رحل الشاعر محمد المكي إبراهيم (1939-2024) الموت في زمن الشتات
تاريخ النشر: 1st, October 2024 GMT
(1)
في تقديمه لكتاب الدكتور حسن أبشر الطيب، إطلالة في عشق الوطن (أم درمان مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، 2001)، كتب محمد المكي إبراهيم عن جيل العطاء الذي ينتسب إليه عبر زميل دراسته بجامعة الخرطوم وصديق عمره حسن أبشر الطيب قائلاً: "ينتمي المؤلف إلى جيل الستينيات في السودان، هو جيل يجمع إلى الريادة الإبداعية المواكبة المستمرة والتجويد المتفوق والاطلاع الغزير.
(2)
لكن يصف محمد المكي إبراهيم الوطن في بداية الألف الثالثة بأنه "يمر بأسوأ أيامه، وأشدها بؤساً وسوء حظ، وفي السنوات الأخيرة من القرن العشرين كانت قد اكتملت مسلسلة الخروج من السودان هرباً من العسف السياسي، والبؤس الاقتصادي، وغياب الحرية، وإظلام الحياة الفكرية وإجدابها. وكانت السلطة في بداية أمرها تريد إفراغ البلد من ذوي الفكر والرأي، فأفرطت في القسوة عليهم، حتى هجروا البلاد بالألوف، ثم توسعت حلقة الرعب وطالت من لا ينتمي لتلك الفئة من المواطنين، فأجفلت العصافير وخرج السودانيون بالملايين ما بين ناشد حرية، وطالب دنيا يصيبها، أو أمن يشتهيه.... وفي المنافي الاختيارية التي تقاطر عليها السودانيون تحول السودان في نفوس بنيه المهاجرين إلى ذكرى سيئة ومدعاة للحسرة واليأس والألم، فالأخبار التي تأتي من تلقائه لا تحمل إلى الجماعة المهاجرة سوى أنباء الفقد والفجيعة والتدني المستمر في نوعية الحياة، والتكرار المميت لكل أخطاء الماضي ورزاياه. وأمام أعينهم كانت سمعة السودان المشرقة تتحول إلى صيت سيء، وكان اسمه الشريف يتمرغ في الوحول."
(3)
الآن رحل محمد المكي إبراهيم إلى الدار الآخرة في يوم الأحد الموافق 29 سبتمبر/أيلول 2024 بقاهرة المعز وفي زمن شتات لم يشهد السودان له مثيلاً من قبل، وحال الوطن أسوأ مما كان عليه في بداية الالفية الثالثة، إذ حولَّت حرب الخامس عشر من أبريل 2023 واقع أهله إلى جحيم لا يطاق، بعد أن احتلت قوات الدعم السريع معظم مساكن المواطنين في العاصمة المثلثة وود مدني وغيرها من المدن، ونهبت مقتنياتهم الثمينة، وجعلت حواضن ذكرياتهم وتراثهم أثراً بعد عين، وأجبرتهم على الأمرَّين، إما النزوح إلى الولايات الآمنة في السودان، أو اللجوء إلى دول الجوار ومهاجر ذوي القربى. وعن تداعيات الحرب وتعقيدات استمراريتها، تصدق الحقيقة الذهبية التي طرحها الدكتور حسن أبشر الطيب: "إن المدفع لا يبنى بيتاً، ولا يشفي مريضاً، ولا يزرع حقلاً، ولا يحصد إلا دماراً. إن الأوطان تبنى بالمحبة والتعاطف، وبالاحترام المتبادل للرأي والرأي الآخر، وبالسعي الموصول لتعظيم عناصر الاتفاق، ونبذ مسببات الفرقة، وبالسمو فوق المنافع الذاتية الآنية إلى مصلحة الوطن، بالاحتفاء بكل المبدعين من أبناء الوطن في مختلف الميادين، تقديراً للعبقرية وتجسيداً للقدوة المتميزة، وبالانفتاح الذكي المتبصِّر على المعطيات والتجارب الإنسانية المعاصرة." كما يصدق استفهام الشاعر محمد الحسن سالم (حميد) الاستنكاري، عندما انشد قائلاً: "أخــيــر كــرّاكــةً بـتـفــتـح حـفـيـر وتـراقـد الركام*** أم الدبابة البتكشح شخـيـر الـمـوت الزؤام؟ *** درب مـن دم مـاب يـودي حرِب سُبّه حرب حرام*** تـشـيـل وتـشـيـل مـابِ تـدِّي عُـقـب آخــرتا انهزام."
(4)
وعندما شعر حسن أبشر الطيب بتعاطف الحركة الديمقراطية السودانية المعارضة لنظام الإنقاذ آنذاك مع بعض أعمال الدمار والتخريب التي كانت تطال خط أنابيب تصدير النفط كتب مقالاً بعنوان: "هذا كلام أعوج"، ويتمثل اعوجاج ذلك في بُعد نجعته عن القيم العليا التي تطالب الساسة بالعمل من أجل إسعاد الناس أجمعين، ما دامت سعادة الناس تتجسَّد في الحفاظ على مصادر معاشهم اليومي وخروجهم من عنق زجاجة المعاناة؛ لأن تدميرها يعتبر طغياناً من السياسة على مقدرات الدولة الاقتصادية. فأي سياسي أو عسكري غير عاقل يدمِّر موارد أرزاق الناس ويشردهم من مساكنهم الآمنة، ثم يعدهم بالحكم المدني والديمقراطية، فأنه يضحك على عقولهم في صلف وكبرياء وعدم استحياء؛ لأن أولويات الحياة الأساسية تقوم على المسكن والمأكل والمشرب والحريات العامة، وما سواها أولويات كمالية مؤجلة لا يستقيم ميسمها إلا باستقامة مَيَاسِم الأولويات الأساسية.
(5)
إذاً يا سادتي دعونا نجمع القول: "أرضاً سلاح"؛ لأن إيقاف الحرب لا يعني إعفاء الذين ارتكبوا الجرائم والفظائع في حق الشعب المسكين من العقوبة؛ ولا يعني إشراك الذين كانوا سبباً في الحرب أن يكون جزءاً من الحل. لكن إيقاف الحرب يُسهم في إبقاء ما لم يُدمَّر من بنية البلاد التحتية، وفي الحافظ على الوطن من التقسيم وجعله نهباً لمصالح الدول الإقليمية والعالمية، وفي صون أرواح أبنائه وبناته الشرفاء الذين يحلمون بغدٍ أفضل. إيقاف الحرب، يا سادتي، يعني الحفاظ على مؤسسات الدولة، وإعادة احتكار العنف القانوني لجيش مهني واحد وقوات شرطة مؤهلة، ويعني التخلص من المليشيات المسلحة، والتواضع على نظام حكم يكون تداول السلطة فيه بطرق ديمقراطية سليمة. ولا يتحقق ذلك إلا بتوافق الصف الوطني. والشاهد في ذلك قول الرئيس الرواندي بول كاغامي (Paul Kagame)، الذي انتشل بلاده من ركام الحرب الأهلية الضروس والعداوات العرقية إلى البناء والإعمار، عندما صرّح قائلًا: "إنّ تقدم بلادنا سببه أنتم أيها الروانديون، وخاصة الشباب والنساء منكم، الذين أخذوا زمام المبادرة لتقرير مصير بلادهم من خلال روح العمل والابتكار والوطنية كمفتاح للرقي والتنمية [...] فليس ذلك بسبب وجود الفاتيكان، أو الكعبة، أو البيت الأبيض، أو الإليزيه، أو تاج محل" في بلادنا.
إنا نعلق الآمال على جيل يُشبه الجيل الذي غنى له محمد المكي إبراهيم، جيل "يعطي لهذا الشعب معني أن يعيش وينتصر، جيل يقرر "التاريخ والقيم الجديدة والسير"، جيل يصوغ "الدنيا وتركيب الحياة القادمة"، جيل مستميت على المبادئ مؤمنًا، ومشرئباً إلى "النجوم لينتقي صدر السماء". رحم الله شاعر جيل العطاء، الذي عاش بروح الجيل الذي ينشده ومات وفي قلبه شيء من حتى.
ahmedabushouk62@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: محمد المکی إبراهیم
إقرأ أيضاً:
تناول ناقد للتقارير التي تدعي وجود مجاعة في السودان
في الوقت الذي تحرز فيه القوات المسلحة تقدما في مختلف محاور القتال في حرب الكرامة ضد المليشيا المتمردة ،تبرز تحديات أخرى للحرب النفسية والإعلامية تتخذ شكل تقارير من جهات دوليه تدعي بأن السودان يواجه مجاعة تهدد امنه الغذائي.لمعرفة حجم الهجمة وابعادها والآثار المترتبة عليها ، سوداناو التقت المهندس عمار حسن بشير عبدالله – إدارة الأمن الغذائي – وزارة الزراعة ، مؤسس شبكة الأمن الغذائي (سودان) للحديث عن موقف السودان من تقرير منظمة Ipc الذي زعمت فيه ان السودان يعاني مستويات حرجه من الجوع وانعدام الأمن الغذائيالمهندس عمار قال إن التصنيف المرحلي المتكامل للامن الغذائي الإنساني هو من آليات منظمة الأمم المتحدة للزراعة والاغذية لقياس وتقييم أوضاع الامن الغذائي التي تنبني على عدد من المؤشرات وترسيم خارطة ذات مراحل، وهذه الخارطة تستخدم الألوان وتتدرج في الترتيب الخاص بتقديم الأوضاع حسب المعلومات لكل مرحلة ، وفي النهاية يتم رسم خارطة بها الوان لتعطي تصنيفا متكاملا لمراحل الأمن الغذائي،، هذه الالية تحتاج الى قاعدة معلومات قوية حتى تستطيع توفير معلومات لكل مرحلة من المراحل. ، إلا ان هذه المنظمة لم تتبع تلك المراحل وبنت تقريرها على معلومات ذاتية ، حيث ينبغي لتلك المنظمة وحتى تستطيع الادعاء ان هناك مجاعة في اي جهه لابد من الحصول على المعلومات من فرق المنظمة الموجودة اصلا في تلك المناطق، وفي حالة عدم توفر المعلومات الكافيه تقوم تلك الفرق باجتماع ووضع تقديرات ذاتية للوضع ومن ثم تختار الوضع المناسب في حالة غياب المعلومات اوعدم توفرها ، لذا وجد هذا التقرير نقدا واضحا من الخبراء حتى من الذين كانوا ضمن الفريق العامل في إعداده وشككوا في صحته ووصفوه بعدم الدقة لعدم استناده على معلومات حقيقية.يقول المهندس عمار ان موقف السودان من هذه الالية كان واضحا بما اعلنه وزير الزراعة في مؤتمره الصحفي بوكالة السودان للانباء بمدينة بورتسودان بأن التقرير خرج بأرقام مضللة منها أن ٢٥ مليون نسمة من الشعب السوداني معرضين لشبح المجاعة.وذكر المهندس ان هذا التقرير الذي تم رفضه لعدم توفر المعلومات الحقيقية الناتجة عن مسح حقيقي، كما ان هذا التقرير لم يراع مايعرف (بالسنادة المجتمعية ) والتي يقصد بها ان هناك جوانب اجتماعية لم يراعها التقرير في ان يستوعب الاثار السالبة للحرب والعادات الاجتماعية التي يمكنها ان تستوعب تلك الاثار السالبة مثل نزوح كثير من الاسر السودانية الى الولايات الامنة لذويهم واهاليهم وديارهم حيث وجدوا الماؤى والمسكن والمطعم ،وهذه القيمة افتقدها التقرير في تقييمه الاخير، الذي بنت عليه كثير من المنظمات ان السودان يتعرض للمجاعة، لأكثر من ٢٥ مليون نسمة يمثلون نصف سكان السودان ، يضيف عمار وانه وبالرغم من ذلك يظل السودان حليفا للمجتمع الدولي ومتعاونا معه لدرجة كبيرة ومتواجدا في محيطه الدولي ممثلاً في منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة والمنظمات ذات العلاقة بالغذاء،يقول ، المهندس ، لكن من حق السودان أن يرفض أويعتمد ما يشاء من التقارير التي قد تمس سيادته، فهو دولة ككل دول العالم يمارس سيادته ويبسطها على رقعته الجغرافية، وأن سيادته تمثل خطاً احمراً لاتفريط فيه ولا يسمح لاحد بالمساس بها، وان المجتمع الدولي المتآمر على السودان سيظل يبحث عن آليات يراها فرصه للتدخل بامداد العدو بالسلاح والدعم ، وأن الموجودين في مناطق التمرد هم فقط من يحتاجون الى الإغاثة، وأن مناطق سيطرت التمرد هي التي تتعرض لفجوات غذائية ، وأن المطالبة بفتح معابر لوصول المساعدات الإنسانية للمتضررين ماهي إلا زريعه يتخذها التمرد ومناصروه من دول الجوار والدول الاخرى ،لإيصال المساعدات العسكرية واللوجستية للعدو الذي يحارب الدولة السودانية ، والمواطن السوداني ،لذا اجمع الخبراء على رفض مثل هذه التقارير لان السودان يمارس سيادته على اراضيه وهذا امر لاتفريط فيه ، وأن السودان قد فتح كل المعابر البرية والجوية لوصول المساعدات الإنسانية وأن المواطن الان يتحرك من مناطق التمرد للأماكن التي يسيطر عليها الجيش بكامل الحرية.يشير عمار الى انه ولمواجهة الظروف التي نمر بها الان لابد من العمل على إيجاد مخزون استراتيجي منيع وقوي وحديث باعتباره احد المرتكزات الأساسية في توفير الغذاء في ظل الحروب والنزاعات والكوارث الطبيعية من فيضانات وسيول وذلك بدعم الإنتاج في المناطق الامنه والبنية التحتية على المدى الطويل اضافة الى توظيف وتقنين الهبات والمعونات بوضع تلك المنظمات والجهات المانحة تحت اشرافها عبر مفوضية العون الإنساني باعتبارها الجهة الرسمية الوحيدة المسؤولة عن عمل المنظمات .و اختتم المهندس عمار حديثه بدعوة المواطن السوداني بالانتباه والحذر من المحتوى الذي تتداوله وسائل الإعلام الخارجية من الترويج لاشاعات بوجود مجاعة بالبلاد و تفادي نشرها و تناقلها ،وان عليه التدقيق في كل مايقال وتمحيصه.بورتسودان (سوداناو/ سونا) – تقرير رقية الشفيعسونا إنضم لقناة النيلين على واتساب