الليبرالية الجديدة والأبعاد الفلسفية والفكرية لرؤيتها
تاريخ النشر: 11th, September 2024 GMT
تحدثنا في الأسبوع المنصرم عن بروز ما سمي بالفلسفة الليبرالية الكلاسيكية -التقليدية- التي صاحبت عصر الأنوار في الغرب بعد تحجيم دور الكنيسة ومحاربة العلم والاختراع، وظهور عصر النهضة الصناعية والعلمية بعد القرن السابع عشر، وإن هذه الليبرالية رفعت شعار الحرية، والعدالة، وحقوق الإنسان، وكانت بدايتها إيجابية نظريًا بعد أن بدأت أوروبا الخروج من الصراعات والحروب الداخلية التي عصفت بها لعقود طويلة، ثم طرح بعض الفلاسفة والمصلحين «فلسفة العقد الاجتماعي» والتداول السلمي للسلطة من خلال التصويت والاقتراع كحل سياسي للأزمات القائمة التي أخرت أوروبا طويلا، ونجحت فيه أوروبا فيما بعد القرن الثامن عشر من هذه الأزمات الداخلية، لكن هذه الليبرالية الكلاسيكية لم تسلم من انحرافات الليبراليين من أصحاب رؤوس الأموال والبرجوازيين، خاصة استغلالهم لمقولة «آدم سميث» (دعه يعمل، دعه يمر)، فلذلك تم رفض أي تدخل للدولة في حركة السوق، وأن السوق نفسه بحركته الفردية، يعمل في تلقائية للمجموع، وبه «اليد خفية» هي التي تسير السوق بصورة طبيعية من ذاته، دون حاجة لتدخل يد مادية بشرية فيه، وهذه العبارة «اليد الخفية» تذكرنا من نفس فكرة الفيلسوف الألماني «فريدريش هيجل» فيما اسماه بـ«مكر التاريخ»، أو «خبث العقل» وكلاهما يسيّران الحركة والفاعلية دون أن تكون هناك يد دافعة أو تدخل ذاتي، لكن هذه الأفكار النظرية ليست علمية مبرهنة، ولم تكن دقيقة ولا واقعية، ولذلك هذه الليبرالية الكلاسيكية، واجهت ما سمي بـ (بالكساد الكبير)، في الغرب الذي بدأ عام 1929 ـ 1930، وقد قلب الأوضاع الاقتصادية في أوروبا رأسًا على عقب، وحصل انهيار كبير لأصحاب الدخول الصغيرة والمتوسطة، وأيضا الشركات الكبرى وكل الحركة الاقتصادية في كل العالم، وهذه نتيجة لسلبيات حركة السوق التي لا تكون متابعة ومراقبة من الدولة بما لا تخرج الأسوق على السيطرة، ولا تحرم طبقة من الطبقات من حقوقها بموجب ما طرته الليبرالية نفسها عندما وضعت فلسفتها، وكأن«اليد الخفية» أصابها الشلل عن إدارة الحركة ذاتيًا دون تدخل من الدولة، لذلك برزت رؤى جديدة لحل أزمة الليبرالية التقليدية.
ففي عام 1936 أصدر الاقتصادي البريطاني اللورد «جون مينارد كينز» كتابه الشهير (ثروة الأمم)، انتقد فيها الليبرالية الكلاسيكية، ودعا إلى تدخل الدولة لتسيير حركة السوق وتنظيمه والاهتمام بالرفاه الاجتماعي، وهي ما سميت بـ(الليبرالية المنظمة) والتي اعتبرت الليبرالية الكلاسيكية بالليبرالية المطلقة، وهذه الليبرالية المنظمة سمي بـ(البرنامج الجديد)، وتم من خلال هذا البرنامج إدخال العديد من التعديلات الجديدة لإنعاش الاقتصاد الرأسمالي المتأزم أو التخفيف مما أصابه من آثار اقتصادية على الشعب الأمريكي، كما تم التخفيف من الحرية الفردية، لكنه كان متجردًا من جشع بعض الرأسماليين البيروقراطيين، وهذا ما واجه الأزمة بشجاعة نادرة انتقد فيها الفردية الاحتكارية عند بعض الرأسماليين عندما قال: «ليس صحيحا من مبادئ الاقتصاد أنَّ المصلحة الشخصية تصب دائما في خانة المصلحة العامة». وهو ما دعا بعد ذلك بعض الدول الغربية، إلى تعديلات جوهرية في الليبرالية الكلاسيكية، بعد اشتداد الأزمات الاقتصادية، أو ما يعرف بالكساد الكبير أو التضخم الذي عصف بالرأسمالية، والأخذ بنظرية اللورد «كينز» لإحداث التوازن عندما عجزت الليبرالية الكلاسيكية عن تحقيق التوازن الذي لم يتحقق عندما تركت الأمور سائبة لقوى السوق وتعطش أصحاب رؤوس الأموال للمصلحة الخاصة دون أي اعتبارات أخرى.
ولا شك أن فلسفة «للورد كينز» التي هدفت إلى وقف حركة الاستغلال والحد من النشاط الاقتصادي المطلق، والذي يبعد الجانب الاجتماعي في اهتمامه ويتم استغلال الطبقات الصغيرة والمتوسطة من قوى السوق، وأن التلقائية واليد الخفية ظهرت بوارها، بعد هذا الكساد الضخم الذي عصم بكل الفلسفات والتنظيرات الفكرية السياسية والاقتصادية، وتم إعادة التوازن مرة أخرى من خلال تدخل الدولة، لكن المتغيرات الاقتصادية، لم تبق الأمور على مسارات ثابتة، فقد زادت أعباء الدول مع زيادة السكان والخدمات والأعباء الاجتماعية الأخرى، ومع وصول الرئيس ريجان في الولايات المتحدة (من الحزب الجمهوري) وتاتشر في المملكة المتحدة (المحافظين)، 1990/1979، برزت ما عُرف بـ (الليبرالية الجديدة)، وهي التي استعادت الليبرالية الكلاسيكية في فكرتها المطلقة دون حواجز، ولكنها زادت عليها شراسة وأكثر قربا من الرأسماليين المغالين في إبعاد الدولة عن الـتأثير والمتابعة لحركة السوق عن الجموح في السيطرة على التجارة والثروة، دون النظر للظروف الاجتماعية. ومن هنا كان هدف الليبرالية الجديدة التي تعاظمت وتوسعت في الانتشار، جاء نتيجة سقوط المعسكر الاشتراكي الشيوعي في أوروبا الغربية، واعتبرت أن هذا السقوط هو انتصار للفلسفة الليبرالية الرأسمالية، وأن الدول الشمولية التي تسيّر حركة السوق بدلا من اليد الخفية، أثبت فشلها، وأن الليبرالية الرأسمالية هي الحل السياسي والاقتصادي لكل متاعب الأسواق التي يتم تسييرها من قبل المؤسسات الشمولية كما حل في الدول الاشتراكية.
ولذلك طالب الليبراليون الجدد، بإعادة الاعتبار لليبرالية التقليدية بوصفها الدواء السحري، للنظام الرأسمالي الغربي، ولمواجهة ذلك كله - ينبغي العودة للأصولية الرأسمالية كما انطلقت وتم إضافة الكثير من السياسات الاقتصادية التي تخدم رؤوس الأموال. وهذه العودة تحتاج إلى تغيرات أساسية في بنية وقواعد وآليات تشغيل النظام الرأسمالي وفق رؤيتهم. واقترح الليبراليون في هذا الخصوص جملة من السياسات الصارمة التي تمت ـ خاصة بعد سقوط النظم الاشتراكية في عام 1991، مثل تحجيم دور الدولة وإبعادها عن النشاط الاقتصادي، وأن تتخلى الحكومات عن هدف التوظف الكامل ودولة الرعاية الاجتماعية، وإنه لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وعودة الدماء لتراكم رأس المال، يتعين التصدي بحزم لعجز الموازنة العامة للدولة من خلال إلغاء الدعم، وخفض المصروفات الحكومية الموجهة للخدمات الاجتماعية، وإلغاء إعانات البطالة، وزيادة أسعار الطاقة والضرائب غير المباشرة، ونقل ملكية المشروعات العامة إلى القطـاع الخــاص، وتحويل بعض الوظائف التقليدية للدولة تدريجيا للقطاع الخاص، كما طالب الليبراليون الجدد بخفض معدلات الضرائب على الدخول المرتفعة، وأرباح الشركات وعلى رؤوس الأموال حتى يمكن حفز الطبقة الرأسمالية، على زيادة الادخار والاستثمار والإنتاج. وانحصرت مطالب الليبراليين الجدد فيما يتعلق بدور الحكومة في أن تحمي حرية السوق من أية تدخلات في أنشطة السوق، وأن تضع سياسة نقدية صارمة للتحكم في عرض النقود بما يتناسب وحاجة التداول.
واستقوى النظام النيوليبرالي الجديد، وتم إدخال العديد الأفكار الاقتصادية التي تحصن هذه الليبرالية من العواصف السياسية والاقتصادية، وتم تأسيس ما سمّي بـالحاكمية الدولية، إذ من خلالها إقامة حواضن اقتصادية تبنتها الدول الصناعية، ويتبع الأمم المتحدة كإشراف، منها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، هذه المؤسسات الاقتصادية رفعت شعارات جميلة في أهدافها، مثل مفهوم الحوكمة الجيدة، والشفافية المالية ومحاربة الفساد، لكن التنظير أحيانًا لا يختلف عن الواقع وممارساته، وهذا جرى قبل ذلك لليبرالية الكلاسيكية، لن يظل ترك الأوراق على عاهنها، دون رقابة له مساوئه على المجتمعات واستقراها، فالسياسات النظريات الاقتصادية في الغرب، التي روجعت وهذبّت، في ظل الحريات العامة في الغرب بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، والتداول السلمي للسلطة، لكن النزعة الرأسمالية، وربيبتها الليبرالية المطلقة ثم الليبرالية الجديدة التي أعادت مرة أخرى بقوة، من أجل تثبيت وتكييف النظرية الاقتصادية الطائشة، أو كما تسمى بـ (النظام التلقائي) كما أشرنا آنفًا، حتى ولو في غياب العدالة الاجتماعية! ودور الدولة في هذا النظام، (اقتصاد السوق)، وهذا لاشك لها مساوئ كثيرة، لو ابتعدت الدولة عن مهمتها في إدارة الموارد الأساسية، وتكافؤ الفرص إلخ: فلا بأس من أنه في ظل التحولات الاقتصادية، وتراجع الكثير من الموارد، أو لسد العجز في الموازنات أن تلجأ الدولة إلى الترشيد، أو فرض بعض الضرائب، لكن أن تكون هذه القرارات متوازنة ومقبولة، وليس قفزة كبيرة دون محاذير لأي تطبيقات دون الانتباه للواقع وتحدياته، أو حرقًا للمراحل في التطبيقات التي قد تكون قفزة للمجهول، ويرى د. الطيّب بو عزة في كتابه (نقد الليبرالية)، أن الليبرالية الجديدة: «وقد أدى هذا النزوع الفرداني الذي تتسم به النظرية النيو ليبرالية إلى إسقاطها في كثير من الإشكالات والمآزق سواء من جهة المنظور الأخلاقي أو المنظور الاقتصادي. بل حتى على المستوى المنهجي فإن المقاربة الفردانية للواقع الاقتصادي أنتجت الكثير من المفارقات والمزالق. وهذا ما وعاه بعض النيوليبراليين أنفسهم فنبهوا إلى مكامن الاختلال، لكنهم ظلوا مشدودين في هذا النقد إلى إشكاله المنهجي فقط، ولم يوسعوا رؤيتهم لنقد الرؤية المجتمعية النيوليبرالية». ولا شك أن النزوع النيوليبرالية بصورة الحادة التي تفرض سيطرتها لقوى السوق وميكانيكية العرض والطلب دون النظر للقضايا الاجتماعية، سيكون له مشكلات وقد ظهرت في الغرب قضية الشعبوية، التي هي معارضة لليبرالية الجديدة.
عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية ومؤلف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: اللیبرالیة الجدیدة هذه اللیبرالیة رؤوس الأموال حرکة السوق فی الغرب من خلال
إقرأ أيضاً:
رئيس جامعة أسيوط الجديدة التكنولوجية يستقبل عضو الأمانة العامة بمجلس الوزراء لمتابعة المشروعات القومية
استقبل الدكتور جمال تاج عبدالجابر رئيس جامعة أسيوط الجديدة التكنولوجية، المهندس هيثم مازن عضو الأمانة العامة لمتابعة المشروعات القومية بمجلس الوزراء، لمتابعة الموقف التنفيذى للجامعة، والوقوف على الاحتياجات المطلوبة للجامعة.
وجاء ذلك بحضور الدكتور علي محمد يوسف نائب رئيس الجامعة لشئون التعليم والطلاب، وجمال كمال عباس أمين عام الجامعة.
ويأتي ذلك في إطار توجيهات القيادة السياسية بأهمية المتابعة المستمرة للمشروعات القومية التي تنفذها الدولة المصرية بإعتبارها قاطرة التنمية خلال الفترة الحالية والمستقبلية.
وخلال الزيارة رافق رئيس الجامعة المهندس هيثم مازن خلال جولة تفقدية بالجامعة تضمنت المبنى الإداري، والمبنى التعليمي، ومبني المدرجات، بالإضافة إلى مبنى الورش والمعامل، والمسرح.
وأوضح الدكتور جمال تاج، أن جامعة أسيوط الجديدة التكنولوجية تحظى باهتمام ودعم كبير من الدولة المصرية، لإعداد خريجين مؤهلين قادرين على المنافسة بقوة فى سوق العمل المحلي والعالمي.
وأشار رئيس الجامعة إلى أن هناك بعض المتطلبات اللازمة والضرورية لاستكمال الأعمال بالجامعة، لإستمرار مسيرة البناء والتنمية بما يواكب تطورات العصر الحديث ويحقق النهضة بالمجتمع.
ومن جانبه أضاف المهندس هيثم مازن حرص الدولة المصرية على متابعة المشروعات القومية؛ للوقوف على نسب التنفيذ بها؛ ورصد أهم التحديات والمتطلبات اللازمة لاستكمال تلك المشروعات، وتذليل أية معوقات أمامها.