تطرح القاصة العُمانيّة أسماء الشامسيّ في مجموعتها القصصيّة الأولى، الكثير من الهواجس والأسئلة والقلق اليوميّ والحياتيّ والاحتمالات في كلِّ نص، فتطفح الخيبات الإنسانية وجروح الإنسان في النصوص. وقد صدرت المجموعة عن دار عرب، هذا العام، وتتألف من أربعة عشر نصًّا قصصيًّا، طرحتْ القاصة فيها أسئلة الإنسان المعاصر، ونظرته لقضايا الحياة والوجود والعواطف، وهذه النظرة والهواجس تُلامس الإنسان المعاصر، المتمثّل في الجيل الذي يبحث عن أحلامه وانكساراته وخذلانه المتجدد، وهذه النظرة إلى الحياة مشتبكة مع تعقيدات الحياة المعاصرة، وشباك الحداثة، وسهام الرأسمالية، وتعقيدات التحولات.

من موضوع البيت والاستقرار إلى العمل ولقمة العيش، والعاطفة وانكساراتها، والرغبة وعوالمها، والعشق، والذات المتشظّية، والعلاقات الزوجيّة القلقة، وأمراض المجتمع وعنصريته، والأبوّة المتسلطة، تشكّلت عوالم النصوص، بلغة سردية تمتلك حساسيّتها وانسيابها مع الحدث والحوار والوصف. تذهب المجموعة بشكل سلس وانسيابي إلى العوالم الداخلية للشخصيات وأسئلتها وضجرها، تنبش في قلقها، تتوغل في خذلانها، وتشاركها تفاصيلها الصغيرة والهامشيّة.

العتبة الأولى، وفخ التوقعات

عنونتْ القاصة مجموعتها بعنوان «الرجل النائم إلى جوارِك»، يمثل مبتدأ ـ رغم طول العنوان ـ إلا أنها لم تخبرني ما حال الرجل النائم؟ فحضر المبتدأ في العنوان، وغاب الخبر وحال الرجل. جاء الرجل وصفته بـ (ال) التعريف؛ فهو معروف لدى الكاتبة، ومجهول لدى المتلقي، ولم يتضح لنا أين ينام الرجل بالتحديد، فكلمة (جوارك) لا توضح لنا جوار من ينام الرجل؟ ولماذا هو نائم في غلاف المجموعة؟ وهنا يمكننا أن نطرح بعض الأسئلة والاحتمالات عن العتبة الأولى، هل حضور الرجل في العنوان يعني غياب عوالم المرأة؟ وهل الرجل هو الفاعل في نهر النصوص؟ وهل هذا الفاعل كان تدميرا؟ وهل النوم هنا يُمثّل الغياب عن الوعي والحياة أم النوم بمعنى الموت والخذلان؟ وهل حضور الرجل في العنوان دون المرأة مقصود لأمر يخص ثيمات المجموعة؟ وهل الرجل يؤدي دورا فاعلا في عوالم المجموعة؟ فلعبة الحضور والغياب تمثل مفارقة في العنوان؛ إذ إن حضور المرأة وعوالمها داخل النصوص كان كثيفا وبارزا، فالمرأة هي المحرك الرئيس في معظم النصوص، لكنها قررتْ أن تختفي من العنوان. وهذا يحيلنا على أهم كتاب سردي في الثقافة العربية، كتاب «ألف ليلة وليلة»، حيث تقوم شهرزاد بإنتاج عوالم الحكايات، ولكنها تغيب هي عن هذه الحكايات وعن العنوان. رغم حضورها في الحكاية الإطارية لليالي العربية.

في لوحة الغلاف تظهر وجوه خمس نساء، بشكل غير واضح، وهنّ مغمضات العيون، وكل واحدة يتجه وجهها إلى زاوية مختلفة، وتظهر علامات الحزن، وتخترق بعض الخطوط في اللوحة وجوه بعض النساء. هذه الخطوط تُمثّل انكسارات لعوالم هؤلاء النساء. وجاء الرجل منفردا في العنوان، في حين جاءت نساء اللوحة في وضع المجموعة.

هل إغماض العيون يمثل حالة حزن للنساء، أم هنَّ في حالة حلم؟ وهل إغماض العينين ينسجم مع مفردة « النائم»؟ من المفارقات في لوحة غلاف المجموعة غياب أي شيء يدلُّ على الرجل، والحضور الكثيف للنساء في اللوحة ذاتها، يكشف لنا عوالم المجموعة. من النائم في المجموعة والسرد، النساء أم الرجل؟ يتشابك الحلم مع الواقع في النصوص، حتى لو كانت هذه الأحلام منكسرة.

في الإهداء الأول، يحضر الأب في مشهد غياب، تحاول الكاتبة استحضار اللحظة الأخيرة من الغياب،» تلك الطريقة التي غادرتَ فيها، وأنت تعبرُ لآخر مرة إلى الخارج، مثل الماشي في جنازة، كنت تضحك، خطوك الإيقاعي الحزين...» تهدي الكاتبة مجموعتها إلى والدها، وتستحضره في مشهد سردي/ سينمائي، الساقين، الضحكة، العينين، كل ذلك في لحظة غياب الأب، ومحاولة التقاط صورة متخيّلة لضحكته الجذلى، حضر الحزن والفرح، والحياة والموت في الإهداء الأول.

في الإهداء الثاني، «إلى مريم»، والمشترك في الإهداء: الحب/ الفوز/ والخسارة، أمام لعبة الحب الكل يخسر، فالهزيمة هي المصير أمام هذه اللعبة، يتداخل ويشتبك هذا الإهداء مع ثيمات بعض نصوص المجموعة. تذهب إلى الشخصيات التي أصابتها خيبات الحب وسهامه. فالخسارة التي ظهرت في الشخصيات كمصير لها.

سؤال المكان

المكان بوصفه مكونا من مكونات السرد، كيف ظهر في المجموعة؟ كيف تفاعل مع المكونات الأخرى للنص؟ وكيف تحوّل المكان من عنصر سرديّ إلى سؤال وجوديّ؟ إلى قلق يوميّ؟ إلى مركز للشعور بالاغتراب؟

المكان في هذه المجموعة كان مفجرا للأسئلة، محفزا للنبش في قلق الإنسان المعاصر، فالبحث عن سكن لائق لعائلة لا تملك دخلا عاليا، تحول في النص الأول (ذا بْرونْكسْ عمان) إلى طرح إشكالية العلاقة بين الإنسان وهذه المكعبات الإسمنتية، وهذه المكعبات الإسمنتية أداة من أدوات التحول في نمط حياة الإنسان، وكيف تحول البحث عن مكان يضم العائلة إلى قلق وتوتر داخل النص، فالمكان يجر الإنسان المعاصر ليطرح هواجسه، هل هو قادر على التحول من حياة إلى حياة أخرى لها ضوابطها ومقاساتها؟ فالمعبيلة ليست كالخوض رغم القرب الجغرافي؟ والجشع المادي يسيطر على التجار، وسماسرة العقارات، ومواصفات البناء لا تتناسب مع أحلام العائلة، ولا مع الحياة الكريمة.

«التمعت أضواء بر الجصة في رأسي كمشاعل المهرجانات، واكتسح عاطفتي حنين غير مألوف، لمكان لا أنتمي إليه لكنه يثير رغباتي في الحياة النظيفة» ص40. نلحظ في هذا النص، بأن الشخصية لا تنتمي إلى المكان، ولا يُشكّل هذا المكان أي ذكريات أو تكوين داخلي لها، إلا أنها يكتسحها الحنين لهذا المكان، وهذا يُكوّن المفارقة في علاقة الشخصية مع المكان، فهي تنتمي إلى مكان آخر، وعالم معيشي أقل، لكنها لا تحن له، هل الرغبة إلى الانتقال إلى مستوى معيشي أعلى وراء هذا الحنين؟ حتى لو كان الانتقال فقط عن طريق الحنين. علاقة الشخصية مع المكان علاقة عمل، وهذا العمل يُشكّل أحد أحلام هذه الشخصية، فكل ما تراه في المكان، يجعلها تطرح أسئلتها الخاصة، ووضعها المادي والمعيشي، وهناك سؤال مضمر عن الطبقية في المعيشة وعن سؤال العدالة الاجتماعية، وعن الزبائن التي تراهم الشخصية في مطاعم بر الجصة؟ وهذا ما تكرر مرة أخرى في نص «قهوة معصومة»، حين يقارن سالم ومرزوق سائقا سيارات الأجرة، بين وضعهما المعيشي، وبين وضع زبائن مقهى كوستا في شاطئ القرم، وحال سيارتيهما، ووضع السيارات الفارهة التي تمر، سالم ومرزوق ظلا وفيّين لقهوة معصومة ـ زوجة سالم ـ التي تصنعها في البيت بمحبة، ولم يطلبا من كوستا. فالمكان هنا يُحرّك عوالم النص الداخلية وعلاقاته وثيماته، فرمزية شاطئ القرم وما يُشير إليه من طبقة أرستقراطية، وأحداث النص وحال السائقين، يصنع المفارقة، ويصعد الحدث.

في نص «تلفاز» المكان يؤدي دورا محورا، حيث الشخصية التي تتشارك مع أسرتها البيت، عليها أن تشاركهم بجزء من راتبها المتواضع. فالمكان بشكل خفي يشكل التوتر الداخلي للنص، يُحّرك شخصياته، ويصاعد من توتر العوالم الداخلي، حتى مكان العمل بشكل غير واضح يدفع الشخصية للمقارنة بين وضعها المادي والأسري وبين زوار المكان. فهنا في بر الجصة عالم آخر لا تنتمي له الشخصية.

«مسقط مدينة رغبات، نستيقظ فيها على أحلام كلها أمنيات ضائعة، وتدفعنا دفعا لملاحقة سراب الحياة الباذخة: الأماكن الفاخرة، قلق الأمومة، الحب واستقراره، تقلبات الحياة الزوجية، الرغبات/ «الإرادات» بمستوياتها التي تعذبنا وتهلكنا بمرارة قاسية» ص78. كل هذه العواطف والمشاعر والخيبات يُفجّرها المكان «مسقط»، فالمكان ليس مسرحا للحكاية، بل مفجر عوالمها الداخلية، أحيانا يكون المكان سببا لشقاء الشخصيات، كما ظهر في نص «تعب الحكايات». رغم أن الأمكنة تحيل على الثبات والسكون، إلا أنها قادرة على أن تزلزل وتقلق عوالم الشخصيات، فالشخصيات في هذه المجموعة ليست على وفاق ولا انسجام مع الأمكنة، فالمدينة تحمل كمًّا هائلا من التحولات التي تحرك وتقلق نمط حياة الشخصيات. والشخصيات تطارد سراب وأهام الحياة الباذخة، وهذه المطاردة مصيرها الفشل والمرارات.

فشخصية سلام في نص «تعب الحكايات»، وهي في نيويورك تُفكّر، وتقارن بما تراه، وما تحمله في ذاكرتها عن مسقط. « في مسقط تتمشى السيارة فقط على الجسور، فالأرصفة ابتلعتها حيازات البيوت وأحراماتها، أما هنا فإن أرصفة المشاة هي التي تتمشى على الجسور» ص96، رغم البعد الجغرافي بين مسقط ونيويورك، والفارق العمراني، إلا أن الشخصية «سلام» ظلت تقارن بين المكانين، وكأن مسقط كانت القلق والمحرض على النبش في ذاكرة الشخصية وتوترها الدائم. «تذكرت أنها في مسقط عندما ترتدي العباءة فإن الرجال يلاحظونها كما تلاحظ الصقور عيون فرائسها من علو» ص97، فالمكان البعيد يدفع الشخصية للنبش والغوص في مناطق التوتر وعدم التوافق والكبت، والجسور لا تدع البشر يمشون فوقها، والعباءة لا تحمي المرأة من عيون الصقور. هل كان الضجر والسأم هما الدافع لهذه المقارنات، أم فشل الشخصية من التعافي من الجروح الداخلية؟ إذ الماضي وظلاله عالق بتصورات الشخصية، وهي لا تستطيع تحديد مصدر السأم، أهو ترك مسقط أم الرجوع إليها؟ فسلام ليس لديها تصور كامل للمكان، وربما هذا يشكل قلقها الداخلي نحو الأمكنة.

المكان الآخر، المختلف عن الشخصيات، في نص «تعب الحكايات»، والهاربات إليه، من مشاكلهن الزوجيّة والعاطفيّة، المكان الآخر «أوروبا» كان بمثابة الملاذ والمهرب، كل واحدة حاملة جروحها للتطهر من ماضيها. لكنهن « وبشكل أدق، بدون كعلب فاصوليا من القصدير ملقاة على أرصفة لندن، بحاجة إلى ترميم قلوبهن».105

حضرت مسقط بمناطقها، بوشر، سداب، الخوير، مطرح، والمعبيلة، وحضر البيت، والمقهى، والمطار، وشاطئ الحب، وبرج ريام، والشقة، وبيت العزاء، فتمازجت الأمكنة مع قلق الشخصية وتصاعد السرد، وحضرت المدن الغربية كذلك: لندن، باريس، نيويورك، روما، ميلان، فلورنسا، بولندا، تكساس، مترو الأنفاق.

المكان في المجموعة يتمازج مع عوالم الشخصيات، يفجر بداخلها الكثير من المشاعر والأحاسيس والسأم والضجر، فالنساء الهاربات بخيباتهن في نص «تعب الحكايات» يجدن أنفسهن محاصرات بالضجر والسأم ذاته في أوروبا، انطلقنا من مكان الشقاء للبحث عن أمكنة للشفاء، لكن النتيجة مخيبة للشخصيات، «التاريخ الذي يتبجح على هيئة آثار في روما، يشبه ركود الوقت في مسقط بالضبط، تذكرت سأمي في عُمان لذلك لم أحبّها، الكاتدرائيات والأبراج، المساجد والمآذن، ما الفرق؟» ص113، الضجر المترسبة والسأم القاتل داخل الشخصية لا يرى الفرق بين المدن، رغم أن هدف الرحلة كان التخلص من الماضي، ولكن الماضي ظل ملتصقا بنظرة وتصورات الشخصية، فمسقط تحضر للمقارنة بعوالم روما.

قلق الذات

القلق كان حاضرا، وبصور شتى، لا تخلو النصوص من قلق الشخصيات، فالشخصيات القلقة والمنهزمة والمنكسرة هي التي تُحرك النصوص، من النص الأول، يظهر قلق الحصول على مكان للسكن، وقد كان محرضا للشخصية على البحث بين المعبيلة والخوض، إلى النص الأخير «البناية رقم 547»، الذي يلوح في أفقه قلق المرأة التي تراقب العائلة، وتوتر الطفل.

الشخصيات في وضع غير متوافق مع واقعها، وعوالمه الداخلية أو الظروف الخارجية، علاقاتها مع الآخر يشوبها الكثير من التوتر؛ ففي نص «أعمار هاربة» نجد أن العائلة غير متوافقة مع الأب، فهو يعيش شخصيتين، شخصية الرجل الثمل ليلا، وشخصية الأب النادم صباحا.

«الصخب هو ما ألفته عنه، وهذا السكون يصيبني بالشكوك» ص147. حتى الصمت والسكون يسببان قلقا للشخصية، عدم التوافق هذا يجعل الشخصية تغوص أكثر في عوالمها الداخليّة. « دروبي الوحيدة والأكيدة هي العتمة» ص148، وهذه العتمة هي التي تقود الشخصية لتتوغل أكثر في مكامن الخوف والإحباط والاكتئاب، الهواجس والمشاعر غير منتظمة في دواخل الشخصيات. التوجس من الآخر يدفع الشخصيات إلى القلق، والتوجس من الأمكنة كذلك.

كل الظروف والعوامل تدفع الشخصيات إلى دوائر القلق والتوتر. البحث عن بيت يلم العائلة، البحث عن عمل، والتنقل بين الوظائف، الخيبات العاطفية، قسوة الأم وجشعها، الأب وتسلطه، طمع الأخ، الغيرة بين النساء، القلق من الطبيب النفسي، الخيانات، الإحباطات النفسية، كل هذه المسببات أنتجت شخصيات تتلبسها الهزيمة الداخلية، تطعنها خناجر الضجر وسهام القلق. رغم المحاولات القليلة التي تحاولها بعض الشخصيات للخروج من دوائر القلق.

تشعر بزجاجية الزمن، والمكان، والحضور، والغياب. بدأ كل شيء حولها مُعدًّا للتكسر» ص109، تندفع الشخصيات في هذا الاتجاه، من الانكسار والإحباط، محاولة بذلك الكشف عن مكامن الذات وقلقها، والنبش في تناقضات المجتمع في زمن التحولات الحياتية.

حاولت القاصة من خلال هذه الشخصيات القلقة الكشف عن خبايا النفس البشريّة، وما تتعرض له من انتكاسات وخيبات وهي تعبر زمن التحول، تحول دون وعي، هذا القلق الملازم للشخصيات يكشف لنا جوانب الخلل في المجتمع وتناقضاته.» وقفن ثلاثتهن في هيئة جنائزية كأشباح في ثياب مهلهلة على وتد، وحيدات في ليل ساهم، كانتظارات مؤلمة لحلم لا يأتي» ص126.

حمود سعود كاتب وقاص عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الإنسان المعاصر فی العنوان البحث عن التی ت إلا أن

إقرأ أيضاً:

فيلم اللّذة القاتلة.. إجازة عائلية تكشف عن أزمة الذات والتصدع الاجتماعي

ما بين دراما العائلات واستكشاف الأماكن يمكن النظر إلى العديد من الأفلام التي تستعرض تلك اليوميات الخاصة بأفراد العائلة في إطار من الروتين اليومي أو الفعاليات اليومية.

وهنا سوف تتفاوت دراميا الأهداف من وراء تلك الدراما التي سوف تتطور تدريجيا إلى نوع من الرضا والتسامح والتعاطي مع الأمر الواقع، مع أن الواقع يتكشف عن مشكلات وتعقيدات ما تلبث أن تتفجر وتنعكس على الشخصية الدرامية.

هذه المقدمة تنطبق على العديد من الأفلام التي تنتمي إلى هذا النوع، نذكر منها، فيلم "الطريق الذي سلكناه- 2009" وفيلم "السمكة الكبيرة 2003"، وفيلم "دان في حياته الحقيقية -2007"، وفيلم "صخرة العائلة – 2005"، وفيلم "هانا وأخواتها -1986"، وفيلم "بيت من أجل العطلة – 1996"، وفيلم "قابل الوالدين -2000"، وفيلم "راتشيل تتزوج – 2008"، وفيلم "حياة لا نهائية -2005" وغيرها من الأفلام...

واقعيا نحن أمام فيلم "اللذة القاتلة" للمخرجة نيل ستوفين وهو من إنتاج ألماني - فرنسي، وقد افتتح عرضه العالمي الأول في مهرجان برلين السينمائي الدولي الذي اختتم قبل أقل من شهر من الآن، وهو يحاكي إلى حد ما ذلك النوع من أفلام العائلات، كما انه من جهة أخرى يمزج ما بين الفانطازيا والرعب والجريمة في شكل سينمائي، يبني من جانب آخر على ما يمكن أن نسميه اختلاف الثقافات.

وإذا توقفنا عند هذه النقطة الأخيرة قبل أن نغوص عميقا في أحداث الفيلم، فإن سلسلة من الإحالات يمكن التوقف عندها، فالعائلة الألمانية ميسورة الحال قادمة لقضاء إجازتها في منطقة بجنوب فرنسا، وما أن تصل إلى ذلك البلد حتى تجد نفسها وسط موجات من التظاهرات في ذلك الوقت وكلها بالطبع تتعلق بتحسين الأحوال المعيشية.

هذا التمهيد وفيما العائلة محاصرة في داخل السيارة والمصادمات بين المتظاهرين ورجال الشرطة الفرنسية والضرب واستخدام الغازات تجري من حولهم، كلها صور ومشاهد تبدو وكأنها المرة الأولى التي تشاهدها العائلة وهو ما سوف تؤكده مرة أخرى في علاقتها مع طبقة صغار الموظفين التي تنظر إليها من الأعلى حتى تتسلط على العائلة فتاة تدعى تيودورا - الممثلة الإسبانية كارلا دياز التي سوف تتمكن من فرض الأمر الواقع على العائلة وتعيش في وسطهم بصفة مدبرة منزل ومن ثم تبدأ التسلل إلى حياة تلك الأسرة وصولا إلى تداعيات خطيرة لم تكن في الحسبان.

واقعيا نحن أمام قصة درامية تتكشف من خلالها شخصيات نستطيع أن نقول إنها تائهة وشبه منقطعة عن الواقع، فضلا عن تصدعات كانت متوارية وسرعان ما تتكشف تباعا، سواء في طبيعة العلاقة بين الزوجين والتي تتجلى من خلال العديد من المشاهد التي تجمع الزوجين القادمين من تلك الطبقة الموسرة، وهما اللذان يشعران كأن العائلة أصبحت مثل سمكة خارج الماء عندما وجدت نفسها على تماس مع طبقة الخدم ومشاهدة المتظاهرين ولاحقا انضمام تيدورا إلى العائلة من خلال الحادث المدبر الذي لفقته بحجة أنها صدمت بسيارة جون وفقدت وظيفتها بعد ذلك ومن ثم أصبح تسللها إلى العائلة في حكم الأمر الواقع.

يقول الناقد نيل بيثرو الناقد السينمائي في موقع سكرين رانت:" لا شك أن رسالة الفيلم تأتي هنا على شكل رمزية بصرية متميزة وحوارات متقنة، ولكن القصة والشخصيات تصبح تدريجيًا أقل تأثيرا للتعبير عن الفكرة الرئيسية للفيلم، رغم أن رسالته تبقى قوية ومؤثرة طوال الوقت.

القصة تأتي ثانوية مقارنةً برمزية الفيلم المتعددة الطبقات، والتي تُكرّر النقاط الواردة في المشهد الافتتاحي بطرق لافتة للنظر ويُعدّ هذا سلاحًا ذا حدين للفيلم. فبينما تُعدّ العناصر البصرية للفيلم مُكمّلًا مثاليًا للتعبير عن سردية الفيلم، إلا أن هذا المستوى نفسه من التفاعل لا يُترجم بشكل واحد من طرف الشخصيات".

أما الناقدة السينمائية كارينا بلوم في موقع ميت كريتيك فتقول: "على الرغم من أن الفيلم يُقدم على أنه دراما إثارة منزلية تقليدية، مدعومة بالمؤامرات، إلا أنه يصمد دراميا رغم بعض الحوارات غير المتقنة في مقابل المهارات الإخراجية التي تفوق النص المكتوب، ويمكن القول إن المخرجة قد نجحت في انتزاع أداء قوي من الممثلين، وإضفاء جو كثيف ومتوتر على القصة التقليدية، على خلفية براعة تصوير فرانك كريب".

لاشك أن تسلل تيدورا كان عبارة عن ثقب اسود كبير بدأت العائلة تدخله بالتدريج عندما استدرجت الزوجة تعبيرا عن سخطها من إخفاق زوجها وانضمامها إلى ثلة تيدورا من الشباب المنطلقين على دراجاتهم النارية ليلهم كنهارهم وخلال ذلك تفصح تيدورا بوضوح أنها تنتمي إلى جيل سوف يعجزون عن السيطرة عليه أو إدراك نواياه، وهو ما تشير من خلاله إلى الدوامة التي سوف يدخل فيها الجميع ولن يخرجوا منها بسلام.

إخراجيا عمدت المخرجة إلى بناء حلول جمالية وتعبيرية من خلال خطوط السرد المتعددة، إذ أتاحت لكل شخصية أن تعبر عن أزماتها الخاصة وحيث الصمت المطبق يخيم على الطفلين لكن شهادة الطفلة لوحدها التي لا تستمع إليها الأم كانت كفيلة بكشف نوايا تيدورا في التسلل إلى حياة العائلة سواء بسرقة هاتف الزوجة أو التفتيش في دولابها.

وهنا يمكننا التوقف عند التداعي المستمر للشخصيات ضمن نطاق السرد الفيلمي القائم على فكرتي الممكن والمتوقع والمبني على رغبات أكثرها يتميز بالأنانية وعدم الانفتاح على الآخر وهي ثغرات مهمة كانت كافية للكشف عن الشخصيات وهي في أشد أزماتها صعوبة حتى إذا انتقلنا إلى الحل الإخراجي وما رسمه السيناريو بأن تيدورا وأصحابها بالإضافة إلى التنسيق فيما بينهم للإيقاع بالضحايا إن هم إلا مجموعة من مصاصي الدماء وهو ما سوف يظهر في المشاهد الأخيرة، وفي الحقيقة إنه تفصيل لم يكن ذا قيمة مهمة على صعيد الدراما الفيلمية.

ومن جهة أخرى وجدنا أن جون وزوجته بما أوتيا من خبرات وتجارب وتاريخ مهني وطبقة أرستقراطية، إلا أنهما بديا شبه مغفلين وبالإمكان خداعهما والتلاعب بهما وخاصة من طرف تيدورا وأصدقائها وهو تضارب ملفت للنظر في بناء الشخصيتين، وربما كانت الطفلة أكثر يقظة من والديها اللذين سوف ينحدران تباعا في اللعبة التي يصنعها أصدقاء تيدورا وهي مفارقة درامية ملفتة للنظر واستثنائية.

لاشك أن الفيلم على بساطة الفكرة التي عالجها على صعيد هذا النوع من الدراما العائلية، إلا أنه امتزج بمعطيات كثيرة وتماهى مع فكرة فيلم الرعب والكوميديا السوداء وأفلام مصاصي الدماء في مزيج درامي جعل مسألة الاهتمام والمتابعة للأحداث مؤكدة ومثيرة للاهتمام لدى المشاهد.

...

سيناريو وإخراج/ نيل ستوفين

تمثيل/ فاليري باشنر في دور إستر، فخري يارديم في دور جون، كارلا دياز في دور تيودورا

مدير التصوير/ فرانك كريب

موسيقى/ فولكر برتيلمان

العرض الأول/ مهرجان برلين السينمائي الدولي - 2025

• اسم الفيلم تم تعديله من طرف نيتفليكس من اللذة إلى اللذة القاتلة.

• الفيلم ليس للمشاهدة العائلية.

مقالات مشابهة

  • فيلم اللّذة القاتلة.. إجازة عائلية تكشف عن أزمة الذات والتصدع الاجتماعي
  • فرص عمل ومدعوون للمقابلات الشخصية
  • موت الأسرار.. الكشف عن الذات في العصر الرقمي
  • كيف يتفاعل الطيارون مع سلسلة حوادث الطيران الأخيرة وقلق الركاب المتزايد؟
  • الدراما اليمنية.. بين إثبات الذات وتجاوز التحديات
  • 8.5 مليار درهم قيمة مساهمة مجموعة «أدنيك» في الاقتصاد الوطني خلال 2024
  • "أدنيك" تساهم بـ8.5 مليارات درهم في اقتصاد الإمارات خلال عام
  • لست في سباق.. ارفق بذاتك حتى لا تخسر كل شيء
  • مجلس الأمن: مجموعة “أ3+” تدعو إلى وقف إطلاق النار في السودان
  • باسم سمرة: عبد المجيد أوفكورس من أقرب الشخصيات لقلبي