السياسة الصناعية ورداؤها الجديد الخادع
تاريخ النشر: 16th, September 2024 GMT
على الرغم من كل الفيلة البيضاء المتناثرة في عالم اليوم والتي تُـذَكِّـرُنا بفشل السياسة الصناعية في الماضي، تستأنف الحكومات مرة أخرى تقديم إعانات الدعم، وفرض القيود التنظيمية وتدابير الحماية لضمان سيطرة الشركات المحلية التي توجد الوظائف المحلية على مفاتيح اقتصاداتها الأساسية.
استحضارًا لروح نجاح مهمة الصعود إلى القمر الأمريكية في ستينيات القرن العشرين، قرر المبشرون الجدد بالسياسة الصناعية، وقد وضعوا نصب أعينهم طموحات أعظم، إعادة تسميتها لتصبح «الإستراتيجية الصناعية».
مع ذلك، ما دامت الإستراتيجية الصناعية الجديدة تقدم أفكارا لتحسين الحكم العام، فإنها مفيدة في المجمل، لكنها تصبح خطيرة بشكل إيجابي عندما تدعو إلى التدخل في القطاع الخاص، فبفضل الدعم الذي توفره الإعانات، والقروض، والإعفاءات الضريبية، والرسوم الجمركية، والمشتريات الحكومية، وما إلى ذلك، سَـيُـجَـنَّـد مشاركون مختارون في السوق لملاحقة ليس فقط النتائج الاقتصادية، بل وأيضا الاجتماعية والبيئية. مثله مثل السياسة الصناعية من الماضي، يقود هذا النهج المنافسة، ويعطل إشارات الأسعار، ويصر على الحكم على أداء الشركات وفقا لمعايير أخرى غير الربحية، بما في ذلك المصالح الوطنية الضيقة. لهذه الأسباب، تعمل الإستراتيجية الصناعية دوما ــ حتى لو أُطلِـقَت بأفضل النوايا ــ على استنزاف حيوية الجهود الاقتصادية الخاصة. وإذا أضفنا إلى ذلك الضغوط، والمحسوبية، والفساد الذي يحيط بأي مبادرة حكومية تُعرض فيها مليارات الدولارات، يتبين لنا أنه من الصعب أن نصدق أن هذا النهج قد يكون الحل الأمثل لأكبر التحديات التي يواجهها العالم.
ولأن السياسة الصناعية -عُـذرا، أقصد الاستراتيجية الصناعية- تنفذها حكومة، فإنها تعكس المصالح الوطنية المتصورة، وليس الاحتياجات العالمية أو الفردية؛ لكي نفهم لماذا يفرض هذه مشكلة، يكفي أن ننظر إلى تصنيع الرقائق الإلكترونية. كل دولة ذات حجم اقتصادي معقول تريد الآن مصنعًا محليًا لتصنيعها كحماية من النقص العالمي، ودعم الإنتاج العسكري في حالة الحرب.
لكن فوائد التأمين الذاتي مبالغ في تقديرها على الدوام، فبما أن أي دولة لا يمكنها تصنيع كل الرقائق التي تحتاجها صناعتها، فإن أي شركة مُـصَـنِّـعة محلية لا تضمن الحماية من كل حالات النقص. علاوة على ذلك، إذا كان النقص عالميًا، فلا بد أن يكون السبب وراء ذلك عالميًا، مثل الجائحة. فما الذي قد يجعل الشركة المصنعة المحلية للرقائق محصنة؟ عندما تكون تجارة الرقائق الإلكترونية حرة ــ مدفوعة بأسعار السوق وحافز الربح ــ فسوف يكون تخصيص العرض حيث الحاجة أعظم. أما إذا كانت الحكومات تسيطر على الناتج لأنها دعمت مصنعي الرقائق المحليين، فقد تنتهي الحال بالجميع إلى وضع أسوأ.
وأنا أقول «قد»؛ لأن دافع الربح يصعب قمعه بالكامل. ولن يتسنى لكل دولة توجيه استخدام الرقائق التي تصنعها إلا إذا لم يدخل التهريب في المعادلة، ولكن إذا كانت دول مستخدمة عديدة تعاني من نقص حاد (وبالتالي أسعار مرتفعة)، فما الذي قد يمنع تهريب الرقائق من الدول التي لديها وفرة إلى تلك التي لا تملكها؟ نحن نقترب من نتائج السوق ولكن بتكاليف أعلى. يعاني مبرر الأمن القومي من ذات المشكلة. فعلى الرغم من العقوبات الشديدة التي تفرضها أغلب دول العالم المنتجة للرقائق على روسيا، فقد تمكنت من شن حرب شاملة باستخدام أسلحة حديثة تحوي عددا كبيرا من الرقائق الإلكترونية وبدون وجود شركة محلية كبرى تصنع هذه الرقائق. في كل الأحوال، وجود مصنع للرقائق في أي بلد لن يضمن له المرونة والقدرة على الصمود؛ لأن سلسلة توريد الرقائق تمر عبر بلدان أخرى. على سبيل المثال، تُـنتَـج الآلات التي تصنع أكثر الرقائق تقدما بواسطة شركة ASML في هولندا، والتي يمكنها إيقاف تشغيل هذه الآلات عن بعد باستخدام مفاتيح «القتل». وإذا كان من الضروري إنتاج التصاميم، والرقائق، والآلات، والمواد الكيميائية الأساسية داخل نفس البلد لتحقيق الأمن الحقيقي، فإن اقتصادا قاريا ضخما فقط مثل اقتصاد الولايات المتحدة ــ وربما الصين والاتحاد الأوروبي ــ يمكنه اكتساب استقلال تصنيعي حقيقي، وبتكلفة هائلة. يتمثل جزء من التكلفة في الدعم اللازم لنقل الشركات المصنعة المحلية غير القادرة على المنافسة إلى مسافة أقرب من الحدود التكنولوجية.
ومن خلال قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم، تصب الولايات المتحدة إعانات دعم ضخمة في شركة إنتل (Intel)، التي تخلت عن الزعامة العالمية في تصنيع الرقائق قبل فترة. وهذه الأموال، باعتبارها جزءا من إستراتيجية صناعية، مرتبطة بشروط، بما في ذلك القيود المفروضة على استخدام المواهب الأجنبية والمشتريات، والمتطلبات اللازمة لتعزيز أهداف اجتماعية وأخلاقية عديدة ــ مثل إيجاد وظائف فنية ماهرة لا تتطلب درجة البكالوريوس.
مع فرض كل هذا القدر من الأعباء الإضافية على شركة مصنعة متعثرة بالفعل، فضلا عن نقص جوهري في الولايات المتحدة في ذلك النوع من الموظفين الذين تحتاج إليهم مصانع الرقائق المتطورة، فلا عجب أن تكون مصانع إنتل وحتى مصانع شركة TSMC الرائدة في الصناعة الجديدة في الولايات المتحدة متأخرة كثيرا عن الجدول الزمني. وهذه ليست تكاليف لمرة واحدة. فعندما تكون كل دولة كبيرة على استعداد لصب إعانات الدعم في صناعة ما، فإن الصناعة بأكملها ستصبح معتمدة على دعم الدولة. ولن تكون الاستثمارات مدفوعة بالأرباح والمنافسة، بل بإعانات الدعم، وسياسات الأمن القومي، والبيروقراطيين، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تُـخَـم وخسائر دورية. وقد يعاني الإبداع أيضا، على الرغم من إعانات دعم البحوث؛ لأن المتخلفين المدعومين سوف يدفعون الأرباح في مختلف أنحاء الصناعة إلى الانخفاض، وهذا من شأنه أن يجعل الفوائض المتاحة للاستثمار في البحث والتطوير أصغر. من المنطقي أن تمتنع الاقتصادات متوسطة الحجم عن المشاركة في هذا الجنون، لكن الإستراتيجية الصناعية ــ وخاصة عندما تحظى بموافقة الاقتصادات الرائدة ــ مغرية للغاية في نظر الزعماء السياسيين الذين يريدون أن يُـنسَـب إليهم الفضل في إيجاد صناعات جديدة براقة.
وعلى هذا، فبعد أن وعدت الهند بتقديم 10 مليارات دولار في هيئة إعانات دعم للرقائق الإلكترونية، ولم تنجح إلا في تأمين الوعد بتوفير قِـلة من الوظائف والمرافق التي تنتج الرقائق الإلكترونية من الجيل الأقدم، نجد أنها تضاعف جهودها على المسار ذاته بتقديم 15 مليار دولار أخرى من إعانات الدعم التي لا يمكنها تحملها. ألا يكون من الأفضل إنفاق هذه الأموال على افتتاح عشرات الآلاف من المدارس الابتدائية عالية الجودة، وآلاف المدارس الثانوية العالية الجودة، ومئات الجامعات الممتازة؟ مع تسبب الإستراتيجية الصناعية في الصين في دفع تحركات مماثلة من جانب الديموقراطيات المتقدمة، اجتاحت ذات الاتجاهات المركبات الكهربائية، والخلايا الشمسية، والبطاريات. وبدلا من السماح للأسواق التنافسية بدفع الابتكار في مجال التكنولوجيا الخضراء والإنتاج الرخيص لصالح العالم، فإننا نعمل على تفتيت وإضعاف هذه القطاعات الـحَـرِجة بالرسوم الجمركية، وإعانات الدعم، والشركات الميتة الحية المدعومة من الحكومة. وبهذا نفوز بمعركة الإنتاج المحلي في حين نخسر الأرض في الحرب ضد تغير المناخ. نحن في احتياج إلى حوار عالمي بشأن المكان المناسب للاستراتيجية الصناعية، وإلا فإننا يجب أن نتوقع عددا أكبر كثيرا من الفيلة البيضاء باهظة الثمن.
راغورام ج. راجان، محافظ سابق لبنك الاحتياطي الهندي وكبير خبراء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي، وأستاذ في المالية العامة في كلية بوث لإدارة الأعمال بجامعة شيكاجو
بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإستراتیجیة الصناعیة الرقائق الإلکترونیة السیاسة الصناعیة الولایات المتحدة إعانات الدعم
إقرأ أيضاً:
عملاق صناعة رقائق الذكاء الاصطناعي «إنفيديا» يضاعف إيراداته إلى 35 مليار دولار في 3 أشهر
حققت شركة "إنفيديا"، عملاق الرقائق العالمي ارتفاعًا كبيرًا في إيراداتها لتقترب من ضعف عائداتها قبل عام لتعكس قوة الرقائق التي تصنعها.
شركة إنفيديا عملاق الرقائق العالميقالت في صحيفة"فاينانشيال تايمز": إن إيرادات شركة "إنفيديا" سجلت 35.1 مليار دولار في الربع الثالث من العام الجاري، بزيادة نسبتها 94% عن الفترة ذاتها من العام الماضي، مشيرة إلى أن وتيرة النمو في الأرباح ربما تكون أكثر بطئًا من الربع السابق عليه، لكن لاتزال النتائج أكبر مما توقعه محللون بـ33.5 مليار دولار.
ويشير الدليل الاسترشادي للإيرادات الخاصة بعملاق صناعة الرقائق المتطورة إلى أن الإيرادات كانت 37.5 مليار دولار، قابلة للزيادة أو النقص بنسبة 2%، وهو ما يتفق مع توقعات بتحقيق 37 مليارًا، وقد سجلت أسهم الشركة تراجعا نسبته 1.8 في المائة بعد ساعة من بدء التداول وبعد الإعلان عن مكاسبها.
تظهر تفصيلات المكاسب الربع سنوية، أن إيرادات مراكز البيانات، التي تضمنت شرائج "هوبر" التي تصنعها الشركة وكانت صاحبة الفضل في إثارة موجة انتعاش في عالم الذكاء الاصطناعي، قفزت بنسبة 112 في المائة على أساس سنوي لتصل إلى 30.8 مليار دولار.
وضخت كبرى شركات التكنولوجيا العالمية مليارات من الدولارات في إقامة البنية التحتية لمراكز البيانات التي يمكن من خلالها إدارة النماذج المتطورة لنشاطات الذكاء الاصطناعي، فيما يتوقع أن تتواصل حمى الإنفاق في الازدياد خلال 2025.
إنفيدياالجيل الجديد من "إنفيديا".يراقب محللون عن قرب أنشطة "إنفيديا" الخاصة بجيلها الجديد من الرقائق، المعروف باسم "بلاكويل" الذي أطلقته في وقت مبكر من العام الجاري، للتعرف على إمكان تأثيره على الإيرادات في المدى القصير، وما إذا كانت الشرائح تواجه أي قضايا أو إشكالات فنية لدى استخدامها على نطاق واسع.
ونقلت الصحيفة البريطانية عن الرئيس التنفيذي لـ"إنفيديا"، جينسين هوانج، إن رقائق "بلاكويل" دخلت حاليًا مرحلة الإنتاج الكامل، ونشهد ترقبا "رائعًا" من المستهلكين، في الوقت الذي لايزال فيه جيل الشرائح السابقة من طراز "هوبر"، يتمتع بالقوة.
إنفيديامكاسب أسهم شركة "إنفيديا".قفزت أسهم الشركة بنسبة تجاوزت 200 في المائة على مدار عام كامل حتى الآن، وساهم السباق المتواصل لتطوير أنشطة الذكاء الصناعي وتبنيها على مستوى العالم، في إشعال معدلات النمو لـ"إنفيديا"، التي فاق حجمها السوقي 3.6 تريليون دولار، لتصبح أكبر شركة في العالم من حيث القيمة وباتت لا تُضاهى في سوق الأوراق المالية. وكانت إنفيديا تقود في وقت مبكر من العام الجاري عملية النمو والمكاسب في مؤشر "ستاندرد أند بورز".
وتجاوزت مكاسب سهم "إنفيديا" توقعات المحللين لتصل إلى 0.75 من الدولار، فيما سجل الدخل الصافي المعدل 20 مليار دولار، ويشير محللو مؤسسة "سيتي" إلى أن النتائج فاقت التوقعات، بفضل تدفقات الطلب على رقائق "بلاكويل" التي يتوقع أن تتجاوز حجم المعروض منها حتى بلوغنا العام المالي 2026.
اقرأ أيضاً«معلومات الوزراء» يستعرض جهوده في مجال استخدام الذكاء الاصطناعي
دراسة: الذكاء الاصطناعي يكتب الشعر أفضل من البشر
ندوات ثقافية وورش ذكاء اصطناعي.. تعرف على جدول فعاليات معرض دمنهور للكتاب اليوم الجمعة