لجريدة عمان:
2024-12-17@10:43:16 GMT

توطين الصورة

تاريخ النشر: 22nd, September 2024 GMT

يخبرني أحد الإخوة بأنه دخل ذات يوم مجلس صديق له، وكان المجلس عامرًا بالأصدقاء وكانوا منهمكين فـي لعب الورق (الكوتشينة) يتعالى صراخهم وضحكهم بينما فـي الجانب الآخر من المجلس تقبع شاشة كبيرة معلقة على الحائط تبث نقلًا مباشرًا لصور المذابح والدمار والقتل والأشلاء المتناثرة والدماء التي تغطي الشوارع وصياح الأمهات الثكلى! والعجيب أنه لا أحد من الجالسين يلتفت لما تحمله الشاشة من مآسٍ وأذى وجرائم ترتكبها إسرائيل وكأن الأمر عادي ومعتاد، ولا شيء جديد.

هل هذا التبلد فـي المشاعر هو مرض نفسي ناتج عن توالي الصدمات أم هو تكرار الصورة يوميا أو أننا لم نعد نكترث بالإنسانية والأخلاق والسمو أم قلوبنا تحجرت وقست وأصبحت أقسى من الحجارة! أو لم نعد أولئك المؤمنين الذين وصفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فـي توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. ليس لدينا إلا القلق هو سيد موقفنا وذخيرة أيامنا، مع حفظ المقام لسيد القلق العظيم (بان كي مون).

إن ما أصاب ذلك القوم أصحاب المجلس وما أصابنا ويصيبنا أصبح للأسف شيئا عاديا وأعدنا برمجة سلوكنا لنتعود ونتأقلم عليه بشكل عادي ومقبول، وقد يكون ذلك ديدن البشر بشكل عام وسمة غالبة. لكن واقعنا نحن معشر العرب أكثر إيلاما، معنيين مباشرة بالأذى والجرائم التي ترتكبها إسرائيل فـي حقنا وحق أهلنا بغزة.

يخبرنا علماء النفس وفـي مقدمتهم (سيجموند فرويد) بأن الإنسان يستطيع أن يتجاوز مرحلة الألم ويوطن نفسه مع ذلك، وأن العقل البشري يميل عادة إلى ابتكار وسائل دفاعية ليعيد برمجة سلوكه ليجعله قادرًا على التأقلم مع الأذى والشعور بالخذلان، وأن ذلك يولد لدينا ما يسمى بـ(آلية العاطفة اللاواعية) المرتبطة بالنسيان وهي مرحلة يتدخل فـيها العقل البشري عندما يشعر بالأذى والخذلان من شيء معين متكرر يقوم العقل بشحذ أسلحته حين يقرر الدماغ بأنه ملزم بالنسيان وتجاهل تلك المشاهد المؤلمة ليتمكن من التأقلم والتعايش مع الألم والأذى وهي آلية دفاعية يتبناها الدماغ البشري لقمع الأفكار المؤذية والمؤلمة. بحيث نغدو قادرين على تجاوز الألم والتعايش معه وعدم التعاطف ونفقد القدرة على الشعور والتفاعل ونفقد بموجبه المسؤولية وعدم القدرة على إحداث أي تغيير وببساطة ندخل فـي مرحلة التبلد العاطفـي.

إن صور الدمار والأشلاء تتسارع أمامنا وهي تقطر دمًا، شيء مذهل بالتأكيد، ما حصل فـي ذلك المجلس فـي الحقيقية ليس غريبا ولا مستغربا؛ إذ يمكن أن يتكرر فـي حياتنا اليومية إذ أصبحت مناظر القتل والمذابح لا تثير مشاعرنا ولا تحرك فـينا شعرة كما يقال، والحقيقة المرة أن تلك الحالة اللاشعورية ليست جديدة ولا وليدة حرب غزة فتلك الحالة تلازمنا وقد يبدو أننا أخذنا مناعة منذ زمن طويل إذ أصبحت كل تلك الحروب التي تشنها ضدنا أمريكا وإسرائيل وبريطانيا والغرب لا يحرك فـينا شيء وأصبحنا نتعامل مع هذه الأوضاع بشكل عادي وكأنها جزء من نسيج حياتنا اليومية. لا شيء يحركنا لا المشاهد اليومية التي يكسوها اللون الأحمر القاني المتدفق، ولا الغبار المتصاعد من المنازل التي تفجر وتسقط على رؤوس ساكنيها والمستشفـيات التي تفخخ وتتناثر حجارتها ولا الأجساد المتناثرة التي مزقها القصف المركز والممنهج فـي أنحاء القطاع ولا الجثث التي تنتشل من تحت الركام، لا صيحات (الله أكبر) تنفع ولا ارتجاف الأطفال ورعبهم ولا الأمهات اللواتي يتعالى نواحهن ونحيبهن، كل تلك الصور ونحن صامدون لا يتحرك فـينا ساكن، فواجع ومذابح وكوارث لم يشهدها العالم وقلوب فطرت على ما فقدت من عزيز، يحدث ذلك بتواطؤ من المجتمع الدولي الذي يتحمل المسؤولية المباشرة عن جرائم الصهاينة ودولتهم المجرمة.

إن الصورة المكررة واليومية التي تكاد لا تمر ثانية إلا وشاهدناها وترسخت فـي وعينا واللاوعي. أصبحنا لا نشعر وتولد لدينا حالة اللاشعور واللاقلق والاعتياد، وصبغ حياتنا بالعادية والمستساغ. نجحت الصورة فـي ممارسة قدرتها على الترويض والتطويع والعادية والمبتذلة.

للأسف وصلنا إلى تلك المرحلة من التخدير واللاشعور وتبلد المشاعر، وكأن الذين يقتلون ليسوا منا وفـينا وليسوا من جلودنا وليسوا من دمائنا وكأن لا شيء يجمعنا معهم مثل اللغة والدين والتاريخ والجغرافـيا، يقتلون ويذبحون وتنتهك أعراضهم وتدمر منازلهم ومدارسهم ومستشفـياتهم وتجرف طرقهم ونحن فـي منتهى الأريحية مشغولون بحياتنا بشكل طبيعي جدًا.

بلا شك ذلك ما تسعى إليه إسرائيل والغرب ينشر صور المذابح والأشلاء والدمار وفق خطة ممنهجة ومرسومة تعمل على اصطيادنا وإعادة تشكيل وعينا وشعورنا. بعبارة أخرى نجح الغرب وإسرائيل فـي ترسيخ صورة العادي والاعتيادي واللاشعور لدينا. ويبدو أنهم راهنوا على التعود على صور القتل والمذابح لدرجة أصبحت تلك المشاهد وكأنها ضمن الاعتياد اليومي فـي الحياة، فليس مستغربا أن ننهض فـي الصباح على مشاهد الذبح والقتل والدمار وتستمر الحياة بشكل عادي ويمارس الناس حياتهم الطبيعية، تلك الصورة المراد تكريسها فـي الوعي العالمي والعربي لربما نجحت أو يراد لها أن تنجح فتتوارى مجازر غزة وتتراجع عن صدارتها وتطغى عليها أخبار أخرى تصطنع ومشاهد تمثيلية. يصبح قتل شعب أعزل وتدمير منازله شيئا عاديا وروتينيا. يراد لنا أن نتكيف مع تلك المجازر ونعتاد عليها، فـي الوقت ذاته تكرس إسرائيل همجيتها وغطرستها وعنفها بشكل هستيري وقرع طبول حروبها غير مبالية بأي شيء وإنها على استعداد لارتكاب أعتى الجرائم دون أن يردعها أحد.

المراهنة على المعتاد والاعتيادي وبث تلك الصورة المركزة المحتوية على جرعات زائدة من البشاعة والفظاعة وتكرارها يوميًا دون حدوث تغير أو شيء يردع ذلك أو تغيير جوهري يوقف تلك المذابح والإبادة وتكرارها يوميًا يؤدي على المدى الطويل إلى التبلد واللاشعور وقد يتأقلم معها السلوك البشري. إن سريان الأوضاع العادية وتوالي تكرار الصورة البشعة وتدفق صور المذابح والأشلاء الممزقة بلا شك تؤدي إلى أضرار نفسية وتصيبنا بالإحباط وعدم القدرة على فعل شيء وقلة الحيلة والشعور باليأس والخذلان والعجز. وأمام ذلك قد يجد الإنسان نفسه فـي ظل هذه الأوضاع الاعتيادية أمام خيارات للتعامل مع الصورة وأغلب تلك الخيارات تدخل فـي اللاوعي، فنجد مثلا صعوبة فـي متابعة الصور المتدفقة وبالتالي صعوبة فـي متابعتها وقد نلجأ إلى الابتعاد أو الانزواء بعيدًا وعدم التحمل فـي مشاهدتها والأجدى به الانصراف إلى الأعمال المعتادة يوميا وقد نوطن أنفسنا معها والتعايش معها، وكل ذلك يؤثر بلا شك على النظام العاطفـي معنا ويصيبه بالتبلد.

إننا ببساطة نتلقى الصدمة الأولى ونتجاوزها بمزيد من التنفس وقد تعبر عن ذلك بالمظاهرات والاحتجاجات والإدانات والاجتماعات ثم تخفت تلك الصدمة إلى أن تتلاشى وتنتهي دون إحداث تغيير، فكلنا شاهدنا تلك التحركات المتسارعة على مستوى الجماهير وبعض الحكومات التي أعقبت المذبحة الإسرائيلية الأولى، الآن يبدو ذلك انتهى دون ردة فعل قوية وذلك هو المقصود تمامًا خفت كل شيء وانتهت الهبة واستمرت المجازر والإبادات والقتل.

إن توطين صورة القتل والدمار وقتل الأطفال والشيوخ وهدم المساجد وجرف الأسواق والطرق والمباني تتكرر يوميًا أمامنا دون أن نحرك ساكنا وبمرور الوقت يصبح ذلك عاديًا وكأنه ضمن الحياة اليومية بل الأدهى من ذلك وكأنه ضرورة لتستمر الحياة بشكل آخر فـي مكان آخر. لكي تعيش تلك الزمرة القاتلة فـي إسرائيل لابد أن تقتل الفلسطينيين وكأنها قربان يقدم لرفاهية وعيش آخر. فقد نجحت الصورة المكثفة التي تترسخ يوميًا فـي عقولنا ونفوسنا فـي إصابتنا جميعًا بالتراجع العاطفـي وتبلد مشاعرنا وعدم انفعالنا وموت إحساسنا، وهو مؤشر خطير وينعكس على موقفنا تجاه القضايا المصيرية والوجودية التي تهمنا. للأسف حصل ذلك فنجد أن دولا كثيرة عربية أو إسلامية أو أفرادا سرعان ما تأقلموا مع الصور المتدفقة من غزة وتبلدت مشاعرهم وتفكيرهم وانصرفوا إلى معاش يومهم وذلك باللجوء إلى بث صور معاكسة ومختلفة تماما تعبر عن جمود مشاعرهم وعدم مبالاتهم ودخلوا فـي مرحلة التبلد الشعوري والعاطفـي لذلك لا ترى إلا الترويج للصخب وخلق مزيد من الصور المبتذلة، إمّا على شكل مهرجانات احتفالية منفصلة بذلك عن الواقع المرير وكأنهم يعيشون فـي كوكب آخر أو لا مبالاة تجاه الصور البشعة. والأدهى من ذلك الترويج العكسي والمضاد لتلك الصورة، والحديث عن أن ذلك غير صحيح وغير مستحب ولا يستجيب للدين والشرع، بل والتعاطف مع الجزّارين والمجرمين على حساب الضحايا المضطهدين.

ما العمل تجاه ذلك، ما الذي يجب أن نفعله حتى لا يتسع الخرق ويصعب الرتق على الراتق. قد تكون المهمة صعبة، لكن ذلك يفرض علينا مواجهة هذا الانفلات فـي المشاعر. حتى لا يأتي يوم نجد أنفسنا خارج السياق لا نمد للكوكب الأرضي بأي انتماء. علينا أن نستحضر مآسينا وخيباتنا وألا تغيب عن بالنا ويجب علينا أن نستمر فـي الضخ الأخلاقي والمثل الدينية الحقة، وأن نسخر الإعلام خدمة لذلك، وأن تتداعى كل إمكانياتنا لخدمة قضايانا المصيرية، أن نعمل على فضح سياسة العدو الصهيوني وداعميه وتكثيف العمل فـي وسائل الإعلامي الرسمي والإعلام البديل من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات وألا نكتفـي بخبر عاجل فقط سرعان ما يتوارى خلف الأخبار الاستهلاكية اليومية، يجب أن نقوم بعملية تعبوية شاملة وتثوير العقول والنفوس ووضع خطط إستراتيجية لمواجهة هذا التدفق العدواني البشع وأن يكون عنوان كل مراحلنا فلسطين وتحريرها بعيدا عن المزايدات والاستغلال وأن نبتكر آلية تتصدى لكل خائن مطبع، لتبقى غزة وفلسطين وأهلها هي عنوان صمودنا وتحررنا من الهيمنة الغربية الكولونيالية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: تلک الصور یومی ا

إقرأ أيضاً:

خبير إسرائيلي: يجب أن ننسحب بشكل تام من غزة بعد وضع هذه المعادلة

قال إيال عوفر، الخبير الإسرائيلي في شؤون حماس ، اليوم الإثنين، إن جميع المحاولات الإسرائيلية لتغيير النظام في قطاع غزة ، لم ولن تنجح.

وأوضح عوفر، في حديث لإذاعة 103fm العبرية، "صحيح أنه قد تطلق قذيفة صاروخية بين الحين والآخر من غزة، لكن بالطريقة التي نفذت بها حماس هجوم 7 أكتوبر، فإنها غير قادرة على تكرار ذلك - لكن داخل القطاع، لا تزال تهاجم الجنود الموجودين هناك، والحقيقة أن حماس لا تزال تسيطر على غزة".

وأضاف، "لا شك أن كل المحاولات الإسرائيلية لتغيير النظام في غزة لم تنجح، ولن تنجح، لذا أقترح أن نتخلى عن فكرة ما يُسمى إسقاط حكم حماس".

وتابع، "يجب أن نتأكد من أنه لن يكون هناك هجوم آخر مثل 7 أكتوبر، واستعادة الأسرى، إذا تخلينا عن فكرة إسقاط حكم حماس، يمكننا اقتراح إنهاء الحرب مقابل إطلاق سراح جميع الأسرى، المهم هو استعادة الأسرى".

وزاد عوفر، "إن أكثر ما يضغط على حماس الآن هو ما يحدث في شمال القطاع، هذا هو الأمر الذي يدفعهم ربما للموافقة على صفقة تبادل أسرى، يجب خلق الضغط في النقطة الأكثر إيلامًا لحماس - شمال القطاع وليس فيلادلفي - يجب أن ننسحب بشكل جدي من غزة بشكل تام بعد أن نضع معادلة: "شمال القطاع مقابل الإفراج عن الأسرى".

المصدر : وكالة سوا

مقالات مشابهة

  • جون كيربي: الطائرات المسيرة التي تحلق في سماء "نيوجيرسي" تعمل بشكل قانوني
  • 10 طرق لاستخدام مستحضرات التجميل بشكل صحيح
  • الأسد يقول في بيان من موسكو إنه لم يغادر سوريا "بشكل مخطط له"
  • بشار الأسد: لم أغادر سوريا بشكل مخطط
  • خبير إسرائيلي: يجب أن ننسحب بشكل تام من غزة بعد وضع هذه المعادلة
  • السيسي: حريصون على توطين الصناعة لتقليل الاعتماد على الاستيراد
  • الوزير: توطين 23 صناعة واعدة وتقديم تيسييرات للمستثمرين
  • العثور على صدام حسين في أحد سجون الأسد.. حقيقة الصورة المتداولة
  • خوري تبحث تعزيز السلام بشكل مستدام في ليبيا
  • رئيس الوزراء: وضعنا خطة للاعتماد بشكل أكبر على الطاقة المتجددة