تجدّيد الخِطاب السياسِي السُودْاني

نضال عبد الوهاب

لا يُخالجني أدنى شك أننا وعلى جميّع مستوى الأصعدة سياسياً، وفي كافة مكونات الفِعل والقُوى السياسِية السُودانية نُعاني أزمة في الخطاب السياسِي بشكل عام وكثيف.

خطاب ذو مضمون ونوع لا يتماشى والواقع الذي تعيشه البلاد، ولا يعمل لمُستقبل أفضل لها، فهو إما قديم وغير مواكب، أو متشنج ومتطرف، أو مُنكفئ ومعزول، أو إثني وقِبلي ومناطقي وجهوي وعُنصري، وبالمُجمل فهو (خِطاب بائس) كما أسميته ولا يصلح لمواجهة التحدّيات التي تواجهها بلادنا، ولا يرتقي لمستوى الأزمة التي نعيشها وبلادنا وشعبنا.

ففي الوقت الذي تتم فيه إبادة مُنظمة للشعب السُوداني ويموت الناس كما الضان والنمل وتحترق جُثثهم بلفيح الدانات ومقذوفاتها وضربات الطيران والبراميل المُتفجرة، وتتقطّع الأشلاء، وفي ذات التوقيت يُهجّر السُودانيون وينزحون ويُطاردون ويموتون بالجوع والأمراض والأوبئة والحسرة، نجد أن هنالك من يتحدثون عن الشوارع التي لا تخون والإضراب السياسِي بإعتبارهما فعل “ثوري” مؤدي لوقف الحرب؟؟، ويتناسون أن التنادي لوقف الحرب والاصطفاف لكل المؤمنين بذلك هو الشرط الأساسي لبقاء الدولة نفسها وبه تتحقق مصالحهم الكُبرى وهذه هي بوابة الفعل الثوري الحقيقي وأي تغيير قادم وبدونها لن يتحقق أي شئ، بل يمكن أن تُفقد البلاد نفسها ويموت الشعب ويُباد إن استمرت الحرب وطال أمدها واتسعت رُقعتها وانتشرت، وتجد كذلك خطاب سياسِي يقفز في المراحل ويحدثك عن الشروط التي تتحقق بها حقوق المُواطنة والمساواة كعلمانية الدولة والدستور ومبادئه والحكم الفدرالي ووو، وفي ذات الرقعة التي ينطلق منها مثل هذا الخطاب يموت الناس بالجوع وسوء التغذية ويبحثون عن السُبل التي تغيثهم وتنقذهم من الموت والفناء، خطاب ليس توقيته ولا أولويته إذا ما قارنته بالأولوية للجانب الإنساني ولبقاء الإنسان نفسه على قيّد الحياة ثم لوقف الحرب وإطلاق النار حتى وإن كان لتمرير تلك المُساعدات الإنسانية ولإنقاذ حياة الناس؟؟، ثم تجد خطاب آخر يُحدثك عن تقسيّم الأرض ورسم الحدود والناس في حالة حرب وصراع لأجل البقاء أحياء، في وطن يتمزق وتفتح بذلك أبواباً جديدة للصرّاع على أُسس قبلية وإثنية، وتتحدث عن شعوب أصلية وأُخرى لا حقوق لها في أرض يتم مُشاركتها مُنذ سنوات طويلة بحكم التنوع والهجرات المُستمرة والنزوح، وأغلب هذا النزوح لسبب الحرب نفسها أو للبحث عن الملجأ، وأغلب الصراع على الموارد فيها، وبدلاً من إطفاء الحرب والصراع نفتح أبواباً جديدة إليها، في غياب للدولة المركزية صاحبة الحقوق في حماية كُل الأرض والمُحافظة عليها، خطاب يقفز من واقع الحرب وموت الناس جوعاً ليحدثك عن تقرير المصير بين القبائل وحدود أراضيها؟؟، وخطاب سياسِي آخر ينقلك مُباشرة للحديث عن السُلطة وأطراف عملية سياسِية ومن يأتي ومن لا يأتي، ومن يُشارك ومن لا يُشارك، وإذا سألت أصحاب هذا النوع من الخطاب لماذا سيجتمع الناس، وليقرروا ماذا؟؟ لن يعطوك أي إجابة عندها علاقة بمصلحة السُودانيون الآنية ولا حتى قبولهم بمن يمثلونهم في التقرير نيابةً عنهم من مجموعات بعضها بل أكثرها لا يُمثل إلا نفسه، ثم يأتي ليقول بمُشاركة هذا ومنع ذاك؟؟؟، ولكنه خطاب يُكرس فقط للطريق للسُلطة فلا تهم النتائج التي لها علاقة بمصالح السُودانيين الحقيقية في وطنهم، خطاب يجعل من أعداء البلاد والطامعين فيه هم أنفسهم أصحاب الحلول لبلادنا والمُتحكمين في مصيرها بما يدفعونه من أموال وتمويل لجميّع أنشطة هؤلاء، بل ويرسمون لهم الطريق الذي يسيرون عليه وعلى رأسه تصميم عمليتهم السياسِية هذه؟؟، ولا ننسى الخطاب السياسِي المُتطرف الإقصائي، والذي تتعدد مجموعات من يقولون به، فبعضهم يعمل لاستمرار الحرب نفسها، وإعادة إنتاج العسكر والإسلاميين وتحكمهم أو من يختارونه فقط لكي يكون معهم، ولا يهم متى تقف الحرب وإن استمرت مائة عام ومات الـ48 مليون سُوداني؟؟؟، أو يظهر مثل هذا الخطاب في إتجاه يقود البلاد للتقسيم والتفتت حقيقةً وإيماناً بذلك لأجل الانفراد التام بالسُلطة أيضاً والثروات ولإعادة تكريس الاستبداد، وهو خطاب سياسِي يستخدم كُل أدوات العنف وأساليبها المُتخيّلة والمُستحيلة، وهو ذات خطاب الحرب والتدميّر والوحشية، خطاب سياسِي موجود وبكثرة للأسف ويتم التسويق له في الأجهزة الإعلامية الرسمية للدولة وفي كل المنصات ووسائطها، ويُنشر فيها صباحاً ومساء؟؟، وخطاب سياسِي عنصري وإثني وجهوي ومنكفئ، لا يؤمن إلا بسيادة النوع والقبيلة والإثنية، وهذا خطاب لا يأبه إن استمرّ الصراع أو الحرب، ولكنه في ذات الوقت إتجاهه للحلول لا يؤمن إلا بعدم القبول والتعايش مع الآخر المُختلف وفي ذات السُودان المُتعدد، ويستخدم حتى هذه الحرب لتكوين دولتهم الخاصة، إما تقسيّما أو فرضاً للعقلية الإثنية التي تكره الآخر ولا تقبل به معها، وهذا الخطاب للأسف أيضاً مُنتشر وموجود بكثرة في الساحة السياسِية والإجتماعية وداخل مكوناتها، ويتكامل ويلتقي معه خطاب الكراهية ويزداد مع ازدياد الحرب الحالية أو تمددها؟؟، ثم وأخيراً مثال لخطاب سياسِي ملئ بالتشكيك المُستمر، والذي ينتهي بالتخوين والتجريم ولا يخدم إلا أعداء وحدة القوى السياسِية وتلاقيها، وبالتالي لا يخدم إلا أعداء البلاد والعاملين لشرذمتنا وتقسيّمنا ونهب ثرواتنا ووضعنا في سكة التخلف والصراعات والحروب.

كُل هذه الأمثلة من الخطاب السياسِي السُوداني الحالي والتي عددتها وذكرتها هي مجموع لطبيعة الخطاب السياسِي الذي يتم تقديمه ويحاول به البعض إنتاج الحلول لأزمات بلادنا، ويُستخدم كوسيلة لوقف الحرب وتخرج منه الرؤى السياسِية المُختلفة التي تمتلئ بها الساحة، في بلاد على حافة الضيّاع والانهيار وتُمزقها الحروب ويُباد شعبه ويُهجّر وينزح بالملايين…

نحتاج إلى تجديد حقيقي للخطاب السياسِي السُوداني في هذه المرحلة العصيبة والمفصلية، تجديد يتماشى ويُراعي الواقع الحالي للبلد وشعبه وينظر له ويقدمه لإنتاج حلول عملية وواقعية وسليمة ومُناسبة، خطاب يبتدئ بالتركيز على الأولويات ويجمع الناس حولها، ويذهب للمصالح الكبرى لكل أو أغلبية السُودانيين، خطاب لا يقفز على المراحل ولا يستبق المسارات، خطاب سُوداني بإمتياز، وغير مُستورد ولا أجنبي، يركز على الحل الوطني الشامل، وفي ذات الوقت يتعامل مع الخارج ولا يرفضه ولكن بحسب مصالحنا واستقلالية قرارانا السياسِي الجماعي، خطاب ضد الإقصاء والاستبداد والانكفاء، خطاب لا يُكرس لجهوية أو طائفية أو إثنية ولا يستخدم الشعب لمصالحه، خطاب جوهره ليس فقط إيقاف الحرب الحالية، ولكنه يمهد بعد تحقق أولوياته إلى الذهاب لحالة الاستقرار وطي صفحات الماضي وبالتالي الحلول المُستدامة، ولكنه مع هذا يبدأ بتحقيق الأولولويات والتركيز عليها وتجميّع الكُل حولها لإنتشال البلاد وشعبها من مصير التلاشي والإبادة والفناء والتقسيّم، خطاب ينظر للمُستقبل لا بعين الماضي والمكوث فيه طويلاً أو الإنغماس الدائم فيه، ولكنه يتجاوزه لأجل الأجيال القادمة، خطاب يبتعد تماماً عن لغة التشكيك والتخوين والتجريم المُستمرة وعن أي أسلوب كراهية أو مؤدي إليه، خطاب سياسِي سُوداني مُتمرحل ما بين إيقاف الحرب وحتى سُودان مُستقر وزاهر لجميّع السُودانيين بكافة تنوعهم وتعدد أعراقهم وثقافاتهم، يتم التخلص الحقيقي فيه من كافة ما تم من أخطاء، بعد الاعترافات الشجاعة بها والاعتذار ثم التصالح المقترن بتحقيق شرط العدالة من غير تجاوزها أو القفز أيضاً عليها.

نحتاج إذاً لتجديد الخطاب السياسِي الحالي لوقف الحرب، ثم لاستدامة السلام، ولتحقيق واقع ومُستقبل أفضل للسُودان وكُل السُودانيين ليعيشوا معاً في وطن مُوحد مُستقر مُزدهر ومُعافى يسع الجميّع.

الوسومالإبادة الحرب الخطاب السياسي السودان خطاب الكراهية نضال عبد الوهاب

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الإبادة الحرب الخطاب السياسي السودان خطاب الكراهية نضال عبد الوهاب السیاس ی الس الس ودانیین لوقف الحرب الس ودانی وفی ذات س ودانی خطاب س فی ذات خطاب ی

إقرأ أيضاً:

تقرير: المتفجرات التي أسقطت على قطاع غزة أكثر مما ألقي خلال الحرب العالمية الثانية

#سواليف

أعلنت سلطة جودة البيئة الفلسطينية، في بيان يوم الأربعاء، أن #الجيش_الإسرائيلي أسقط أكثر من 85 ألف طن من #القنابل بما في ذلك #قنابل_الفوسفور_الأبيض على قطاع #غزة منذ أكتوبر 2023.

وأضافت سلطة جودة البيئة الفلسطينية في بيان ، أن #المتفجرات التي ألقاها الجيش الإسرائيلي على قطاع #غزة يتجاوز ما تم إسقاطه خلال #الحرب_العالمية_الثانية.

وفي بيانها بمناسبة اليوم الدولي لمنع استخدام البيئة في الحروب والصراعات العسكرية الذي يصادف 6 نوفمبر من كل عام بقرار من الأمم المتحدة، أفادت سلطة جودة البيئة الفلسطينية بأن “قصف الاحتلال المستمر أدى إلى تدمير مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وتلوث التربة بمواد كيميائية سامة تعيق الزراعة لعقود”.

مقالات ذات صلة أ.د بني سلامة يكتب .. عبيدات قدم رؤيته الشاملة والبعيدة النظر حول الأخطار المحدقة بالأردن 2024/11/07

وأوضحت أن إسرائيل استخدمت جميع أنواع #الأسلحة والقذائف أبرزها الفوسفور الأبيض المحظور دوليا حيث يستهدف مكونات البيئة مسببا أضرارا بيئية جسيمة تهدد حياة الإنسان والكائنات الحية.

ولفتت إلى أن “الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية لمصادر المياه أدت إلى تسرب المياه الملوثة إلى الأحواض الجوفية ما ينذر بكارثة صحية وبيئية تهدد مئات الآلاف من السكان لعقود”.

وفي الضفة الغربية، ذكر البيان أن “المستوطنات والتدريبات العسكرية لجيش الاحتلال تشكل خطرا كبيرا على البيئة، إذ تتعرض مساحات شاسعة من الأراضي للاستيلاء والتجريف واقتلاع الأشجار والرعي الجائر”.

وأشارت السلطة إلى أن “المخلفات الناتجة عن تدريبات الجيش الإسرائيلي تلحق الضرر بمصادر المياه وتلوث الهواء، ما يؤدي إلى تفاقم التدهور البيئي، حيث تقدر المستعمرات بأنها تضخ نحو 40 مليون متر مكعب من المياه العادمة غير المعالجة سنويا في الأرض الفلسطينية”.

ودعت سلطة جودة البيئة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف العدوان المستمر ومنع استغلال البيئة لأغراض عسكرية، وتطبيق القوانين الدولية.

مقالات مشابهة

  • عبدالله بوصوف يكتب…خطاب المسيرة و الإجابات الوطنية الكبرى
  • منسق الأحرار بجهة العيون لـRue20: خطاب الملك بمناسبة المسيرة الخضراء أقبر مخططات أعداء الوطن 
  • الحكومة تتفاعل سريعاً مع خطاب المسيرة لتنزيل الرؤية الملكية حول هيكلة مؤسسات مغاربة العالم
  • خطاب المسيرة و الإجابات الوطنية الكبرى…
  • تقرير: المتفجرات التي أسقطت على قطاع غزة أكثر مما ألقي خلال الحرب العالمية الثانية
  • "المجاهدين": إقالة غالانت لن تمحو العار والهزيمة التي تلاحقه
  • أبرز شركات الطيران التي علقت رحلاتها للمنطقة بسبب الحرب الإسرائيلية
  • مصر تعيش أجواء الهزيمة.. فما الحرب التي خاضتها؟
  • نتنياهو يبعث رسالة إلى المستشار القانوني للحكومة بشأن التسربيات.. ماذا قال؟
  • الانتخابات الأمريكية.. البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الأعظم