عقيدة الضاحية لدى إسرائيل.. القوة المفرطة والتدمير الشامل لكسب المعركة
تاريخ النشر: 6th, October 2024 GMT
عقيدة الضاحية إستراتيجية عسكرية إسرائيلية، تعتمد على الردع عبر استخدام القوة المفرطة، وتنتهج قتل المدنيين والتدمير الكامل للبنية التحتية المدنية للضغط على الحكومات أو الجماعات المعادية بهدف قلب موازين المعركة لصالحها.
انتهجها الجيش الإسرائيلي لأول مرة خلال حربه على لبنان في يوليو/تموز 2006، واتخذت اسمها من الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، التي توجد فيها مقار حزب الله اللبناني، ثم صارت تستعملها في كل حروبها اللاحقة ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية.
"نظرية الضاحية" لم تكن وليدة حرب عام 2006، بل تطورت نتيجة الحروب والصراعات التي انخرطت فيها إسرائيل منذ حرب 1948، حتى اعتنقتها وبدأت انتهاجها في حروبها اللاحقة، وروجت لها باعتبارها "الحل الوحيد والشرعي للقضاء على أعدائها".
وسبق أن دمرت إسرائيل -منذ احتلالها فلسطين– قرى وأماكن مدنية بالكامل، من النكبة مرورا بحرب لبنان 1982 ضد منظمة التحرير الفلسطينية، وحينئذ دمرت قرى فلسطينية ولبنانية كاملة.
وظهر المفهوم رسميا على لسان قائد الأركان الإسرائيلي الأسبق غادي آيزنكوت خلال حرب عام 2008 على غزة، وصرح بأن إسرائيل "ستتعامل مع أية منطقة تدعم أعداءها على أنها ميدان حرب شرعي، وستستخدم فيها القوة القصوى لتدمير البنية التحتية وتحقيق الردع" بشكل متعمد، مثل تدمير قرية بأكملها، إذا اعتبر الاحتلال أنها مصدرا لإطلاق الصواريخ.
وتصرّ إسرائيل على أن "نظرية الضاحية" تكتيك مشروع في الحرب، وتساعدها على ردع الهجمات المستقبلية عليها.
مبادئ عقيدة الضاحية
وتعتمد عقيدة الضاحية التي تتبناها إسرائيل على مبدأين أساسيين، هما:
"تفعيل القوة النارية الإسرائيلية بصورة غير متكافئة". "التدمير الكامل للبنى التحتية للقرى والبلدات التي توجد فيها القوى المناوئة للجيش، بهدف فصل هذه القوى عن حاضنتها الشعبية".وحلل المبدأين سياسيون وعسكريون بناء على ممارسات الجيش في حروب عدة، فحصروا معالم تلك العقيدة في التالي:
استخدام قوة مفرطة أو أكبر بكثير من تلك التي استخدمها الطرف المهاجم أو مصدر التهديد، لضمان أن التكلفة البشرية والمادية لأي هجوم مضاد سيكون باهظا، مما يجعل الرد على الهجوم أمرا مكلفا وصعبا. تدمير القرى والبلدات التي ترى إسرائيل أنها تُستخدم منصات لإطلاق الصواريخ أو الهجمات كليا، بهدف تدمير القاعدة الشعبية فيها وجعلها تدفع ثمن دعمها أو وجود القوى المسلحة فيها. التدمير الشامل للبنية التحتية والمنشآت الحيوية المرتبطة بالجماعات المعادية لها، سواء كانت مباني سكنية أو طرقا أو جسورا أو مرافق عامة. منهج "العقاب الجماعي" ويستهدف إيقاع أكبر قدر ممكن من الأضرار بالمدنيين. الاستخدام المكثف للقوة الجوية، لأنها تمنح سيطرة عسكرية وتقدما على الطرف الآخر أثناء المعارك. تدمير أهداف وقتل شخصيات في قوائم معدة سلفا وقبل اشتعال المعارك (الحروب الخاطفة)، على أمل الإخلال بالموازين العسكرية لصالحها. ويضيف محللون سياسيون أن من أشكالها سياسة الأرض المحروقة، والتي تهدف لجعل المناطق المستهدفة غير صالحة للسكن.بدأت إسرائيل تطبيق إستراتيجيتها العسكرية بعد الإعلان عنها عام 2006، بشنها هجوما مدمرا على الضاحية اللبنانية المكتظة بالسكان وبقية أنحاء لبنان.
وتشير اللجنة الدولية للصليب الأحمر وتقرير آخر لمنظمة هيومن رايتس ووتش إلى أن الهجوم الإسرائيلي الذي استمرّ 34 يوما، أودى بحياة أكثر من ألف شخص ونزوح 900 ألف، وخلف دمارا وأضرارا جسيمة بالبنية التحتية المدنية للبنان بما في ذلك المطارات ومحطات المياه، ومحطات معالجة الصرف الصحي، ومحطات الطاقة، ومحطات الوقود، والمدارس والمراكز الصحية والمستشفيات. إضافة إلى تدمير نحو 30 ألف منزل بشكل كلي وجزئي.
وبعد عامين من الحرب، أكد رئيس القيادة الشمالية الإسرائيلية حينذاك غادي آيزنكوت أن إسرائيل ستواصل استخدام هذه الإستراتيجية في النزاعات المقبلة، وأن "ما حدث في (الضاحية) سيحدث في كل قرية تطلق منها النيران على إسرائيل".
وأضاف "سنستخدم قوة غير متناسبة ونتسبب في أضرار ودمار كبير هناك. من وجهة نظرنا، هذه ليست قرى مدنية، بل قواعد عسكرية"، وأكد أنها "ليست توصية، هذه خطة. وقد تمت الموافقة عليها".
الحرب على غزة
لم يكن قطاع غزة خارج دائرة "إستراتيجية الضاحية" الإسرائيلية، فسرعان ما سعت إسرائيل لتطبيقها في حروبها على القطاع بداية من عملية "الرصاص المصبوب" عام 2008-2009، واعتمد الاحتلال حينئذ على القصف الجوي المكثف والدمار الواسع باعتباره وسيلة لإضعاف المقاومة وردعها.
وأسفرت العملية الإسرائيلية يومها عن استشهاد 1400 فلسطيني، بينهم 300 طفل. ونشرت الأمم المتحدة تقريرا لتقصي الحقائق خلص إلى أن الإستراتيجية الإسرائيلية وقتئذ "صمّمت لمعاقبة وإذلال وإرهاب السكان المدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال، بمعاملة قاسية لا إنسانية ومهينة" في غزة.
وأشار التقرير أيضا إلى تدمير الجيش الإسرائيلي بشكل ممنهج البنية التحتية المدنية في غزة، وشمل ذلك مطاحن الدقيق والمزارع ومحطات معالجة المياه العادمة ومنشآت المياه والمباني السكنية.
وعادت قوات الاحتلال في عملية "عمود السحاب" عام 2012 لاستخدام المنهجية ذاتها، فدمرت البنية التحتية مرة أخرى، وألحقت أضرارا جسيمة بـ382 منزلا، إضافة إلى تدميرها المستشفيات والجسور والمكاتب الإعلامية والمراكز الرياضية والبنوك والمزارع والمساجد.
ولم تتوان قوات الجيش الإسرائيلي عن إعادة الكرّة خلال عملية "الجرف الصامد" عام 2014، فقتلت أكثر من ألفي فلسطيني، ومارست أفعالا انتهكت القانون الدولي، فاستعملت صواريخ وقذائف الهاون الإسرائيلية لتدمير البنى التحتية للقطاع، ولم تستثن الأماكن المدنية كالمدارس والبيوت، وألحقت أضرارا بلغت قيمتها نحو 25 مليون دولار.
وتعرضت نحو 18 ألف وحدة سكنية في ذلك العام إلى التدمير أو لحقت بها أضرار جسيمة، واستهدفت البنى التحتية للمياه والصرف الصحي والكهرباء والصحة.
وردا على معركة "طوفان الأقصى" التي أطلقتها المقاومة الإسلامية ضد مستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، طبّق الاحتلال بشكل واضح وموسّع عقيدته العسكرية لإلحاق الضرر بالمقاومة، ووسع دائرة النزاع، واستهدف كامل القطاع.
وقتل الاحتلال خلال عام واحد أكثر من 41 ألفا، معظمهم مدنيون من الأطفال والنساء، وأباد قرى ومدنا بأكملها، ودمر البنى التحتية والمؤسساتية والمرافق الصحية والتعليمية، والمنازل والتجمعات السكنية، والمساجد والكنائس، والمستشفيات والمواقع الأثرية، إذ قُدّرت نسبة دمار البنية الحضرية والمساكن منتصف عام 2024 في مدينة غزة لوحدها بنحو 80%، في حين تبلغ نسبة 90% في البنية التحتية.
وفي محافظة شمالي قطاع غزة، التي تضم بلدة جباليا ومخيمها وبلدة بيت حانون وبيت لاهيا، تقدر نسبة الدمار في البنية الحضرية والمساكن بنحو 95%، في حين باتت البنية التحتية مدمرة كليا بنسبة 100%.
لبنان 2024بقيت الحدود اللبنانية الإسرائيلية متوترة منذ حرب 2006، وإثر انخراط حزب الله في معركة طوفان الأقصى واستمراره في استهداف الجبهة الشمالية في إسرائيل، أعلن الجيش الإسرائيلي اغتيال قيادات بارزة في الحزب في سبتمبر/أيلول 2024، أبرزها الأمين العام للحزب حسن نصر الله.
وخطة اغتيال الأمين العام للحزب تعد شكلا من أشكال تطبيق "عقيدة الضاحية"، فمن أجل اغتياله أسقطت الطائرات الإسرائيلية أكثر من 80 قنبلة "مخترقة للتحصينات" وزنها 2000 رطل، وبلغت مساحة تدميرها 35 مترا، وتسببت في دمار 6 مبان سكنية.
وسبق اغتيال نصر الله سلسلة هجمات في الضاحية الجنوبية، ألحقت دمارا شديدا في البنية التحتية للبنان، وقصفت أحياء بكاملها، وتسببت في مقتل نحو ألف شخص ونزوح قرابة مليون، لتعلن إسرائيل بعدها بدء عمليات برية في جنوب لبنان وصفتها بـ"المحدودة" و"المحلية" و"الموجهة".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجیش الإسرائیلی البنیة التحتیة عقیدة الضاحیة أکثر من
إقرأ أيضاً:
البعوضة؟! (قصة قصيرة من رعب المعركة)
أصدر قائد المجموعة أمره بصرامة ودون أيّ تردّد، الأمر لا يتجاوز كلمة واحدة:
- البعوضة.
وسط الركام لم نجد سوى عجوزين، عجوز يؤنس عجوزته رغم أنف الحرب والدمار، وكأن بقيّة أفراد العائلة قد ابتلعتهم الحرب قتلا أو تشريدا أو كليهما، والأغلب قتلا لأن العائلات الفلسطينية لا يمكن أن تترك مسنّيها وتذهب، وسط هذا الدمار الهائل الذي لم يترك بناية على حالها، أتاها وفعل فعله الشنيع بها، والموت منتشر للناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم، بحرا وبرا وجوا وبأشكال متعدّدة وبكل الألوان، ومن لم يمت بالقصف مات بالقنص أو الحرق أو تساقط ركام الأبنية فوق رأسه، عجوزان ينتظران الموت في أية لحظة، لا شكّ بأنّهما قد رآنا ولكن لا حيلة لهم سوى انتظار الموت والرضى بقدرهم.
يريد قائدنا الأشمّ تطبيق خطّة البعوضة، كيف؟ معقول؟ على إنسانين بهذا السنّ المتقدّم، على كلّ حال هو لا يعترف بإنسانيتهم أوّلا ولا اعتبار للسنّ عنده إلا المزيد من الإمعان في الإذلال والقهر.
هجم الجنود بشراسة على فريستهم، عصّبوا المرأة العجوز وشدوا الوثاق على عينيها، سحبوا الرجل ودفعوه أمامهم، ربطوا عبوة ناسفة على رقبته، ثم هتف القائد الأغرّ بشراسة:
- انظر يا بطل، القنبلة في رقبتك وكبسة التفجير بيدي، ستسير حسب أوامرنا، أنت جاهز.
تلعثم الرجل ولم يدر ما يقول، حشد شجاعته وهمس من أعماقه:
- تريدونني درعا بشريّا.
- اخرس، ماذا تقول؟ نحن الجيش الأعلى أخلاقا من كل جيوش العالم.
- وما هذا الذي تفعلونه؟
- شيء من إجراءات السلامة العامة والحماية من الإرهابيين.
وزعق آخر:
- هيّا سر أمامنا وإياك أن تحيد عن تعليماتنا.
وعاد كبيرهم للتوجيه عبر سمّاعة زرعوها في أذن المسنّ.
تأرجح الرجل بين الركام وسار بأقدام واهنة تتحسّس طريقها بصعوبة، أوامرهم تغور في أذنه بقسوة بالغة.
- سر للأمام يا كلب، امش بسرعة، شدّ رجلك، انتبه كبسة واحدة تهوي بك في جهنّم.
صوت طائرات التجسّس تغدو وتروح بأصواتها المزعجة، صوت الانفجارات كبيرها وصغيرها تصخّ الآذان وتضرب بها القلوب الحناجر، لا مفرّ أمام هذا الحيوان البشري أو قل البعوضة من أن يسير أمامنا ويؤثرنا بالموت إن خرج لنا من تحت هذه الأرض المشئومة. أدخله ضابطنا أماكن متعدّدة، كانت حركته بطيئة وكأن جسمه قطعة من الأرض ينتزعها مع كلّ خطوة، رأيت في وجهه كلّ ألوان القهر وأشكال العذاب، رأيت في عينيه الموت يتمنّاه حتى تغيب عن شاشتها.
اشتغل معنا في هذا اليوم حتى المساء، كانت بعوضة ثقيلة بطيئة قد أكل منها الدهر وشرب، ألم تجد شابّا أخفّ ظلّا أيها الضابط العتيد؟ ضاقت عليك غزّة بما رحبت ولم تجد إلا هذا الهرم؟ أم أردت أن تمعن في كيل أشد أنواع العذاب حتى يطال المسنّين منهم، لتقول إنّك قد أدخلت ماكينة عذابك كل أعمارهم، يا لك من ضابط مرهف الحسّ الإنساني النبيل!
بعد رحلة طويلة مع هذا الدليل الهرم عدنا به إلى نصفه الآخر، ثم أصدر ضابطنا أمره لهما بالمغادرة من هذا المكان وأشار إلى الطريق الآمن الذي يجب أن يسلكوه للنجاة بأرواحهم.
عانقت يد الشيخ يدّ محبوبته التي تعلقّت به بكل ما فيها من خوف وحبّ وهلع، سارا معا يتعكّز كلّ منهما على الآخر، لسانها نطق بكلمات على الأغلب أنّها من صلواتهم، واضح أنّه قد أشرق وجهها بلقاء محبوبها وانطلقا يزحفان إلى حيث تأخذهما الطريق. في غزّة لا يسير المرء على هواه وإنما تسير به الطريق على هواها، وكل الطرق تؤدي إلى خيمة على قارعة الطريق أو بقايا طريق.
نهاية الطريق كانت لهم طلقتان وضعتا حدّا لنهاية بعوضتين، كانت هناك دبّابة لهما بالمرصاد، لم يرق له تعليمات الاتصال الذي أتاه من قبل ضابطنا أنّ بعوضتين مسنتين مسالمتين ستقطعان الطريق من الشمال إلى الجنوب، رأى فيهما أنهما أبوان لقساميين ألهبوا ظهروهم بسياطهم: "اقصف البعوض دون أن يرف لك قلب أو رمشة عين. هناك المزيد من البعوض فلا تتردّد يا فتى".
(ملاحظة: استخدم جيشهم تطبيق البعوضة في قطاع غزّة بهذه العنصرية المتوحّشة في مرات لا تعد ولا تحصى)