الحردلو (22): الميراث الحي: بهواك مناي أطير..!!
تاريخ النشر: 19th, September 2024 GMT
عَمَد الشعر البدوي في السودان خلال النصف الأول من القرن العشرين للانتشار خارج الأقاليم البدوية إلى المجتمعات المستقرّة والمراكز الحضرية في ذلك الوقت. وأكثر تجليات هذا الظهور يمكن رؤيته من خلال تطوّر شعر الأغاني في أم درمان من 1920 إلى 1950م. (من عشرينيات إلى خمسينيات القرن العشرين)..!
ويورد كتاب "الحردلو صائد الجمال" أن أم درمان إحدى المدن الثلاث التي تتكوّن منها العاصمة الخرطوم.
وواقع الحال كان كل السكان في مجتمعهم الجديد قد انتقلوا إليها من مختلف بقاع السودان..وكانت الثقافة السائدة في أم درمان بالضرورة ثقافة بدوية...كما تبدو من المعمار ومن طبيعة العيش ومن التعبيرات الفنية..! وشكل الغناء الوحيد في حفلات الزواج كان من الدوبيت..وهو جنس الغناء البدوي بلا منازع..!
وسنرى لاحقاً أن الشعر البدوي في السودان اخذ إشكالاً أخرى من التطوّر وانتقل إلى التعبير عن قضايا أخرى معاصرة مما أكسبه حالة متجددة يمكن وصفها بالميراث الحي (Living Legacy)..!
**
كانت مربعات الدوبيت تُنشد بواسطة المغني قائد الجوقة أو (الكورس) الذي يُصدر من خلفه أصوات من الحنجرة وبغير موسيقى أو حتى مجرد طرق على طبل أو أدوات إيقاعية... ومثل الشعر البدوي كانت الموضوعات الأساسية المهيمنة في الدوبيت المُغنى (الطنابرة) هي شكوى آلام الفراق والتغزّل في جمال المرأة ومدح الفحولة والفروسية..!
لقد كان النمط السائد لحفلات الزواج بالتطابق (الكمدة بالرمدة) أن تجري طقوس الاحتفال في ساحة واسعة..الرجال في جانب (معظمهم وقوفاً) بينما تجلس النساء في "عناقريب" أو في بروش على الأرض وهن يمنحن ظهورهن للرجال..والمغنون يقفون في المقدمة..وهناك برش طويلو(long straw mat) يتم فرشه في وسط الساحة باعتباره "منصّة للرقص"..!!
وعندما يستهل المغني الغناء يقوم العريس أو أقاربه باستدعاء الفتيات إلى حلبة الرقص..وهنا فقط في هذه المرحلة يمكن للمغنين والحضور أن يختلسوا النظر (catch a glimpse) للفتاة تحت ضوء (الرتينة) التي تعمل بوقود الكيروسين..وتوضع في حاملة أو طاولة عالية..!
**
وبداية من العقد الثاني للقرن العشرين تحوّل مشهد "الطنابرة" والمغني القائد والكورَس الذي يقف بإزائه وهم يكرّون بحناجرهم..إلى مشهدٍ آخر يشغله مغنٍ واحد يقف خلفه "شيالون" آخرون يصفقون بأياديهم في إيقاع ويرددون خلف المطرب القائد مفتتح الأغنية (المطلع)..! وهكذا تم تدشين ميلاد ما يُسمى بـ(أغنية الحقيبة) وهو جنس متفرّد من الشعر الغنائي والموسيقي الذي هيمن على الساحة لعقود..ولا يزال حتى الآن يُحتفى به عبر البلاد..!
يشهد الشعراء معظم حفلات الزواج ويتم إجلاسهم في المقدمة..ونخبة غير قليلة من شعراء ومطربي هذه الفترة ولدوا أو اشتهروا من خلال هذه المحافل..!
**
وبينما تأثرت أغنية الحقيبة بالمديح؛ فإن الأسلوب الغنائي في كليهما له جذور عميقة في الشعر البدوي..! ونجد أن (تيمة) التوق والحنين التي تهيمن على الشعر البدوي حاضرة في قلب المديح وفي قلب أغاني الحقيبة.
ومثلما أن الشاعر البدوي منساق بالحنين لمحبوبته إلى رحلة عبر الفيافي..فكذلك شاعر المديح يسعى في شغف للوصول إلى المواطن والمعالم المقدّسة في مكة وضريح الرسول في المدينة المنوّرة..!
وفي مخاطبته للرسول الكريم نرى (حاج الماحي) وهو شاعر ومادح شهير يرسل في إحدى أمداحه هذه الزفرة من الوجد:
شوقك شوى الضمير أطراك مناي أطير
أنا حابو من صغير بريدك يا البشير
والبشير (لغةً) هو حامل الفأل الحَسن (Bearer of good tiding)..
**
وصالح عبد السيد (أبو صلاح) شاعر الحقيبة يعرض نغمة مشابهة تجاه محبوبته:
يا رشا يا كحيل غيثني..الهوى سباني
Come to my rescue,
my young oryx
I’m lost in your dark eyes
الأمرضني وما طبّاني
في خدود يلوح نور ربّاني
نيران أشواقك لاهباني
وسهام ألحاظك ناشباني
مِن ضمن الحالة التاعباني
مهضوم كشحك وصدرك باني
يتهادي يميل خصرك فريع باني
Lean and narrow under an imposing chest
Is swaying like a young ben tree
**
مِن شُفت الحُسن الفتانِ
نومي ترحّل ووجدي أتاني
مال جيش حُبك عتّاني
بي سهامو الما بتختاني
مال صدرك لحشاك تاني
كتفك مالبو فريع بستاني
يتِلْ بي دروعو يغوص تاني
ثم:
هبتلي روايح ناعشاني
يا نسيم عقِّب عود علشاني
قول ليهو غرامك أغشاني
وادركني الدمع الرشّاني
حسنك شانك والحب شاني
يا نسيم روح بلّغ واغشاني
بي حق من انشاك.. وانشاني..!
**
شعر أبو صلاح يمتح بعمق من منابع الشعر البدوي؛ خاصة في تعبيرات وصف الحنين إلى محبوباته وتشبيهه لهن بالغزلان، وتشبيه مياس القدود بالأغصان الخضراء اللينة المتأرجحة والبسمات التي تكشف عن أسنان بيضاء مثل ومضات البروق:
صيده غيرك مين الجسّرا
تستلم أفكارنا وتأسرا..؟ا
حال محاسنك مين الفسّرا..؟!
يا الثريا الفوق أهل الثرى
No other Oryx
can usurp my heart and mind
Who on earth can decode,
the charm of a heavenly star like you..?!
**
الصدير أعطافك فتّرا
والنهيد باع فينا واشترى
الشعر أقدامك ستّرا
لقطيبو قلوبنا البعترا
تشبيه محبوبته بغصن البان يتكرر أيضاً في أغنية أخرى:
فريع البانه.. المِن نسمه
يتمايل حاكا المنقسمه
**
نار قلبي بتوقد.. من وسمه
تلمع في خديدا.. كـ فر بسمه
الفم زي خاتم..نص قِسمه
يا الماك داريابي.. الغي قِسمه..
أبو صلاح مفتون بالنسيم والتضرّع إليه ليستخدم وفادته الطيبة (his good offices) في حمل رسالته للمحبوبة:
من قليبو الجافي ..لي قلييو الحان
النسيم يتردد..عامل استمحان..!
Shuttling back and forth
the breeze is lost,
between the nonchalant heart of her,
and the longing heart of mine
**
الغصون تتناول منّو خمر الحان
والطيور تتناشد أعذب الألحان
الفروع تتمايل ميلة الفرحان
والزهور بتصفّق ..ويرقص الريحان..!
"عادل بابكر" يبدع في نقل هذه الصورة لـ(أبناء جون) وللعالم الذي لا يدري كيف رسم أبو صلاح هذه الجنة:
From her grapevine,
tree twigs are sipping glassfuls of wine
And from their seats in jubilant, swaying branches,
birds are intoning sweet twitter,
Flowers are joining the choir,
and basils dancing their way to the stage
**
يا نسيم ما بالك..؟ تثني قامة البان
إنت رايق تلعب والعشوق تعبان
اكتشف ما دائي..؟ ما الدوا الصعبان
هل دا جرحاً بالغ..أم دا سم ثعبان..؟!
Would you identify my ailment,
and prescribe a treatment?
A serious wound? A venom’s bite? What?
**
قال لي لازم جُرحك مُدة الأزمان
لا روايحي تطبّك..لا ولا لقمان
البداوي جروحك شفتو يا سقمان
في عصير الند البنضحو الرمان
“You will have to live with it”,
the breeze said
“My fragrance can’t do you any good,
Not even the wisdom of Saint Luqman can
The only cure to your wounds, sick man,
is the aloe nectar of her pomegranates”
**
وعندما يرى ابو صلاح انه افتقد الثقة في (عزم النسيم) أو قدرته على المساعدة يتوجّه مباشرة إلى مخاطبة محبوبته:
بي غرامك حلّ ورحّل السكان
في مداين جوفي تملّك الأركان
ما ألذ النار السارجه بي لو كان
يبقا قلبي وقلبك في الغرام شُركان
لقد احتل غرامها قلبه وطرد جميع من كان فيه:
Your passion has occupied me,
driven all dwellers away..
صاحي سيّاف لحظك والطريف نعسان
ليك رشرش قاطع جندل الفرسان
إنتا بدراً ساطع.. في قوام إنسان
A luminous moon in a human form
ليكا حُسن الدنيا..وليّ شعر (حسّان)..!
مرتضى الغالي
murtadamore@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الشعر البدوی أبو صلاح أم درمان
إقرأ أيضاً:
دعا للمساواة في الميراث..كيف رد علماء الأزهر على سعد الدين الهلالي؟
القاهرة- أثار تصريح أطلقه أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر، سعد الدين الهلالي، حول إمكانية المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، موجة غضب واستنكار واسعة في الأوساط الدينية، باعتبار أن ما قاله يتنافى مع نصوص القرآن الكريم و"تعدٍّ على ثوابت الدين".
وكان الهلالي قد صرح أن المساواة بين الذكور والإناث في الميراث "ليست محرمة بنص صريح" في القرآن أو السنة، مشيرا إلى إمكانية ذلك حال تساوي درجة القرابة كالحال بين الأخ والأخت، واستشهد بتجارب دول أخرى مثل تركيا، إضافة لقانون المعاشات في مصر الذي يساوي بين الجنسين.
وشنَّ أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أحمد كريمة، هجوما حادا على الهلالي، معتبرا تصريحاته "تجاوزا غير مقبول للحدود". وقال للجزيرة نت إن "نصوص القرآن الكريم واضحة وصريحة في تنظيم الميراث، ولا تقبل النقاش أو الاجتهاد، لأنها تمثل أحكاما قطعية لا مجال فيها للرأي".
وأضاف أن "مثل هذه القضايا ليست مسألة خاضعة للاستفتاء الشعبي، فالورث ليس قرارا ديمقراطيا يُتخذ وفق رغبات الناس، وإنما فريضة من الله، لا يجوز أن نتعامل معه وكأنه ماسورة مياه نركبها أو نغير اتجاهها حسب الحاجة".
إعلانوشدد كريمة على أن "الانتقائية في الاستدلال والتدليس من خلال تأويل النصوص لتبرير الحرام أو تطبيع المنكرات، هي جرائم فكرية ومعرفية يجب محاسبة مرتكبيها".
من جهته، أعرب المشرف على الرواق الأزهري، الدكتور عبد المنعم فؤاد، عن استيائه من تصريحات الهلالي، قائلا إنه "يختبئ خلف صفة أستاذ جامعي في الأزهر لتمرير أفكار تخالف الشريعة". وأن "الأزهر سبق أن أعلن انحراف هذا الفكر، وتصريحات الهلالي ليست سوى محاولة لتفريغ الدين من مضمونه".
وتساءل في تصريح للجزيرة نت "هل يجوز أن نستفتي الناس على الصلاة؟" واستدرك مجيبا "فكيف نطلب استفتاء الشعب في قضايا حددها الشرع؟".
وتابع يقول "لا شيء في الدين يعجبه -في إشارة للهلالي- لا فريضة الحج، ولا نظام الميراث، بل سبق وصرّح بأن الراقصة قد تُعد شهيدة، ومثل هذه التصريحات تدفع الناس إلى الإلحاد والكفر، لأنها تشوه صورة الدين وتخلق البلبلة في المفاهيم".
وأكد فؤاد أن الميراث هو الموضوع الوحيد في القرآن الذي فُصِّل بدقة، مشيرا إلى أن "النص القرآني واضح ولا يقبل الاجتهاد، ومن يزعم خلاف ذلك فإنه يتعدى على حق من حقوق الله عز وجل".
مطالب علمانيةوفي السياق، اعتبر أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين في جامعة الأزهر فرع أسيوط، مختار مرزوق، أن ما طرحه الهلالي يعكس ما وصفه بـ"الأجندة العلمانية" في العالم العربي.
وقال مرزوق في حديثه للجزيرة نت "تصريح الدكتور الهلالي نموذج واضح لما يطالب به العلمانيون، الذين يسعون إلى تبديل أحكام شرعية قطعية، رغم أن علم الميراث يُعرف بعلم الفرائض، أي أنه فُرض من الله عز وجل وليس مجالًا للاجتهاد أو التغيير".
وأضاف "المرأة في الإسلام لا تأخذ نصف ما يأخذه الرجل دائما، فهناك حالات تأخذ فيها مثله، بل وأحيانا تأخذ أكثر منه، وهذا معروف لكل من درس علم الفرائض بالأزهر أو في كليات الحقوق".
إعلانوأشار مرزوق إلى أن الفكر العلماني الذي يتبناه البعض أثمر عن "أقوال خطيرة"، مثل اعتبار الصلاة مجرد علاقة روحية بين العبد وربه، أو أن الخمر ليست حراما، والصيام ليس فرضا، وقال "هذه الطروحات ليست معزولة، وإنما تتكامل في إطار مشروع تفكيكي للدين".
وأكد أن الأزهر ودار الإفتاء والهيئات الشرعية في مصر تصدت لهذه الطروحات، وأن "بعض العلماء طالبوا الهلالي بالتوبة علنا من هذه الأفكار التي تُعد خروجا صريحا عن الشريعة الإسلامية" حسب قوله.
التفاف على الشرعوفيما يتعلق بظاهرة قيام بعض الأهالي بكتابة أملاكهم لأبنائهم أثناء حياتهم لتفادي توزيع الإرث وفقا لأحكام الشرع، قال مرزوق إنه "لا يشجع ذلك مطلقا"، مبينا أنه ومن الناحية الشرعية قد يُحرم ورثة آخرون مستقبلا مثل الأبناء من زوجة ثانية أو حتى الأحفاد، و"هذا يُعد تعديا صريحا على العدالة الإلهية في التوزيع".
وتابع "أحيانا يقع الشخص الذي كتب أملاكه في مأزق حين يحتاج المال لإجراء عملية أو تغطية نفقات، فيضطر إلى طلب العون من أبنائه الذين صاروا مالكين شرعيين، هذا الأمر يُفقده الكرامة، ويخلق مشكلات لا تُحمد عقباها".
وأوضح مرزوق أن كثيرين يُقدمون على هذه الخطوة بدافع "حرمان أشقاء الأب أو الورثة الشرعيين من نصيبهم"، معتبرا ذلك تهربا من تطبيق شرع الله، ومخالفا للأمانة التي كُلِّف بها الإنسان في ماله وأهله.
ويرى المراقبون أن التصريحات التي أطلقها الهلالي أعادت إلى الواجهة الجدل الدائم حول حدود الاجتهاد الديني، والفصل بين حرية الرأي والخروج عن النصوص القطعية.