وبينها هو الموت لأنه بالموت قد انقطع العمل واستحق الجزاء -الجنة-، وآية الكرسي هي قوله تعالى: «اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» سورة البقرة الآية 255.
وسميت بهذا الاسم لذكر الكرسي فيها، ومن يقرأها في الليل أو النهار بأي عدد (أقلها ثلاث مرات) تشرح الصدور وتكشف الهموم والغم والكربات وتحفظ النفس والأولاد والمال.
فضل آية الكرسيورد أنَّ آية الكرسي من الآيات العظيمة جداً، وَقد رَدَ فضلها في العديد من الأحاديث النبويّة ومنها :
أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (يا أبا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ. قالَ: يا أبا المُنْذِرِ أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: {اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هو الحَيُّ القَيُّومُ} [البقرة:255]. قالَ: فَضَرَبَ في صَدْرِي، وقالَ: واللَّهِ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِرِ)، فهي أعظم آية في كتاب الله بِدليل ما أخرجه مسلم في صحيحه، ومن الجدير بالذكر أنَّ أبي بن كعب -رضي الله عنه- هو سيّدُ القرّاء.
وقد بيّن فضله النبي في الحديث حين لقّبه بأبي المُنذر تكريماً له -رضي الله عنه- وإشارة إلى منزلته العالية، وعندما أجاب عن سؤاله -عليه السلام- دعا له بالبركة في العلم الذي فتح الله به عليه. إنَّ آية الكرسي حرزٌ للإنسان وحِصنٌ له من دخول النّار، بدليل الحديث الذي ورد عن أبي أمامة الباهلي السابق الذكر. إنَّ آية الكرسي حِصنٌ للبيوتِ من دخول الشياطين والجنِّ.
وقد ثبت عن أُبيّ بن كعب أنه رأى جنّياً يريد أن يسرق من طعامه، فسأله أُبيّ بعد أن علِم أنه جنّي: (فما يُنَجِّينَا مِنكُم، قال: هذه الآيةُ التِي في سورةِ البقرةِ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ مَنْ قالَها حِينَ يُمسِي أُجِيرَ مِنَّا حتَى يُصْبِحَ، ومَن قالَها حينَ يصبحُ أُجِيرَ مِنَّا حتى يُمسِي، فلَمَّا أصبحَ أتَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليِه وسلَّمَ فذكر ذلكَ له فقال : صَدَقَ الخبيثُ).
وورد أنّ آية الكرسي خيرُ حافظ ٍللإنسان في يومه، فعند الالتزام بقراءتها قبل النوم تحفظه حتى يصبح، وعند قراءتها حين يُصبح تحفظه حتى يُمسي، مصداقاً لما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا أوَيْتَ إلى فِراشِكَ فاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَنْ يَزالَ معكَ مِنَ اللَّهِ حافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شيطانٌ حتَّى تُصْبِحَ).
تفسير آية الكرسيبدأت الآية الكريمة بإعلان وحدانية الله تعالى؛ فهو الإله الحقّ الذي يستحق العبادة والتأليه، وهو الحيّ القائم بشؤون الكون، لا يغفل عنه بالنوم، ولا يشاركه في ملك السماوات والأرض أحدٌ، ولا يشفع عنده أحد من العالمين دون إذنه، وهو المحيط العليم بتفاصيل الأمور ودقائقها، ويعجز ما دونه عن الإحاطة به -سبحانه وتعالى- إلا بما يريد، وسلطانه واسع، لا يثقله التدبير، وهو العليّ بقدره وكمال صفاته، العظيم بجبروته.
ومَدَحَ الله -سبحانه وتعالى- نفسَه بالآية الكريمة بقوله -تعالى-: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، والحيُّ القيوم صفتان جليلتان تحمل كُلُّ معاني أسماء الله الحسنى، فالحيّ هو الذي لا يموت، وهو الذي لا يَسبقه عدمٌ ولا يلْحقُه زوال، فكل شيءٍ هالكٌ إلا وجهَهُ -سبحانه وتعالى-، ومعنى القيوم؛ أنَّ الله قائمٌ بذاته لا يحتاج إلى أحدٍ من خلقه، وكُلُّ الخلق تَفتقر إليه، فهو الغنيُّ عن جميع خلقه، ومن تمام حياته وقيّوميّته جاء الوصف الإلهي بقول -تعالى-: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)، وكُلُّ ما في الوجود له -سبحانه وتعالى- ومِلكٌ وعبدٌ له، كما أنَّ الله -عز وجل- لا ينام ولا يُصيبه النعاس، وهذا من كمال قيّوميّته.
كما أنَّ الله -تعالى- عليمٌ بكلّ شيء، فهو الذي يَعلم ما في الماضي والحاضر وما سيقع في المستقبل، وهو الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، وكُلُّ مَن يعلمُ بعلمٍ على الأرض لم يكن لِيعلمه لولا أنَّ الله أذِنَ له بذلك، و لا تحدث شفاعة عند الله إلا برضاه وبعد إذنِه، وحتى الرسول -عليه السلام- إذا أراد الشفاعة من الله يأتي تحت العرش ويخرُّ ساجداً ويدعو الله ويَحمده ويُثني عليه، فلا يرفع رأسه إلا بعد أن يأذن الله -تعالى- له ويقبل طلبه بالشفاعة.
وسُمّيت آية الكرسيّ بهذا الاسم لورود الكرسيِّ العظيم فيها، قال الله -تعالى- في القرآن الكريم: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)، والمقصود بالكرسيّ هو كناية عن عِظَم العلم وشموله، وهو القول المشهور عن ابن عباس، وفي هذا إظهار لِسعة ملكه -سبحانه وتعالى-.
وقد استوى الله -عز وجل- على العرش استواءً يليق بجلاله، والله لا يعجزه حِفظُ جميعِ مخلوقاتِه في وقتٍ واحدٍ، وهذا شيءٌ يَسير على الله -سبحانه وتعالى-، ولا يُعجزه ولا يُثقله شيء، فهو الذي جلَّ وعلا بذاته، وعليٌّ بقهره وسلطانه، وعليٌّ بمكانه، وفي الآية إشارة إلى كمال قدرة الله بعظم مخلوقاته، وكمال قدرته وحفظه ورحمته، فلا يُثقله ولا يعجزه شيء.
آية الكرسيتُعتبر آية الكرسي من أعظم آيات القرآن الكريم، وهي الآية رقم "255" من سورة البقرة، وتضمّنت أسماء الله -عزّ وجلّ- وصفاته وأفعاله، وورد فيها اسم الله الأعظم، وهو اسم: الحيّ القيوم، وذكر النوويّ اتفاق العلماء على أنّ ما يُميّز آية الكرسي أنّها جمعت من أصول الأسماء والصفات: الألوهيّة، والوحدانيّة، والحياة، والعلم، والملك، والقدرة والإرادة، وهذه السبعة هي أصول الأسماء والصفات، وسُمّيت الآية باسم آية الكرسيّ؛ لاحتوائها على مفردة الكرسي في قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، ولم يرد ذكر هذه المفردة في غير هذا الموضوع من القرآن كلّه.
وقد نزلت آية الكرسي في المدينة المنورة ليلاً، فأمر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- زيداً بكتابتها، وذكر محمد بن الحنفية أنّه لما نزلت آية الكرسي: سقطت الأصنام، وخرّ الملوك وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين يضرب بعضها بعضاً حتى أخبروا إبليس بالأمر، فأمرهم بالتحقّق، فجاءوا إلى المدينة المنورة، فوجدوها قد نزلت، ومن الجدير بالذكر أنّ آية الكرسي تضمّنت توحيد الله تعالى وصفاته العلا، وذكر ابن عباسٍ؛ أنّ أشرف آيةٍ في القرآن الكريم، هي آية الكرسي.