أقدّم بين يدي أبنائي وبناتي من طلبة الدراسات الإسلامية بعض القواعد التي قد تفيدهم في تدبير الاختلاف...  صغتها على هيئة متون دونَ تفصيل ولا تدليل ولا تذييل، استفدتها من مراجعة أخطائي، وتوجيهات مشايخي، وتقييم تجربتي، نسأل الله اللَّطيف الخبير أن ينفعكم ويرفعكم بها،  ومرحبا بأي إضافة أو نقد أو سؤال

1 ـ الاختلاف سُنة إلهية، وتنوُّع الآراء دليلٌ على رحمة الله تعالى للعالمين، وهدايته للخلق أجمعين، إذ فيه توسعة وتيسير على الناس، وتثوير لعقول المجتهدين والباحثين، وهو يضفي على الحياة المتعة والجمال والمرونة، فلو شاء الله لجمع النَّاس على رأي واحد، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير .

  فلا يجتهد في توحيد الآراء والأحكام الظنية، ومصادرة الاختلاف، إلا غِرٌّ وإن شاب رأسه، أو جاهل بسنن التَّشريع وقوانين الكون وطبيعة اللغة والدِّين والحياة .

2 ـ مهما ترسّخت قناعتك بآرائك؛ فلا تعدو أن تكون مجرَّد اجتهادات في قضايا ظنية، قمت بها أنت، أو قام بها من تُقلِّده وتثق فيه، وإن لم تصرِّح بنسبتها إليه!  ولو كان الأمر قطعيَّاً واضحاً لما تعدَّدت فيه الفهوم، فلتغْضُض من صوتك، ولتقصِد في مشيك، فقد تكون قواطع اليوم ظنونَ الغد، وكم من جازم بالأمس نادم اليوم. فالقطع بامتلاك الحقيقة، واليقين بصواب الرأي، دليل على قلّة بضاعتك، وشاهد على  ضيق صدرك، وقديما قيل: "تَعلّمْ الخلافَ يتسعْ صدرُك" وكلما ازداد المرء علما اتسعت دائرة ما يجهل، وأعاد النظرَ فيما تَعلّم، وكم من قضايا يجزم المرء بصوابها وصحَّتها، ثمَّ راجع فيها نفسه، وتبدَّل فيها رأيه.

3 ـ مصادرتك لآراء الآخرين، واتّهامك لنيَّاتهم أو قدرتهم على الفهم، هي رعونة أو ضيق أفق، أو خمائر كِبر، سرعان ما تنكشف أو تتكشف لك بمرور الزمن ـ إن  كنت على خُلق حسن ـ أمَّا إن كنت مغروراً حسوداً حقوداً، فلن يزيدك مرور الوقت إلا تعصباً وانغلاقاً وتحزُّباً، وكلَّما ازدادت معارفك غُصت أكثر في قاع الأهواء، وردِّ الآراء، وبغض الأقران .

4 ـ المذاهب في العقائد والفقه والسلوك، هي طرائق أهل العلم في تفسير واستنباط الأحكام الظنيَّة، وهي ثروة عظيمة ومستودع خبرات، وهي أشبه بمجامعِ فقهٍ عُقدت عبر قرون من الزمن،  أمَّا محكمات وثوابت الشريعة فليست مذهباً لأحد!  فلا يصحُّ أن تقول: وجوب الصلاة مذهب أبي حنيفة، وحرمة الخمر مذهب مالك،...!!  إنَّما المذهب:  "طريقة ومنهج" للنظر في النص،  واستنباط الأحكام "الظنية" منه.

5 ـ مطلوب من العاميِّ أن لا يتكلف في البحث عن الأحكام الشرعية، ولا يكثر الجدل وتكرار السؤال، بل يعمل بما أفتاه به المتخصِّصون، إذا وثق في علمهم ودينهم، واطمئن قلبُه إلى منطقهم في الفتوى والإرشاد. فحاشا لله أن يأمر عبده بسؤال أهل العلم ثمَّ يؤاخذه بلوازم السؤال، صواباً كان أم خطئاً، ويطلب من المفتي تيسير الجواب وتذليل الخطاب، وذكر مُدرَك الدليل، وعلته وحكمته، وربطه بأصله العام ومقصده الكلي، ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

استقر سواد الأمَّة الإسلاميَّة الأعظم على ثلاثة مذاهب أساسية في فهم نصوص العقائد وأحكامها؛ وهي مذهب الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث، وكل أتباع هذه المذاهب هم أهل السنة دون تفرقة ومفاضلة، فالحق المطلق والحقيقة الكاملة، ليست محصورة في واحد من هذه المذاهب، وشأن هذه المذاهب كشأن مذاهب الفقه6 ـ مما يخفِّف من غلواء الاختلاف، معرفةُ مقاصد الخالق ـ سبحانه ـ من اختلافنا، والحكمة من ذلك، والأسباب العلمية الموضوعية لهذا الاختلاف، ثمَّ إحسان الظنِّ بالمخالف وحمل كلامه على أحسن المحامل والظنون، وأن نَحْذَر من " التدبير الهدَّام" للاختلاف، ونُحذّر من الهدّامين، بخاصة الحمقى المغفلين، ولو حسُنت نياتهم، لأنَّ النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد، ومهما بدا لك من صواب فلا تقطع حبال المراجعة، فقد كان إمامنا مالك رضي الله عنه يقول فيما لا نص فيه: أكره واستحسن، ويقتبس قول الحق سبحانه: "إنْ نظنُّ إلا ظنًّا، وما نحن بمستيقنين".

7 ـ لا تجعل مشروعيَّة الاختلاف تصادر أولوية الاتفاق، فالأصل هو تصغير وتقليل الاختلاف، وليس تعمده وتسويقه وتضخيمه، فإن كان ولابد، فلا تجعل من الاختلاف "مشروعاً" لهدم الآخر، وتشويهه، وانتقاصه في المجالس، فإنَّ هذا يحرم الناس من رحمة التنوع وجمال آثاره، ويحُول بينهم وبين علوم من خالفْتَهُ،... وهو على كلّ حال من باطن الإثم، الّذي نهى الله تعالى عنه .

8 ـ إياك والانتقال بين  أقوال المختلفين دون ضابط معتبر إلا اتباع الأهواء، أو طلب التخلص من مشقَّة التكليف،... بل عليك أن تعمل وتلتزم بما تَرجّحَ صوابُه، لأنَّ العمل بالراجح واجبٌ لا راجح،  ويستحسن الأخذ بمذهب أهل الإقليم وتجنب مخالفة الاختيارات المستقرة، ولكن لا يلزم من ذلك التمسُّك بمذهب واحد من مذاهب أهل العلم، فالعاميُّ لامذهبَ له، بل مذهبه مذهب من أفتاه،... ويجوز للمسلم الأخذ بالرخصة إن جاءته من عالم ثقة. وقديماً قيل: إنما العلم الرخصة من ثقة، والشدةُ يجيدها كلُّ أحد".

9 ـ كلُّ مجالات التَّشريع من عقيدة وعبادة ومعاملات وآداب..، لها مُدركات قطعية وأخرى ظنيَّة، وتلك المجالات الآنفة لها أصولٌ ثابتة، وفروعٌ مرنة، لابدَّ من تمييزها ومعرفة الفروق بينها، وقد استقر سواد الأمَّة الإسلاميَّة الأعظم على ثلاثة مذاهب أساسية في فهم نصوص العقائد وأحكامها؛ وهي مذهب الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث، وكل أتباع هذه المذاهب هم أهل السنة دون تفرقة ومفاضلة، فالحق المطلق والحقيقة الكاملة، ليست محصورة في واحد من هذه المذاهب، وشأن هذه المذاهب كشأن مذاهب الفقه؛

وكلُهم مِن رســول الله مُلتمسٌ
غَرْفا من البحر أو رَشْفا من الدِّيم

يتفق أئمتها في المحكمات التي (ليست مذهباً لأحد كما قلتُ في الفقرة الرابعة) ويختلفون في مسائل الظن التي يحتملها تعدد الآراء وتستوعبها سعة اللغة وطرائق الاستدلال، ويجوز الحوار فيها بالحسنى بين المتخصِّصين، ولا يجوز التكفير والتبديع للمخالف، أو نسبة لوازم القول له.

10 ـ لقد طرأ الاختلاف في بعض فروع العقيدة والفقه والسياسة و...، بين أفضل جيل على الأرض وهم الصحابة الكرام، ومَنْ دونهم أولى بالاختلاف منهم، فلم يكفر بعضهم بعضا أو يهجر بعضهم بعضا، فالخلاف ليس شرا مطلقا، وما فيه من ضرر يمكن تقليل آثاره وتخفيف نيرانه، والمسلمون يجمعهم حكم إلهي جامع قاطع في قوله تعالى: "إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" وتظللهم راية الإخاء والمحبة، ولا يحمل بعضهم على بغض الغل والبغضاء .

أتمنى على أحد طلبة العلم، الإضافة على هذه البنود ثم كتابة شرح موجز لها مع ذكر أدلتها وشواهدها من تراثنا الإسلامي المبارك . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

*الأمين العام المساعد للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير رأي رأي دين احكام اختلافات أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذه المذاهب

إقرأ أيضاً:

احتمال الطعن وتدخل الملك لإعادة قراءة النص.. مسار طويل ينتظر المصادقة على مدونة الأسرة

زنقة 20 | الرباط

طلبت الحكومة يناير الماضي قبل اختتام الدورة الخريفية للبرلمان، تأجيل مناقشة الخطوط العريضة لمراجعة مدونة الأسرة داخل لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات، بمجلس النواب.

منذ ذلك الحين لم نسمع جديدا حول مشروع مراجعة مدونة الأسرة الذي دشنه الملك محمد السادس.

و شكل الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش لسنة 2022 أول نقطة لبداية الورش، بعدما دعا لمراجعة مدونة الأسرة طبقا للمرجعية الإسلامية مع الاجتهاد في القضايا الخلافية، تلى ذلك رسالة وجهها الملك محمد السادس لرئيس الحكومة في 26 شتنبر 2023، وكلفه بالإشراف على إعادة النظر في مدونة الأسرة.

بعد ذلك انطلقت سلسلة اجتماعات عقدتها الهيئة المكلفة بتعديل مدونة الأسرة، مع مختلف التيارات السياسية و الدينية و المدنية و الحقوقية والقضائية، ضمن سلسلة استشارات وجلسات استماع.

إلا أن المسطرة التشريعية لتنزيل تلك التوصيات على شكل قانون لم تبدأ بعد ، حيث بالكاد تم الاعلان عن تشكيلة لجنة الصياغة المكونة من وزارات العدل والأوقاف والأمانة العامة للحكومة والمرأة والاسرة تحت اشراف رئيس الحكومة.

المرحلة الثانية بعد صياغة القانون ، هي التداول في مشروع قانون المدونة بمجلس الحكومة، وإحالته بعد ذلك على مجلس النواب.

المرحلة الموالية ، هي إحالة مكتب مجلس النواب مشروع المدونة على لجنة العدل والتشريع ، وعقد جلسة تقديم وزير العدل لمشروع المدونة أمام لجنة العدل والتشريع.

بعد ذلك سيتم عقد جلسة المناقشة العامة للمدونة داخل لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، و المناقشة التفصيلية لمشروع المدونة داخل اللجنة العدل ، ومن ثم جلسة التصويت على التعديلات والمشروع داخل اللجنة.

المرحلة التالية، هي عقد جلسة عامة بمجلس النواب للتصويت على المشروع، وبعد ذلك إحالة المشروع كما تم التصويت عليه على مجلس المستشارين.

اثر ذلك سيتم احالة المشروع على لجنة العدل والتشريع بمجلس المستشارين، ومن ثم عقد جلسة تقديم وزير العدل لمشروع المدونة لجنة العدل والتشريع بمجلس المستشارين.

الخطوة الموالية هي عقد جلسة المناقشة العامة للمدونة داخل لجنة العدل والتشريع بمجلس المستشارين، و المناقشة التفصيلية لمشروع المدونة داخل اللجنة ، و عقد جلسة التصويت على التعديلات والمشروع داخل اللجنة.

بعد ذلك سيتم عقد جلسة عامة بمجلس المستشارين للتصويت على المشروع، و احتمال إعادة المشروع إلى مجلس النواب من أجل قراءة ثانية والمصادقة النهائية ، و أيضا احتمال الطعن في المشروع المصادق عليه أمام المحكمة الدستورية.

احتمال آخر وهي مسطرة نادرة أن يطلب الملك قراءة جديدة للنص.

في الأخير سنصل إلى مرحلة الاصدار بظهير ملكي تنفيذي، والمرحلة الاخيرة مرحلة النشر بالجريدة الرسمية ليصبح القانون ساري النفاذ.

مقالات مشابهة

  • احتمال الطعن وتدخل الملك لإعادة قراءة النص.. مسار طويل ينتظر المصادقة على مدونة الأسرة
  • شحاتة غريب: المصريون يرفضون تهجير سكان غزة ويؤكدون دعمهم للقضية الفلسطينية
  • لماذا ننسى ذكريات سنواتنا الأولى؟ العلم يكشف سر فقدان الذاكرة المبكر
  • عون: العلم هو السلاح الأهم في مواجهة التحديات
  • إعادة تصميم إيسوزو النص نقل الشهيرة بشكل جديد.. شاهد بالصور
  • لماذا استهدِاف المحَاماة والمحَامِين؟ أية خَلفِيات سيَاسِية، وآية عَقليات تحكمَت في النص…؟
  • شكشك: الزاوية الأسمرية إحدى أهم المؤسسات التعليمية في ليبيا والمنطقة
  • السبت.. فرقة الإنشاد الديني تحيي أمسية فنية بمعهد الموسيقى العربية
  • مجلس حقوق الإنسان يطالب إسرائيل بمنع "إبادة جماعية" في غزة
  • أبل تطلق iOS 18.4 مع إشعارات أولوية.. وتوسّع ميزات Apple Intelligence