تخيّل نفسك جالسًا في قاعة محكمة، والشاهد واقفٌ على المنصة، والقاضي يطلب منه وصف ما رأى من أحداث سبقت الجريمة أو الحادثة الجنائية. قد يسهب الشاهد الغربي في وصف تفاصيل دقيقة وموضوعية: "رأيت المتهم يرتدي قميصًا أزرق وسروالا أسود، طوله حوالي 180 سم، وكان يحمل حقيبة جلدية بنية اللون، وقد تسلّل الخوف إلى نفسي عند رؤيته".

أما الشاهد العربي، فقد يُقدّم وصفًا مختلفًا تمامًا لنفس المشهد، مستخدمًا العبارات التالية: "كان وجهه شاحبًا كأنه رأى شبحًا، ويداه ترتعشان، أحسبه شخصا ينتمي إلى العائلة الفلانية فهو يشبههم كثيرا، وقد كان الشارع بأكمله في تلك اللحظة مندهشا ممّا يجري".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2المعاناة النفسية لبتر الأعضاء.. أن تشاهد جسدك منقوصًا مرّة واحدة وللأبدlist 2 of 2الفيلسوف إيمانويل تود الذي يتنبأ بهزيمة الغرب كما تنبأ بسقوط الاتحاد السوفياتيend of list

هذا التباين في الوصف ليس مجرد اختلاف في الأسلوب اللغوي، بل هو دليل على وجود أنماط إدراكية مختلفة ومتجذرة في الثقافة. فبينما يميل الإنسان الغربي، الذي ينتمي إلى ثقافة "غريبة"، نحو التركيز على الأشياء الفردية وتحليلها بشكلٍ معلوماتي منفصل عن سياقها، يميل الإنسان العربي، المنتمي إلى ثقافة أكثر ترابطًا، نحو رؤية الصورة الكلية، والتركيز على العلاقات بين العناصر المختلفة، وتفسير المشهد من خلال تركيزه على المشاعر والانفعالات والتفاعل مع المحيط.

ففي دراسة أجريت على مجموعة من اليابانيين والأميركيين، طُلب منهم مشاهدة صور متحركة لأسماك تسبح في حوض مائي. لاحظ الباحثون أن الأميركيين ركزوا بشكل أكبر على الأسماك الكبيرة في المقدمة، بينما أولى اليابانيون اهتمامًا أكبر للخلفية، بما فيها النباتات والصخور وحركة الماء.

هذه ليست مجرد اختلافات في التعبير، بل هي انعكاس لاختلافات أعمق في الإدراك والتفكير، اختلافات لم يأخذها علم النفس التقليدي على محمل الجد لوقت طويل.

فبينما ركز علم النفس لعقودٍ على دراسة العقل البشري من خلال عينةٍ محدودة من الأفراد، وهم غالبًا أفراد ينحدرون من المجتمعات الغربية المتعلّمة والمتقدمة صناعيًا والغنية والديمقراطية (يطلق عليها الباحثون تسمية WEIRD)، أغفل هذا العلم حقيقة أن هذه العينة لا تمثل سوى شريحةٍ ضئيلة من التنوع البشري الهائل.

لقد آن الأوان لكسر هذا القالب الضيق الذي وضع فيه علم النفس نفسَه، والانطلاق نحو فهمٍ أعمق وأشمل للعقل البشري بكل تنوعاته وثرائه. فكما يختلف الناس في أشكالهم وألوانهم ولغاتهم، يختلفون أيضًا في طرق تفكيرهم وإدراكهم للعالم من حولهم. هذه الاختلافات ليست مجرد "ضوضاء" إحصائية، بل هي انعكاس للتفاعل المعقد بين العوامل البيولوجية والاجتماعية والثقافية التي تشكل هويتنا الإنسانية.

يُعرف هذا التحيز المنهجي في علم النفس بمفهوم "علم النفس الغريب" (WEIRD Psychology)، وهو يشير إلى ميل الباحثين نحو الاعتماد بشكلٍ مفرط على عيناتٍ من المجتمعات الغربية، مما يؤدي إلى تعميم نتائج هذه الدراسات على البشرية جمعاء بشكلٍ غير دقيق.

هذا التحيز يحمل في طياته العديد من التداعيات، فهو يحدّ من قدرتنا على فهم السلوك البشري في مختلف الثقافات، ويعزز الصور النمطية الثقافية، ويؤدي في النهاية إلى تشويه صورة الطبيعة البشرية الحقيقية.

إن رحلتنا لفهم الطبيعة البشرية الحقيقية تتطلب منا الخروج من المختبرات الجامعية الضيقة، والتوجه نحو العالم الرحب بكل تنوعه وثرائه.

يتعين علينا دراسة الأفراد من مختلف الثقافات والخلفيات الاجتماعية، واستخدام مجموعةٍ متنوعة من الأدوات والأساليب البحثية، والابتعاد عن الافتراضات المسبقة حول عالمية العمليات النفسية. فقط من خلال تبني هذا النهج الشامل، يمكننا أن نأمل في بناء فهمٍ أعمق وأكثر دقة للطبيعة البشرية، وفك رموز أسرار العقل البشري بكل تعقيداته وجماله.

الكاتب: رحلتنا لفهم الطبيعة البشرية الحقيقية تتطلب منا الخروج من المختبرات الجامعية الضيقة، والتوجه نحو العالم الرحب بكل تنوعه وثرائه. (شترستوك) من رحم الفردانية.. كيف صاغ الغرب علم النفس الحديث؟

بدأت رحلة علم النفس كفرع من فروع الفلسفة، حيث انكب الفلاسفة على التأمل في طبيعة النفس البشرية، ومحاولة فهم العلاقة بين العقل والجسد، والإرادة الحرة مقابل الحتمية. لكن، مع بزوغ فجر ما يُعرف بـ "النهضة الأوروبية" في القرن السابع عشر، بدأ العلماء يتبنون نهجًا تجريبيًا قائمًا على الملاحظة والتجريب، مما مهد الطريق لظهور علم النفس كعلمٍ مستقل.

كانت الثورة الصناعية، وما صاحبها من تقدمٍ تكنولوجي واجتماعي، عاملا حاسمًا في تطور علم النفس، فقد أدى التوسع الحضري والتصنيع إلى ظهور تحدياتٍ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ جديدة، مما دفع العلماء إلى البحث عن إجاباتٍ علميةٍ لهذه التحديات. في الوقت نفسه، أدى التقدم في العلوم الطبيعية، مثل الفيزياء والكيمياء، إلى تطوير أدواتٍ وأساليب جديدة يمكن استخدامها لدراسة العقل البشري.

مع تطور علم النفس في الغرب، وخاصةً في أوروبا وأميركا الشمالية، بدأ الباحثون يعتمدون بشكل أساسي على عيناتٍ من طلاب الجامعات كمجال لدراسة الإنسان في تجاربهم. كان هذا الخيار مدفوعًا بالأساس بغايات إجرائية، مثل سهولة الوصول إلى هذه العينات، وقلة التكلفة، والافتراض بأن هؤلاء الطلاب يمثلون "الإنسان العادي".

لكن هذا الافتراض كان خاطئًا من الأساس، فطلاب الجامعات في المجتمعات الغربية يمثلون شريحةً محدودةً جدًا من البشرية، فهم ينتمون إلى بيئاتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ مميزة، تختلف اختلافًا كبيرًا عن بيئات معظم سكان العالم، وهذا يعني أن نتائج الدراسات التي تعتمد على هذه العينات لا يمكن تعميمها على البشرية جمعاء.

نشأ علم النفس كفرع علمي في إطار اجتماعي وثقافي محدد جدًا في أوروبا الغربية خلال القرن التاسع عشر، ولا يمكن فهم أصول هذا العلم بمعزل عن السياق التاريخي والثقافي الذي ساعد على ظهوره وتطوره. ويُعتبر العصر الحديث، الذي تميز بظهور الفردية نتيجة للعديد من التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أوروبا وأميركا الشمالية، هو البيئة المثالية التي سمحت بنشوء علم النفس كمجال مستقل.

في القرون السابقة لهذا العصر، كانت المجتمعات الأوروبية تعيش في إطار اجتماعي جمعي، حيث كان الأفراد يعتمدون بشكل كبير على العائلة أو القبيلة للبقاء على قيد الحياة. في تلك الفترة، كانت الدولة غير مسؤولة عن تلبية احتياجات الأفراد، بل كان هذا الدور يقوم به المجتمع القريب من الفرد، مثل العائلة الممتدة أو القبيلة.

‎⁨الكاتب: الأشخاص الذين نشؤوا في المجتمعات الغربية غالبًا ما يركزون على أنفسهم أكثر من تركيزهم على العلاقات الاجتماعية(بيكسلز)⁩.

ومع ظهور الدول القومية في أوروبا، والتي أصبحت مسؤولة عن رعاية مواطنيها، بدأت عملية تحرير الأفراد من هذا الاعتماد الكامل على العائلة أو القبيلة، مما أتاح للفرد أن يحقق استقلاليته ويصبح كيانًا مستقلا معترفًا به.

هذا التحول الاجتماعي والسياسي هو ما أدى إلى ولادة مفهوم الفرد، الذي لم يكن موجودًا في السابق، ولم يكن هناك اهتمام بفهمه أو دراسته. فقط بعد ظهور الفرد ككيان مستقل، أصبح من الضروري دراسة تطوره وشخصيته واضطراباته النفسية، ومن هنا نشأ علم النفس كوسيلة لفهم الفرد الغربي.

يكشف لنا مفهوم "علم النفس الغريب" أن الأفراد في المجتمعات الغربية يتميزون بمجموعةٍ من السمات النفسية تجعلهم مختلفين عن الأفراد في الثقافات الأخرى. هذه السمات، كما ذكرنا سابقًا، تشمل الفردانية، والانفتاح على التجارب الجديدة، والتفكير التحليلي، والثقة بالآخرين، والنزاهة.

في المقابل، يميل الأفراد في الثقافات الأخرى إلى إظهار سماتٍ مختلفة، فعلى سبيل المثال، يميلون إلى التركيز على العلاقات الاجتماعية والانتماء للجماعة أكثر من التركيز على الذات الفردية، كما أنهم قد يظهرون مستوياتٍ أقل من الثقة بالغرباء، وقد يفضلون التفكير الكلي على التفكير التحليلي.

إن الأشخاص الذين نشؤوا في هذه المجتمعات الغربية غالبًا ما يركزون على أنفسهم (صفاتهم وإنجازاتهم وطموحاتهم) أكثر من تركيزهم على العلاقات الاجتماعية والأدوار الاجتماعية. يتطلعون إلى أن يكونوا "أنفسهم" في جميع السياقات، ويعتبرون التناقض في تصرفات الآخرين نفاقًا بدلا من كونه مرونة، في حين أن المجتمعات غير الغربية تميل إلى أن تكون أكثر تأثرًا بالسياق الاجتماعي، حيث تلتزم بالعلاقات والتوقعات الاجتماعية الجماعية.

إحدى الخصائص البارزة في هذه الثقافات هي القدرة على تأجيل الإشباع، أي تفضيل المكافآت المؤجلة على الفورية، وهذا ما يفسر لماذا يثابر الأفراد في المجتمعات "الغريبة" (WEIRD) على العمل الجاد والدؤوب، ويجدون متعة في الجهد والتحديات التي تتطلب ضبط النفس والتخطيط للمستقبل.

لكن هذه الفردية والقدرة على ضبط النفس لا تأتي بدون تكلفة، فرغم التفاني في العمل والالتزام بالقيم المجردة مثل العدالة والصدق، فإن هؤلاء الأفراد يشعرون بمستويات عالية من الشعور بالذنب عندما يفشلون في تحقيق المعايير الشخصية التي وضعوها لأنفسهم.

يختلف ذلك عن شعور "العار" الذي يهيمن على المجتمعات الأخرى، حيث يكون الشرف والتقييم الاجتماعي هو المحرك الرئيسي للسلوك.

على سبيل المثال، في كتابه المُعنون "فنّ أن تكون إنسانًا.. مدخل إلى الأنثروبولوجيا الثقافية"، يروي لنا الباحث المتخصص في حقل الأنثروبولوجيا، مايكل ويش(Michael Wesch)، قصة حدثت معه أثناء وجوده بقرية نائية في بابوا غينيا الجديدة، حيث تجسدت الفروق الثقافية بوضوح في مفهوم المنافسة.

في تلك القرية، نظّم السكان المحليون مباراة كرة سلة، وعندما انتهت بالتعادل، توقّف اللاعبون عن اللعب واحتفلوا بالتعادل. بالنسبة للباحث، القادم من ثقافة غربية حيث يُعتبر الفوز أو الخسارة جزءًا أساسيًا من الألعاب الرياضية، كان المتوقّع أن يستمر اللاعبون في المباراة حتى يفوز أحد الفريقين، لكن بدلاً من ذلك، غادر الجميع الملعب وهم سعداء بنتيجة التعادل، معبّرين عن مفهوم مختلف تمامًا حول الغرض من الرياضة، بينما تسمّر الباحث مكانه وهو يتساءل متعجّبًا: لماذا يحتفلون؟ ولماذا رحلوا؟ لم تنتهِ المباراة بعد!

في الثقافة المحلية لتلك القرية، التعادل لم يكن نقصًا في المنافسة أو غيابًا للرغبة في الفوز، بل كان تعبيرًا عن قيم التوازن والتعاون داخل المجتمع. وبينما يُقدّر الغرب المنافسة الفردية وتحقيق الإنجازات الشخصية، يُعلي أهل بابوا غينيا الجديدة من قيمة الانسجام الجماعي والتوافق. القصة تسلط الضوء على أنه يمكن أن يساء فهم بعض التقاليد المحلية عندما تُقرأ من خلال عدسة غربية تُعلي من قيمة التفوق الفردي على حساب التعاون المجتمعي.

 

 

أين يمينك وشمالك؟ خرائطنا الذهنية ليست متساوية

في سياق دراسة الفروقات النفسية بين الشعوب الغربية وبقية شعوب العالم، توضح الدراسات التي أجريت ضمن نطاق علم النفس "الغريب"، وجود تباينات ملحوظة في كيفية تفكير الأفراد وتصرفاتهم وردود أفعالهم بناءً على أصولهم الثقافية والاجتماعية.

هذه الفروقات لا تعكس فقط الاختلافات السطحية بين المجتمعات، بل تمتد إلى الجوانب العميقة من الإدراك البشري والمحفزات والسلوكيات. في هذا الفصل، نستعرض تجارب مختلفة تبرز هذه التباينات.

من الفروقات الأساسية التي اختبرها كثير من الناس عند تعاملهم مع سائح أو زميل من الثقافة الغربية، هو الرغبة العالية لدى الثقافات الآسيوية والعربية في التفكير الشمولي والبحث عن تفسير كُلّي للأشياء ونظرية كلّ شيء، بينما ينزعج الغربيون من هذه الفكرة ويميلون إلى التجزئة والتقسيم في أسئلتهم وأبحاثهم.

إذ تُظهر الدراسات المقارنة أنّ الأفراد في المجتمعات الغربية يميلون إلى التفكير التحليلي، الذي يتضمن تفكيك المشكلات إلى عناصر صغيرة واستخدام قواعد منطقية للتوصل إلى استنتاجات.

في المقابل، يميل الأفراد في الثقافات غير الغربية إلى التفكير الشمولي، الذي يركز على فهم العلاقات بين الأشياء ككل. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجريت على أفراد من مختلف الثقافات، أن الغربيين يميلون إلى تصنيف الأشياء بناءً على خصائصها الفردية، مثل تصنيف القلم والدفتر بناءً على أنهما أدوات مكتبية، في حين يميل غير الغربيين إلى تصنيف الأشياء بناءً على العلاقات الوظيفية، مثل تصنيف القلم والدفتر بناءً على أنهما يُستخدمان معًا للكتابة.

في سياق آخر، تعد تجربة "مولر-لاير" (Müller-Lyer) واحدة من أشهر التجارب التي أظهرت كيف يمكن للبيئة الثقافية أن تؤثر بشكل عميق على الإدراك البصري. في هذه التجربة، تم تقديم خداع بصري على شكل خطين يمتدان بنفس الطول، لكن بتصميم معين يُغيّر من حواف الخطوط المستقيمة بحيث يبدو للبعض أنّ أحد الخطين أطول من الآخر.

الغريب في الأمر أن استجابة الأفراد من المجتمعات الغربية كانت مختلفة تمامًا عن استجابة الأفراد من المجتمعات غير الغربية، فقد أظهرت النتائج أن الأميركيين، وخاصة الطلاب الجامعيين، كانوا الأكثر تأثراً بهذا الخداع، حيث كانوا يعتقدون أن أحد الخطين أطول من الآخر بفارق ملحوظ. في المقابل، فإن أفراد بعض الشعوب، مثل جماعة "السان" (San) في جنوب إفريقيا، لم يظهروا أي تأثر بالخداع البصري.

يشير هذا إلى أن الثقافات التي تنشأ في بيئات حضرية مليئة بالزوايا الهندسية تكون أكثر عرضة لهذه التأثيرات الإدراكية، مقارنة بالثقافات التي تنشأ في بيئات طبيعية أقل تعقيدًا، الأمر الذي أعاد تفكير الباحثين حول النطاق الإدراكي للبشر وإعادة النظر فيه ليس بوصفه جهازا حاسوبيا عصبيا عاما متشابها بين البشر، وإنما باعتباره مستوى إدراكيا يتأثر بالطبيعة والنشأة والبيئة التي ينشأ فيها الأفراد.

حتى الوعي المكاني لم يسلم من الفروقات الثقافية، إذ وجدت الدراسات تباينات ملحوظة في كيفية تفكير الأفراد في الفضاء المكاني بناءً على لغتهم وثقافتهم. ففي الثقافات الغربية، يميل الأفراد إلى استخدام نظام مرجعي يعتمد على الذات (Egocentric) لتحديد المواقع والأشياء في الفضاء.

يمكن لطريقة التفكير بالاتجاهات أن تكشف الإطار المرجعي الثقافي الذي ينطلق منه الفرد (دويتشه فيلله)

على سبيل المثال، يميل الغربيون إلى قول "الرجل على يمين العلم" لتحديد موقع شخص معين. في المقابل، تعتمد العديد من اللغات غير الغربية على أنظمة مرجعية ثابتة (Allocentric) لتحديد المواقع، مثل استخدام الاتجاهات الجغرافية العامة (الشمال أو الجنوب..)، والمعالم المجتمعية كالمساجد والأسواق؛ كنقطة مرجعية للوصف.

المثير للتفكير والجدل هنا، هو ما تشير إليه الدراسات من أن الأطفال الغربيين أنفسهم يولدون وهم يميلون في البداية إلى التفكير بطريقة ثابتة مماثلة للأنظمة غير الغربية، لكنهم يتعلمون تدريجيا استخدام النظام المرجعي الذاتي مع تقدمهم في العمر، مما يعكس تأثير اللغة والثقافة على تطوير التفكير المكاني، بالرغم من أنهم قد وُلدوا بميل تفكيري مختلف مشابه للحضارات الأخرى غير الغربية.

هذه الفروقات ليست على المستوى الإدراكي والذهني فقط، بل على مستوى المعاملات الاقتصادية أيضا، حيث تُشكل تجارب الألعاب الاقتصادية أداة مهمة لفهم كيفية تعامل الأفراد مع مفاهيم العدالة والتعاون وكيفية اتخاذهم لقراراتهم.

إحدى هذه التجارب هي "لعبة الإنذار" (Ultimatum Game) التي تتطلب من اللاعبين تقسيم مبلغ من المال بين اثنين، بحيث يقدم أحدهم عرضًا ويجب على الآخر قبوله أو رفضه. تظهر الدراسات التجريبية مثلًا عندما يُطلب من طالب جامعي أميركي تقسيم مبلغ 100 دولار في لعبة الإنذار، أنه قد يعرض 40 أو 50 دولارًا على الطرف الآخر.

هذه النسبة العالية تعكس فهمه لأهمية العدالة في هذه المعاملة، وطريقة تفكيره بالآخرين اقتصاديًا، حيث يعتقد أن العرض العادل سيدفع باتجاه القبول ونجاح الصفقة بالتأكيد، مما يؤدي إلى تعاون ناجح بين الطرفين. أما لو طُلب من عضو في قبيلة تسكن في الأمازون تقسيم مبلغ 100 دولار في لعبة الإنذار، فقد يعرض 20 دولارًا للطرف الآخر.

هذا العرض المنخفض مقبول في ثقافته، حيث إن العلاقات الاجتماعية المباشرة تلعب دورًا أكبر في تعزيز التعاون، ولا يتم النظر إلى العدالة بنفس الطريقة التي تُفهم بها في المجتمعات الغربية.

أحد الفروق الأكثر إثارة في السياق الثقافي هو كيفية تقييم الأفراد للأخلاق واتخاذ القرارات الأخلاقية. في المجتمعات الغربية، يعتمد الأفراد بشكل كبير على المبادئ المجردة مثل العدالة وحقوق الفرد، عند اتخاذ قرارات أخلاقية، بينما في المجتمعات غير الغربية، يعتمد الأفراد غالبًا على السياق الاجتماعي والعلاقات الشخصية في تقييم السلوك الأخلاقي.

على سبيل المثال، إذا سرق شخص من مكان عمله في مجتمع شرقي، فقد يتم النظر في الظروف الشخصية التي دفعته إلى السرقة، مثل الحاجة لإعالة أسرته، وبدلاً من فصل الموظف ومعاقبته بشدة، قد يتم توجيه تحذير له أو محاولة مساعدته ماليًا. أمّا في حالة المجتمعات الغربية فإن هذا الموظف "السارق" سيُفصل ويحاكم بغض النظر عن حالته الاجتماعية أو الظروف التي دفعته إلى السرقة، إذ يتمّ النظر إلى الفعل نفسه وخرق القانون بدلاً من الظروف المحيطة به.

وكذلك الأمر في حال نشوب نزاع حول قطعة أرض في مجتمع غربي، فقد يلجأ الطرفان إلى المحكمة للفصل في النزاع بناءً على الأدلة القانونية فقط. أما في مجتمع غير غربي، فقد يحاول شيوخ القبيلة أو شخصيات مرموقة من المجتمع التوسّط بين الطرفين للتوصل إلى حلّ يرضي الجميع ويحافظ على العلاقات الاجتماعية، حتى لو لم يكن الحل قائمًا على مبادئ قانونية صارمة.

عندما يرتدي العلاج النفسي ثوبًا غريبا.. تحديات الفروقات الثقافية

في كتابه "من التحليل النفسي إلى التحليل الثقافي"، يسلط المعالج النفسي والدكتور الفلسطيني مروان الدويري، الضوء على أهمية مراعاة الفروقات الثقافية في العلاج النفسي.

ويقدم الكتاب أمثلة عملية تبين كيف يمكن أن تؤدي الأساليب العلاجية التقليدية إلى فشل في معالجة العملاء من خلفيات ثقافية مختلفة إذا لم تُؤخذ في الاعتبار الفروقاتُ الثقافية والاجتماعية. في هذا الفصل، سيتم استعراض هذه الفروقات مع التركيز على أمثلة وحالات توضح كيف ساعد التحليل الثقافي في تقديم علاج نفسي فعّال يتماشى مع السياق الثقافي للعملاء.

على سبيل المثال، يعتمد التحليل النفسي الكلاسيكي بشكل كبير على تفسير النزاعات النفسية الداخلية واكتشاف المحتوى اللاواعي للفرد. ومع ذلك، قد يكون هذا النهج غير مناسب في الثقافات التقليدية أو الجماعية.

أحد الأمثلة التي يضربها الدويري حول هذا المبدأ وتناقضه الثقافي، حالةُ امرأة عربية متزوجة كانت تعاني من شلل هستيري في ساقها اليسرى، وهي حالة من الاضطرابات النفسية التحويلية التي يتمّ فيها تمظهر المرض النفسي من خلال فشل وظيفي لأحد الأعضاء، إذ أثبتت الفحوصات الطبية العضلية والعظمية والعصبية عدم وجود أي خلل عضوي ظاهر، ولكن عند تحليل حالتها تم تشخيصها بأنها نتيجة لصراع داخلي بين رغبات جنسية مكبوتة وغضب تجاه أسرتها وزوجها.

المشكلة التي واجهتها هذه المرأة لم تكن فقط في وعيها بهذه الصراعات، بل في أنها كانت محاطة بثقافة صارمة قد تعرضها للعنف إذا عبرت عن هذه الرغبات المكبوتة.

وعند كشف المكبوت والإفصاح عن أسباب معاناتها النفسية، فإن العلاج النفسي التقليدي بدلاً من أن يساعدها زاد من معاناتها، لأنها أصبحت أكثر وعيًا بمأساتها الشخصية وعجزها عن تغيير واقعها.

نطاق آخر يظهر فشل الأنظمة العلاجية النفسية التقليدية، وهو ما تُمليه النماذج العلاجية الغربية من عدم توجيه المريض نحو قرار ما بعينه، وضرورة إبقاء المُراجع أو المريض في حالة يختار فيها بنفسه القرار الذي يراه مناسبًا له. لكنّ المجتمعات غير الغربية والقائمة على الثقافة الجمعية، يميل فيها الأفراد إلى تفضيل التوجيه الواضح والعملي، بدلاً من الأساليب العلاجية غير الموجهة، مثل العلاج المتمركز حول العميل.

على سبيل المثال، امرأة شابة من عرب الداخل الذين يعيشون في دولة الاحتلال الإسرائيلي، كانت ترغب في متابعة دراستها الجامعية، لكن أسرتها وزوجها أرادوها أن تبقى في المنزل للعناية بالأطفال. في هذه الحالة، كان من الضروري أن يقدم المعالج النفسي توجيهًا محددًا حول كيفية التعامل مع هذا الصراع بين رغبتها الشخصية والتوقعات الاجتماعية. التوجيه كان أكثر فعالية من تركها بمفردها لتكتشف طريقها بنفسها، خاصة أنها كانت تفتقر إلى تجربة سابقة في اتخاذ قرارات مستقلة.

ومن الأمثلة الأخرى التي توضح هذه الفروقات؛ ما يجري في العلاج السلوكي المعرفي الذي يعتمد على تحدي الأفكار غير العقلانية كجزء أساسي من العملية العلاجية. لكن في الثقافات التقليدية وغير الغربية، قد تعتبر بعض الأفكار "غير العقلانية" من قبل المعالج الغربي عقلانيةً تمامًا بالنسبة للعميل بسبب السياق الثقافي والاجتماعي.

ففي إحدى الحالات التي وثّقها الأخصائي النفسي مروان الدويري حول امرأة عربية شابة كانت تريد الالتحاق بالجامعة، لكنها كانت تخشى أن يؤدي ذلك إلى فقدان دعم عائلتها وطلاقها من زوجها. في هذه الحالة، كانت لديها أسباب واقعية ومبررة للاعتقاد بأن النتائج قد تكون "كارثية" إذا أصرت على متابعة تعليمها.

في العلاج النفسي التقليدي يعتبر "التفكير الكارثي" (Catastrophizing) أحد التشوهات الإدراكية التي ينبغي أن يقوم المعالج النفسي بتصحيحها للعميل، ولكن في هذه الحالة فإن محاولة إقناعها بالمراجعة بأن هذه الأفكار غير عقلانية؛ قد تكون غير مناسبة وقد تزيد من شعورها بالعجز، إذ احتمال خسارتها لأسرتها وطلاقها وعدم إيجاد من يعيلها ما هو إلا احتمال واقعي بالنسبة لحالتها وظروفها الشخصية.

في الثقافات الفردية، يُتوقع من الأفراد أن يكونوا مستقلين وأن يتمحوروا حول تحقيق الذات، بينما في الثقافات الجماعية، يتوقع من الأفراد أن يكونوا متصلين بمجموعتهم وأن يحافظوا على الانسجام الاجتماعي.

هذه الفروقات تتطلب من المعالجين النفسيين أن يكونوا حساسين إزاء الاحتياجات الاجتماعية والثقافية للعملاء، وأن يكيفوا أساليبهم العلاجية بما يتناسب مع السياق الثقافي. المعالج الذي يتعامل مع عميل من ثقافة جماعية يجب أن يكون مستعدًا لتقديم حلول تعزز من الروابط الاجتماعية، بدلاً من التركيز فقط على تحقيق الذات.

إنّ الفشل في استدخال الحلول الثقافية ضمن العلاج النفسي يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يتم زيادة معاناة العملاء بدلًا من مساعدتهم على التكيف مع حياتهم. كما أن تطوير أساليب علاجية تراعي الفروقات الثقافية وتتكيف مع السياق الاجتماعي والثقافي لكل عميل؛ أصبح ضرورة لضمان فعالية العلاج النفسي. التحليل الثقافي ليس مجرد أداة لفهم العميل، بل هو جسر يعبر من خلاله العميل والمعالج معًا نحو تحقيق أهداف العلاج بطرق تحترم وتراعي خلفياتهم الثقافية والاجتماعية.

الكاتب: التحيز يحرمنا من فرصة اكتشاف وفهم السمات النفسية والسلوكية المتنوعة التي تتميز بها مختلف الثقافات (شترستوك) تداعيات التحيز.. عندما يفشل علم النفس في فهمنا

إن الاعتماد المفرط على عينات "غربية" في الأبحاث النفسية يحمل في طياته تداعياتٍ سلبيةً عميقة، تتجاوز حدود المختبر لتصل إلى حياتنا اليومية وتؤثر على فهمنا للسلوك البشري على مستوى العالم.

هذا التحيز يحرمنا من فرصة اكتشاف وفهم السمات النفسية والسلوكية المتنوعة التي تتميز بها مختلف الثقافات، ويقيد قدرتنا على تطوير نظرياتٍ شاملةٍ ودقيقة حول طبيعة الإنسان.

استجابة لهذا التحيز المتأصل، بدأت بعض الجهود تبرز لتوسيع قاعدة المعرفة النفسية بحيث تشمل مجموعة أوسع من الثقافات والسياقات الاجتماعية. من أهم هذه الجهود، المبادرات التي تسعى إلى إشراك مجتمعات غير غربية وغير صناعية في الدراسات النفسية.

على سبيل المثال، قام عدد من الباحثين بتوسيع نطاق دراساتهم لتشمل مجتمعات تقليدية وصغيرة، مثل مجتمعات الصيادين، أو المجتمعات الزراعية في مناطق مثل أفريقيا وأميركا الجنوبية وآسيا.

تُعد الدراسة الموسعة التي قام بها جوزيف هنريتش وزملاؤه، والتي طبّقت أدواتِ اختبار سلوكيةً على أفراد من مجتمعات صغيرة في أماكن متنوعة مثل بابوا غينيا الجديدة والأمازون؛ مثالًا بارزًا على هذه الجهود.

فهذه الدراسات لم تكتفِ بالكشف عن الفروقات الثقافية الكبيرة في السلوك والتفكير فحسب، بل أكدت أيضًا أن الأبحاث التي تركز فقط على المجتمعات "الغريبة" (WEIRD) تقدم صورة مشوهة وغير دقيقة عن السلوك البشري.

إنّ الانحياز نحو "علم النفس الغريب" يخلق صورةً مشوهة عن الطبيعة البشرية، فهو يركز على سماتٍ مثل الفردانية والتفكير التحليلي التي قد تكون شائعة في المجتمعات الغربية، لكنها ليست بالضرورة عالمية. هذا التجاهل للتنوع الثقافي يقود إلى تعميماتٍ خاطئة، ويحصر فهمنا للإنسان في قالبٍ ضيق، ويتجاهل حقيقة أن معظم سكان العالم يعيشون في مجتمعاتٍ تختلف اختلافًا كبيرًا عن المجتمعات الغربية.

لهذا، يجب الحذر من تركيز الأبحاث الغربية على عينةٍ محدودة من البشر، فإننا بذلك نساهم في تعزيز الصور النمطية الثقافية، ونرسخ فكرة أن هناك "نموذجًا مثاليًا" للسلوك البشري، وهو النموذج الغربي.

فهذا الانحياز يأتي أحيانًا على محاكمة الأبحاث العربية والأبحاث الصادرة في المؤسسات البحثية والجامعية الآسيوية والأفريقية من خلال قراءتها بالمنظور الغربي، والحكم على فشلها أو فشل خلاصاتها بناءً على ما تخبرنا به الدراسات الغربية، وهو اتجاه يُؤدي إلى سوء فهم وتفسير خاطئ لسلوكيات الأفراد من خلفيات ثقافية مختلفة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات أبعاد على العلاقات الاجتماعیة فی المجتمعات الغربیة الطبیعة البشریة على سبیل المثال مختلف الثقافات العلاج النفسی من المجتمعات الترکیز على فی الثقافات هذا التحیز الأفراد من یمیلون إلى فی المقابل الأفراد فی أن یکونوا فی أوروبا علم النفس أفراد من تتطلب من من خلال عندما ی مختلف ا تمام ا غالب ا التی ت لم یکن فی هذه

إقرأ أيضاً:

اتحاد الجودو ينظم بطولة الإمارات للفئات العمرية

 
أبوظبي (الاتحاد)

أخبار ذات صلة ولي عهد أبوظبي يزور معرض مدينة سنغافورة 90 متسابقاً يخوضون التحدي في «الإمارات للموتوسيرف»


ينظم اتحاد الجودو بطولة الإمارات، يوم السبت المقبل، بالصالة الجديدة في بني ياس، وتشمل فئات الشباب والشابات والناشئين والناشئات، من المواطنين والمقيمين، الذكور والإناث.
وأغلق باب التسجيل، وسط تجاوب كبير من الأندية، وتقام البطولة برعاية محمد بن ثعلوب الدرعي، رئيس الاتحاد.
وشهدت الصالة الجديدة قبل الافتتاح الرسمي، إقامة كأس الاتحاد بمشاركة الأندية والمراكز الأعضاء، وحصد نادي الفجيرة للفنون القتالية لقب الناشئين والشباب، وسط منافسة قوية من كلباء وخورفكان والشارقة والشارقة لرياضات الدفاع عن النفس وخورفكان.
وشهدت كأس الاتحاد للأشبال التي نظمها اتحاد الجودو، بصالة ناشئة خورفكان تتويج الشارقة لرياضات الدفاع عن النفس، بلقب للبراعم فئة تحت 13 سنة، مما يعنى توزيع ألقاب بداية الموسم، لتكتسب ثالث بطولات الاتحاد لتلك الفئات والأعمار أهمية تنافسية، سعياً للمزيد من النقاط للفوز بدرع التفوق العام.
وحددت اللائحة أعمار فئة الناشئين والناشئات تحت 18 سنة مواليد «2007 و2008 و2009»، وسمحت اللائحة بمشاركة 4 لاعبين بحد أقصى في كل وزن، من بينهم 3 مواطنين ومقيم، ويمكن أن يكونوا جميعاً من المواطنين، وتطبق الشروط نفسها على فئة الشباب والشابات تحت 21 سنة من مواليد «2006 و2005 و2004».
ويجرى الميزان الرسمي بالصالة الجديدة في بني ياس، ونادي الشارقة لرياضات الدفاع عن النفس، والفجيرة للفنون القتالية، بهدف إراحة الفرق المشاركة.

مقالات مشابهة

  • سفير السودان بالقاهرة يشيد بدور الإعلام المصري لتصديه للمؤامرة التي تتعرض لها السودان
  • وزير الإسكان يتابع موقف تنفيذ المشروعات التنموية بالساحل الشمالي الغربي
  • محافظ الإسكندرية: المحافظة من أوائل المدن التي عرفت التحضر من آلاف السنين
  • أي دفاعٍ عن النفس؟!
  • حبس وغرامة.. احذر من عقوبة الاعتداء على القيم الأسرية في المجتمع المصري
  • اتحاد الجودو ينظم بطولة الإمارات للفئات العمرية
  • الحفاظ على الوطن مسؤولية من؟
  • عندما تصبح التكنولوجيا آيديولوجية مُوجَّهة
  • رئيس الدولة ومحمد بن راشد يبحثان شؤون الوطن وأهمية الشراكات التنموية التي تقيمها الإمارات مع دول العالم
  • تحذيرات من أخطاء الوالدين مع الأطفال.. كيف نتجنب أخطر السلوكيات التربوية؟