الجزيرة:
2025-04-07@19:26:30 GMT

الحداثة الغربية والأيديولوجية الدينية

تاريخ النشر: 15th, September 2024 GMT

الحداثة الغربية والأيديولوجية الدينية

إن أول ما يبادرك به دعاة الأخذ بالحداثة الغربية، أو أول ما يعرِّفون به الحداثة، هو الانتقال إلى عصر العقل والعقلانية، والنهج العلمي، والابتعاد عن العقل الديني أو السحري أو الأسطوري. البعض يقول إن الحداثة هي الإنسان الصانع، لا الإنسان الساحر أو المؤمن بالسحر. وهناك من يبدأ بالعلمانية والمواطنة المدنية التي تفصل الدين عن الدولة، كما في الحداثة الغربية.

على أن هذه البداية، وهذا التعريف، لا يأخذان بعين الاعتبار:

أولًا: تاريخًا طويلًا وحضارة إسلامية لم يتعارض فيها الدين مع التفكير العلمي أو التعامل مع العلوم والحياة وشؤونها، دون إقامة ذلك الحاجز بين الإيمان بالله والخلق، وتطوير العلوم والكشف عن قوانين الطبيعة والكون.

فعلى سبيل المثال: الطب، علم الفلك، الكيمياء، الرياضيات، والخوارزميات كلها بُنيت وتطوَّرت في ظل الحضارة الإسلامية. وبالتأكيد حدث مثل هذا في الحضارات الأخرى، وإلا كيف تمّت مكافحة البرد والقيظ وتطوَّرت الزراعة والملاحة ووسائل النقل وتربية الحيوانات وترويضها عبر العصور، قبل أن تبدأ الحداثة الغربية رحلتها.

صحيح أن هناك كثيرًا من الخرافات، أو أعمال السحر، أو الاعتقادات الأسطورية، وجدت وتعايشت وتصارعت مع المؤمنين بالدين والعلم. وذلك مثل علماء المسلمين الذين أخذوا بالمنهج العلمي والاستقرائي قبل الحداثة الغربية بقرون. ويُعتبرون آباء كوبرنيكوس وجاليليو. (راجع جورج صليبا حول العلوم في الحضارة العربية والإسلامية).

هذا من ناحية عدم الدقة أو الصحة في تمييز الحداثة أو الحضارة الغربية عما قبلها من حضارات، باعتماد العقل والعقلانية. فالقول بتغليب العقل والعلم والصناعة، مقابل عقل خرافي أو وهمي، هو في الحقيقة اتهام لعقل وإنسان ما قبل الحداثة الغربية بالابتعاد عن الموضوعية وقوانين الحركة والحياة في مواجهة التحديات.

ثانيًا: يجب ملاحظة أن من عدم الدقة اعتبار ما يميِّز الحداثة أو الحضارة الغربية هو الإنسان الصانع والعالم العلماني المعرفي. وذلك بتقديم الحداثة الغربية على أنها الحضارة التي بدأت في القرن السادس عشر إلى اليوم. ولا بأس بمناقشة من يريد البدء بما يسميه عصر التنوير، أو الأنوار، وحقوق الإنسان، والدولة الحديثة والمجتمعات الديمقراطية.

وذلك لأن أول ما يميِّز الحضارة الغربية المعاصرة هو سيطرتها العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية على العالم، وقد بدأت ذلك منذ عصر الملوك والإقطاع والكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر.

إبراز السمات المتعلقة بالعقل والصناعة والموضوعية العلمية لا يجوز أن يخفي البُعد المتعلق بالسيطرة العسكرية العالمية والنهب العالمي. ودعنا من الإبادة الجماعية للهنود الحمر في الولايات المتحدة الأميركية، وما تعرّضت له الشعوب الأصلية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية من مظالم ومجازر ونهب في القرن السادس عشر، قبل أن يُعتبر الأوروبيون، حاملي الأنوار والتنوير وحقوق الإنسان (أي الإنسان الحداثي الأوروبي الأبيض).

بكلمة أخرى، يجب قراءة التاريخ جيدًا وتتبع خطواته. فالبحارة المسلمون الذين قادوا سفينة كولومبوس أو غاما لتبدأ الحداثة الأوروبية، هل كانوا الإنسان الديني الأسطوري أم الإنسان الديني العالِم بالملاحة وأصولها؟

هذا البُعد التاريخي، شئتم أم أبيتم، يا دعاة الحداثة الغربية، لا تستطيعون تجاهله أو دحره إلى الخلف في مقابل تقديم جاليليو أو ديكارت أو داروين أو نيوتن.

ثالثًا: الإشكال الذي يُبرزونه في تعريف الحداثة الغربية على أنها تغليب حكم العقل والعلوم وحقوق الإنسان على ما يعتبرونه (الدين والأيديولوجيات الدينية). ولكن بماذا يردون لو قيل لهم إن هذا الفصل أو القطيعة مع الدين لم تعرفها الحداثة الغربية إلا في فرنسا، وليست اللائكية الفرنسية إلا جزءًا متواضعًا في عالم الحداثة الغربية التي تغلب عليها الشعوب والدول الأنجلوسكسونية.

فبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية والبلدان التي سادت فيها البروتستانتية هي ركائز الحضارة أو الحداثة الغربية.

هنا لا نجد قطيعة بين الحداثة الغربية والدين، بل نجد الدين جزءًا أساسيًا في تشكيل الدولة، وفي أيديولوجية الشعوب الغربية الآخذة بالبروتستانتية. وهي الحداثة المشبعة بالرجوع إلى التوراة والأيديولوجية البروتستانتية الصهيونية الأكثر رجعية. بل حتى اليوم نجد الحداثة الغربية في الولايات المتحدة والغرب عمومًا، تعلن نفسها حضارة مسيحية (بروتستانتية)- يهودية، الأمر الذي يعني أن جميع التعريفات التي تبدأ بالعقل والعلمانية والحرية وحقوق الإنسان والتقدم، قد امتزجت بالبُعد البروتستانتي الصهيوني، قبل عصر التنوير وبعده.

وإذا كان هنالك فكر يمكن اتهامه بالخرافة والأسطورية، والبعد عن العلمانية والعولمة وعصر العقل أو التنوير أو حقوق الإنسان، فهو البُعد البروتستانتي الصهيوني الذي يقود الحداثة الغربية.

أما نكران هذا البُعد وتجاهله فهو عيب وتضليل أو قصور نظر.

هل يُعقل إغفال هذا البُعد الأيديولوجي المندمج عضويًا في الحداثة الغربية، بزعامة الدول الأنجلوسكسونية (أميركا وبريطانيا) التي قادت وتقود الحداثة الغربية، بما في ذلك الاتجاه الفرنسي المعاصر؟

وهل يصحُّ أن تُقوَّم الحداثة على غير حقيقتها؟ وذلك عند الحديث عن العقل والعقلانية والموضوعية والعلمية والعلمانية وحقوق الإنسان أو القيم الأخلاقية العالمية، مع إخفاء علاقتها بالأيديولوجية الدينية.

من هنا، وفي وقت يستعيد فيه الغرب أساطير مشوَّهة من التوراة ليجعلها في قلب الحداثة الغربية، مناقضًا روح تعريفه للحداثة، لا بد لنا من إعادة قراءة الحداثة الغربية من خلال بُعدها الأيديولوجي. فهذا البُعد الديني الأيديولوجي البروتستانتي الصهيوني، إضافة إلى بُعد السيطرة العسكرية العالمية والنهب يشكلان معًا اللحمة والسدى في الحداثة الغربية، ويبتعدان بها عن التعريف الذي يتناولها كقطيعة مع الدين والحضارات غير الغربية.

وإذا أردنا أن نزيد من الشعر بيتًا، فسنسأل: أليست "إسرائيل" درّة تلك الحداثة؟ ثم أليس ما يجري من إبادة بشرية مهولة في قطاع غزة يُرتكب برعاية دول الحداثة الغربيّة؟ فأين العقل والتنوير وحقوق الإنسان هنا؟

لهذا، من يريد البحث عن حداثة، فليبحث عنها بعيدًا عن الحداثة الغربيّة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الحداثة الغربیة وحقوق الإنسان الذی ی

إقرأ أيضاً:

علي جمعة: الطاعة أن تعبد الله كما يريد بعيدا عن العقل والهوى

قال الدكتور علي جمعة، مفتى الجمهورية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن الطاعة أن تعبد الله كما يريد لا كما تريد، وهذه الحقيقة الواضحة يلتف عليها كثير من الناس، في حين أنها هي الأصل في عصيان إبليس الذي قص الله علينا حاله، وأكد لنا الإنكار عليه وعلى ما فعله في كثير من آيات القرآن الكريم.

ونوه عبر صفحته الرسمية على فيس بوك، أن إبليس لم يعترض على عبادة الله في ذاتها، ولم يكفر بوجوده، ولم يُشرك به غيره، بل إنه أراد أن يعبده سبحانه وحده وامتنع عن السجود لآدم، والذي منعه هو الكبر وليس الإنكار.

هل يجوز الكذب خوفا من الحسد .. علي جمعة يوضح الموقف الشرعيعلي جمعة: كيف نبقي أثر شهر رمضان حيًا في حياتنا ؟كيف تكون مسرورا؟.. علي جمعة يصحح مفاهيم خاطئة عن السعادةعلي جمعة يعدد مواطن النفحات الإلهية المخفية خارج شهر رمضان

واشار  الى ان الكبر أحد مكونات الهوى الرئيسية، والهوى يتحول إلى إله مطاعٍ في النفس البشرية، وهنا نصل إلى مرحلة الشرك بالله، فالله أغنى الأغنياء عن الشرك. قال تعالى في هذا الحوار : (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ) .

ضل فريقان فى مسألة الطاعة

ولفت الى انه في مسألة الطاعة ضل فريقان : فريق أراد الالتزام فزاد على أمر الله وحرّف، وفريق أنكر وفرّط وانحرف.

فالأول أراد أن يعبد الله كما يريد هو؛ فاختزل المعاني وتشدّد وأكمل من هواه ما يريد، وقال: هذا معقول المعنى عندي.

والثاني أراد أن يتفلّت وأن يسير تبع هواه؛ وقال: إن هذا هو المعقول عندي، في حين أنه يريد الشهوات.

وذكر أن ربنا يحدثنا عن كل من الفريقين، وهما يحتجان بالعقل، ولا ندري أي عقل هذا؟ وما هو العقل المرجوع إليه والحاكم في هذا؟ وهما معًا يؤمنان ببعض الكتاب ويكفران ببعض آخر، والقرآن كله كالكلمة الواحدة. قال تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، وقال سبحانه : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) وقال سبحانه : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ).

أما الذين يدّعون العقل ويتبعون من حولهم من أصحاب الأهواء، ويغترون بكثرتهم، فهم يتبعونهم في الضلال، ولا ينبغي أن يغتر هؤلاء بالكثر؛ فدور العقل هو الفهم وإدراك الواقع ومحاولة الوصل بين أوامر الوحي وبين الحياة، واستنباط المعاني بالعلم ومنهجه، وليس دور العقل إنشاء الأحكام واختراعها؛ فإن هذا من شأن الله سبحانه وحده. قال تعالى : (إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ).

مقالات مشابهة

  • إفيه يكتبه روبير الفارس "رشق الغول"
  • قيادي إصلاحي يصف أمريكا بـ”أمّ الديكتاتورية” ويتهمها بنهب ثروات الشعوب
  • د. عصام محمد عبد القادر يكتب: غزة وحقوق الإنسان
  • د. محم بشاري يكتب: استئناف العمران الإنساني من التجزيء المعرفي إلى التكامل القيمي
  • من بهلا إلى أوساكا.. عُمان تسكب ذاكرة الحضارة في مستقبل العالم
  • من بهلاء إلى أوساكا.. عُمان تسكب ذاكرة الحضارة في مستقبل العالم
  • مدرسة أثينا.. عندما جمع رفائيل الفلاسفة في لوحة واحدة
  • علي جمعة: الطاعة أن تعبد الله كما يريد بعيدا عن العقل والهوى
  • إنجاز جديد لـ GPT-4.5.. يجتاز اختبار "العقل البشري" ويربك خبراء الذكاء الاصطناعي
  • «حوارات المعرفة» تضيء على بصمة العلماء العرب في الحضارة العالمية