تظل كتابات إدوارد سعيد جاذبة للباحثين وتثير الاهتمام والجدل، وهو ما دفع يحيى بن الوليد، الباحث الأكاديمي والناقد الثقافي المغربي لتعزيز الطبعة الثالثة من كتابه "الوعي المحلق.. إدوارد سعيد وحال العرب".

وتبدو الحاجة ملحة اليوم إلى المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد أكثر من أي وقت مضى، خاصة في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، والرقعة العربية بالتحديد، لأن هذا المفكر الاستثنائي استطاع أن يزلزل الكثير من الأطروحات الغربية المهيمنة، وعلى رأسها الاستشراق.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الصراع كجوهر الوجود.. ما الذي يخيف إسرائيل من فلسطين؟list 2 of 2فلسفة الطوفان ومأزق المال السياسي للمسلمين في أميركاend of list

وفكك إدوارد سعيد النصوص الاستشراقية التي مهدت للاستعمار، عبر الاعتماد على العدة المفاهيمية الغربية وأدوات من داخل هذه المنظومة، حيث لم يكن أمر استدعائه والتساؤل عما كان سيقوله أو يكتبه عن أحداث "الربيع العربي" مثلا، أو عن "طوفان الأقصى" وما يحدث حاليا في غزة وفلسطين؛ بالأمر المستغرب.

ولعل هذا الأمر هو ما دفع الباحث الأكاديمي والناقد الثقافي المغربي، يحيى بن الوليد، كما يقول في حواره مع الجزيرة نت، إلى تعزيز الطبعة الثالثة من كتابه "الوعي المحلق.. إدوارد سعيد وحال العرب"، الصادرة بالأردن عن "دار خطوط وظلال"، بفصل بعنوان "إدوارد وثورات الربيع العربي"، في دلالة على نوع من الحاجة إلى منجز هذا الرجل، حيث أحصى في إثر انطلاقة "الربيع العربي" ما يقرب من 50 مقالة تتحدث أو تخمن كيف كان إدوارد سعيد سيقرأ هذه الأحداث، خاصة من ناحية تأثير الغرب؛ الغرب الذي كان في أساس تشكيل العالم الثالث والتخلي عنه لنوع من "الاستعمار الداخلي".

بعد "الربيع العربي"، كُتبت نحو 50 مقالة تناقش كيف كان إدوارد سعيد سيحلل الأحداث وتأثير الغرب على العالم الثالث. (الجزيرة)

ويضيف الأكاديمي المغربي أن كتابات المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد ما زالت تُحدث تأثيرا مذهلا على الكثير من الباحثين، وتثير الكثير من الاهتمام والجدل، كما أن "سوء الفهم" ما زال يحيط بها من قبل الباحثين الغربيين والعرب على حد سواء، ولهذا فهو يسعى إلى الغوص في أسباب سوء الفهم هذا، ويتخذ من النقد الثقافي بمعناه التحليلي والمرن، مدخلا لمقاربة إنتاجات هذا المفكر، كما يقول في هذا

لأن إدوارد نفسه حافظ على روح الناقد في تعاطيه مع نقد الاستشراق وفي كتاباته عن فلسطين، وخاصة كتابيه "المسألة الفلسطينية" و"سياسة التجريد.. كفاح شعب فلسطين لتقرير المصير"، وفي كتاباته الأخرى التي همت مواضيع الهوية والعنصرية والنسوية والأدب والسينما والموسيقى والعمارة والترجمة والصحافة والذاكرة والجغرافيا الثقافية والحرب الثقافية والإرهاب والعولمة وصدام الحضارات، وغيرها من المواضيع التي تشكل "المنجز السعيدي"، كما يسميه بن الوليد، المتميز بإمكانات منهجية وتصورية غنية، والذي لا ينحصر

وبعد كتابه "الوعي المحلق.. إدوارد سعيد وحال العرب" الصادر في ثلاث طبعات بالقاهرة والأردن، سيصدر له قريبا كتاب جديد عن المفكر إدوارد سعيد عن دار "العائدون" للنشر في الأردن، يحمل عنوان "خارج العالم الأنغلو أميركي.. إدوارد سعيد في ثقافات محتدمة"، يطرح فيه إشكالية تلقي كتابات هذا المفكر في إيران وإسرائيل وفرنسا وغيرها من البلدان الغربية والعربية، ومسألة التصنيفات التي طالته، رغم أن هذا المفكر "عدو للتصنيفات وخطابات الهوية والقومية.. إلخ"، كما يوضح يحيى بن الوليد، أستاذ التعليم العالي لمادة النقد الثقافي ودراسات ما بعد الاستعمار بجامعة عبد المالك السعدي في طنجة المغربية، والذي يأمل أن يطوي صفحة انشغاله بهذا المفكر بعد كتابه الثالث "إدوارد سعيد.. فرنسيا" الذي سيصدر قريبا أيضا عن "دار الفاصلة" بالمغرب.

يرى يحيى بن الوليد أن ارتكاز إدوارد سعيد على السند الأكاديمي ووضوحه في مقاربة الخطاب ما بعد الكولونيالي هو سر نجاح كتاباته والهجوم عليه في آن (مواقع التواصل)

ويشير بن الوليد إلى أن إدوارد سعيد عصيّ على التصنيف، فهو ناقد أدبي وثقافي وناقد للاستشراق، وفيلسوف للاختلاف، ورجل سياسة حاذق، وصدامي رفيع، وسجالي ملتزم، وشاهد حر، كما أنه أستاذ جامعي مهيب، وأكاديمي مبهر ومثقف، ومفكر إنسي صلب، ومفكر حداثي ما بعد كولونيالي، ومفكر إمبراطوري ما بعد إمبريالي وما بعد قومي، وهنا تكمن خطورته، لأن ارتكازه على السند الأكاديمي ووضوحه في مقاربة الخطاب ما بعد الكولونيالي هو سر نجاح كتاباته والهجوم عليه في آن، فإلى الحوار:

خصصت مجموعة من الدراسات والكتابات للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، فما مرد هذا الاهتمام؟ وماذا يمثل لك هذا المفكر العالمي؟

أولا أسعد بأن يدرج اسمي ضمن كوكبة من الأسماء العربية البارزة والمهتمة بالمنجز الأكاديمي والفكري لإدوارد سعيد، مثل صبحي حديدي وفخري صالح وكمال أبو ديب وفواز طرابلسي وثائر ديب ومحمود درويش… واللائحة قد تطول بعض الشيء، ومن غير أن نتغافل عن المداخل المختلفة بالنسبة إلى هؤلاء على مستوى التعاطي مع إدوارد سعيد في جبهاته الأكاديمية والثقافية والفكرية والفنية، التي تعامل معها إدوارد سعيد بعُدة معرفية محكمة وحاذقة.

وهذه الجبهات تتوزع على النقد المدني والنقد الثقافي والنقد الموسيقي والنقد الحداثي، فضلا عن السرد الثقافي والمقال المضغوط والكثيف، والتعليق على الأحداث والوقائع والمستجدات التي كانت تعصف بالعالم وقت كان إدوارد سعيد على قيد الحياة، وذلك كله حتى لا ننغلق في جبهة "نقد الاستشراق" بمفردها.

أما مدخلي على مستوى التعاطي مع المنجز "السعيدي"، فهو مدخل أكاديمي صرف، وهو أيضا مدخل النقد الثقافي بمعناه التحليلي والمرن في آن واحد. لذلك حاولت، وفي السياق العربي تحديدا، أن أراعي أكبر قدر ممكن من هذه الجبهات.

وفي النظر الأخير، يظل إدوارد سعيد ناقدا أدبيا وناقدا حاذقا وبارعا، وقد حافظ على هذا الناقد في تعاطيه مع نقد الاستشراق وفي كتاباته عن فلسطين، وخاصة كتابيه "المسألة الفلسطينية" و"سياسة التجريد".

إدوارد حافظ على روح الناقد في تعاطيه مع نقد الاستشراق وفي كتاباته عن فلسطين وخاصة كتابيه "المسألة الفلسطينية" و"سياسة التجريد" (الجزيرة)

وبالنسبة إلى النقد الموسيقي، أو "المكتبة الموسيقية" كما اصطلح عليها فواز طرابلسي، فتكاد تكون غائبة في التعاطي العربي مع المنجز السعيدي. ولعل هذا ما جعلني أفيد من هذه المكتبة في كتاب من كتبي الأخيرة الذي هو بعنوان "في الموسيقى التقليدية بالمغرب.. جهجوكة، بول بولز والعالمية"، وجعلني أطرح موضوع الاستشراق النظري والعملي في الوقت نفسه، وإشكال التمثيل الثقافي والأنثروبولوجي في طبيعة هذه الموسيقى التقليدية بالمغرب، وكيف كان للغرب الدور الحاسم في الارتقاء بهذه الموسيقى إلى مصاف العالمية.

وهل هناك حاجة اليوم، في ظل التحولات والمتغيرات المتسارعة التي نعيشها، إلى هذا المفكر الذي أثار الكثير من الجدل في حياته وحتى بعد رحيله بسبب كتاباته التي خلخلت المنظومات المعرفية الغربية؟

أجل، لا يمكن لأي عاقل أن ينفي هذه التحولات والمتغيرات المتسارعة التي نعيشها، وكما أشرت إليها، وأضيف أنها تحولات ومتغيرات تسير في أكثر من اتجاه وأحيانا في وقت واحد؛ مما يربك المحللين والأكاديميين على مستوى التقاط أو استخلاص دلالات هذه المتغيرات الجامحة، ومما يلزمهم بمداخل محددة في التعامل معها. وعلى مستوى آخر، لا ينبغي أن نرادف بين إدوارد سعيد والأكاديميا، أو أن نجعل منه القضية مثلما نجعل من القضية إدوارد سعيد.

لكن هذا لا ينفي التأثير المذهل لإدوارد سعيد لا من ناحية استعادة أفكاره واستنساخ آرائه، خاصة أن الرجل كان عدوا للتصنيفات، وقدم إنجازات مهمة في الفكر والأدب والنقد وحتى في مجال النقد الموسيقي. ولعل الأهم فيما يتيحه المنجز السعيدي من إمكانات منهجية وتصورية غنية لدراسة قضايا عديدة لا تنحصر في الاستشراق فقط، بل تمضي إلى مواضيع الهوية والعنصرية والنسوية والأدب والسينما والموسيقى والعمارة والترجمة (بوصفها "إمبراطورية") والصحافة والذاكرة والجغرافيا الثقافية والحرب الثقافية والإرهاب والعولمة وصدام الحضارات… إلخ.

ولعل الأهم فيما يتيحه المنجز السعيدي من إمكانات منهجية وتصورية غنية لدراسة قضايا عديدة لا تنحصر في الاستشراق فقط، بل تمضي إلى مواضيع الهوية والعنصرية والنسوية والأدب والسينما والموسيقى والعمارة والترجمة (بوصفها "إمبراطورية") والصحافة والذاكرة والجغرافيا الثقافية والحرب الثقافية والإرهاب والعولمة وصدام الحضارات.. إلخ.

وهذه القضايا جديرة بأن تحررنا من القراءة النمطية التي عادة ما تحصر إدوارد سعيد، وبكثير من الوثوقية، في كتاب "الاستشراق" و"تغطية الإسلام" و"الثقافة والإمبريالية".. أو جبهة "نقد الاستشراق" بصفة عامة، ومن منظور خطاطة المستعمِر (Colonizer) والمستعمَر (Colonized)، ومن غير إيلاء أهمية لإشكالات تحليل الخطاب وسياسات التمثيل في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي.

هل هذه الحاجة هي التي جعلت كتابك السابق "الوعي المحلق.. إدوارد سعيد وحال العرب" يحظى بالاهتمام الكبير، وجعل طبعاته العربية تنفد، ومن ضمنها الطبعة الشعبية بمكتبة "الأسرة" في مصر؟

حقا لقد طبع هذا الكتاب ثلاث طبعات آخرها طبعة "دار خطوط وظلال" الأردنية التي عززتُها ببحث بعنوان "إدوارد وثورات الربيع العربي"، في دلالة على نوع من الحاجة إلى منجز الرجل.

فقد أحصيت في إثر انطلاقة "الربيع العربي" ما يقرب من 50 مقالة تتحدث أو تخمن كيف كان إدوارد سعيد سيقرأ أحداث "الربيع العربي"، خاصة من ناحية تأثير الغرب؛ الغرب الذي كان في أساس تشكيل العالم الثالث والتخلي عنها لنوع من "الاستعمار الداخلي".

وأصل الداء هو الاستعمار، وهذا موضوع آخر، لكنه يندرج ضمن محور "العرب وإدوارد سعيد" الذي يشغل حيزا كبيرا في الكتاب، ثم مقابله محور "إدوارد سعيد والعرب"، في دلالة على التحوط اللازم في التعامل مع إدوارد سعيد حتى لا نجعل منه عربيا محضا.

صحيح أنه يقول عن نفسه إنه "عربي بالاختيار"، لكنه يظل منتوجا أكاديميًّا غربيًّا، فضلا عن أنه حتى لمّا ينتقد الغرب فهو ينتقده بعُدة أكاديمية غربية وبأسماء غربية. الأسماء العربية نادرة في إحالاته، ولا تعدو كونها مجرد إشارات كما في إشارته إلى المؤرخ والمفكر المغربي عبد الله العروي على سبيل التمثيل، فهو يشير إليه، سواء في كتابه "الاستشراق" أو "الثقافة والإمبريالية"، بكونه "أهم مؤرّخ في شمال أفريقيا"، وهذا لا يكفي في نظري.

المنجز السعيدي يقدم إمكانات منهجية غنية لدراسة قضايا عديدة لا تنحصر في الاستشراق (الجزيرة)

وبالإجمال، وتفاديا للالتباس العربي، ركزتُ في الكتاب على أن إدوارد سعيد عدو للتصنيفات وخطابات الهوية والقومية.. إلخ، وهو بدوره يتعذّر على التصنيف، فهو ناقد أدبي وناقد ثقافي وناقد للاستشراق والموسيقى، وفيلسوف للاختلاف، وعالم بالأوبرا وعازف على البيانو، ورجل سياسة حاذق، وصدامي رفيع، وسجالي ملتزم، وشاهد حر، وفوق هذا وذاك هو أستاذ جامعي مهيب وأكاديمي مبهر ومثقف منفي، ومعلّق مدهش، وكاتب مقال كثيف ومضغوط، ومفكر إنسي صلب، ومفكر حداثي ما بعد كولونيالي، ومفكر إمبراطوري ما بعد إمبريالي وما بعد قومي.. إلخ.

وإذ نتحدث عن هذه الميزات، لا ينبغي أن نتغافل عن تأطيرها ضمن خطاب ما بعد الاستعمار الذي كان إدوارد سعيد، خاصة من خلال كتابه الإشكالي والصادم "الاستشراق" (1978)، في أساس التدشين له وحتى من غير اهتمام بهذا التدشين؛ وهذا أيضا رغم انتقاده غير المباشر لهذا الخطاب في الأعوام الأخيرة التي سبقت وفاته، نتيجة انزياح هذا الخطاب نحو مواضيع تنأى عن الأدب والنقد الأدبي.

ومصدر ميزة نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي من ارتكازها على السند الأكاديمي من ناحية، ووضوحها الذي يبرز حتى خارج المجال الأكاديمي (الثقافي والنقدي) من ناحية موازية، خاصة بعد أن صارت وجها من وجوه الثقافة العامة في العديد من الثقافات، بدءًا من الغرب الذي أكسبها طابع "الولادة المدرسية"، وفي هذا سر نجاح النص السعيدي، وسر الهجوم عليه في آنٍ.

أعلنتَ أخيرا أنه سيصدر لك قريبا كتاب جديد عن المفكر إدوارد سعيد عن دار "العائدون" للنشر في الأردن يحمل عنوان "خارج العالم الأنغلو أميركي.. إدوارد سعيد في ثقافات محتدمة"، فكيف تقيّم تلقي كتاباته في العالم الغربي والعربي؟

فعلا الكتاب على وشك أن يصدر عن الدار ذاتها، وهي دار أقرب إلى الكتاب بحكم الخلفية الفلسطينية لأصحابها. وفي هذا الكتاب أشدّد على كيفية ارتحال النص السعيدي إلى ثقافات مختلفة في جهات العالم، وفي مقدمتها الثقافة الهندية التي كانت الأكثر تفاعلا معه من خلال دراسات التابع (Subaltern) التي برزت في مجال الكتابة التاريخية النقيضة للنخبة المثقفة في تصوراتها وكتاباتها لتاريخ الهند وإشكالات الحداثة في المجتمع الثقافي الهندي.

تداول النص السعيدي في ثقافات وبلدان أخرى مغايرة مثل تركيا وباكستان وأفغانستان وجنوب أفريقيا وغيرها (الجزيرة)

ثمّ إسرائيل التي لن تَسلم بدورها من التأثير الظاهر لإدوارد سعيد، ومن توظيف بعض مفاهيمه المركزية ذات الصلة بإشكالات السرد والخطاب.. في مجال صنف مغاير للتأريخ لإسرائيل، بما أن هذا التأريخ سيكون قرين انتقاد السردية الإسرائيلية المهيمنة والتلفيقية في مقاربتها الأيديولوجية الاجتثاثية لفلسطين التاريخية. وقد برز هذا التأثير داخل إسرائيل ذاتها ومن خلال من اصطلح عليهم باسم "المؤرخين الجدد" أو "المؤرخين التنقيحيين".

هذا بالإضافة إلى تداول النص السعيدي في ثقافات وبلدان أخرى مغايرة، مثل تركيا وباكستان وأفغانستان وجنوب أفريقيا.. إلخ، فضلا عن ثقافات شرقية أخرى مثل الثقافة اليابانية (رغم ثنائيتها الشرقية والغربية) التي ذاع فيها النص السعيدي، بل بلغت فيها كتابات إدوارد سعيد حدّ "تطبيقها" على الحالة اليابانية، خاصة تجربتها الكولونيالية في نطاق الإمبراطورية اليابانية السابقة (ووفق الطراز الغربي) التي لم يخصّها إدوارد سعيد بأهمية تذكر، بعد أن ركّز على اليابان بوصفها جزءًا من الشرق.

ثمّ نقيضة الثقافة اليابانية، في الشرق الأقصى ذاته، وهي الثقافة الصينية التي لم يكن "لاستشراق" إدوارد سعيد تأثير فيها، لكن في المدار الذي لم يفارق سؤال المقارنة وعدم الانتشار أو الاستجابة لهذا النمط من نقد الاستشراق في الصين ذاتها.. وبما قد يوحي كيفَ أصبح المنجز السعيدي في مجال نقد "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية"، بمثابة معيار لا يمكن تجاوزه. كما خصصتُ في الكتاب، بحثا مطولا لإدوارد سعيد في إيران، وهذا موضوع غير مدروس على نطاق واسع وحتى متوسط في العالم العربي.

أصبح المنجز السعيدي، في مجال نقد "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية"، بمثابة معيار لا يمكن تجاوزه (الجزيرة)

وهذه الثقافات متباعدة ومتغايرة وحتى متلاطمة ومتصادمة، وهي جديرة بأن تعكس أهمية فكر إدوارد سعيد وعدّته المعرفية، سواء من حيث التلقي وحتى الاستعمال له، أو من حيث التصدي له ومحاولة تخطئته ونقضه والاعتراض عليه، وهذا في مقابل تمثّل هذا الفكر في ثرائه المنهجي والمفاهيمي، وبالتالي اعتماده في قراءات أخرى لأحوال مجتمعاتها وتواريخ بلدانها.

وفي كل الأحوال، ارتقى خطاب إدوارد سعيد، وحسب مقولته أو حسب أحد عناوين مقالاته الشهيرة، إلى مستوى "النظرية المهاجرة" (Travelling Theory)، في دلالة على ارتحال أعماله وتدويل أفكاره في ثقافات أخرى.

ولعلّ هذا ما يجعل الدارس إزاء سيل من الأسئلة المُركبة الموصولة بإشكالات "المثاقفة" في علاقتها بالتمثيل الثقافي والاختلاف الهويّاتي الذي يبلغ حد الاحتدام الهويّاتي كما في هذا البحث، وغيرها من الإشكالات التي تفرض ذاتها في سياق دراسات مستقلة ورصينة.

وبرأيك، لمَ عرفت هذه الكتابات، وتحديدا كتابه "الاستشراق" الصادر عام 1978، الكثير من سوء الفهم، الذي أثار غضب إدوارد نفسه، ودفعه إلى الرد على بعضها، حيث عبّر عن ذلك بمرارة كبيرة في حوار له مع الشاعر نوري الجراح في مجلة "الجديد" عام 1996، حيث أبدى عدم ثقته بالحركات الدينية في المجمل لأنه مفكر علماني، وقال إنه لا يتحدث في كتابه "الاستشراق" عن الإسلام، بل عن صورة الإسلام في الغرب؟

سؤالك يتضمن نقطتين: الأولى ذات صلة بكتاب "الاستشراق"، والثانية ذات صلة بالحركات الدينية أو الأصولية الدينية. وبخصوص كتاب "الاستشراق" فهو ينتظم ضمن جبهة نقد الاستشراق التي استحوذت على الاهتمام العالمي بإدوارد سعيد.

وقد نشر هذا الأخير في المجال ذاته أربعة كتب هي: "الاستشراق" عام 1978 الذي تلاه بعد عام واحد فقط كتاب "مسألة فلسطين"، ثم كتابه "تغطية الإسلام" (1981)، وهما معا يكمّلان سياق "الاستشراق": كتاب "مسألة فلسطين" يكمّله من ناحية فلسطين، وكتاب "تغطية الإسلام" من ناحية الإسلام.

وفيما بعد كتابه "الثقافة والإمبريالية" (1993) الذي جاء في سياق لاحق على سياق "الاستشراق". لكن "الاستشراق" هو الذي جعل إدوارد سعيد في الواجهة العالمية، وفي قلب الثقافات المحتدمة. ومرد ذلك إلى براعة سعيد في التعامل مع الاستشراق، ومع آلاف النصوص التي برع في انتقائها وفرزها وتحليلها ونقدها بشكل تحليلي.

لقد نجح في توفير المدخل اللائق للتعامل مع الاستشراق لمّا عدّه مؤسسة، ولما ركز على الجانب النظري والجانب العملي فيه. وقد أدرج فيه، بل وورّط فيه، مؤسسة التعليم والكنيسة والصحافة وحتى المعاجم وكتابات رجال السياسة.

ولقد برز الاستشراق أولا في نشر نوع من الوعي أو الفهم الجماعي بخصوص الشرق في المؤسسات التعليمية، وبعد ذلك مد هذا الوعي إلى مجال الرأي العام، ثم مربط الفرس بالنسبة إلى سعيد وهو الاستعمار ومباركة الاستعمار من طرف مؤسسة الاستشراق بحيث لا مجال للمصادفة في هذه الفكرة.

وهذا ما أثار العديد من الأسماء بعدما رأت في الطرح السعيدي نوعا من التقزيم والاختزال للاستشراق في التمهيد للاستعمار، وكأن المستشرقين لم تكن لهم أفضال كثيرة في تحقيق التراث والكتابة عن الشرق واستكشاف العديد من نصوصه، ومن خارج لوثة "المهمة التحضيرية" التي ارتكز عليها الغرب في التقدم نحو الشرق.

وبخصوص الأصولية والقومية والاستغراب وغيرها من المعاول أو الأشكال، فهو ما ينظر إليه إدوارد سعيد كمآسٍ حقيقية في العالم الثالث. وأهمّ ما أثار انتباهه ضمن استقبال كتاب "الاستشراق" في العالم العربي والعالم الإسلامي في بلدان مثل إيران وباكستان، "عداؤه للغرب".

يقول في الموضوع: "لطالما حُسِبْتُ كاتبًا لسيناريو كهذا؛ فقد قال نقاد كثيرون معادون لي إن هذا ما أريد قوله فعليًّا، وإني أعمل من أجل بعث الأهلانية، وإني أتحمّل إلى حدّ ما مسؤولية صعود الأصولية الإسلامية.. إلخ".

وعلى مستوى آخر فهو يرفض أيضا الأيديولوجيا الصهيونية التي لا تزال تتلبّس، حتى اليوم، بتلك الأصولية التي لا تميّز في إسرائيل بين اليسار واليمين.. طالما أن كليهما سيجلب الموت لإسرائيل مع فارق ينحصر في المدى الزمني للموت لكل فريق. وعلى هذا لا ترى هذه الأصولية في قتل العربي أيّ نوع من الجريمة التي لا تغتفر، وإنما مجرد إلحاق له بالموت كما يشرح إيمانويل هايمان (E. Haymann) في كتابه "في قلب الأصولية اليهودية".

وهو ما يطبّقه جنرالات إسرائيل على الفلسطينيين حتى اليوم، وهو ما يُعبَّأ به الجنود قبل الحروب، عملا بقاعدة "العربي الجيّد هو من كان ميتا"، وحتى إن كانت الأصولية اليهودية هنا، لا تهدد دولة إسرائيل فقط، وإنما تهدد الديانة اليهودية ذاتها. وصفوة القول هنا، أن إدوارد سعيد يرفض الأصولية كيفما كان أساسها، قومية كانت أو ثقافية أو دينية أو عسكرية.

وهل هذا يعود إلى نظرياته في اللغويات والفكر والسياسة العصية على الفهم، وامتلاكه العدة المعرفية اللازمة لذلك، حسب رأي مجموعة من المتخصصين، والمتمثلة في المعرفة والسلطة والخطاب؟

على ذكر النظرية والمفاهيم الملحقة بها، ينبغي استحضار العالم الأنغلو أميركي الذي نشطت فيه حركة النظرية ونظريات النظرية وانفجار النظرية وهجرات النظرية، مقارنة مع الفضاء الفرنسي الذي ظل محدودا على هذا المستوى.

وخطورة إدوارد سعيد من تسييس عمل الناقد ونقد الاستشراق من خلال مفاهيم الخطاب والهيمنة والسلطة، وتداخل السلطة مع المعرفة ثم القوة، وعلاقات القوة العارية وتورّط الثقافة في الاستعمار والهيمنة من وراء البحار.. إلخ. وعلى هذا كان تأثيره وإزعاجه للمؤسسات الأكاديمية والأوساط الإعلامية الغربية.

انتقاد المفكرين والمستشرقين الغربيين لإدوارد سعيد أمر مفهوم لأنه دكّ، كما قلت، أطروحة الاستشراق ونجح في تفكيك بنيته وتعرية أهدافه الأيديولوجية الاستعمارية وتناقضاته، ولكن ما هو غير مفهوم هو انتقاد المفكرين العرب له، وتحديدا مجموعة من المفكرين الماركسيين، ومن ضمنهم صادق جلال العظم ومهدي عامل، الذي قال إن إدوارد سعيد نفسه "ظل سجين الاستشراق الذي ينتقده"، فكيف تقرأ هذه المفارقات وأنت المتخصص في تقديم وتحليل أطروحات المفكر إدوارد سعيد إلى القارئ العربي؟

فيما يتصل بالتلقي العربي لإدوارد سعيد فهو غير موحّد، وينبغي التمييز داخله بين التلقي القومي العربي الذي رأى في نقده للاستشراق امتدادا للقومية العربية ومناهضة لرواسب الاستعمار، وبين التلقي الإسلامي الذي رأى فيه نوعا من الدفاع عن الإسلام، مع أن الرجل ما كان يهمه هو صورة الإسلام في الغرب وطبيعة الخطاب المزعوم حول الإسلام، بما أن هذا الخطاب -وفي سياق الاستشراق المتواصل- يربط بشكل جزافي بين الإسلام والإرهاب.

يظل كتاب صادق جلال العظم "الاستشراق.. معكوسا" الأقوى في نقد إدوارد سعيد، وهذا بشهادة إدوارد نفسه (الجزيرة)

وأخيرا التلقي الماركسي العربي لإدوارد سعيد على نحو أسهم فيه صادق جلال العظم ومهدي عامل وهادي العلوي، وبشكل أو بآخر نديم البيطار. لكن كتاب صادق جلال العظم "الاستشراق.. معكوسا" يظل الأقوى، وهذا بشهادة إدوارد سعيد نفسه، وهو النقد الذي باعد بينهما "إلى الأبد" كما يقال، إلى أن توفي كل واحد منهما. ويظل النقد الماركسي العربي هو الأقوى والأهم، إذا جاز أن نقارن بين صنوف التلقي التي أقدمت على ذكرها.

رغم كل هذه الانتقادات وسوء الفهم الكبير، فإن ما كتب عن إدوارد سعيد غزير، حيث صدر عنه أكثر من 50 كتابا في العالم العربي، فهل تعتقد أن كل هذه الكتابات قد أنصفت هذا المفكر الاستثنائي والأيقونة؟

بالفعل، فما كتب حول إدوارد سعيد في الثقافة والفكر العربيين يفوق 50 كتابا. أما الكتب والأبحاث حوله بشكل عام فيصعب عدها، وبالتالي فرزها والحكم عليها، بما أنها ممتدة في الجهات الأربع من العالم.

والأهمّ في طبيعة الإفادة منه في أفق تحليل العديد من القضايا ذات الصلة بنقد الاستشراق والأنثروبولوجيا والنقد الأدبي الذي عادة ما لا نوليه أهمية تذكر، مع أن إدوارد سعيد أطل أوّل مرة بصفته ناقدا أدبيا من خلال كتابه "جوزيف كونراد والسيرة الذاتية" (1966) الذي كشف فيه إدوارد سعيد -الشاب وقتذاك- عن مقاربة مغايرة في التعامل مع هذا الروائي الخلافي، الذي حظي بكتابات أهرام نقاد الأدب.

وهل الترجمات التي خصصت لكتاباته، ومن ضمنها سيرته الذاتية Out of place (المترجمة بعنوان "خارج المكان")، والتي يرى المتخصصون أنها ترجمة أفقدت المدلول العميق الذي أراده إدوارد لسيرته وهو الغربة والإحسان باللا أمان؛ قد ساهمت في سوء فهمه أيضا؟

في حال العرب، الأمر يتعلق بمعركة الترجمة، بما أنه لن يكون للعرب أيّ مدخل من غير مدخل الترجمة من أجل التشابك مع المنجز الأكاديمي والفكري لإدوارد سعيد، وبالتالي محاولة استيعابه وتوظيفه في قراءة حالهم التي تتميّز بمقتضيات تداول تخصّهم، وبالقدر ذاته تميّزهم عن باقي الثقافات الأخرى التي تعاطت مع المنجز ذاته من مواقع الترجمة أيضا، وما يتجاوز الترجمة نحو الإفادة من أفكار الرجل في مجالات الاقتراب والتحليل والتقويم في مجالاته المختلفة التي ذكرتها من قبل.

السيرة الذاتية لإدوارد سعيد "Out of place" المترجمة بعنوان "خارج المكان" (الجزيرة)

ولا يخفى أن الترجمة معركة حقيقية بما أنها كاشفة عن تمفصلات الفهم والتفسير والتأويل، وعلى النحو الذي يرقى بها إلى مستوى النص الموازي الذي يسهم، بدوره، في تحريك الثقافات الأخرى وإثراء أنساقها الكبرى.

هذا فضلا عن المكوِّن الترجمي الكامن في آلة التحليل في الأعمال الموضوعة بلغاتها الأصلية في الثقافات التي تنتمي إليها، خاصة في عصرنا هذا الذي يطلق عليه أيضا "العصر الترجمي" بالنظر إلى أشكال من التداخل والتثاقف والتهجين، راحت تطبع الثقافات وحوار الثقافات. ومن ثمّ، فالترجمة بدورها هي فكر، فكر من نوع آخر وقائم بذاته ومستقلّ من أكثر من وجه، وعلى هذا فهي رهان صعب.

والترجمة في الحالة العربية، ومن منظور مدى قدرتها على تمثيل الأفكار الكبرى، تظل مرتبطة بمشكلات الهوية أو سياسات الهوية ومشكلات الثقافة التي تخصّ العرب وعلاقتهم بالآخر. وأمّا في حال ترجمة قامة بحجم إدوارد سعيد فلن تخلو من بحث لاهب عن أجوبة لائقة في نطاق الرد على الأسئلة الملحة التي يفرضها السياق الثقافي والتاريخي العربي الضاغط والمنهك.

كما أن ترجمة من هذا النوع هي شكل من أشكال تلقي إدوارد سعيد. وكما أنها، في النظر الأخير، لا تقل أهمية عن الدراسات التي تروم استيعاب منجز هذا الأخير من أجل تقديمه لمجموعات القراء، في نطاق التطلع إلى قلب الأسئلة الراكدة وتفكيك الأنساق المركزية والفرعية.

وتظل اليابان الأكثر تفاعلا مع المنجز السعيدي من حيث الترجمة التي غطت تقريبا جميع أعماله، مقارنة مع العرب الذين لم يترجموا أعمالا كثيرة لإدوارد سعيد، مثل "بدايات.. القصد والمنهج"، وهو كتاب خارق وسابق، بل ومؤثر في كتاب "الاستشراق". كما لم يترجموا له كتابيْ "مسألة فلسطين" و"سياسة التجريد.. كفاح شعب فلسطين لتقرير المصير".

ومن حسن حظ كتاب "الاستشراق" أن حظي بترجمة الناقد والمترجم المصري محمد عناني، التي أنقذت الكتاب من الإغماض الذي طال ترجمة كمال أبو ديب التي أثارت نقاشا كبيرا. وعلى ذكر ترجمة "خارج المكان"، وللإنصاف، تظل ترجمة فواز طرابلسي للكتاب موفقة، وهذا بشهادة إدوارد سعيد نفسه، الذي اقترح المترجم. وتظل ترجمات "دار الآداب" في بيروت بشكل عام لأعمال إدوارد سعيد؛ موفقة ومقربة من النص الأصلي السعيدي.

خصصت كتابا لسردية فلسطين من خلال علميْن فلسطينيين وتجربتين مختلفتين ومتقاطعتين لكل من المفكر إدوارد سعيد والشاعر محمود درويش، وقاربتها من خلال المنظومة الفكرية لكليهما، غير أن هذه السردية الفلسطينية ما زالت تعرف صراعا ضاريا إلى اليوم مع السردية الصهيونية/الإسرائيلية، فكيف تستعيد هذه السرديات على ضوء ما نعيشه من أحداث؟

فعلا خصصت كتابا لإدوارد سعيد والشاعر -أو الأحرى الشاعر المفكر- محمود درويش بعنوان "سردية فلسطين"، وفي دلالة على أن "الأمم هي السرد" أيضا؛ السرد في تقاطعه مع التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي، ومع الأنثروبولوجيا الثقافية والرمزية من حيث عادات وتقاليد فلسطين.

وأجمل ما يمكن قراءته لمحمود درويش أن "الشاعر ليس آتيًا من اللغة فقط، بل من التاريخ والمعرفة والواقع". وعلى هذا أهمية الصراع مع إسرائيل على مستوى صياغة سردية فلسطين أو فكرة فلسطين. ومن هذه الناحية فقد برع إدوارد سعيد ومحمود درويش في صياغة الفكرة لحد إزعاج إسرائيل.

إدوارد سعيد ومحمود درويش برعا في صياغة فكرة سردية فلسطين لحد إزعاج إسرائيل (الجزيرة)

والكتاب بعامة يبحث في "المرجعية الفلسفية والفكرية" التي يصدر عنها إدوارد سعيد ومحمود درويش في التعاطي مع مسألة فلسطين، وهي مرجعية دقيقة وبعيدة عن "التماهي القومي" مع العرب ككل، لكنها أكثر تشديدا على معطى النكبة والتطهير العرقي والضحية.

وهل تنفع السردية الفلسطينية ذات النزعة الإنسانية الكونية لكليهما، والتي كسرت ما هو مألوف مع السردية التاريخية التقليدية، في هذا الزمن الراهن المثقل بالتعصب والراديكالية والحروب والنزوع نحو التقتيل الهمجي؟

دفاعهما عن الفلسطينيين يتأطر ضمن منحى "الحق في التمثيل"، وفي الوقت ذاته ينأى عن التحديد القومي، ويبعد عن أيّ نوع من "الجوهرانية" لكي لا نشير إلى "المعطى القومي" أو "التجنّد القوموي"، فهما معا يرفضان جميع انحرافات النزعة القومية التي تسقط في "الأصلانية" أو "الأهلانية" أو أشكال "العرقنة" (Racialisation). كما يتجنّبان مفاهيم الهوية المنغلقة والقومية المنغلقة بدورها.

دفاعهما عن فكرة فلسطين، والعرب بعامة، محكوم بهذا التصوّر أو بهذه "الهوية الطباقية" أو "المركبة" التي تتصدرها النزعة الإنسانية في "خريطة الألم الإنساني" كما وصفها إلياس خوري نفسه في مقال له حول إدوارد سعيد بعنوان "الولادتان".

وبالجملة، فقد ظل إدوارد سعيد يدافع عن "الإنسية" حتى آخر لحظة من عمره، في دلالة على حياته الأكاديمية التي نذرها "للنضال الإنساني العادل". بل إنّ آخر مقال له كان بعنوان "الإنسية آخر قلعة أمام البربرية" (نشرته "لوموند دبلوماتيك"، في سبتمبر/أيلول 2003)، المقال الذي تمّ تضمينه ضمن مقالات الكتاب الذي كان قد أوصى به سعيد، والذي صدر بعد عام واحد على رحيله.

وليس من شك في أننا نقصد كتابه "الإنسية والنقد الديمقراطي" الذي سينقله، تحت العنوان نفسه، الباحث اللبناني فواز طرابلسي إلى العربية، وبعد عام واحد من ظهوره في لغته الأصلية (2004). ويصف سعيد صفحات الكتاب قائلا: "إن هي إلا سعي للمساهمة في فكرة الثقافة الإنسانوية بما هي تعايش ومشاركة".

لقد آمن "بعالمية الإنسان" و"عالمية الثقافة الإنسانية المنفتحة"، ممّا وضعه في قائمة "التنويريين الكبار". وخلاصة القول: لقد تميّز وتفرّد إدوارد سعيد ومحمود درويش على مستوى كسر "مألوف سردية فلسطين التاريخية".

وفي النهاية، ألا تخشى أن يساء فهم كتاباتك عن إدوارد سعيد في خلخلة سوء الفهم الذي عرفه هو نفسه، حتى من أبناء جلدته فلسطين؟

وحتى لا أزكي نفسي أكثر، لقد شرفني الصديق الإعلامي ياسين عدنان، مؤخرا، بأن أكون ضيفا ضمن ضيوف برنامجه "نقد الاستشراق" وضمن الحلقة المخصصة لإدوارد سعيد ذاته، وسيرا على باقي الحلقات التي يستضيف فيها اسما محددا حتى يتمّ الحديث عن محور من محاور الاستشراق. وكان من المفروض أن يكون الضيف من فلسطين.

وأسعدني أن تمّ استحسان الحلقة من طرف فلسطينيين. والحلقة مثبتة في شبكة التواصل الدولي. وأختم بنصيحة إدوارد سعيد الذهبية التي تقول "كلما اشتد الضباب يجب أن نعود إلى الأفكار الأساسية والواضحة".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات فكر کان إدوارد سعید إدوارد سعید فی النقد الثقافی الربیع العربی العالم الثالث فی التعامل مع سردیة فلسطین مسألة فلسطین فی دلالة على هذا المفکر فی ثقافات الکثیر من على مستوى فی العالم سوء الفهم وغیرها من العدید من وعلى هذا الذی کان من ناحیة أکثر من کیف کان فی مجال على هذا فی کتاب فضلا عن من خلال سر نجاح هذا ما نوع من من غیر أن هذا کما أن بما أن فی هذا من حیث

إقرأ أيضاً:

الأكاديمي والشاعر المغربي حسن الأمراني: أنا ولوع بالبحث في الجديد وهناك من يعيش انسلاخا حضاريا

في رحلته الأكاديمية البحثية عن المتنبي، اختار أن يبحث في رؤية المستشرقين فيه، من أقصى المغرب العربي إلى بغداد الشعر قادما بأدوات بحث يناقش الاستشراق في الشعر، مدافعا عن هويته الحضارية والمعرفية.

الأكاديمي والشاعر حسن الأمراني أحد مؤسسي رابطة الأدب الإسلامي العالمية، عام 1984، خاض بحور الشعر وخاض بحار التجارب الثقافية ناقدا، ومديرا لمؤسسة ثقافية، وأكاديميا للغة العربية، ينصهر في بوتقة الثقافة التي تنهض بأمته على أسس القيم والإبداع والجمال، فإلى الحوار:

في رسالتك الأكاديمية للدكتوراه، اخترت المتنبي شاعرا في دراسات المستشرقين الفرنسيين، لماذا اخترت هذه الدراسة في الشاعر تحديدا والمستشرقين؟

لمّا أقبلتُ على إعداد رسالتي لنيل دبلوم الدراسات العليا، اخترت شاعرا قديما من المدينة المنورة، وهو قيس بن الخطيم الذي توفي قبل الهجرة بسنتين، فلما فكرت في بحث لدكتوراه الدولة بقيتُ في إطار الأدب القديم، فاخترت المتنبي.

ولكنَّ الدراسات عن المتنبي كثيرة جدا، وأنا ولوع بالبحث فيما هو جديد، فاخترت دراسة المتنبي من زاوية جديدة، وهي النظر إليه في مرآة المستشرقين. وكان عامل خارجي ساعدني على هذا الاختيار، وهو أن صدر في تلك الفترة كتاب شغل الناس، وهو كتاب المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد: (الاستشراق)، وهو كتاب أثار ضجة كبيرة في عالم الدراسات الاستشراقية.

إعلان

وقد اقتصر على تناول الاستشراق الفرنسي والإنجليزي، فتابعته، وضيقت الدائرة أكثر، فاقتصرت على الاستشراق الفرنسي، لأنه كان أسبق إلى تناول المتنبي دراسة وترجمة. ومن خلال المتنبي عالجت قضايا معاصرة تتعلق بالعلاقة بين الغرب والعالم العربي.

كتاب "المتنبي" لحسن الأمراني (الجزيرة) لديك تجربة طويلة في الأدب الإسلامي، أين تجده اليوم؟ هل من متغيرات في المصطلح ودلالات جديدة له؟

الأدب الإسلامي أدب قديم، ظهر مع ظهور الدعوة الإسلامية. إلا أن دلالته تجددت في العصر الحديث، بحكم ما أصاب الأدب في العالم العربي والإسلامي من هجمات المذاهب الغربية التي كان أكثرها منسلخا عن الدين، وصار الأدب شعرا ونثرا وسيلة من وسائل الغزو وتدمير قيمنا الإسلامية، سواء من المذاهب الأيديولوجية، وأشهرها الواقعية الاشتراكية، أو من المذاهب الليبرالية مثل الوجودية، أو المذاهب الشكلية التي عملت على قتل أدبية النص، وإن زعمت أنها قتلت صاحب النص، وأشهرها البنيوية.

وأمام هذه الهجمة العنيفة المتعددة الأوجه برزت الدعوة إلى أدب إسلامي ينسجم مع مقومات أمتنا الإسلامية، فظهر مصطلح "الأدب الإسلامي" بمفهومه الجديد، الذي يركز على أن الأدب الإسلامي هو أدب الفطرة، كما أن الإسلام هو دين الفطرة.

ولكن كثيرا من الأدباء أساؤوا فهم المراد من الأدب الإسلامي، وظنوه أدب الشعارات الإسلامية، فأساؤوا إلى الأدب كما أساؤوا إلى الدين. ولذلك فنحن ما زلنا بحاجة، بعد نصف قرن من الزمن، إلى أن نزيد الناس فهما للأدب كما نسعى إلى أن نزيدهم فهما للدين.

لسنا بحاجة إلى تجديد المصطلح بقدر ما نحن بحاجة إلى أن نقدم للناس نصوصا أدبية نابضة بالحياة، طافحة بالجمال، قادرة على ربطهم بواقع ومستقبل يحلمون به، وعند ذلك لا ضرر في التخلي عن المصطلح.

وقد كان أبو الحسن الندوي يقول (بالإنسانية)، وهو مفهوم ينفتح على كل من يتفق معنا في خدمة الإنسان. إلا أن مصطلح الإنسانية نفسه تشوه، بحكم ما أضفى عليه الغرب من مفاهيم تأليه الإنسان تحت شعار "الإنسانوية" (Humanism). ومن هنا ينبغي التعامل مع هذا المصطلح بحذر شديد. فالعدو الصهيوني يسعى إلى تدمير الوجود الفلسطيني، ويدعي أنه يمثل الإنسانية في أرقى صورها وأخلاقيتها.

إعلان كيف تجد الأديب المغاربي بين تراث الأمس الأندلسي وإرثه الثقافي العربي وما واجهه من استعمار ثقافي ومعرفي؟

الأدب المغاربي، وليس فقط الأديب المغاربي، ليس واحدا. وهو كالأدب المشرقي متعدد المشارب، ومتعدد المواقف من الذات، ومن التراث، فهناك من يجدد في إطار من الأصالة والوعي بمقومات التجديد، وهناك من يعيش نوعا من الانسلاخ الحضاري العميق، حتى وإن اتخذ العربية وسيلة للتعبير.

وإن كان للغة سلطان واضح في الاختيارات، فكثير ممن يكتب بلغة المستعمر يروج بشكل واضح للفكر الاستعماري، بشكل قد يثير استغراب بعض المنصفين من الغرب. إن كاتبا مثل الطاهر بنجلون، لا يكتفي بتقديم صورة مشوهة عن هويتنا العربية والإسلامية، بل يتجاوز ذلك إلى نصرة العدوان الإسرائيلي على غزة وفلسطين بشكل فج.

ولكن هناك من كتب بلغة المستعمر لمحاربة المستعمر. لا أريد ترديد كلمة كاتب ياسين: "إن الفرنسية غنيمة"، ليبرر الكتابة بها، فهو كان عدوا للعربية وللإسلام، بتصريحه هو. ولكني أستحضر كاتبا ومفكرا أصيلا، وهو مالك بن نبي الذي فهم الحضارة الإسلامية فهما جديدا وإيجابيا، وكل كتبه كانت بالفرنسية. وفي المغرب، كتبت ليلى أبو زيد بالعربية وبالإنجليزية، وكانت وفية لحضارتها.

وهكذا يتأكد مجددا أن اللغة، وإن كانت لغة المستعمر، هي وسيلة من وسائل التعبير، يمكن أن ندافع بها عن وجودنا، ويمكن أن تكون قذيفة نوجهها إلى صدرونا.

لماذا يطول الطريق على الأدباء نحو فلسطين؟ وهل تجد أنهم حملوا رسالتهم كما يجب في ظل الواقع الدامي؟

لا غرابة في ذلك، ففلسطين ليست بقعة جغرافية محمودة يمكن اختزالها، بل هي وجودنا وهويتنا وحاضرنا ومستقبلنا، ولذلك كان من الصعب على بعض الأدباء حمل عبء فلسطين، حتى من الفلسطينيين أنفسهم.

فأنا مثلا عندما أقرأ روايات كاتبة أجدها مشغولة بتصوير الشهوات، والمغامرات الجنسية حتى داخل مكتبة عمومية، بشكل يثير الغرائز، أسأل نفسي: هل يجوز لي أن أقول عن هذه الكاتبة إنها فلسطينية حقا؟ فما بالنا بغيرها ممن هو في قُطْر  بعيد عن أكناف الأقصى بآلاف الكيلومترات؟

إعلان

إن الوعي بطبيعة الصراع في فلسطين تأخر حتى عند بعض شعراء الأرض المحتلة، الذين كانوا ينظرون إلى الصراع على أنه صراع طبقي، وقد اضطر الشاعر الكبير محمود درويش، على سبيل المثال، إلى حذف مقطع شعري من قصيدته الشهيرة "بطاقة هوية"، لأنه مقطع يصف الفلسطينيين كلهم بأنهم "يحبون الشيوعية". وهو لم يسترجع وعيه الحضاري إلا بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت إلى المنافي، وكانت قصيدته (حصار لمدائح البحر) الذي صدر عام 1984 فاصلا بين مرحلتين.

أين نجد مدرسة حسن الأمراني الشعرية؟ في أي عصر؟ عند أي شاعر؟ في أي لغة؟

من الصعب أن أزعم بأن هناك مدرسة شعرية تُعزى إلى حسن الأمراني، ولا سيما أنني موزع بين الشعر وبين البحث، ولكنني حاولت أن أنفتح على كل العصور، وعلى كل الشعراء، وعلى لغات متعددة. فأنا أبحث عن الحق والجمال، وحيثما وجدته رتعت.

ولذلك حضر في شعري المتنبي، والبوصيري، ومحمد إقبال، وجلال الدين الرومي، وفكتور هيغو، وغوته، وأراغون، وثريا كاملا، وغيرهم. ولكنني كالنحلة التي تأخذ الرحيق من كل زهرة، ثم تصنع منه شرابا لذة للشاربين. وإذا كان الشاعر الفرنسي هيغو قد قال: "أريد أن أكون شاتوبريان أو لا شيء" فأنا لا أريد في الشعر غير أن أكون أنا، وذلك حسبي.

خضت التجارب الأكاديمية في تعليم اللغة العربية، والتجارب المؤسسية في مشروع الثقافة، كيف تجد الفرق؟ وما أهم التحديات في كل منهما؟

لا شك في أن التجارب الأكاديمية في تعليم اللغة العربية مهمة جدا، إلا أنها تظل محدودة ضمن ما يحدده واضعو البرامج. ويبقى بعد ذلك الاجتهاد الذي يبذله الأستاذ بحسب طاقته وإخلاصه.

وأنا في مثل هذه المواقف أذكر كلمة اللواء الركن محمود شيت خطاب، فقد وصف تجربته في الجهد الذي بذله هو وبعض الخبراء المختصين في وضع موسوعة لتعريب المصطلحات العسكرية. ومما قاله إنه بعدما تم إنجاز المشروع وُضع على الرف في خزانة الجامعة العربية، ثم لم يسأل عنه أحد.

إعلان

أما التجارب المؤسسية في مشروع الثقافة، وبحسب تجربة مؤسسة النبراس للثقافة التي أرأسها منذ عام 1982، فإن المشروع الثقافي ضخم جدا، وتتوارثه الأجيال، والمشروع الثقافي هو أكثر عمقا وتأثيرا من المشاريع السياسية، كما دلت على ذلك التجارب، ولا سيما في بلادنا العربية التي يشكل فيها فضاء الحرية نسبة ضيقة، ولا يحتمل أي مشروع يسعى إلى الوصول إلى الكراسي، ولذلك كان شعار الشيخ أبي الحسن الندوي: "نحن نسعى على أن يصل الإيمان إلى أهل الكراسي، لا أن يصل أهل الإيمان إلى الكراسي".

إنّ الجالسين على الكراسي لا يتورعون عن "إحراق" بلدانهم، على أن يتنازلوا عن الكراسي. إن العدو الوحيد الذي ينبغي أن نقاومه بكل الوسائل، وأن نحاربه لننتزع منه الكرسي هو العدو الصهيوني. وأما المشروع الثقافي فهو مهم، وينبغي أن نحرص عليه، لأنه يواكب قضايا الأمة من جهة، والرسالة التكوينية من جهة أخرى. وتجتمع فيه خبرات متخصصين في مجالات متعددة. ومن هنا تبرز فعاليته المستمرة.

"الحزن يزهر مرتين" منذ ديوانك الأول وحتى اليوم، كيف تجد تطور مسيرتك الشعرية؟

التطور من سنن الله تعالى، و"الحزن يزهر مرتين" ليس غير مُنطَلق، فهو عندي مثل ديوان "عصافير بلا أجنحة" لمحمود درويش، محطة أولى، ثم نتركها. ومنذ ذلك الحين تتعدد المحطات حتى كأن من ينجزها أكثر من شاعر. وقد أرسل إليَّ بعضهم إعجابا بقصيدة شعرية لي، فقلت له: أحقا أنا من كتبها؟ ما يؤرقني الآن هو أن أعرف كيف اختار من شعري ما هو جدير بالبقاء لينفع الناس، وأمحو ما سواه، إن كان ذلك ممكنا.

لماذا لا تفكر في توثيق سيرتك للقراء؟

حين بلغت الأربعين شرعت في تدوين سيرتي، ثم انصرفت عن ذلك، وتذكرت عبارة الكاتب الساخر برنارد شو: "ولكني لم أقتل أحدا لأكتب سيرة حياتي". وأنا أقول: أفي سيرتي شيء مما ينفع الناس فأنشره؟

إعلان من قصيدة "الإسراء" إلى "المجد للأطفال والحجارة" وليس انتهاء بـ"شرق القدس غرب يافا"، هل من جديد لـ"طوفان الأقصى"؟

فلسطين تسكنني، وبسبب قصيدة لي عن فلسطين في (الحزن يزهر مرتين)، اتخذ اليسار مني موقفا، لأنني كنت أغني خارج السرب. وهناك من أهل اليسار من غير موقفه، ولكن بعضهم بقي على ضلاله. كان غريبا أن أقول في نهاية تلك القصيدة التي ظهرت في ديواني الأول:

حتى لا نرسف بين أصفاد البلادة

أنا لا أطيق الصمت،

لست أطيق هذا الانتظار

أبتاه، ليس لنا خيار

لا بدّ إحدى الحسنيين ننال: نصرا أو شهادة

ومنذ ذلك الحين صارت القضية الفلسطينية تسكن شعري.

منذ انطلاق (طوفان الأقصى) المبارك، كتبت شعرا كثيرا، سيصدر إن شاء الله تعالى في ديوان عنوانه مبدئيا: (وحي الأقصى).

مقالات مشابهة

  • أول تعليق من إدوارد بعد إصابته بشلل مؤقت في المعدة
  • كيف اختزلت حادثة ماغديبورغ مدى الاحتقان الطائفي والعرقي والسياسي الذي ينخر في جسد الوطن العربي؟
  • أول تعليق من أدوارد على إصابته بشلل مؤقت في المعدة بسبب حقن التخسيس
  • أستاذ بـ «الاستشراق»: بوتين أكد إمكانية تطوير العلاقات مع السلطات السورية الجديدة
  • لتعزيز التعاون الأكاديمي.. جامعة اللوتس تستقبل أمين عام اتحاد الجامعات العربية
  • أحمد جمال سعيد لـ«الوفد»:نجاح «وتر حساس» فاق توقعاتى.. وتخوفت من تناقضات الشخصية
  • الأكاديمي والشاعر المغربي حسن الأمراني: أنا ولوع بالبحث في الجديد وهناك من يعيش انسلاخا حضاريا
  • الإتحاد العربي يشيد بمؤسسات الدولة في نجاح الملتقى السابع للإستثمار الرياضي
  • الاتحاد العربي يشيد بمؤسسات الدولة في نجاح الملتقى السابع للاستثمار الرياضي
  • أهم أنواع الخط العربي التي تزين أرجاء المسجد الحرام