العـنـف بوصفـه سـؤالاً فـلسفـيّـاً
تاريخ النشر: 2nd, October 2024 GMT
تأخّـرت الفـلسفـة في تحـويـل موضوع العنـف إلى سـؤالٍ إشكـاليّ فيها مع أنّ اتّـصالَ العـنـف بالسـياسـة والسلطـة كان حـريًّـا بـه بأن ينـبّـه الفـلسفـة السياسية الإغـريقـية إليه. ذلك عـيْـنُـه ما وقَـع لأسئـلةٍ أخـرى شديدةِ الاتّـصال بالسّياسـة - تُجـوهِـلَت، لـفـترةٍ طويلة، قبـل أن ينصـرف إليها التَّـفـكيرُ والتّـأليف؛ مثـل سـؤال الحـريّـة.
ربّما كان الفـقهاء في تاريخ الإسلام أشـدَّ اهـتمامًا بالمسألة من الفلاسفة -أغارقـةً كانوا أو مسلمين- وأشـدَّ إلحاحًا على التّـنبيه عليها في ما كـتـبوه عن السّياسة والـدولة والسلطان. وما كان هاجسهم أن يقـدّموا المـوقـف الشرعي من العنـف، بـل راموا تـنبيـه الجماعة والسّلطان على المغـبّـة من شيوعـه؛ لأنّ بـه يكون انتـقـاضُ أحوال الممالك. والحـقُّ أنّـه لم يكـونوا في حاجـةٍ إلى كبيـرِ جَـهْـد كي يُـقـنـعوا مخاطَبيـهم بصحّـة ما يذهبـون إليه في هذا؛ فلـقـد عَـرَضَ للجماعـة الإسلاميّـة من العنـف ما أفْـسَد عليها يوميّـاتها وأَذْهـبَ وحْـدتَـها وازْدَرع بـذور الشِّـقاق والفُـرقـة فيها وبالتّـالي فهي شاهـدةٌ على مـفْـسَدَتـه وخَـطَـره. ولم يكن كُـتّـاب الآداب السـلطانية وحـدهم مَـن جـرَّد رسائـل في مسـألة العنـف ونـبّـهوا السـلطان والأمّـة عليه، بـل قاسَمَـهم فـقهاءُ السّياسـة الشـرعيـة ذلك الانشـغال فوضَـع منهم مَن وضع تآليـف في المسألة؛ سواء في ما كـتبـوه خصّيـصًا في مجـال فـقـه البُـغاة والفـتـنة أو ما كـتـبُـوه عـن الجـور ومساوئـه وتـبِعاته على المـمالك. ولعلّ أكـثر الكـتب العربيّـة إلحاحًا على هـذه المسألة في تـراث الإسلام هـي كـتب متـأخِّـري كـتّـابهم، من الذين عاصروا زمـن الأفـول الحضاريّ، مثـل ابن خـلدون وابن الأزرق اللّـذين شـنَّـعا على الاستبـداد وبيّـنا كيف أنّـه كان طـريقًـا سالـكًا نحـو اضمحـلال الـدّولة.
على أنّ الفـكـر السياسي الحـديث ما لبـث أن عاد إلى التـفـكير في العنـف، وإنْ جـزئـيًّـا، وذلك منذ أن سلّـطت كتابات ميـكياڤـيـلّـلي الضّـوء عليه، بما هـو جـزء من كيان السياسـة، ثـمّ بعد أن فـرض الموضوعَ سيـاقٌ سياسيّ وتاريـخيّ دراماتيـكـيّ مـرّت بـه أوروبا طـوال ما يزيـد عن مائـة عـامٍ من الحروب الـدّينـيّـة. ولا يـغْربـنّ عن بال الباحث في الموضوع أنّ المـدخـل إلى تسويـغ الحاجـة إلى الـدّولة، في الفلسفـة الحديثة، كان هـو القـول إنّ الـدّولة وحـدها هي التي تستطيع أن تضع حـدًّا للعـنف الذي يهـدِّد الاجتماع الإنسانيّ بالفـنـاء؛ حتّى أنّ فلسـفةً سياسـةً بكاملها (فلسفة العـقـد الاجتماعيّ) قامت على افـتراض وجـود مجتمـعٍ سابقٍ لقيام الـدّولة قام على علاقات العنـف المتبادل -أو حـرب الجميع على الجميع بعبارة توماس هوبس- الأمر الذي قضى بوجوب إنهاء هـذه الحال من الاقـتـتال بإقامة الـدّولة والخضـوع لسلطانها وقوانينها التماسًا للأمـن والسِّـلم... والبقـاء. وليس معنى ذلك أنّ الفلاسفة المحـدَثين افترضوا العنـفَ فعـلًا صادرًا عن المجتمع يحتـاج إلى السّياسة (الـدولة) من أجـل ردْعـه؛ ذلك أنّهم -في المقابـل- ظـلّوا ينـتـقدون أنماط أنظمة الحكم التي تـقيـم السلـطة على مقـتضى العنـف: من طغيانٍ واستـبدادٍ وتسـلُّـط. وفي مـوقـفهم هذا ما يدلُّـنا على أنّـهم لم يـبرحوا النّـظر إلى العنـف في اقـترانه الماهـويّ بالسّياسة، أي من حيث هـو ظاهرة سياسية.
لـن يلبـث التّـفـكير الفلسفـيّ في ظاهرة العنـف أن يـزيد مع الزمـن: في الفلـسفـة الحديثـة كما في الفلـسفة المعاصرة، أحيـانًـا مـن طـريق التّـفـكير في السِّـلم (إيمانويـل كَـنْـت)، وفي أخـرى من طريق النّـظر في صلات العنـف بالـدّولة (هيـغـل) أو بالصّـراع السّياسيّ (إنغـلز). ومنذ هيـغل، أمكن للفلسفة أن تُـطَـوِّر نظـرتها إلى الموضوع وزوايـاه بعيـدًا من أحكام القيـمة؛ وهـو المنحى الذي سيـرسّـخه النّـظر إليه داخل علـم الاجتماع السّياسيّ في بـدايات القـرن العشريـن، وخاصّـةً مع أعمال ماكس ڤـيـبر. ولم تكـن الحرب العالميّـة الثّانيـة قـد اندلعـت، واستـتبّ الأمـرُ للنّـظام النّـازيّ في ألمانيا والسـتاليـنيّ في الاتّـحاد السّـوڤـييتيّ، حتى عاد سؤالُ العنـف يطـرق أبـواب الفلسفة والعلـوم الاجتماعيّـة ويُـثْـمـر نصوصًا فـكريّـةً ودراساتٍ تحليـليّـةً في غايـة الأهميـة والقيمة في مضمـار فـهـم الظّاهـرة والكـشف عن آلياتها المعـلَـنة والمضمَـرة. لقد بـرَّر ذلك، من جـديد، شرعيّـةَ النّـظر إلى العنـف بوصفـه سؤالًا فـلسفـيًّـا أو، قُـل، ينتمي إلى فلسفة السّياسة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الـد ولة الس یاسة
إقرأ أيضاً:
في ليبيا.. حضر التصالح الاجتماعي وغابت المصالحة السياسية
رغم إجماع السياسيين الليبيين على أهمية المصالحة الوطنية، لكنهم لم يصلوا حتى الآن إلى صيغة توافقية، في حين أشار خبراء إلى أن البلاد لا تحتاج إلى مصالحة مجتمعية، لأن الخلاف سياسي أكثر منه خلاف اجتماعي.
وأقر مجلس النواب الليبي بتاريخ السابع من يناير/كانون الثاني الجاري، خلال جلسة برئاسة رئيس المجلس عقيلة صالح بمدينة بنغازي شرق ليبيا بالأغلبية، مشروع قانون المصالحة الوطنية بعد استيفاء مناقشة ومداولة مواده، الأمر الذي رفضه المجلس الرئاسي الليبي واعتبره "تسييسا".
ودعا المجلس الرئاسي إلى الالتزام بالاتفاق السياسي الليبي (لعام 2021)، بوصفه أساسا شرعيا لتنظيم عمل المؤسسات السياسية وتنسيق اختصاصاتها لتجنب النزاعات وفرض الأمر الواقع.
وأكد أن إنجاح مشروع المصالحة الوطنية يتطلب تعاون الأطراف كافة لإرساء العدالة والسلم الأهلي.
وفي التاسع من سبتمبر/أيلول 2021، أعلن المجلس الرئاسي الليبي إطلاقه مشروع المصالحة الوطنية الشاملة، وهي المهمة التي كلفه بها ملتقى الحوار السياسي الذي رعته الأمم المتحدة بين أطراف النزاع الليبي في جنيف في يناير/كانون الثاني 2021، والذي انبثق عنه "الرئاسي" في الخامس من فبراير/شباط 2021، إلى جانب حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
إعلانمن جانبه، اعتبر علي السويح، عضو مجلس الدولة الليبي، أن المصالحة الوطنية من أهم القضايا في الشأن الليبي الآن، وأنها جزء لا يتجزأ للحل السياسي بين كل الأطراف.
وأضاف السويح -في تصريحات لوكالة الأناضول- أنه في ليبيا "ليست هناك مشكلة بين طرفين واضحين بأتم معنى الكلمة، بل بين عدة أطراف، والليبيون يريدون مصالحة مبنية على قاعدة سليمة وفق قوانين يتفق عليها الجميع".
تفرّد بعض الأطرافوحول إقرار البرلمان مصالحة، قال السويح "المشكلة أن بعض الأطراف تحاول التفرد بملف المصالحة وتحاول استثمارها".
وأضاف أن ملف المصالحة يحتاج إلى اتصالات وحوارات بين الأطراف المختلفين في الشأن الليبي وما ترتب عليه من مشاكل نريد وضع حل لها.
وأشار إلى أن الحل ليس بيد مجلس النواب ولا المجلس الرئاسي فقط أو المجلس الأعلى للدولة، موضحا أن "هذا شأن ليبي عام، ومشكلة المصالحة مشكلة عامة في ليبيا يجب الانفتاح والتعاون بين هذه الأجسام مجتمعة.. الجميع بما فيها الأجسام التنفيذية وكذلك الأطراف ذات العلاقة".
وحول غياب آلية تجميعية لحوار يشترك فيه الجميع، قال السويح "الذي حصل في العمل السياسي والتجاذبات انعكس حتى على ملف المصالحة الذي من المفروض ألا يحصل له ذلك، لأنه يلبي مصلحة عامة ويلبي طلبات المتضررين ويجمع شمل ليبيا، ولكن كل الصراعات تم إقحامها في كل الملفات وهذه أكبر مشكلة تواجه ليبيا".
قابل للتعديلوردا على الاتهامات بـ"التسرع والتسييس" في إطلاق هذا القانون، قال عضو مجلس النواب الليبي خليفة الدغاري إن "هذا القانون ليس نهائيا، وإذا كانت هناك تعديلات مطلوبة أو ملاحظات يمكن تعديله".
وحول إمكانية الاستجابة لأي طلب تعديل، أضاف الدغاري أن "قانون المصالحة الوطنية هو من القوانين التوافقية بين كل الأطراف على صيغة القانون مهما كانت الجهة التي تبنته".
إعلانوأضاف "ليبيا تحتاج إلى مصالحة سياسية ولا تحتاج إلى مصالحة مجتمعية، الموضوع هو خلاف سياسي أكثر منه خلاف اجتماعي".
ووفق الدغاري فإن "الليبيين متصالحون بطبيعة المجتمع الليبي الذي يعتمد العرف، عكس أي بلد عربي آخر، ونحن نأخذ دائما بالعرف الذي لا يقل قيمة عن القانون، والمجتمع الليبي بطبيعته متصالح".
بدوره، قال الباحث في العلاقات الدولية بشير الجويني إن ما حصل ويحصل في ليبيا، في آخر 10 سنوات، هو أن المصالحة الوطنية في جزء كبير منها بقيت أسيرة التجاذبات، البعض منها داخلي وبعضها خارجي ولم يتم تنزيل مسألة المصالحة وتمليكها لأطراف النزاع.
ووفق الجويني، هناك خصوصية في ليبيا، وهي أنه ليست هناك مشاكل أصيلة بين مكونات الشعب الليبي، وقضية الشرق والغرب وقضية الفدرالية وغيرها من المسائل التي أثيرت في السنوات الأخيرة هي مسائل موجودة تعايش معها الليبيون قبل 2011 ويمكن أن يتعايشوا معها شرط ألا يتم توظيف المسألة بشكل سياسي.
وأضاف الجويني أن في تاريخ ليبيا وفي ماضيها أشياء مشرفة تدل على أن الليبيين قادرون على حل خلافاتهم بأشكال تراعي البيئة المحلية وتراعي التقاليد المحلية وتضمن أن المصالحة تكون مصالحة مستدامة ولا تكون مصالحة ذات بعد سياسي أو تكون مصالحة مرحلية أو ظرفية.
وتستمر جهود أممية ومحلية لإيصال ليبيا إلى انتخابات تحل أزمة صراع بين حكومتين: إحداهما حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة ومقرها طرابلس (غرب) وتدير كامل غرب البلاد، ومعترف بها من الأمم المتحدة.
والحكومة الأخرى عينها مجلس النواب مطلع 2022 برئاسة أسامة حماد ومقرها بنغازي، وتدير منها كامل شرق البلاد ومعظم مدن الجنوب.