رمز للفخامة.. نظرة على تاريخ عربات الطعام في القطارات الأوروبية
تاريخ النشر: 15th, October 2024 GMT
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- انطلق للمرة الأولى على الإطلاق قطار الشرق السريع الأسطوري عبر أوروبا من محطة "Gare de l'Est" في العاصمة الفرنسية باريس نحو القسطنطينية، التي تُعرف اليوم بإسطنبول في الرابع من أكتوبر/تشرين الأول من عام 1883.
وخلال رحلة ذهاب وعودة استمرت 7 أيام، قضى الركاب وعددهم 40، من بينهم العديد من الكتاب والشخصيات البارزة، رحلة مريحة تخللتها ساعات في حجرات التدخين، والكراسي المنجّدة بالجلد الإسباني الناعم.
ومع ذلك، كان من الممكن العثور على التجربة الأكثر فخامة على الإطلاق داخل عربة الطعام.
ومن خلال قائمة طعام تشمل المحار، والدجاج، وسمك التونة مع الصلصة الخضراء، وغير ذلك الكثير، كانت الأطعمة المقدمة باهظة الثمن إلى الحد الذي جعل إعادة استخدام جزء من عربة الأمتعة لإفساح المجال لثلاجة إضافية تحتوي على الطعام والمشروبات الكحولية، بمثابة أمر ضروري.
عربة طعام قطار الشرق السريع المُعاد ترميمها، أطلقت هذه الصورة فعالية يوم التراث الأوروبي في باريس عام 2018Credit: Francois Guillot/AFP/Getty Imagesوكان الضيوف يشربون من كؤوس كريستالية ويتناولون الطعام في أطباق من الخزف الفاخر مع أدوات مائدة فضية، كل ذلك تحت إشراف نُدُل يرتدون ملابس أنيقة.
وكان ديكور المطعم الداخلي مزينًا بستائر حريرية، بينما كانت الأعمال الفنية معلقة في الفراغات بين النوافذ.
قال الصحفي الفرنسي هنري أوبر دي بلوويتز، أحد ركاب الرحلة الأولى إن "مفارش المائدة والمناشف البيضاء الزاهية، التي يطويها سُقاة النبيذ ببراعة ومهارة، والكؤوس البراقة، والنبيذ الأحمر الياقوتي والأبيض الزاهي، وقوارير المياه الشفافة، والكبسولات الفضية لزجاجات الشمبانيا، كل ذلك أذهل الجمهور في الداخل والخارج".
وقد قام روائيون مثل غراهام غرين وأجاثا كريستي بتخليد تجربة الركاب الفاخرة بقطار الشرق السريع في الثقافة الشعبية. ولكن تناول الطعام أثناء التنقل كان بمثابة انتصار كبير للخدمات اللوجستية والهندسة. وقبل 4 عقود فقط، كانت فكرة إعداد وتقديم وجبات طعام ساخنة على متن القطار أمراً لا يمكن تصوره تقريباً.
خلال الأيام الأولى للسفر بالسكك الحديدية، كان الركاب إما يحضرون طعامهم معهم أو، إذا سُمح لهم بالتوقف في نقاط محددة، يتناولون الطعام في مقاهي المحطة.
في بريطانيا، على سبيل المثال، كانت وجبات الطعام تُقدّم في ما يُسمى بغرف مرطبات السكك الحديدية منذ أربعينيات القرن الـ19، رغم أن جودتها كانت محط شكوك في كثير من الأحيان.
عصر جديد ينتظر الناس على المنصة أمام قطار النوم الفاخر "Le Train Bleu" الذي أدارته شركة "Wagons Lits" من عام 1886 إلى عام 2003Credit: AFP/Getty Imagesربما كان البريطانيون رواد بهندسة السكك الحديدية في القرن التاسع عشر، لكن قصة عربة الطعام بدأت في أمريكا.
في عام 1865، دشّن المهندس والصناعي جورج بولمان عصرًا جديدًا من الراحة بعربات النوم "بولمان"، أو "عربات القصر"، ثم ابتكر فكرة "فندق على عجلات"، أطلق عليه اسم "the President" (الرئيس)، بعد عامين.
وكانت الأخيرة تعد أول عربة قطار تقدّم وجبات طعام على متنها، بما في ذلك الأصناف الإقليمية مثل حساء البامية (جومبو)، الذي أُعدّ في مطبخ صغير.
وبعد نجاح عربة "the President"، تبعتها أول عربة مخصصة فقط للطعام، "Delmonico" التي سُميت نسبة لمطعم في مدينة نيويورك الأمريكية. وبحلول سبعينيات القرن الـ19، كان يمكن العثور على عربات الطعام في قطارات النوم في جميع أنحاء أمريكا الشمالية.
لكن المهندس المدني ورجل الأعمال البلجيكي، جورج ناجلماكرز، هو الذي جلب الفكرة إلى أوروبا، وطوّر التجربة إلى آفاق جديدة.
ملصق يعود تاريخه إلى عام 1927 يعلن عن توفير خدمات شركة "Compagnie Internationale des Wagons-Lits'" بين لندن ومدينة فيشي في فرنساCredit: Fine Art Images/Heritage Images/Getty Imagesوقد رأى ناجلماكرز الإمكانات الهائلة لقطارات النوم الفاخرة في أوروبا، وشرع في تحويل السفر بالسكك الحديدية في القارة، من خلال تأسيس شركة "Compagnie Internationale des Wagons-Lits"، التي تأسست في عام 1872.
وبدأت الشركة بسرعة في إنتاج أفخم عربات الطعام في العالم، ليس فقط لقطارها الشهير أي قطار الشرق السريع (Orient Express) ولكن أيضًا لقطارات "Nord Express" (من باريس إلى سانت بطرسبرغ) و "Sud Express" (من باريس إلى لشبونة) وعشرات الخدمات الأخرى، حيث أصبحت الشركة تهيمن على السفر بالسكك الحديدية الفاخرة في أوروبا القارية بحلول مطلع القرن العشرين.
كما قامت الشركة بتشغيل فنادق فخمة على طول مساراتها، رغم أن تناول الطعام على متن القطار ظل محوريًا للجاذبية الرومانسية للسفر بالقطار.
وقدمت وجبات الطعام في أوقات محددة وأشرف عليها كبير النُدُل. ومن خدمة الطاولة إلى الديكور، جسدت العربات فن العيش الفرنسي، وفقًا لما ذكره آرثر ميتيتال، الذي قام مؤخرًا بتنظيم معرض حول تاريخ عربات الطعام الخاصة بشركة "Wagon-Lits" في مهرجان "Les Rencontres d'Arles" للتصوير الفوتوغرافي في فرنسا.
العصر الذهبي يقوم طاهي عربة الطعام بإعداد المعجنات على متن قطار الشرق السريع في عام 1951Credit: Bettmann Archive/Getty Imagesوتعتبر عشرينيات القرن العشرين "العصر الذهبي" للسفر بالسكك الحديدية في الغرب. ومع خروج أوروبا من ويلات الحرب العالمية الأولى، بدأ رجال الأعمال والمغامرون في الاستفادة من القطارات البخارية الأكثر سلاسة وهدوءًا وسرعة.
ومع وصول مسارات "Wagons-Lits" إلى شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حلّت العربات المعدنية الحديثة محل العربات الخشبية القديمة. وفي الوقت ذاته، كلّف فنانين ومصممين مشهورين بتزيين العربات، بما في ذلك العربات المخصصة لتناول الطعام والشبيهة بالقصور.
وبحلول نهاية العقد التالي، كانت الشركة تدير أكثر من 700 عربة طعام. ومع ذلك، ظهرت رفاهية أكبر بحلول ذلك الوقت، أي تناول الطعام في المقعد.
أصبحت الشطائر، مثل هذه التي بيعت على متن قطارات الفرنسية في عام 1986، من العروض الشائعة بشكل متزايد على خطوط السكك الحديدية الأوروبية منذ سبعينيات القرن العشرين.Credit: SNCF Archives and Documentation Department (SARDO)وتم تقديم عربة "Wagons-Lits" الجديدة لخدمات نهارية مختلفة. وبدلاً من الانتظار لتناول الغداء أو العشاء، تم تقديم الطعام للركاب مباشرة على مقاعد ضخمة مجنحة مع مساند رأس مريحة. وأثبتت العربات أنها "ثورية"، حسبما ذكره ميتيتال، ووصفها بأنها "أفخم عربات القطار التي أنشئت على الإطلاق".
الانحدار البطيءوبعد الحرب العالمية الثانية، خضعت طريقة عمل السكك الحديدية لتغييرات كبيرة. إذ أصبحت القطارات أسرع، ما قلل من الوقت الفائض الذي كان يتعين على المسافرين إهداره أثناء الرحلات، وأدى صعود السفر الجوي التجاري والارتفاع الهائل في ملكية السيارات الشخصية في جميع أنحاء أوروبا خلال الخمسينيات من القرن العشرين إلى حقيقة أن القطارات لم تعد تعتبر الطريقة الأكثر فخامة للسفر.
قطاراتنشر الثلاثاء، 15 أكتوبر / تشرين الأول 2024تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2024 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.المصدر: CNN Arabic
كلمات دلالية: قطارات بالسکک الحدیدیة السکک الحدیدیة القرن العشرین عربات الطعام الطعام فی على متن Getty Images فی عام
إقرأ أيضاً:
جابر الأنصاري.. منظر التوفيقية ومؤرخ الفكر العربي
إيهاب الملاح
أخبار ذات صلة تطوّر المجتمع العلمي عند العرب «أبوظبي للغة العربية» يعزّز استراتيجيته لدعم اللغة العربية وقطاع النشر في 2025عن 85 عاماً رحل عن عالمنا المفكر والتربوي وأستاذ دراسات الحضارة الإسلامية وعالم الاجتماع البحريني الكبير محمد جابر الأنصاري (1939-2024) أحد أكبر العقول الخليجية والعربية في القرن العشرين. مثَّل محمد جابر الأنصاري حالة ثقافية فريدة في تكوينها الثقافي والمعرفي، وفي خبراتها الأكاديمية والعملية والمؤسسية، فضلاً على الإسهام الوافر والنشط في إثراء السجال الفكري والمجتمعي الثقافي العربي، انطلاقاً من دائرة انتمائه الأولى (البحرين والخليج العربي)، مجاوزاً إياها إلى الإسهام في الدائرة العربية الأكبر والأوسع منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى احتجابه عن الأضواء في العقد الأخير.
يمكن القول إن فترة التأسيس والتكوين العلمي والمعرفي والثقافي، وصولاً إلى مرحلة التخصص العليا، قد شهدت تنوعاً وتداخلاً معرفياً قلما يتوافر لدارس أو باحث، فقد درس اللغة العربية وآدابها أولاً، ثم نال درجة الماجستير في الأدب الأندلسي، وأتصور أن هذه المرحلة هي التي جعلته يمتلك زمام اللغة قراءة وتعبيراً، ما مهد لإنتاجه الكتابي الغزير فيما بعد. ثم نال درجة الدكتوراه في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، وأظن أن هذه المرحلة هي التي أهلته وأعدته جيداً لقراءة النتاج العربي وفحصه وتحليله في مضمار الفكر والثقافة، وكانت الحصيلة وافرة من خلاله تأليفه سلسلة من الكتب التي أظن أنها من أهم المحاولات التي اجتهدت في تشخيص أزمة الواقع الثقافي العربي منذ النهضة وحتى زمن كتابة هذه المؤلفات..
وبموازاة هذا الجهد التحصيلي الكبير، درس أيضاً العلوم السياسية والقانون الدولي، وعلم الاجتماع، وبعض المكتسبات المنهجية الأخرى في العلوم الإنسانية، مما مثَّل حالة تكوينية ثقافية فريدة، في وقتها، وفي بيئته الفكرية والثقافية البحرينية والخليجية عموماً، ما منحه الحيوية والقدرة الكبيرة على ممارسة أدواره ومهامه التي أنيط به القيام بها في البحرين أو خارجها، وفي محيطه الخليجي، ومن ثم محيطه العربي الكبير.
****
يرى بعض المهتمين بمشروع الدكتور الأنصاري، أنه يمثل في ثقافته وسيرته العلمية والعملية جسراً واصلاً بين جيلين في البحرين، هما: جيل النهضة التعليمية، وجيل الاستقلال، ومع عمله «التربوي» و«الإداري»، فإن إسهامه الأساسي تمثل في كتاباته وأبحاثه التي بدأها منذ سبعينيات القرن الماضي، وقد طرح من خلالها مشروعاً فكرياً كبيراً وطموحاً، ينقسم إلى فرعين:
الأول، رسم خريطة لتيارات الفكر العربي الحديث والمعاصر تتضمن قراءة وتحليلاً ونقداً لهذه التيارات، هذه المحاولة تجسدت في كتبه التالية: «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي»، و«الفكر العربي وصراع الأضداد»، و«تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، ويمكن أن نضيف إليها كتابه «مساءلة الهزيمة». أما الثاني، فيتمثل في دراسة البيئة المجتمعية التحتية على مستوى الواقع، أي نقد الواقع السياسي والاجتماعي، وتجلى ذلك في أعماله «تكوين العرب السياسي»، «التأزم السياسي عند العرب»، و«العرب والسياسة: أين الخلل؟»..
ولحدود الحيز والمساحة سنقف سريعاً على نموذجٍ من هذه الكتابات، لأنها تمثل في نظر كاتب هذه السطور نموذجاً دالاً على طريقة الأنصاري في تناوله للقضايا الفكرية، وكيفية تحليلها ومعالجتها، كما تمثل أيضاً إضاءة على قراءاته الواسعة للنصوص، وطريقته في تحليلها وتفكيكها، وإعادة بنائها في سياق طرحه المنهجي أو رؤيته التحليلية الناقدة لهذه الفكرة أو تلك.
****
يعد جابر الأنصاري من أهم المفكرين العرب الذين أولوا فترة «الإحياء والنهضة» جهداً كبيراً في القراءة والنظر، ثم أصبح في مرحلة تالية من مشروعه هذا أحد أبرز المتحمسين والداعين للتوفيقية التي كتب عنها وشرح مقصوده منها في كتابيه المهمين «تحولات الفكر والسياسة»، «الفكر العربي وصراع الأضداد»..
في هذين الكتابين، وغيرهما من الكتابات والمقالات، يحلل الأنصاري بدأب البدايات الأولى لتشكل ما يمكن أن نسميه خريطة تيارات الفكر العربي الحديث التي يرى أنها لم تغادر دائرتين أساسيتين، هما «دائرة السلفية» التي تجمع كل نشاطات وجهود جماعة الأصوليين والمحافظين، والذين يرون ضرورة الاتكاء على تراث السلف والماضي وحده في أي محاولة للعيش والتمايز والبحث عن المستقبل.
والدائرة الثانية هي «دائرة العلمانية» التي يرى أنها اعتمدت على الأفكار المستوردة وحدها، وعلى منجزات الثقافة الغربية وحدها (وعلاقتنا بالغرب علاقة ملتبسة وشائكة وسيعرض لها تفصيلاً في كتاباته)، وأنها - فيما يرى - أدارت ظهرها لتراث الأمة ولخصوصيتها الدينية والتراثية والفكرية، ومن ثم أصبحت هذه الدائرة توصم بالتغريب.
وبين الدائرتين، ومن خلال الاشتباك الفكري والصراع السجالي بينهما نشأت الدائرة الثالثة، وهي (دائرة التوفيقية) التي أفاض الأنصاري في رسم ملامحها والاستشهاد عليها والتنظير لها ومتابعتها في تطورها التاريخي منذ بدأ «الإحياء التوفيقي» على يد الشيخ محمد عبده، وصولًا إلى ما يسميه توفيقية العقد الرابع من القرن العشرين (الثلاثينيات)، ثم المرحلة التالية من التوفيقية المعاصرة التي كان يمثلها هو بذاته بجهوده الفكرية وقراءاته التحليلية ومحاولاته أيضاً - ضمن تيار فكري كامل يبحث عن إحياء الخلدونية، وتطويرها والإفادة منها - في تأسيس الخلدونية الجديدة.
وفي ثنايا بحثه عن «الإحياء النهضوي العربي»، في مطلع العصر الحديث لاحظ الأنصاري أنه كان بالدرجة الأولى «إحياء شعرياً» أدبياً لتجاوز انحطاط الشعر العربي بالدرجة الأولى، والعودة به إلى صفائه الكلاسيكي في العصر العباسي، ولذلك، فإنه (أي الإحياء) لم يتأسس على النثر العقلي العربي كما في «المقدمة» لابن خلدون، وسواها من نصوص فكرية لمفكري الإسلام من الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن طفيل وابن حزم.. إلخ.
كانت هذه التفاتة مبكرة جداً وفارقة لغياب نصوص النثر العربي عن مشهد «الإحياء»، وأظن أن جل الدارسين والمفكرين ممن ركزوا جهدهم على هذه المنطقة قد تأثروا بدرجة أو أخرى بهذا الالتفات الدقيق للمرحوم جابر الأنصاري، ومن ملاحظته النافذة بأن لغتنا العربية، ظلت تعاني الغياب أو أنها ظلت تكرس بالأحرى تلك التراتبية التفاضلية في ميزان الفنون، حيث تسودها ثقافة الشعر باعتباره «ديوان العرب» - بكل الرومانسيات المثالية - بينما «النثر» هو لغة العصر، ولا بد من إعادة تأسيسها عليه أو أقلها الموازنة بين عاطفة الشعر وعقلانية النثر، إذا أريد لها أن تساير العصر وتتجاوز التحديات والمحاذير التي أصبحت تحيط بوجودها وبقائها، في الصميم.
وفي كتابه المهم (والذي لم ينل ما يستحق من قراءة وتأمل ومناقشة) «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها» يرى الدكتور الأنصاري أنه لا بديل عن استئناف مسيرة «النهضة الفكرية»، وذلك بإعطاء تلك (المحاولة/ المحاولات) النهضوية الرائدة حقها، والانطلاق منها دون إفراط أو تفريط. فلا شيء يبدأ من فراغ، ولا بد من تراكمٍ متصل لتحقيق الانعطاف النوعي، والثورة الأصيلة هي التي تعرف كيف تبني فوق ما سبق من بناء، أما الهدم فلن ينتج غير ما نحن فيه.
ولا يمكن أن تحقق الأمم أي نوع من الصحوة في واقعها، إلا إذا بدأت بصحوة معرفية عقلية تحليلية ونقدية، لذاتها أولاً ولماضيها وحاضرها ولحقائق عالمها وعصرها ثانياً. فلا صحوة بلا عقل، ولا صحوة بلا معرفة حقيقية للذات. ومنذ أن تيقظ العقل الإنساني ومقولة (اعرف نفسك) تتصدر اهتماماته وهي مقولة تنطبق على الأفراد انطباقها على الأمم، خاصة تلك التي تجد صعوبة في مواجهة حقائق ذاتها بموضوعية وشجاعة. ومع مطالع الألفية الثالثة، قدم الأنصاري واحدة من أهم القراءات المسحية لما جرى في قرن كامل يطلق عليه (القرن.. الماكر)، راصداً بعين عالم الاجتماع وذهنية ناقد الفكر ودقة دارس القانون المحطات الفكرية الكبرى والتحولات العالمية في مضمار السياسة والاجتماع والثقافة والفكر.