سامح قاسم يكتب: شعراء المقاومة.. صوت لا ينكسر
تاريخ النشر: 13th, October 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
الشعر لم يكن يومًا بعيدًا عن قضايا الأمة، بل كان دائمًا أداة للتعبير عن معاناة الشعوب، وغضبهم، وأملهم في التحرر. وعلى مر التاريخ، كان الشعراء هم الناطقون باسم تلك الشعوب، يحولون الألم إلى كلمات وأبيات تُلهب المشاعر، وتدفع الناس إلى النهضة والتقدم والتحرك. في العصر الحديث، ومع ظهور حركات التحرر الوطنية في مختلف الدول العربية، برز نوع جديد من الشعر، وهو شعر المقاومة.
شعر المقاومة ليس مجرد وسيلة لتوثيق الأحداث التاريخية أو الصراعات السياسية، بل هو سلاح ثقافي واجتماعي يهدف إلى التأثير على الوجدان الجمعي وتحفيز الجماهير. من الجزائر إلى فلسطين، ومن العراق إلى سوريا ولبنان، كان الشعراء العرب في قلب كل معركة، يساهمون بأقلامهم كما يساهم المحاربون بسلاحهم.
يعتبر محمود درويش (1941-2008) واحدًا من أهم شعراء المقاومة في العصر الحديث، ليس فقط على مستوى فلسطين، بل على مستوى العالم العربي بأسره. ولد درويش في قرية البروة في الجليل، وعايش النكبة الفلسطينية عام 1948 حينما تم تهجير عائلته، هذه التجربة المأساوية شكلت وجدانه وأثرت بشكل كبير على مجمل أعماله الشعرية.
كان شعر درويش بمثابة السلاح الذي رفعه في وجه الاحتلال الإسرائيلي، فقد استطاع عبر كلماته أن يصور معاناة الشعب الفلسطيني وآلامهم، كما نجح في تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية عالمية.
في قصيدته "عابرون في كلام عابر"، يقول درويش:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء.
هذه القصيدة تعكس حالة المقاومة الثابتة التي يرفض فيها الفلسطينيون فكرة الرحيل أو التهجير مرة أخرى، وهي تعبير واضح عن العزيمة والإصرار على البقاء في مواجهة القوة العسكرية الإسرائيلية. من خلال أشعاره، قدم درويش الفلسطيني كرمز عالمي للمقاومة والصمود، وتحولت قصائده إلى نشيد للمقاومة على مدار العقود.
في نفس السياق الفلسطيني، يبرز اسم سميح القاسم (1939-2014) كواحد من أبرز شعراء المقاومة. ولد القاسم في قرية الرامة في الجليل الأعلى، وبدأ في كتابة الشعر منذ نعومة أظافره، إلا أن شعره اكتسب طابعًا نضاليًا حادًا مع تصاعد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
قصيدته الشهيرة "تقدموا" تعكس رفض القاسم للخضوع والخنوع أمام الاحتلال:
تقدموا
تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل أرض تحتكم جهنم
تقدموا
يموت منا الطفل والشيخ
ولا يستسلم.
إن تصوير القاسم للمقاومة يعبر عن الروح الجياشة للشعب الفلسطيني، الذي يرفض الرضوخ مهما كانت الظروف، ويرسم صورة للمقاومة التي تمتد من جيل إلى جيل.
إذا كان محمود درويش هو شاعر المقاومة الفلسطينية، فإن مفدي زكريا (1908-1977) هو بلا شك شاعر الثورة الجزائرية. خلال حرب الاستقلال الجزائرية (1954-1962) ضد الاستعمار الفرنسي، كان شعر زكريا بمثابة المرآة التي عكست معاناة الشعب الجزائري وأحلامه بالحرية.
قصيدته "إلى أمي الجزائر" تُعتبر واحدة من أكثر القصائد تأثيرًا في تاريخ الشعر الثوري العربي. في هذه القصيدة، يمزج زكريا بين الألم الذي تعيشه الجزائر تحت وطأة الاستعمار وبين الأمل في الحرية والاستقلال:
أمي الجزائر لا تبكي
فدموعك طهر سماوي
وأنت من نور الشمس صُغت
ومن أزهار الأمل صنعت
وأنت الأمل الثائر في قلبي.
هذه الأبيات تعكس الألم الذي كانت تعيشه الجزائر خلال فترة الاستعمار، لكنها في الوقت نفسه تحمل رسالة واضحة بالتمسك بالأمل والمقاومة حتى تحقيق النصر.
في العراق، برز اسم مظفر النواب (1934-2022) كواحد من أبرز شعراء المقاومة والغضب. عُرف النواب بأسلوبه الجريء والصريح في مهاجمة الأنظمة الاستبدادية والقوى الاستعمارية، سواء في العراق أو على مستوى الوطن العربي. قصائده لم تكن مجرد تعبير عن المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي، بل كانت تحمل في طياتها نقدًا لاذعًا للأنظمة العربية المتواطئة مع الاحتلال.
قصيدته "القدس عروس عروبتكم" هي واحدة من أشهر القصائد التي كتبها النواب، وفيها يهاجم الحكام العرب على تقاعسهم في الدفاع عن القدس وفلسطين:
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب
لصرخات بكارتها.
هذه الأبيات تحمل في طياتها غضبًا شديدًا من حالة الخذلان العربي، وتجسد حالة الانكسار والخذلان التي يشعر بها المواطن العربي تجاه حكوماته التي لم تقم بما يكفي للدفاع عن قضايا الأمة.
على الرغم من أن نزار قباني (1923-1998) عُرف بشعر الحب والغزل، إلا أنه تحول إلى أحد أبرز أصوات المقاومة بعد هزيمة 1967. في أعقاب النكسة، أصدر قباني قصيدته الشهيرة "هوامش على دفتر النكسة"، التي حملت في طياتها نقدًا حادًا للأنظمة العربية وللواقع العربي المهزوم.
في هذه القصيدة، يعبر قباني عن خيبة أمل الأمة العربية بعد النكسة، ويعري أسباب الهزيمة بأسلوب شعري حاد ومباشر:
إذا خسرنا الحرب
لا غرابة
لأننا ندخلها
بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة.
تجسد هذه الأبيات الاستياء العميق من الفشل العربي في مواجهة الاحتلال، وتدعو إلى التفكير الجاد في الأسباب الحقيقية لهذا الفشل، بدلًا من الاستمرار في التصريحات الجوفاء التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
في لبنان، كان شعر المقاومة متجذرًا في الصراع المستمر ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد كل أشكال الاستعمار والاعتداءات. يعد حسن عبدالله وخليل حاوي من أبرز الأصوات الشعرية التي شكلت وجهًا أدبيًا للمقاومة اللبنانية.
ولد حسن عبدالله في جنوب لبنان عام 1943، وكبر في بيئة عانت من احتلال إسرائيل لجنوب البلاد. كانت معاناته الشخصية، ومعاناة أهله وجيرانه في الجنوب، مصدر إلهام كبير له في قصائده. كتب عن الأرض الممزقة بالحرب والأمل الذي ينبثق من بين الأنقاض.
في إحدى قصائده الشهيرة التي تعبر عن المقاومة، يقول حسن عبدالله:
"نحن الأحياء على جناح الحريق،
نركض فوق الأرض السوداء
نحمل أقدارنا على أكتافنا،
لا نطلب إلا السماء كي تعانق جروحنا."
هذه الكلمات تكشف عن المقاومة اللبنانية بوصفها فعلًا جماعيًا منبثقًا من صلب الشعب اللبناني الجنوبي، حيث الأرض هي مصدر الهوية والانتماء، والاحتلال هو الجرح الذي لن يشفى إلا بالتحرر.
أما خليل حاوي (1919-1982)، فهو شاعر لبناني من البقاع، اشتهر بتأملاته الفلسفية حول الحياة والموت، النهوض والسقوط، المقاومة والانبعاث. حاوي، الذي عاش خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، انتحر بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في عام 1982، كنوع من الاحتجاج على الاحتلال والدمار.
قصيدته "الجسر"، التي كتبها قبل رحيله بسنوات، تعكس رؤيته المتشائمة للحياة تحت وطأة الاحتلال والخراب، لكنها أيضًا تحمل في طياتها بعدًا مقاومًا يتمثل في الرغبة بالتغيير والنهضة. يقول فيها:
"أعبروا الجسر إن استطعتم،
أو ارتموا في اليمّ إن شئتم،
إن خلف الجسر يبزغ نور
بعد ظلام الوجوه".
هذه القصيدة تمثل تجسيدًا فلسفيًا لشاعر يرى أن المقاومة هي الجسر بين الظلام والنور، بين الموت والحياة. على الرغم من سوداوية الرؤية، إلا أنها تؤكد أن الانبعاث ممكن حتى بعد الدمار.
لم يكن محمود درويش شاعرًا فلسطينيًا فقط، بل كان أيضًا صوتًا للمقاومة في لبنان، خصوصًا خلال الحروب مع إسرائيل. قصيدته "بيروت"، التي كتبها بعد قصف العاصمة اللبنانية، كانت تجسيدًا للمدينة كرمز للصمود والمقاومة.
في قصيدته "بيروت" يقول درويش:
"بيروت، يدًا ممدودة من جدار إلى جدار
وذاكرة منسية في طيات الكتب.
بيروت، عيون الأمهات في الطرقات،
تصرخ: قد هجرنا السلاح ولم نهجر الحلم."
بيروت في شعر درويش تجسد مقاومة لبنان وشعبه، حيث الأمهات اللاتي يواصلن النضال، وحيث الحلم بالحرية والانتصار ما زال حيًا.
لم يكن الشعراء وحدهم من عبّروا عن المقاومة في لبنان، بل أيضًا المفكرين والأدباء الذين أدركوا أن المقاومة لا تأتي فقط بالسلاح، بل بالكلمة والفكر.
أما أدونيس، الذي يعد واحدًا من أعظم الشعراء والمفكرين في العالم العربي، فقد تناول في شعره وفكره مفهوم المقاومة بطريقة فلسفية عميقة. أدونيس، الذي تعرض لانتقادات بسبب مواقفه السياسية، قدم في شعره مقاومة فكرية ضد الظلم والفساد والاستبداد.
يقول أدونيس في قصيدته "مفاتيح الرماد":
"ليس الوطن فكرة مؤجلة،
بل هو رماد ونار،
والمقاومة تبدأ من العقل،
ثم تنبعث في الساحة."
من خلال هذه الأبيات، يدعو أدونيس إلى نوع من المقاومة التي تتجاوز الصراع العسكري، لتشمل الفكر والثقافة، ويعتبر أن المقاومة تبدأ من تحرير العقل من قيود الاستبداد والجهل.
في مصر، يعتبر أمل دنقل (1940-1983) واحدًا من أهم شعراء المقاومة، وخاصة في مرحلة ما بعد نكسة 1967. في هذه الفترة، كان دنقل يعبر عن حالة الإحباط والغضب التي سيطرت على المجتمع المصري والعربي بسبب الهزيمة. ومع ذلك، كانت قصائده دائمًا تحمل بين طياتها دعوة صريحة لرفض الاستسلام.
قصيدته الشهيرة "لا تصالح"، التي كتبها بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، تعبر عن موقفه الرافض لأي نوع من التطبيع مع العدو:
"لا تصالح
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى."
هذه الأبيات تعكس موقف دنقل الصارم من الخضوع والتفاوض مع العدو، وهي تعبير عن الرفض المطلق للاستسلام لأي ضغوطات دولية أو محاولات لإضعاف المقاومة العربية.
أما فاروق جويدة، فهو الآخر استطاع أن يجمع بين الحب والمقاومة في شعره. قصائده الوطنية تمثل دعوة للأمل والمقاومة، وقد كتب الكثير عن فلسطين والقدس.
في قصيدته "القدس"، يقول جويدة:
"القدس عروس تنتظر،
بين جدارين… والقمر،
أسير بين شهيد وشهيد،
أبحث عن حلمي العنيد."
في هذه الأبيات، يعبر جويدة عن الحلم العربي بالتحرر، وعن القدس كرمز للعزة والكرامة.
شعر المقاومة في الوطن العربي، سواء في فلسطين أو لبنان أو الجزائر أو مصر، هو تجسيد لروح الصمود والإصرار على الحرية. إن هذا النوع من الشعر لا يقتصر على وصف المعارك أو الحروب، بل هو تعبير عن إرادة الشعوب في التحرر من الاحتلال والظلم.
في جميع أنحاء العالم العربي، استمر الشعراء في توثيق نضالات شعوبهم ضد القوى الاستعمارية والأنظمة القمعية. من محمود درويش في فلسطين إلى أمل دنقل في مصر، ومن مفدي زكريا في الجزائر إلى خليل حاوي في لبنان، كانت الكلمة دائمًا أقوى من السلاح في بعض الأحيان، واستطاعت أن تبقى صامدة حتى في أحلك الظروف.
إن شعر المقاومة هو ذاكرة الشعوب التي تأبى النسيان، وهو الأمل الذي يتجدد في كل جيل، حتى يحقق العرب حلمهم بالتحرر والانتصار.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: شعر المقاومة هذه القصیدة المقاومة فی عن المقاومة محمود درویش التی کتبها المقاومة ا فی طیاتها فی قصیدته فی لبنان تعبیر عن فی هذه فی شعر
إقرأ أيضاً:
برعاية السيد ذي يزن «البخّارة» تحصد جائزة مهرجان المسرح العربي.. وإشادة بالعروض التي «وظفت التكنولوجيات والرقمنة»
حصلت مسرحية " البخّارة" لـ"أوبرا تونس، قطب المسرح" على جائزة صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، وذلك في حفل ختام مهرجان المسرح العربي الخامس عشر، تحت رعاية صاحب السمو السيد ذي يزن بن طارق آل سعيد وزير الثقافة والرياضة والشباب، بتنظيم من الهيئة العربية للمسرح، ووزارة الثقافة والرياضة والشباب والجمعية العمانية للمسرح.
وكان العرض الفائز من تأليف: صادق الطرابلسي وإلياس الرابحي، وإخراج صادق الطرابلسي. وتقدم المسرحية حكاية اجتماعية عميقة تعكس واقع الانسان المعاصر، في مواجهة آثار التلوث البيئي والاجتماعي، مستحضرة تفاصيل الحياة اليومية في بيئة خانقة تتلاشى فيها الأحلام، وتتصاعد فيها الصراعات.
وأعلنت الهيئة العربية للمسرح أن "القاهرة" ستكون هي الوجهة القادمة للمهرجان الذي يجوب أقطار المنطقة العربية، وكانت مسقط هذا العام هي حاضنة المسرح العربي، بعروض بلغت 15 عرضا في المسار الأول، و 4 عروض في المسار الثاني، إضافة إلى ندوات وورش عمل متنوعة.
مسرح متجدد
وألقى الفنان اللبناني رفيق علي أحمد رئيس لجنة التحكيم بيانا أشاد فيه بالمناخ الحر والإيجابي الذي وفرته الهيئة لعمل اللجنة التي تحمل على عاتقها تحقيق أهداف المهرجان في مسرح جديد ومتجدد، مسرح محترف، مسرح يحقق حلمنا جميعاً في مسرح عضوي ومشتبك مع قضايا أمتنا والإنسانية جمعاء".
وحول العروض قال رئيس لجنة التحكيم: "قدمت العروض جميعاً رؤى جديدة وجماليات تنحو نحو توظيف التكنولوجيات الجديدة والرقمنة، كما شهد المهرجان وجود ستة عروض من أصل خمسة عشر عرضاً في المهرجان بتوقيع ست مبدعات عربيات ومن أجيال مختلفة، وطرحت أعمالهن قضايا معاصرة تعيشها مجتمعاتنا وتلمست مكامن الأمل والألم، وتحيي اللجنة هذه الجهود الإبداعية الفارقة".
المسرحيات الختامية
وقدمت فرقة شادن للرقص المعاصر العرض قبل الأخير من عروض المهرجان ضمن العروض المتنافسة على جائزة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في مهرجان المسرح العربي الخامس عشر، وهو من إخراج شادن أبو العسل.
يطرح العرض قوة الجسد كأداة تعبير ومقاومة، مستعرضاً صراعاً إنسانياً أزلياً بين القمع والطموح نحو الحرية. وتميز العرض بشخصياته الرمزية الأربعة التي حملت أدوارها معاني عميقة ضمن سياق رمزي مليء بالتأويل.
الناقد جمال قرمي في قراءته للعرض المسرحية الفلسطيني "ريش"، تناول العديد من النقاط التي تبرز عمق العرض وحساسيته الفنية، مشيراً إلى أن رؤيته كممارس للعرض المسرحي جعلته يحب هذا العمل. واصفاً العرض بأنه يمثل"سلطة الصمت" في مواجهة الكلمة، حيث يرى في ذلك إيديولوجية الصمت الذي يعكس ما نعيشه في حياتنا اليومية. فالجسد في هذا العرض يتخذ مكانة رمزية، فيما الكلمات تأخذ دوراً ثانوياً في المجتمعات التي تعاني من القمع، ليصبح الجسد مساحة للمقاومة وأداة يستخدمها الفنان للتعبير عن قضايا وجودية وإنسانية.
"ريش" في نظر قرمي هو صرخة الروح المستلبة، حيث أن الجسد يتحول إلى سلاح للحرية في مواجهة التسلط وقيوده. ويعكس العرض مستويات عالية من الالتزام، ويعبر عن الواقع من خلال مزج الحركة المسرحية مع الرقص. كما أن العرض يعري مفهوم التحرر ويضيء قدرة الإنسان على المقاومة والتمرد.
وعن شخصية المرأة التي أدتها ماشا سمعان رأى قرمي أنهل تظهر في العرض كتجسيد للتمرد والتحرر، فتفتح آفاقاً جديدة وتتنقل عبر الألوان الأزرق والوردي، ليعتلي هيكلها الأنثوي في دور ذكوري، واختزال السلطة المطلقة التي تسيطر على المستلبين. بينما تظهر المرأة الدمية التي أدتها هيا خورية في حالة من الامتثال، حتى تصل إلى حالة التماهي الكامل مع القوى المسيطرة.
أما شخصية الرجل المستلب التي أداها عنان أبو جابر، فيعكس تفاعله مع الدمية تلك الحالة المشتركة بين المستلبين والمستبدين حسب قرمي. وهي تأتي كجزء من الصورة الرمزية التي يعكسها العرض، حيث تسلط الضوء على العلاقة بين الحرية والقبول بالواقع المفروض.
وعلى صعيد السينوغرافيا، يرى قرمي أن هذه العنصر يمثل نقطة محورية لدعم الحكاية وتعميق التأثير العاطفي، حيث يكون الفضاء المسرحي بين القيود والانفتاح، متقشفاً ومفتوحاً، وتسيطر عليه البساطة التي تمنح المشاهد الفرصة للتأمل. التصميم شبه الخالي من العناصر الداخلية يعكس السجن الداخلي الذي تعيشه الشخصيات.
أما فيما يخص الإضاءة، فهي تمثل لغة بصرية ذات طبقات متعددة، إذ يسيطر اللون الأزرق على مشاهد السلطة، بينما يشير اللون الأحمر إلى التحول والصراع والغضب. كما أن الإضاءة الخافتة والهادفة تُستخدم لعزل الشخصيات وتركيز الانتباه على التفاصيل الحركية.
أما الديكور، فيتمحور حول الكرسي الذي يصبح رمزاً للقيد والاستلاب كما يشير قرمي، فيما يضفي المرسى المرتفع هيمنة على العرض. بينما يمثل عنصر الريش رمزية للهشاشة، مما يضيف عمقاً آخر لفهم الشخصية والصراع الداخلي.
ولعبت الأزياء دوراً هاماً في تحديد هويات الشخصيات وديناميكيات علاقاتهم، لتكتمل بذلك رمزية العرض الذي يبحث عن كينونة الإنسان الحر. ويختتم قرمي بالإشارة إلى أن العرض يمثل نوعاً من الرقص المعاصر الذي يفتح الأفق لأسئلة التحرر والوجود.
إجمالاً، يعتبر جمال قرمي أن "ريش" هو عرض مسرحي يبحث في جوهر الإنسان وحريته، ويعكس بعمق الصراع الداخلي الذي يعيشه الأفراد في مجتمعاتهم القمعية، وتظهر فيه رمزية قوية ومؤثرة في جميع جوانب العرض.
وكان موعد ختام العروض المسرحية للمهرجان بعرض دولة الكويت الذي حمل عنوان "غصة عبور"، تأليف تغريد الداود، وإخراج محمد الأنصاري، وتدور أحداثها حول مجموعة من الأشخاص المغتربين العالقين على جسر مشاة هش رابط بين منفذين، لكل شخصية منهم تاريخ عميق يربطه بهذا الجسر، فتوقفوا عليه كالغصة التي تقف في سقف الحلق.
رسائل كثيرة بعثها العرض المسرحي، حوارات مشبعة بالوجع، وأخرى مليئة بالكوميديا السوداء، وشخوص تقمصوا الأدوار بتمكن ومثالية، وأفكار متداخلة تغذي العرض وتبهر الجمهور، وجال السؤال الذي تردد كثيرا على خشبة المسرح، وربما في أذهان الجمهور، ما هو الوطن؟ وكيف يعيش الإنسان في دوامة البحث عن الوطن، أن يجرد شاعر من كلماته ويسلب حبر قلمه النابض بحب الوطن، فيتبدل من شخص إلى آخر، طاويا غياهب ذاته في دوامة الغربة، تلك التي فرقت بين رجل وأسرته، فكان لزاما عليه أن يبقى مغتربا لما يصل إلى 30 عاما ليؤمن حياة كريمة لأبنائه القاطنين في الوطن، وهو المحروم من العيش فيه، تماما كحرمان أم أنجبت طفلها في الغربة بعد أن هجرها الرجل الذي حاربت أهلها لتكون برفقته، وبقيت عالقة تتجرع مرارة الألم والحرمان، فلا هي لوطنها تعود، ولا هي تملك لطفلها وطن.
الغربة بمفهومها الواضح والصريح، والمبطن الخفي هي أبرز ما كانت المسرحية تتناوله بعمق فكري، وكتابة مسرحية متمكنة، ولم يكن الوطن إلا شعورا عميقا بالمكان أو الأشخاص أو العاطفة، فهو بكل أشكاله ومعانيه المختلفة بين شخص وآخر ما هو إلا شعور صادق بالأمان والاطمئنان والاستقرار، الشعور أنك في حماه تجد كل التفاصيل التي تؤهل لعيش الحياة المطمئنة السعيدة.
وتميز عرض "غصة عبور" باختيار للأزياء، وألوانها ذو الدلالات المرتبطة بكل شخصية، كما كان عمل الديكور بكل تفاصيله ومعانيه، وإمكانية تحريك "الجسر" بين الحين والآخر بما يتواءم وحوارات الأداء، وبطبيعة الحال كانت الإضاءة متماشية مع كل مشهد.
أدّى بطولة المسرحية كلا من: الفنانة سماح، والفنان عبدالله التركماني، والفنان عبدالعزيز بهبهاني، والفنان عامر خليل أبو كبير، والفنان أحمد صايد الرشيدي، وآخرين.