عربي21:
2025-01-27@04:44:40 GMT

جاسوسك في جيبك ـ وربما هو وسيلة لقتلك

تاريخ النشر: 26th, September 2024 GMT

في عصر التكنولوجيا المتسارع، أصبحت الهواتف الذكية جزءًا لا غنى عنه في حياتنا اليومية، فهي تربطنا بالعالم وتمكننا من القيام بمهامنا المختلفة بسهولة ويسر. ولكن هل يمكن أن تكون هذه الأجهزة أكثر من مجرد أدوات اتصال وتواصل؟

في ضوء الأحداث الأخيرة، بات الأمر أكثر وضوحًا وخطورة. ففي 17 و18 سبتمبر 2024، وقعت حادثة مثيرة للقلق، حيث قامت المخابرات الإسرائيلية، بالتعاون مع أطراف أخرى، بتفجير أجهزة لاسلكية مثل البيجر والووكي ـ توكي عن بُعد، مما أسفر عن مقتل وإصابة عدد كبير من أفراد حزب الله اللبناني.

ما يجعل هذه الحادثة مرعبة هو حقيقة أن هذه الأجهزة تم تفعيلها عن بُعد، مما يثير التساؤلات حول الأمان الشخصي في استخدام التقنيات الحديثة.

في الواقع، كنت أعلم أن الهاتف الجوال يمكن أن يكون أداة تجسس على حياتنا اليومية. فهو يتنصت على محادثاتنا، يسجل مواقعنا الجغرافية، وربما يقوم بأشياء أخرى لا ندركها. لكن ما لم أتوقعه هو أن يتحول الهاتف إلى أداة قتل. هذا الاحتمال المرعب يجعلني أشعر بعدم الارتياح في كل مرة أسمع رنة هاتفي أو هاتف آخر. أصبحت الآن أنظر إلى جهاز الهاتف في جيبي ليس كوسيلة للاتصال، بل كأداة قد تهدد حياتي.

 الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي.. العبودية التكنولوجية في القرن الحادي والعشرين

إلى جانب المخاطر الأمنية التي باتت تُهددنا بسبب الهواتف الذكية، يبرز جانب آخر لا يقل خطورة: الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي. لقد أصبحت هذه الوسائل جزءًا لا يتجزأ من حياتنا لدرجة أن الكثيرين لا يستطيعون تخيل حياتهم بدونها. في كل لحظة، نحمل هواتفنا الذكية ونستعملها للتواصل أو الترفيه أو حتى للعمل. ولكن في الواقع، هذه الأجهزة أخذت منا الكثير من حياتنا الواقعية. لقد تجاوزت دورها كأدوات تكنولوجية بسيطة، وأصبحت تتحكم في نمط حياتنا وتفكيرنا.

إلى جانب المخاطر الأمنية التي باتت تُهددنا بسبب الهواتف الذكية، يبرز جانب آخر لا يقل خطورة: الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي. لقد أصبحت هذه الوسائل جزءًا لا يتجزأ من حياتنا لدرجة أن الكثيرين لا يستطيعون تخيل حياتهم بدونها.هذا الاعتماد الشديد على التكنولوجيا ليس جديدًا تمامًا، إذ تعود جذوره إلى اختراع الهاتف المنزلي في أواخر القرن التاسع عشر. يُروى أن رجلًا استشار صديقًا حول فكرة شراء هاتف منزلي، فحذره الأخير قائلًا: "هذا الجهاز سيجعلك عبدًا له. لن يسكت عندما يبدأ بالصراخ حتى ترد عليه". كان ذلك في وقت كان الهاتف المنزلي يُعد إنجازًا تكنولوجيًا حديثًا، لكن الأمر يبدو أكثر تعقيدًا اليوم، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أكثر تغلغلًا في حياتنا.

نحن الآن نستخدم هذه المنصات ليس فقط للتواصل مع الآخرين، ولكن أيضًا للهروب من الواقع والضغوط النفسية التي نواجهها في حياتنا اليومية. هذا الهروب المستمر إلى العالم الافتراضي قد يؤدي إلى تفاقم المشاكل الواقعية، حيث يتم تأجيل التعامل مع التحديات الحقيقية. وفي نهاية المطاف، يصبح استخدام وسائل التواصل الاجتماعي هروبًا من الحياة بدلًا من تحسينها، مما يؤدي إلى تعقيد الأمور.

ورغم كل هذه العيوب، لا يمكننا إنكار أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت جزءًا لا غنى عنه في الحياة المعاصرة. الحل الأمثل ليس في التخلي عنها، بل في استخدامها بوعي ومحدودية. علينا أن نكون مدركين للأضرار المحتملة لإدمان التكنولوجيا، وأن نبحث عن توازن صحي يضمن استفادتنا من هذه الأدوات دون الوقوع في شرك التبعية الكاملة لها.

شركات التواصل الاجتماعي: قوى عظمى تتحكم في العالم

في العقود الأخيرة، تحولت شركات التواصل الاجتماعي من منصات للتواصل إلى قوى عظمى تؤثر بشكل مباشر على المجتمعات والسياسات والقيم الثقافية والدينية. اليوم، تُعد هذه الشركات لاعبا أساسيا في تشكيل الرأي العام وتوجيه السياسات الدولية. من خلال التحكم في تدفق المعلومات وتحليل البيانات الضخمة للمستخدمين، أصبحت هذه الشركات تمتلك قوة غير مسبوقة يمكن أن تؤثر على السياسات والقرارات الحكومية وحتى على نتائج الانتخابات.

الشركات الكبرى مثل فيسبوك، تويتر، إنستغرام، وتيك توك لم تعد مجرد منصات اجتماعية، بل تحولت إلى أدوات للتحكم السياسي والثقافي. هذه الشركات قادرة على تشكيل النقاشات العامة، والتحكم في المعلومات التي تصل إلى الناس، بل والتلاعب بالمشاعر والآراء من خلال التحليل الدقيق لبيانات المستخدمين. وهذا التحول الكبير يتطلب منا النظر بجدية في تأثير هذه الشركات على ثلاثة محاور رئيسية: السيادة الوطنية، القيم الأخلاقية والدينية، والتحكم السياسي والثقافي.

تهديد القيم الأخلاقية والدينية

تلعب منصات التواصل الاجتماعي دورًا رئيسيًا في إعادة تشكيل الهوية الثقافية والدينية للأفراد والمجتمعات. من خلال نشر محتوى لا حدود له، تُسهم هذه المنصات في تفكيك القيم الدينية والأخلاقية التي ترتكز عليها المجتمعات التقليدية.

في العقود الأخيرة، تحولت شركات التواصل الاجتماعي من منصات للتواصل إلى قوى عظمى تؤثر بشكل مباشر على المجتمعات والسياسات والقيم الثقافية والدينية. اليوم، تُعد هذه الشركات لاعبا أساسيا في تشكيل الرأي العام وتوجيه السياسات الدولية.1 ـ التأثير على الديانات:

مع انتشار محتويات تنتقد الأديان التقليدية أو تروج للإلحاد، بدأت هذه المنصات تؤثر بشكل مباشر على الأجيال الشابة، مما يؤدي إلى ضعف الهويات الدينية وتراجع تأثير القيم الروحية. كما أن بعض الجماعات الإرهابية والمنظمات المتطرفة تستغل هذه المنصات لنشر دعاية دينية متطرفة، بهدف جذب الشباب واستغلالهم في أجنداتهم السياسية.

2 ـ تآكل القيم الاجتماعية:

تشجع وسائل التواصل الاجتماعي قيمًا فردية واستهلاكية تتعارض مع القيم الاجتماعية التقليدية التي تعتمد على الأسرة والمجتمع. ثقافة الشهرة السريعة والاهتمام بالذات أصبحت جزءًا كبيرًا من حياة العديد من المستخدمين، مما يؤدي إلى تآكل قيم التضامن والتعاون الاجتماعي، حيث يركز الأفراد بشكل متزايد على أنفسهم واحتياجاتهم الشخصية.

3 ـ التحولات الثقافية:

تساهم منصات التواصل الاجتماعي في تسريع انتقال الأفكار والعادات بين المجتمعات، مما يؤدي إلى نشر الثقافات الغربية على حساب الهويات المحلية. نتيجة لذلك، بدأت العديد من المجتمعات تفقد تمسكها بعاداتها وتقاليدها الثقافية، وأصبحت تتبنى عادات وسلوكيات غربية قد لا تتناسب مع طبيعتها الخاصة.

استعادة السيادة الرقمية وحماية القيم الحضارية

لمواجهة التأثير الكبير لشركات التواصل الاجتماعي، ظهرت توجهات دولية لحماية السيادة الرقمية والقيم الحضارية. يمكن تحقيق ذلك من خلال:

1 ـ تطوير منصات محلية: يجب على الدول تطوير منصات تواصل اجتماعي محلية تنافس تلك العالمية، بهدف حماية بيانات المواطنين والحفاظ على الخصوصية الوطنية.

2 ـ تشريعات رقمية وطنية: يتطلب الأمر سن قوانين رقمية تحمي الخصوصية وتضع ضوابط على كيفية استخدام البيانات الشخصية من قبل الشركات العالمية.

3 ـ تعزيز الوعي الرقمي: ينبغي أن تكون هناك حملات توعية بمخاطر الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي، وضرورة الاستخدام الآمن والمدروس لهذه المنصات.

4 ـ تعزيز الهوية الثقافية: يجب تعزيز القيم الثقافية المحلية وحمايتها من التأثيرات الخارجية، من خلال برامج تعليمية وثقافية تسعى إلى الحفاظ على الهوية الوطنية.

وسائل التواصل الاجتماعي والترويج السياسي والاقتصادي

إلى جانب النفوذ الثقافي والاجتماعي، أصبحت شركات التواصل الاجتماعي تلعب دورًا مهمًا في التأثير على السياسة والاقتصاد. بفضل قدرتها على تحليل بيانات المستخدمين بدقة، يمكن لهذه الشركات توجيه الحملات السياسية والإعلانية بشكل يستهدف الفئات المناسبة, وهذا ما لمسته شخصيا من خلال الحملات الإنتخابية التي قمت بها في ألمانيا. هذه القدرة على توجيه الرسائل والإعلانات بناءً على البيانات الشخصية تثير تساؤلات حول مدى نزاهة هذه العمليات، وما إذا كانت الدول قادرة على حماية شعوبها من هذا النوع من الاستغلال الرقمي.

في المجال الاقتصادي، تستخدم الشركات الكبرى هذه المنصات لجمع معلومات حول سلوك المستهلكين وتفضيلاتهم، مما يمكنها من توجيه الإعلانات بشكل دقيق. هذا الوضع يعزز شعور الكثيرين بأن هواتفهم "تستمع" إليهم، حيث غالبًا ما تظهر لهم إعلانات عن منتجات تحدثوا عنها أو بحثوا عنها عبر الإنترنت مؤخرًا.

انتبه.. رن هاتفك!

في النهاية، لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت قوة مؤثرة على جميع جوانب حياتنا. إنها تشكل سياساتنا، وتعيد تشكيل قيمنا الثقافية والدينية، وتؤثر بشكل مباشر على سيادتنا الوطنية. في هذا العالم الرقمي المتسارع، علينا أن نكون حذرين، ونتساءل عن الثمن الذي ندفعه مقابل هذه الراحة الرقمية التي توفرها لنا التكنولوجيا. عندما يرن هاتفك في المرة القادمة، تذكر أن هذا الجهاز الصغير يحمل في طياته إمكانيات تتجاوز مجرد التواصل – فقد يكون سلاحًا رقميًا، أو جاسوسًا خفيًا، أو وسيلة للتحكم في مصيرك.

*نائب ألماني سابق

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التكنولوجيا العالم الرأي تطور تكنولوجيا العالم رأي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة شرکات التواصل الاجتماعی تؤثر بشکل مباشر على مما یؤدی إلى هذه الشرکات هذه المنصات جزء ا لا من خلال

إقرأ أيضاً:

هل نشر الفتاة صورها على مواقع التواصل الاجتماعي حرام أم حلال؟ شيخ الأزهر يحسم الجدل

هل مشاركة صوري أنا وصديقاتي البنات على مواقع التواصل الاجتماعي حرام مع العلم بأنني محجبة ومحتشمة؟ سؤال ورد إلى الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وأجاب عنه في كتاب «الأطفال يسألون الإمام».


وقال الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، في إجابته: «بناتي الغاليات.. الستر والحشمة من أهم سمات المرأة المسلمة، وقد أجمع العلماء استنادًا إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة على أن جسد المرأة عورة عدا الوجه والكفين، وعلى ذلك فلا يجوز للمرأة الظهور أو التصوير على مواقع التواصل أو غيرها إلا إذا كانت ملتزمة بالصفات الشرعية للباس المرأة وهي : أن يكون ساترا لسائر الجسد عدا الوجه والكفين، وألا يصف وألا يشف.


وحذر  الإمام الأكبر، من ضعاف النفوس الذين يستخدمون صور الفتيات والسيدات ويقومون بتركيبها مع صور أخرى غير لائقة، ثم ابتزازهن بهذا الصنيع الإجرامي، وأن يحمين أنفسهن باتخاذ كافة إجراءات الأمن الرقمي والسيبراني للحفاظ على أنفسهن وخصوصياتهن، وطلب المساعدة متى تعرضت أي منهن لمثل هذه الأفعال الخبيثة التي يحرمها الدين ويجرمها القانون.

دعاء الجمعة الأخيرة من رجب المستجاب.. يزيد الرزق ويزيل الهم ردده حتى غروب الشمسدعاء للميت في الجمعة الأخيرة من رجب.. ردده الآن يفرح به ويدخله الفردوس الأعلىدعاء يحميك من كيد الأعداء والحسد وأهل الشر.. ردده كل صباحدعاء الجمعة الأخيرة من رجب.. قصير ومكتوب

هل نشر الصور والأخبار السعيدة على مواقع التواصل الاجتماعي يسبب الحسد ؟

قالت دار الإفتاء، إن بَث ونَشر "اليوتيوبرز" المقاطع المصورة عن تفاصيل حياتهم الشخصية لهم ولأسرهم لزيادة التفاعل حولها، إن كان مما لا يجوز للغير الاطلاع عليه؛ لكونه مما يُعَيَّب به المرء، فنشره عَمَلٌ محرَّم شرعًا، ومُجَرَّم قانونًا؛ لما فيه من إشاعة الفاحشة في المجتمع… وإن كان مما يصح إطلاع الغير عليه فلا مانع منه شرعًا.

المقصود بـ"اليوتيوبرز"


"اليوتيوبرز: Youtubers" مصطلح عصري يُطْلَق على صانعي المحتوى المرئي في موقع "يوتيوب: YouTube"، وتزداد شهرة "اليوتيوبر" من خلال المحتوى الذي يُقَدِّمه من حيث نوعه، وجودة إخراجه، والمخاطَب به؛ حتى إنَّ بعض الأشخاص لشهرتهم على اليوتيوب قد امتهنوا هذا الأمر؛ نظرًا لما يدره عليهم من ربحٍ نتيجة التفاعل على ما يُقَدِّمونه بالتعليق، أو الإعجاب، أو المشاركة من الآخرين.

حكم نشر الأشخاص تفاصيل حياتهم الخاصة على مواقع التواصل


من المحتوى الذي لوحظ تقديمه من قِبَل "اليوتيوبرز": نَشْر بعضهم الشؤون اليومية الخاصة به وبأسرته؛ كأماكن جلوسه في بيته مع زوجته، ومواضع نومه، ومقر اجتماعه للأكل والشرب مع عائلته؛ حتى وصل الهوس لنشر كواليس نومه واستيقاظه، وتحركات أطفاله، بل ودخوله للخلاء!.


والبَثُّ والبَسْط للشؤون الشخصية ومشاركة الآخرين لمشاهدة ذلك يفرق فيه بين حالين؛ أولهما: ما يصح إِطْلاع الغير عليه. وثانيهما: ما لا يصح إِطْلاع الغير عليه.


فالأول؛ كتفاصيل الحياة العادية التي لا يَأنَف الشخص من معرفة الغير بها؛ كعنوان بيته، وشَكْله، ونوع سيارته، ونحوه مما يدل على أَنَّ ناشر ذلك له ذوق مناسب وسط البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها؛ فهذا أمر لا مانع منه شرعًا، وقد يندرج هذا الفعل تحت التَّحدُّث بنعمة الله على المرء الذي ندب إليه الشرع الشريف في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 11].


وأما النوع الثاني؛ فهو ما يُعيَّب به المرء مما لا يجوز للغير الإطلاع عليه؛ ونشر ذلك رغبةً في زيادة التفاعل -بالتعليق أو الإعجاب أو المشاركة- حول ما يُنْشَر مذموم شرعًا؛ لأنَّه من قبيل إشاعة الفاحشة في المجتمع، وهي جريمة حَذَّر منها الحق سبحانه وتعالى؛ في قوله: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [النور: 19].


والآية عامة في الذين يَلتمسون العورات، ويهتكون الستور، ويشيعون الفواحش؛ قال الإمام الفخر الرازي في "مفاتيح الغيب" (23/ 184، ط. دار الفكر): [لا شك أن ظاهر قوله: ﴿إِنَّ الذين يُحِبُّونَ﴾ يفيد العموم وأنه يتناول كل من كان بهذه الصفة، ولا شك أن هذه الآية نزلت في قذف عائشة؛ إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فوجب إجراؤها على ظاهرها في العموم، ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيصها بقذفة عائشة؛ قوله تعالى في: ﴿الذين آمَنُواْ﴾ فإنه صيغة جمع ولو أراد عائشة وحدها لم يجز ذلك].

خطورة إشاعة الفاحشة في المجتمع والتحذير منها


وجعل الإسلام إشاعة الفاحشة وفعلها في الوِزْر سواء؛ لعظم الضرر المترتب في الحالتين؛ فقد أخرج الإمام البخاري في "الأدب المفرد"، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "القائل الفاحشة والذي يشيع بها في الإثم سواء"، وقال عطاء رضي الله عنه‏: "من أشاع الفاحشة فعليه النكال، وإن كان صادقًا" أخرجه ابن أبي حاتم.


ورَتَّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جريمة إشاعة الفاحشة عقوبة عظيمة؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «وأيُّما رَجُلٍ أشاعَ على رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ وهُوَ مِنْها بَرِيءٌ يَشِينُهُ بِها فِي الدُّنْيا كانَ حَقًّا على الله تَعَالَى أنْ يُدْنيَهُ يَوْمَ القيامَةِ فِي النَّارِ حَتَّى يأْتِيَ بِإِنْفاذِ مَا قالَ» رواه الطبراني كما فى مجمع الزوائد (4/ 201)، وقال الهيثمى: فيه من لم أعرفه.


كما أَنَّ نشر وبَثَّ مثل هذه المقاطع المصورة التي لا يصح إِطْلاع الغير عليها يتنافى كليًّا مع حَثِّ الشرع الشريف على الستر والاستتار؛ لأنَّ أمور العباد الخاصة بهم مبنية على الستر؛ فلا يصح من أحد أن يكشف ستر الله عليه ولا على غيره؛ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» رواه مسلم، وفي رواية لابن ماجه: «منْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ». قال الإمام أبو عمر ابن عبد البر في "التمهيد" (5/ 337، ط. مؤسسة قرطبة): [وفيه أيضًا ما يدل على أن الستر واجب على المسلم في خاصة نفسه إذا أتى فاحشة وواجب ذلك عليه أيضًا في غيره].

حث الشرع على الستر عند ارتكاب المعاصي


لعناية الشرع الشريف بالستر والاستتار؛ فقد حَثَّنا على أنَّه مَن ابتلي بمعصيةٍ ألا يُخبر بها، بل يُسرها ويستغفر الله منها ويتوب إليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ»، أخرجه مالك في "الموطأ"؛ حتى نَصَّ الفقهاء -بناء على ذلك- أنه يستحب لمن ارتكب معصية أن يستر على نفسه وعلى الغير، قال شمس الدين البابرتي الحنفي في "العناية شرح الهداية" (10/ 471، ط. دار الفكر): [الستر واجب والإشاعة حرام].


ويقول الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل" (3/ 408، ط. دار الفكر): [يجب ستر الفواحش على نفسه وعلى غيره لخبر: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ»].


وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (19/ 495، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(ويستحب للزاني) ولكل من ارتكب معصية (الستر) على نفسه].


وقال العلامة ابن قدامة في "المغني" (60/ 69، ط. مكتبة القاهرة). [ورد الشرع بالستر، والاستتار] اهـ.
إضافة لذلك: فإنَّ نشر هذه الخصوصيات بهذه الكيفية المذمومة هو مِن طلب الشُّهْرة الذي كَرِهه السلف الصالح، ويندرج تحت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ» رواه أحمد.


قال المناوي في "فيض القدير" (3/ 129، ط. المكتبة التجارية): [المدح يورث العجب والكبر، وهو مهلك كالذَّبْح؛ فلذلك شُبِّه به].


وقد روى البيهقي في "الشُّعَب" عن أنس رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «حَسَبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ النَّاسُ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ».


وروى البيهقي والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بِحَسب امْرِئٍ من الشَّرّ أَن يُشِير النَّاس إِلَيْهِ بالأصابع فِي دينه ودنياه إِلَّا من عصمه الله -من السوء-».

موقف القانون من ذلك


إنَّ إفشاء مثل هذه الخصوصيات الشخصية بهذه الصورة المعيبة هو أيضًا جريمة قانونية يُعاقَب عليها وفق القانون رقم (175) لسنة 2018م، والخاص بـ"مكافحة جرائم تقنية المعلومات"؛ فقد جَرَّم المُشَرِّع المصري في هذا القانون نشر المعلومات المُضَلِّلة والمُنَحرفة، وأَوْدَع فيه مواد تتعلق بالشق الجنائي للمحتوى المعلوماتي غير المشروع؛ ففي المادة (25) من القانون المشار إليه نَصَّ على: [يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين: كل من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري، أو انتهك حرمة الحياة الخاصة ..].


ونَصَّ أيضًا في المادة (26) على: [يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تجاوز خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز ثلاثمائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين: كل مَنْ تَعمَّد استعمال برنامج معلوماتي أو تقنية معلوماتية في معالجة معطيات شخصية للغير لربطها بمحتوى منافٍ للآداب العامة، أو لإظهارها بطريقة مِن شأنها المساس باعتباره أو شرفه].

الخلاصة


أفادت دار الإفتاء: بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فبَثُّ ونَشرُ "اليوتيوبرز" المقاطع المصورة عن تفاصيل حياتهم الشخصية لهم ولأسرهم لزيادة التفاعل –تعليقًا أو مشاركةً أو إعجابًا- حولها؛ إن كان مما يصح إطلاع الغير عليه فلا مانع منه شرعًا، وإن كان مما لا يجوز للغير الإشعار به مما يُعَيَّب به المرء؛ فنشره عَمَلٌ محرَّم شرعًا، وهو مُجَرَّم قانونًا أيضًا؛ وذلك لما فيه من إشاعة الفاحشة في المجتمع، وهي جريمة أناط بها الشرع الشريف عقوبة عظيمة؛ إضافة لما يحويه هذا النشر بهذه الكيفية من التعارض الكلي مع حَثِّ الشرع الشريف على الستر والاستتار.
 
 

مقالات مشابهة

  • هشام الجيار: تأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي على القيم الأسرية والسعادة الشخصية
  • أستاذة علم اجتماع تحذر من حديث الفتيات والشباب على منصات التواصل الاجتماعي
  • ياسر جلال ينفي امتلاكه لأي حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي
  • يسر بعد عسر.. كيف تفاعل رواد التواصل الاجتماعي مع تحرير الأسرى الفلسطينيين؟
  • 5 أفعال تقودك للحبس حال ارتكابها على مواقع التواصل الاجتماعي
  • إلهام يونس: تطوير ماسبيرو بات ضروريًا لمواجهة الشائعات والمحلات المضللة
  • كيف تلهم الرياضية الأمريكية إيلونا ماهر الملايين على منصات التواصل الاجتماعي؟
  • مفتي الجمهورية: وسائل التواصل الاجتماعي تشهد جملةً من المنكرات وعلينا التنبُّه لها
  • كيف تنهكنا منصات التواصل الاجتماعي عقليًا ونفسيًا؟
  • هل نشر الفتاة صورها على مواقع التواصل الاجتماعي حرام أم حلال؟ شيخ الأزهر يحسم الجدل