الحداثة الغربية والأيديولوجية الدينية
تاريخ النشر: 15th, September 2024 GMT
إن أول ما يبادرك به دعاة الأخذ بالحداثة الغربية، أو أول ما يعرِّفون به الحداثة، هو الانتقال إلى عصر العقل والعقلانية، والنهج العلمي، والابتعاد عن العقل الديني أو السحري أو الأسطوري. البعض يقول إن الحداثة هي الإنسان الصانع، لا الإنسان الساحر أو المؤمن بالسحر. وهناك من يبدأ بالعلمانية والمواطنة المدنية التي تفصل الدين عن الدولة، كما في الحداثة الغربية.
على أن هذه البداية، وهذا التعريف، لا يأخذان بعين الاعتبار:
أولًا: تاريخًا طويلًا وحضارة إسلامية لم يتعارض فيها الدين مع التفكير العلمي أو التعامل مع العلوم والحياة وشؤونها، دون إقامة ذلك الحاجز بين الإيمان بالله والخلق، وتطوير العلوم والكشف عن قوانين الطبيعة والكون.فعلى سبيل المثال: الطب، علم الفلك، الكيمياء، الرياضيات، والخوارزميات كلها بُنيت وتطوَّرت في ظل الحضارة الإسلامية. وبالتأكيد حدث مثل هذا في الحضارات الأخرى، وإلا كيف تمّت مكافحة البرد والقيظ وتطوَّرت الزراعة والملاحة ووسائل النقل وتربية الحيوانات وترويضها عبر العصور، قبل أن تبدأ الحداثة الغربية رحلتها.
صحيح أن هناك كثيرًا من الخرافات، أو أعمال السحر، أو الاعتقادات الأسطورية، وجدت وتعايشت وتصارعت مع المؤمنين بالدين والعلم. وذلك مثل علماء المسلمين الذين أخذوا بالمنهج العلمي والاستقرائي قبل الحداثة الغربية بقرون. ويُعتبرون آباء كوبرنيكوس وجاليليو. (راجع جورج صليبا حول العلوم في الحضارة العربية والإسلامية).
هذا من ناحية عدم الدقة أو الصحة في تمييز الحداثة أو الحضارة الغربية عما قبلها من حضارات، باعتماد العقل والعقلانية. فالقول بتغليب العقل والعلم والصناعة، مقابل عقل خرافي أو وهمي، هو في الحقيقة اتهام لعقل وإنسان ما قبل الحداثة الغربية بالابتعاد عن الموضوعية وقوانين الحركة والحياة في مواجهة التحديات.
ثانيًا: يجب ملاحظة أن من عدم الدقة اعتبار ما يميِّز الحداثة أو الحضارة الغربية هو الإنسان الصانع والعالم العلماني المعرفي. وذلك بتقديم الحداثة الغربية على أنها الحضارة التي بدأت في القرن السادس عشر إلى اليوم. ولا بأس بمناقشة من يريد البدء بما يسميه عصر التنوير، أو الأنوار، وحقوق الإنسان، والدولة الحديثة والمجتمعات الديمقراطية.وذلك لأن أول ما يميِّز الحضارة الغربية المعاصرة هو سيطرتها العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية على العالم، وقد بدأت ذلك منذ عصر الملوك والإقطاع والكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر.
إبراز السمات المتعلقة بالعقل والصناعة والموضوعية العلمية لا يجوز أن يخفي البُعد المتعلق بالسيطرة العسكرية العالمية والنهب العالمي. ودعنا من الإبادة الجماعية للهنود الحمر في الولايات المتحدة الأميركية، وما تعرّضت له الشعوب الأصلية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية من مظالم ومجازر ونهب في القرن السادس عشر، قبل أن يُعتبر الأوروبيون، حاملي الأنوار والتنوير وحقوق الإنسان (أي الإنسان الحداثي الأوروبي الأبيض).
بكلمة أخرى، يجب قراءة التاريخ جيدًا وتتبع خطواته. فالبحارة المسلمون الذين قادوا سفينة كولومبوس أو غاما لتبدأ الحداثة الأوروبية، هل كانوا الإنسان الديني الأسطوري أم الإنسان الديني العالِم بالملاحة وأصولها؟
هذا البُعد التاريخي، شئتم أم أبيتم، يا دعاة الحداثة الغربية، لا تستطيعون تجاهله أو دحره إلى الخلف في مقابل تقديم جاليليو أو ديكارت أو داروين أو نيوتن.
ثالثًا: الإشكال الذي يُبرزونه في تعريف الحداثة الغربية على أنها تغليب حكم العقل والعلوم وحقوق الإنسان على ما يعتبرونه (الدين والأيديولوجيات الدينية). ولكن بماذا يردون لو قيل لهم إن هذا الفصل أو القطيعة مع الدين لم تعرفها الحداثة الغربية إلا في فرنسا، وليست اللائكية الفرنسية إلا جزءًا متواضعًا في عالم الحداثة الغربية التي تغلب عليها الشعوب والدول الأنجلوسكسونية.فبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية والبلدان التي سادت فيها البروتستانتية هي ركائز الحضارة أو الحداثة الغربية.
هنا لا نجد قطيعة بين الحداثة الغربية والدين، بل نجد الدين جزءًا أساسيًا في تشكيل الدولة، وفي أيديولوجية الشعوب الغربية الآخذة بالبروتستانتية. وهي الحداثة المشبعة بالرجوع إلى التوراة والأيديولوجية البروتستانتية الصهيونية الأكثر رجعية. بل حتى اليوم نجد الحداثة الغربية في الولايات المتحدة والغرب عمومًا، تعلن نفسها حضارة مسيحية (بروتستانتية)- يهودية، الأمر الذي يعني أن جميع التعريفات التي تبدأ بالعقل والعلمانية والحرية وحقوق الإنسان والتقدم، قد امتزجت بالبُعد البروتستانتي الصهيوني، قبل عصر التنوير وبعده.
وإذا كان هنالك فكر يمكن اتهامه بالخرافة والأسطورية، والبعد عن العلمانية والعولمة وعصر العقل أو التنوير أو حقوق الإنسان، فهو البُعد البروتستانتي الصهيوني الذي يقود الحداثة الغربية.
أما نكران هذا البُعد وتجاهله فهو عيب وتضليل أو قصور نظر.
هل يُعقل إغفال هذا البُعد الأيديولوجي المندمج عضويًا في الحداثة الغربية، بزعامة الدول الأنجلوسكسونية (أميركا وبريطانيا) التي قادت وتقود الحداثة الغربية، بما في ذلك الاتجاه الفرنسي المعاصر؟
وهل يصحُّ أن تُقوَّم الحداثة على غير حقيقتها؟ وذلك عند الحديث عن العقل والعقلانية والموضوعية والعلمية والعلمانية وحقوق الإنسان أو القيم الأخلاقية العالمية، مع إخفاء علاقتها بالأيديولوجية الدينية.
من هنا، وفي وقت يستعيد فيه الغرب أساطير مشوَّهة من التوراة ليجعلها في قلب الحداثة الغربية، مناقضًا روح تعريفه للحداثة، لا بد لنا من إعادة قراءة الحداثة الغربية من خلال بُعدها الأيديولوجي. فهذا البُعد الديني الأيديولوجي البروتستانتي الصهيوني، إضافة إلى بُعد السيطرة العسكرية العالمية والنهب يشكلان معًا اللحمة والسدى في الحداثة الغربية، ويبتعدان بها عن التعريف الذي يتناولها كقطيعة مع الدين والحضارات غير الغربية.
وإذا أردنا أن نزيد من الشعر بيتًا، فسنسأل: أليست "إسرائيل" درّة تلك الحداثة؟ ثم أليس ما يجري من إبادة بشرية مهولة في قطاع غزة يُرتكب برعاية دول الحداثة الغربيّة؟ فأين العقل والتنوير وحقوق الإنسان هنا؟
لهذا، من يريد البحث عن حداثة، فليبحث عنها بعيدًا عن الحداثة الغربيّة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الحداثة الغربیة وحقوق الإنسان الذی ی
إقرأ أيضاً:
مصر أم الحضارة.. تعرف على القرية الفخارية| شاهد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
كل منا يفتخر بكونه مصري ينتمي للحضارة المصرية العريقة.. ويكتشف كل يوم معالم تلك الحضارة.. فتعالى نتعرف معًا على معالم تلك الحضارة التي يعتقد البعض أنها اندثرت. ولكن الحقيقة التي لا تقبل الشك أنها مازالت قائمة حتى الآن.
رصدت "البوابة نيوز" قصة قرية الفخاخير، وكيف تم تجديدها بعدما اعتقد إنها اندثرت مع الوقت،ولكن الحقيقة أنها مازالت تنبض بالحياة لمن يتردد عليها من زبائن وعمال، يعشقون تلك المهنة ويتمنون تطورها والوصول بها إلى العالمية، وعلي ذلك يحرصون كل الحرص على إقامة معرض سنويًا بل وشهريًا، حالمين بالعالمية.
تعود قصتها إلي عصور الفراعنة حيثما حرص المصري القديم علي صناعتها وبرغم حرصه على صناعتها، ولكن انتهي بها الحال لأن تكون صناعه مهدرة، ولكن لم يدم ذلك كثيرًا، إذ انتبهت وزارة الآثار على ذلك الاكتشاف الحضاري فقامت بتطويره.
تجلت مظاهر التطور في تفنن الوزارة لتطويرها بمختلف الطرق الحديثة والتعديلات اذ أعادت ترميم ما يمكن ترميمه علي نحو أفضل بما يتفق مع عبقريه المصري القديم، وعشقه الذي مازال لهذه المهن اذ تجلت الطرق الحديثة في تطوير القرية بتجديد ما فيها بإقامة مصانع ومعارض، ومزارات ورصف بعض الطرق والحواري التي جمعت الوان وأنواع مختلفة من كل ما يندرج تحت صناع الفخار من أواني وأكواب وطواجن وأطباق وغيرها، ولكل من يريد زيارتها من سائحين أو مصريين.
علي صعيد أخر قدمت وزارة الآثار للقرية الكثير من الصناع والعمال العاشقين لهذه المهنة، إذ سارعوا إلى تطويرها إلى ما هو أفضل لكل المترددين عليها حبًا لها، وتقديرا لعظمة وجمال تلك المهنة التي طالما حرص عليها المصري القديم.
شملت القرية مصانع خاصه تحوي الكثير من الخامات المتوفرة لصناعة الرخام من “طين أسواني وأفران وأحجرة وألوان وغيرها ”فضلا عن عمالها المبدعين لتلك الصناعة كما شملت الكثير من المعارض والمزارات لكل المترددين عليها عاشقين الرخام
والجدير بالذكر، أن أهميه القرية واكتشافها لم تقتصر فحسب علي أنها قيمه حضارية عريقة وإرث ثقافي أن دل علي شيء فإنما يدل على عبقريه المصري القديم، وإنما تتسع أهميتها لتصل لأهمية اقتصاديه كبيرة ترجع جذورها إلي عهد “سيدنا يوسف عليه السلام ” وذلك ما دللت عليه ما عثر عليها من رسومات بقصور أثرياء المصريين القدماء وأيضا فقرائهم، وأيضا ترددهم على شرائها . وذلك ما أكدته وزارة الآثار عندما تنبهت لذلك الصرح وسعت إلى تطويره.
كشفت عن ذلك الصرح الحضاري فطورت منه لتجعل منه مزار سياحي من الطراز الأول يحوي كل ما يدل علي عبقريه المصري القديم التي مازالت تنطق بالفخر والاعتزاز لكل مصري يقبل عليها وفي ذلك يقول مهندس “عبد الرحمن صبحي أحد مهندسي وزارة الآثار باتفاق رأيه مع مهندس" ملاك سمير، بأن المستقبل سيشرق بهذه الصناعة وذلك لأسباب كثيره منها، أنها تعد مصدر جذب لكل السائحين فضلًا عن كونها مصدر صحي لكل من يستخدمها، إذ أنها تشمل كل من الأواني والصواني والأكواب المستخدمة لطهي الطعام، وشرب الماء حيث ثبت صحيًا بأن في هذه الاواني وطهي والطعام وشرب الماء فيها حفاظا على صحة جسم الإنسان وعدم تعرضه لأمراض حيث أنها توصف بخاصية حفظ درجه الحرارة بالنسبة للماء وحفظ درجه حرارة الطعام، والبعد عن التلوث مقارنه بالأواني المصنوعة من الألمنيوم، فضلا عن أن السبب الأخر يتعلق بتوقع كبار مهندسي الآثار بأن تلك المهنة في طريق التقدم وأنها سوف تكون مصدر دخل قومي يساهم في انتعاش المستوي الاقتصادي لبلدنا الحبيب بتردد عاشقي الفخار ومحبيه من دول الخليج مثل السعوديه والدول العربية وأيضا الدول الاوربية.
وهذا العشق من قبل سائحي الدول العربية والأوروبية يرجع لأسباب عديده منها، أن هناك من يعشق شراب الماء، أوالقهوة في الأكواب الفخاريه، وهناك من يفضل تناول الطعام في الأواني الفخارية ومنهم من يعشقها بوضعها كتحف في بيته كشكل جمالي يعطي لمسه جماليه للمنزل.
وعلي ذلك ينصح كل منهما بضرورة إقبال المصريين علي هذا الصرح الحضاري، والإيمان بأن هذه القرية ستكون في القريب العاجل مصدر للدخل القومي، ومصدر لجذب السائحين من مختلف الأنحاء،متمنين الرقي والتقدم لمصرنا الحبيبة داعين لإقامة أكبر عدد من المعارض لعرض منتجات الفخار والوصول بها إلي العالمية.