الحردلو (27) للقبرو واشنطون..يا حاج نوينا..!
تاريخ النشر: 15th, October 2024 GMT
وهكذا يدخل الشاعر "محمد طه القدّال" بالمسدار إلى بعث جديد..! هنا يدلف القدّال إلى (فن المديح) من باب العارف بهذا الضرب من الشعر الشعبي السوداني؛ لغته ومصطلحاته وطُرق نظمه وبنائيته من المفتتح (العصا) ثم توحيد الله والتثنية بالرسول وذكر المخايل والصفات من السيرة، ثم تناول المعجزات، ثم التنويه بالصحابة، ثم شيوم البرق والحنين لمواطن الحجاز والمشاعر.
يجاري القدّال مدحة نبوية شهيرة بنسق لحني بعينه..على غرار مدحة (عليّا طال الشوق) للشاعر "أحمد ود سعد":
عليا طال الشوق.. وحماني قط ما اروق
للقبرو شام وشروق .. يا حاج نوينا
يقول القدّال:
يا سيد جمال الكون..عاقل أنا وممنون
لي القبرو واشنطون ..يا حاج نوينا
ثم يمزجها القدّال بمقاطع لحنية من مدائح أخرى:
بي حق كل مغبون
صبحت ديارنا..مفضوحه وفاضحه
نهبوها وقعدو..بالسرقه الواضحه
وفساد الذمه.. منكوحه وناكحه
بالبنك الدولي..وبنوكاً شاطحه
والفقرا جنّو..وعقولهم سارحه
فيها الحرامي..الكان بالبارحه
كفتيرة شاهي..وكبايتاً نافحه
سارح في سوقو..ماعندو الكاتحه..!
اليوم في (بنزِي).. "إشارة إلى ماركة سيارة المارسيدس benz"
وعمارتاً ناطحه
لا تشيلو الفاتحه ..في الجته الناتحه
**
صليت بالسته..لي إمامنا والمأموم
في الجمعه الجامعه..للعافي والمحموم
ريس الجماعه..حاكم بلاد الروم
ريَس القضايا... قرقوشاً في "الخرطوم"
وحبيب الشعبِ.. والمجلس المختوم
في فمو طبله..فوق راسو طيره تحوم
وخطيب الأمه..كلماتو مِن (أم دلدوم)..
وحكيم افريقيا..لي حد بلاد باطوم..إلخ
**
ثم يأتي القدّال بمقطع يماثل أغنية التمتم الشعبية الشهيرة (الله ليا..الليمون سقايتو عليا..يا حاج أنا) والتي تشير إلى الطائرة الايطالية في الحرب العالمية الثانية التي ضربت أطراف العاصمة:
طياره جاتنا تحوم ..شايله القنابل كوم
دار تضرب الخرطوم ضربت حمار كلتوم.... ست اللبن
يقول القدّال:
طياره جاتنا تحوم..شايلا البشاتن كوم
كتلت حمار كلتوم
للقبرو واشنطون.. ياحاج نوينا
**
وفي التثنية ودمجها مع الصلاة يقول القدّال:
وثنيت بي شعبي..ما لاحت بارقه
وثنيت بي شعبي..وأحوالو الحارقه
وما حنّ قمري .. ما غنّت وارقه
عدد البِكبُن ..في السيل الدالقه
وعَد قولة لا لا .. الناس المارقه
وعدد البعرفو.. لي الطغمه السارقه
وكلاب الأمنِ .. هِتيفه منافقه
وعَد (كضب الرادي)..والبِمشي مسارقه
في الصفحه الأولى.. والنشره العابقه
بالخبر العدسي..والحجوه السابقه
وما أنّ جائع .. في البلد الحادقه
وارضين التبري..وانهارا الدافقه
وما خشا فارس..في سجونا الخارقه
لي (الجن الكلكي) .. لي حبل المشنقه
وعَد الكبداتن.. في ولادن طابقه
وما شمّت أماً .. لي ريح الفارقا
وعدد الحسراتِن..هامَن في الما اتلقا
وعدد الاحبابُن.. في قيودا مزنّقا
...إلخ
**
وينحو القدّال نحو مديح الصيحة (السرياني) في ما اسماه "أناشيد الزنادقة" وله من هذا نماذج عديدة في وصف الأحوال السياسية:
يا شيخ تُلوب أنزٍل كُبكُب أرمي الحُترُب في الميضَنه
ألبس خُضرُب داخل قُصرُب ألحس شُرُرب في الميضَنه
في البارده تعُب للحاره تسُب عجمان وعُرُب في الميضَنه
لي لدنيا تهُب شبرين وتُضُب في القبرٍ حُرُب في الميضنه
لحوارك كُب والقصر كلوب انهض وأسلُب في الميضنه
دقناً وشُنُب درويشنا يسوق تايوتـا تكُب في الميضَنه
يا شيخ تُلُب زين الزهُلُب الكانو تلوب... في الميضنه
ديل صبحو عُرُب .. أو أضحو جُنُب ...... في الميضَنه..
..إلخ
**
وعلى نهج الحردلو في المربوعات Quatrains (ينم) القدّال:
ود النوق دَبَر كورو العليهو يشفّق
وبقا يتباطا في خبّة مشيهو يلفّق
ان جاهو العلوق صيحة نفاقو تنفّق
اصبحو جِدوَه كل ما شافلو سَلقه يصفّق
**
وديك الجن رفيق همّي وعنايا وفنّي
سوّى طريقه في نهبو وصِبِح متهني
ما هماهو باسط ميّه (سكرة يني)
كل ما جاتو زفّه جديده فوكّا يغني
**
ويا سجم الرماد نط الحِيَط بالزانه
تفضَل خانه يلقا جنابو سيد الخانه
فارش دارو لي أسيادو بيت كرَخانه
غافَل ضبحة الفجري وجرى السلخانه
**
يا حِميَد أقيف شوف الخلوق محنانه
كفكف دمعتك والعبره فوت خنقانه
عسلك سال بحر..فوقو النحل ونّانه
يات من ضاق غرَف..جازاك دبابير دانه
.....إلخ
**
وللقدّال غناء على نمط (الجراري والمردوم):
قمر الحِلّه الضوّا ..القنديل شِن سوّا
ليشن يا ود حوّا .. طالق فينا العوّا..؟!
**
ناس الحٍلّه الغادي..سووا الجامع نادي
صوتك فوق الرادي..كلباً نابح صادي
**
ولاد الحِله الفوقنا سارقين نمّة (مربوقنا)
من مُرّك كسّع ضوقنا ومن خيرك ناشف سوقنا
لاحظ أن (المربوق) هو أحد أشكال النَظم في الشعر البدوي وعند الشاعر الحردلو..!
**
أولاد الحِلّه أم ناله لاعبين كارو وعتّاله
يا ساتر مِن ها الحاله الفال الخير ما فاله
**
نحن ولاد قِدّامي لاعبين عسكر وحرامي
ما فرَقَت يا ناس احمد مابتفرِق يا ناس سامي
لاعبين عسكر وحرامي..لا عبين عسكر وحرامي
...إلخ
**
يُذكّرك القدّال أيضاً بحكاية تشديد الحروف (Gemination)عند الحردلو من أجل إحكام الترنّم..؟! أنظر هنا إلى التشديد في روَي مربوع القدّال (عتيّد/ نشيّد/ يأيّد/ بليّد)..
عندما تقول عن شخص إنه (بليد) فهو وصف أخف من الوقع الثقيل لمفردة (بليّد) بالياء المشددة..!
قمنا تلاته؛ ود النوق وديك وعتيّد
وقلنا نكمّل الفرض العلينا نشيّد
مشينا عليك يا المحبوبه شوقنا يأيّد
بقينا ضهابا متل الزول ضرير وبليّد..
**
القدّال يمتح من المعين الشعبي في الريف وفي البادية بألعابها وأساطيرها وزرعها وضرعها ومحفوظاتها:
يا سمحاتنا هوْ لبلب
ويا قمحاتنا هو لبلب
ويا اللوز الفَتق في الوادي هو لبلب
ويا البحر الطمح مدادي هو لبلب
سألتك بالذي ركز الأرض معبد
وسوى الفاس عليها مقام
سألتك بى حشا الأُمّات ودمعاتنا
سألتك بى كبيداتن ودعواتنا
شليل وين راح..؟؟
يكون ضل الخريف فاتنا
شليل وين راح؟؟
**
وزى برق السِماك الجابها دغشيه
وزى زغروده البطن الكُباريه
مرق من شامة القمره
ومقدم بالعديل يبرا
تعالوا أبِشروا آجنيات
شليل ماراح.. شليل ما فات
شليل عند المسورو حِرِق..بقالو حصاد
شليل فوق التقانِت قام خدار وبلاد
**
شليل مسدار.. شليل مشوار
شليل هو ارِضْنا يا جنيات
شليل قايم نصايص الليل
يتمّم ليلو ورديه
حرازنا شليل..شليلنا دليب
شليلنا دليل على البلدات
بعد درب التبلديه
**
شليل ما راح شليل ما فات
شليلنا ونحنا همباته ومهاجريه
مزارع بات على عشقين؛
تراب بلدو...وسماح فوق بت مزارعيه
**
يقول "عادل بابكر" في مقال له بالانجليزية بعنوان (القدّال: نسخة ثورية للشعر البدوي) "سوف يتذكّره الناس بأنه أخذ الشعر البدوي إلى مستوىً جديد، واستطاع تأسيسه برصانة كوسيط لمخاطبة موضوعات وقضايا العصر الراهن. حيث تمكّن بسلاسة فائقة من شحن الشعر البدوي بالقضايا الوجودية مثل نضال الناس ضد الطغيان والقهر..والتعبير عن تطلعاتهم للديمقراطية والسلام"..!
**
في هذا السياق لا يمكن إغفال ركن ركين آخر من دهاقنة الشعر البدوي المعاصر هو (الفرجوني..أحمد عبدالله البنا)..فإبداعه في هذا الفن يلزم أهل (هذا الكار) ومحبيه بالوقوف عنده..! ولعل الفرجوني ينفرد من بين معاصريه بأن سليقته في الشعر البدوي ومفرداته وأخيلته ومقدرته الوصفية وحالته الشعورية تجعله وكأنه مناظرٌ للروّاد الأوائل..!
فهو لا يتصنّع البداوة ولا يتعمّل مفرداتها..خاصة وأن البادية هي محور حياته (معنوياً وفيزيقياً)..وحتى عندما ذهب الى الولايات المتحدة الأمريكية لم يطب له إلا أن يسكن في "بادية أريزونا"..! وعندما كان في مصر لم يكن يحب الإقامة في مدينة القاهرة وإنما خرج منها ليعيش في "بلبيس" بمحافظة الشرقية..!
لقد أصدر الفرجوني ديوانه "واحة الفرجوني" وفيه العجب العُجاب من مربوعاته ومساديره حتى أن صديقه الحميم والمرجع الوثيق "هاشم حبيب الله" يلاحظ أن الفرجوني ذهب على خلاف كل سابقيه من شعراء البادية المشاهير حيث بدأ مسداره بوصف صيف البطانة القائظ..بينما عادة المسدار أن يكون موضوعه واستهلاله "فصل الخريف"..!
ومن باب الطرافة نورد مربوعاً من مرثية الفرجوني لكلبه الأثير الذي دهسه "لوري":
ضربك لوري..عاد ينشَلْ يمين السايقو
وينزمّ النَفَس تصعَب عليهو طرايقو
زي ما تفّ زورَك قندراني يضايقو..
يتفّو تفيف مُلاح..ما يلقى زولاً يلايقو..!
مرتضى الغالي
murtadamore@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الشعر البدوی
إقرأ أيضاً:
لُغة لا تموت.. المعلم سما عيسى
تحتاج الحضارات القوية دوما إلى الاعتراف بجذور تنتسب إليها وتعود، إلى الرجوع إلى ثوابت فكرية وأخلاقية هي محل إجماع واجتماع، هي أصول وإن اختُلف معها، فإنها تظل أرض وفاق للأجيال اللاحقة وصُورا نموذجية تُقْتدى ويُهتدى بها، وهذا دأْبُ أغلب الثقافات التي يتناحرُ مثقفوها ويختلفون فـي التوجهات والأفكار والرؤى، ولكنهم يُؤمنون بمرجع ينتسبون إليه، ولم أجد فـي تجربتي الحياتية والثقافـية والعلمية شخصا متفقا على سعة صدره وقدرة إبداعه وحسن أخلاقه، شبيها بالشاعر الكاتب والمثقف سما عيسى الذي يؤم المختلف ويجمع المتفرق ولا تصدر عنه كلمة السوء، وأحسستُ باحترام أجيال المثقفـين له، وبتنزيله المنزلة التي يستحق وبتقدير كبير له، وبأخْذ فاعل برأيه، وهو الشخص البشوش، المحبوب، على ما يمنحه الشعر من علو ونرجسية هو فـي غنى عنهما. سما عيسى يحتل منزلة الأب بالنسبة إلى أجيال من الكُتاب العمانيين، وقسطا من كتاب الخليج، وهو أب جامع، لا يُفرقُ، ويُوزع شعورا بالطمأنينة والألفة أينما حل. التقيتُه أول مرة -إن لم تخني الذاكرة- فـي النادي الثقافـي، وكنت أقدم محاضرة هناك، فوجدت شخصا خلوقا أثنى بأُلفة على جهودي، وغمرني بعناية فائقة تحادثا عن الأدب العُماني، ثم التقيته فـي أكثر من مناسبة فـي محافل علمية متعددة، وهو الذي لا يكبر ولا يتكبر ولا يتعالى مثلما يفعل عامة المثقفـين فـي عالم العرب، وإنما تجده أمامك فـي أغلب المناسبات سائلا، مناقشا فـي سكون وهدوء، ومن نكد الدهر أن نظمنا ندوة صغرى حول أدب الرجل، وهو فاتح، مرجع، مؤسس لقصيدة النثر فـي عمان، ومن مؤسسي قصيدة النثر فـي الخليج، وله القصائد الحسان، وله الأثر المرجع فـي تدوين ثقافة كاد النسيان يأكلها، فغابت الندوة، ولم نتمكن من إخراجها فـي كتاب، كما فعلنا مع أغلب الكتاب الذين عقدنا ندوات اهتمت بتجاربهم الأدبية والفكرية، ولم تسع الجامعة من بعد ذلك فـي تأسيس هذا الحدث الهام لارتباطه بشخصية أدبية مؤسسة، ولها وجود فاعل فـي الحياة الأدبية فـي الخليج. عود. تمثل تجربة سما عيسى الأدبية نهجا واقتداء، وعمقُ تجربته الأدبية لا يُرد فحسب إلى أنه من مؤسسي قصيدة النثر، وأنه ممن قاد تجارب الحداثة فـي خليج العرب، بل إلى ما يكتسبه الرجل من علم دقيق بتاريخ المنطقة، وبعادات عُمان وبأساطيرها ومختلف التقاليد الثقافـية السائدة على اختلاف المناطق وتبدل أوجه المعتقدات والعادات والأساطير، وهي الأرضية الأساس التي ميزت طبْعه الأدبي ووسمت تجربته فـي الشعر والنثر. ما زلتُ على يقين، أن فـي عُمان آبارا من الحكايات، ومن الأساطير التي يتقصاها الشعراء، ما زالت هناك وفْرة من المعاني البكْر، التي تحتاج من يمتصها ويُحولها أدبا، هذه البئر من موروث العادات والتقاليد، ومن الأساطير المتراكمة، هي التي نهل منها سما عيسى، وعانق بها عوالم من التجريب ومن ابتكار المعاني. داخل الشعر فلامس جوْهره وأدرك منه تيهه وعالمه العصي، كما لو أنك تُروض حصانا جامحا، كما لو أنك تسترق من الرضيع بسمة، كما لو أنك تبحث عن عشق يائس، تلك هبةُ الشعر أن تُصارعه أبد الدهر ولا تقدر على جموحه أبدا، فهل لشاعر حق ألا يكون وجوديا وألا يعيش الاغتراب والموت والحب فـي شعره؟ وهل لشاعر ألا تكون تجربته مع اللغة صوفـية؟ يبحث عن المعنى فلا يجده إلا فـي عمق الإشارة بديلا عن صراحة العبارة؟ تلك كانت تجربة سما عيسى، وهو الشاعرُ الحق. لم أرد أن أخصص هذا المقال للحديث عن القيمة الأدبية لنصوص سما عيسى، ذلك أنها قيمة ثابتة وقد كتبت فـيها سابقا، كما لم تكن فـي نيتي أن أتعمق فـي الوقوف على خصائص هذه التجربة وعمقها وأثرها فـي الأدب العماني، بل كانت غايتي الأساس أن أتحدث عن ظاهرة لا نثيرها كثيرا فـيما نكتب، وهي قيمة الرجل ومنزلته فـي نفوس الكُتاب والأدباء، وسلوكه هو مع أجيال لاحقة ومع أشباهه وأمثاله من جيله. كتب سما عيسى من الشعر والنثر والمقالة والسينما ما يركزه منزلة المؤسس، وسلك فـي الحياة أبوة ورعاية تجعله المثال والقدوة والمعلم، وهو الذي أعطى الشعر وهجا وعانق عوالم جامعة بين عمق القدم وألق الحداثة، أعمال فـي الأدب امتدت من سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم، راجت وأحبها مريدوه وعشاق نظمه ونثره، منها: «للنساء اللواتي انتظرن طويلا(1974)» - «ماء لجسد الخرافة (1985)»- «نذير بفجيعة ما (1987)»- «مناحة على أرواح عابدات (1990)»- «منفى سلالات الليل (1999)»- «درب التبانة (2001)»- «ولقد نظرتك هالة من نور (2006)»- «أبواب أغلقتها الريح (2008)»- « دم العاشق (2011)»- «أغنية حب إلى ليلى فخرو (2012)»- «استيقظي أيتها الحديقة (2018)»- «كيف نضحك أمام القتلة؟ (2024)». هذا بعض من وفـير ما أنتجه سما عيسى، وكل كتاب حامل لمشروع فـي الكتابة ولرؤية يختص بها، ولا أحب أن تُختصر تجربةُ سما فـي التفاعل الصوفـي، ذلك أن الصوفـية عمق وليست سمة، بل هي رفض للمعنى وبعث لعميق الإدراك والإحساس والشعور بالوجد الذي يعسر أن يحمله المعنى، ودوما كان الشعر أعمق من ظاهر المعنى وأقدر على بعث الوعي بالمعاني قبل أن تحملها الألفاظ، وقد قيل إن تجربة التوحد بين الذاتين ظهرت فـي شعر المجنون قبل أن ينطق بها الحلاج، إذ قال «أنا ليلى». يأخذ سما عيسى من التصوف جوهر علاقته بالمعنى، ومن الثقافة الشعبية عمق وجود البشر، ولم أحب بحثا كما أحببتُ مداخلته (وإن لم أكن حاضرا) عن «أمهات الأرض» تأريخا لنساء عابدات، متصوفات، زاهدات، حاكمات، أهملهن التاريخ ووثق أحوالهن صاحب الأدب، ورصد أثرهن فـي الذاكرة الشعبية. نصوصُ سما عيسى لامست السينما أيضا، فكتب سيناريوات عديدة تحولت بفعل قُدرة عدد من المخرجين أفلاما لها وقْع وأثر: «الوردةُ الأخيرة» (1995) - «شجرة الحداد الخضراء» (فـيلم روائي طويل من إخراج حاتم الطائي) - «بنت غربي» (2006) - «الكارثة» (2006) - «الزهرة «(2008) - «ملائكة الصحراء» (2010) - «البهلاني شاعر بحجم الأرض والسماء». ليس لي أن أقف على هذه التجارب المتنوعة أجناسا وأشكالا وأنواعا، من الشعر إلى القصص إلى المقالة إلى السينما، وليس لي أن أفتت أعمال سما وأن أتدبر أثرها فـي الواقع الفني فـي عُمان وفـي الخليج، وإنما لي أن أقف على دور جلل لرجل له فعلُ البعْث والتأسيس، ووضع اللبنات الأولى، ولقد صدقت بدرية الوهيبية عندما وسمته بغوغول الشعر العماني الذي خرجت من معطفه أجيال من الأدباء، ما زال يقف فـي كل محفل ثقافـي ينصت إليهم باهتمام وعناية، هو الأب الحقيقي الذي يأسرُك بخُلقه وعميق ثقافته قبل أن تأخذك عوالمه الشعرية. لُغةُ سما عيسى هي لغة كبار لا يُمكن أن تموت، وهي المتجلية، المُعبأة بممكن المعاني، الماتحة من عمق التراث معتقداته وأساطيره وأوهامه التي يعيش بها الناس أزمنة مديدة، العابداتُ الفاعلاتُ القويات الزاهداتُ، عوالمُ من الشعر، الأمهاتُ الواجداتُ الباعثاتُ من عميق المعاني ما به شكلن مرجعيات مغروسة فـي النفوس الباقيات، الموتُ وعوالمه الساكنة والمتحركة، العشق على مختلف أوجهه، هي عناصر الحياة، وعناصر الشعر التي فطن سما إلى اللغة التي لا تموتُ إذ تعبر عن جوهر الوجود، جوهر الإنسان. |