عربي21:
2025-03-01@17:07:12 GMT

سيناريوهات الانتخابات الرئاسية في تونس

تاريخ النشر: 6th, September 2024 GMT

تصدير: "الرأي الخاطئ لا يأتي من الأحاسيس التي يُنسب بعضها إلى بعض، ولا من الأفكار، ولكن من ربط إحساس بفكرة" (أفلاطون)

بعد فشل عشرية الانتقال الديمقراطي في تكريس النظام البرلماني المعدل وفي تفكيك منظومة الفساد والاستبداد وتحصين الديمقراطية ضد "قابلية الانقلاب"، وبعد نجاح النواة الصلبة للمنظومة القديمة في الهيمنة على الشأن العام عبر واجهة "تصحيح المسار" منذ 25 تموز/ يوليو 2021 (في إطار علاقة التعامد الوظيفي بين "الشرعية" و"الشوكة")، يبدو أن الحديث عن سيناريوهات (بصيغة الجمع) للانتخابات الرئاسية هو أمر أقرب إلى منطق الرغبة منه إلى منطق الواقع.

فالنظام الذي هندس المشهد السياسي باعتبار "الجمهورية الجديدة" مسارا كاملا لا يقبل الشراكة (حتى مع الموالاة النقدية)، لا يمكن أن نتوقع منه القبول بالمعارضة الجذرية التي تداعت للانتخابات الرئاسية بعد أن أعرضت عمّا سبقها، كالاستفتاء على الدستور وانتخابات غرفتي البرلمان.

لكنّ هيمنة النظام على مجمل العملية الانتخابية لم تمنع العديد من الشخصيات الحزبية والمستقلة من الترشح للانتخابات الرئاسية، طلبا لإنهاء "تصحيح المسار" (أو ما يسمونه بـ"الانقلاب") عبر صناديق الاقتراع. وهو خيار أوجد نوعا من الحراك السياسي والقضائي والمدني الذي يجعل من الحديث عن "سيناريوهات" (سواء في المسار الانتخابي أو بعده) أمرا مشروعا، بصرف النظر عن المسار الوضع الحالي، هذا المسار الذي يتجه إلى إعادة إنتاج المنظومة الحالية لنفسها بمنطق الغلبة وفرض الأمر الواقع.

يمكننا أن نعتبر أن نجاح تصحيح المسار في البقاء إلى لحظتنا هذه هو نتيجة حتمية لتناقضات الديمقراطية التمثيلية وأزماتها الدورية منذ المرحلة التأسيسية، بل نحن نستطيع اعتبار تصحيح المسار مجرد تعميم لمنطق "العائلة الديمقراطية" ودفعا به إلى الأقصى
ولن يكون هذا المقال استشرافا تفصيليا لمستقبل المشهد السياسي خلال المسار الانتخابي وبعده، بقدر ما سيكون محاولة لفهم ما يؤسس العقل السياسي التونسي -في السلطة والمعارضة- ويحدد سقفه واقعيا بصرف النظر عن الادعاءات الذاتية لمختلف الفاعلين الجماعيين.

لو أردنا رد الصراع السياسي في تونس إلى جذوره الأيديولوجية العميقة لقلنا إنه يتم بين سرديتين سياسيتين متنابذتين أو متناقضتين تربط بينهما علاقة لا متكافئة: سردية الديمقراطية التمثيلية القائمة على وساطة الأحزاب وتقاسم السلطة وتعددية التمثيل الشعبي (الاعتراف بالانقسام الاجتماعي)، وسردية الديمقراطية المباشرة أو المجالسية القائمة على القول بانتهاء زمن الأحزاب وعلى مركزة السلطة ورفض منطق الشراكة واقتسام السلطة (احتكار التمثيل الشعبي وعدم الاعتراف بالانقسام الاجتماعي وبشرعية الأجسام الوسيطة التقليدية).

وبمعنى ما، يمكننا أن نعتبر أن نجاح تصحيح المسار في البقاء إلى لحظتنا هذه هو نتيجة حتمية لتناقضات الديمقراطية التمثيلية وأزماتها الدورية منذ المرحلة التأسيسية، بل نحن نستطيع اعتبار تصحيح المسار مجرد تعميم لمنطق "العائلة الديمقراطية" ودفعا به إلى الأقصى.

إذا كانت "الأحزاب الديمقراطية" قد حددت هويتها السياسية بالتقابل مع "الإسلام السياسي" (خاصة حركة النهضة)، وليس بالتقابل مع منظومة الاستبداد والفساد (بحكم قيام تلك الأحزاب برسكلة ورثة المنظومة القديمة واعتبرتهم جزءا من "القوى الديمقراطية")، فإن تصحيح المسار قد اعتبر الديمقراطية التمثيلية كلها -بما في ذلك الأجسام الوسيطة "الحداثية"- المقابل الموضوعي والفكري للديمقراطية المباشرة.

ولا يبدو أن هذا الواقع الجديد قد عدّل في منطق أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" التي ما زالت تتحرك "نضاليا" بإقصاء النهضة وحلفائها. وآية ذلك تأسيس "الشبكة التونسية للحقوق والحريات" بما هي تجمع خالص للجمعيات النسوية والحقوقية والأحزاب الديمقراطية والتقدمية، دون أي انفتاح على باقي مكونات المشهد المعارض لتصحيح المسار. ومهما كانت أهداف هذه الشبكة وغيرها من التكتلات "الديمقراطية"، فإنها باستصحاب منطق الانقسام الأيديولوجي تحول دون بناء أي تكتل فعّال للمعارضة، وتمد بالتالي في أنفاس النظام وتخفف من أزمته في لا يبدو أن هذا الواقع الجديد قد عدّل في منطق أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" التي ما زالت تتحرك "نضاليا" بإقصاء النهضة وحلفائهامستوى الشرعية والمشروعية. فالقاعدة السياسية تقول إن البقاء في الحكم لا يستوجب أن يكون النظام قويا بقدر ما يستدعي معارضة ضعيفة ومشتتة.

إذا ما عدنا إلى قولة أفلاطون التي صدّرنا بها المقال، فإننا نقف على جذر الأزمة في الحقل السياسي التونسي سواء من جهة السلطة أو من جهة المعارضة. فالصراع لا يدور بين "أفكار" بل بين أطروحات يغلب عليها الربط الاعتباطي بين الأحاسيس(المشاعر) والأفكار. فـ"تصحيح المسار" هو فلسفة سياسية "هجينة" يصعب علينا أن نفصل فيها بين الديني والسياسي، وبين الشخصي والمؤسساتي، بل يصعب الفصل فيها بين المشاعر (مشاعر الحقد الطبقي أو الأيديولوجي أو مشاعر الاستعلاء الفكري والخُلقي) وبين أفكار الإصلاح و"التأسيس الثوري الجديد".

أما المعارضة، فإننا لا نستطيع أن نفصل في خطابها -خاصة فيما يتعلق بالنهضة- بين مشاعر "الابتلاء" و"الغربة" و"الاستعلاء الإيماني" وبين أفكار الإصلاح والتوافق والتمثيل الشعبي. وكذلك الشأن فيما يخص المعارضة "الحداثية" التي لا يمكن الفصل في خطابها السياسي بين مشاعر الخوف والريبة والاستعلاء المعرفي واحتقار "العوام" وتسفيه خياراتهم الانتخابية، وبين أفكار التنوير والتحديث واحترام الإرادة الشعبية وبناء المشترك الوطني بعيدا عن منطق الوصاية والاستقواء بأجهزة الدولة الأيديولوجية والقمعية.

قد لا نجانب الصواب إذا ما قلنا إن غلبة "المشاعر" على العقل السياسي التونسي بمختلف تشكيلاته هو أمر يجعل أي محاولة لفهم المشهد السياسي بمنطق عقلاني مجرد أمر منذور للفشل، فافتراض "عقلانية الفاعلين الجماعيين" أو عقلانية استراتيجياتهم داخل السلطة وخارجها هو افتراض لا شواهد له في الخيارات الكبرى لمختلف مكونات المشهد التونسي. فأي عقلانية هي تلك التي دفعت النهضة إلى دخول التوافق بشروط المنظومة القديمة وتهرئة "مظلوميتها" وخسارة جزء كبير من قاعدتها الشعبية؟ وأي عقلانية تدفع بالقوى "الديمقراطية" إلى الانقلاب على الانتقال الديمقراطي رغم هيمنتها عليه وتحويل النهضة إلى مجرد "شاهد زور"؟ وأي عقلانية تمنع الرئيس الحالي من توظيف حزامه الحزبي والنقابي والمدني لتقوية سلطته، والدخول بدلا من ذلك في صراع مفتوح حتى ضد مكوّنات "الموالاة النقدية"؟

إننا أمام خيارات لا يمكن تفسيرها بالأفكار ولا بالمصلحة، بل هي من باب ربط المشاعر بالأفكار مع هيمنة الأولى وجعل الثانية مجرد حارس أو خادم لها (غطاء أيديولوجي). وهو ما يجعلنا نذهب إلى أن فهم المشهد التونسي لا يمكن أن يحصل دون التسليم -انطلاقا من استقراء التاريخ والواقع- بهيمنة المشاعر على الأفكار والمصالح، كما نذهب إلى أن الخروج من الأزمات الدورية للدولة-الأمة لن يتم دون قلب العلاقة بين تلك "الثلاثية"، بحيث تكون الأفكار هي المحدد للصراع السياسي (ومن بعدها المصالح المادية والرمزية) وليس المشاعر.

لا يبدو أن سردية المعارضة تمتلك من ورقات الضغط ما يسمح لها بأن تفرض على المنظومة مراجعة علاقتها بالرئيس أو بالأطراف الداعمة له إقليميا ودوليا. وهو ما يرجح بقاء "تصحيح المسار" واجهة سياسية للمنظومة إلى حين توفّر الشروط الفكرية والموضوعية لتغييره من داخل منظومة الاستعمار الداخلي أو حتى ضد إرادتها
انطلاقا مما تقدم، فإننا نعتبر كل السيناريوهات الممكنة (سيناريو فوز الرئيس وبقائه بمنطق الغلبة، سيناريو فوز أحد منافسيه بمنطق "التصويت العقابي" ضد الرئيس، سيناريو إسقاط الجلسة العامة لنتائج الانتخابات، سيناريو رفض الرئيس للفرضية السابقة، سيناريو اضطرار الرئيس إلى قبول إعادة الانتخابات بهيئة مختلفة وبمناخ انتخابي حر وشفاف.. الخ) مجرد سيناريوهات لا سقف لها إلا تغيير واجهة السلطة دون أي تغيير جذري في "جوهرها" المرتبط بنيويا بمنظومة الاستعمار الداخلي.

ونحن نعتبر أن هذه المنظومة هي العقل الأوحد في هذه البلاد، أو العقلانية التي لم تخضع "للمشاعر" لتحقيق ما يطابق مصلحتها. فقد ساعدت هذه المنظومة في التخلص من رمزها وعائلته يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011، ثم قبلت بالنهضة شريكا مؤقتا في الحكم في المرحلة التأسيسية وخلال مرحلة التوافق، وانقلبت بعد ذلك على الانتقال الديمقراطي والديمقراطية التمثيلية حين وجدت في "تصحيح المسار" مصدرا جديدا للشرعية.

ختاما، لا شك عندنا في أن "المنظومة" تدير علاقة التعامد الوظيفي بينها وبين الرئيس بمنطق عقلاني صرف (مع فهم العقلانية باعتبارها خيارا يضمن مصالحها المادية والرمزية وليس بالضرورة مصلحة عموم الشعب). وهو ما يعني أن الدولة العميقة (أي منظومة الاستعمار الداخلي) ستدعم الرئيس ومشروعه ما دام في دعمه مصلحة لها، ولكنها ستعيد هندسة المشهد السياسي بصورة مختلفة إذا اقتضت مصلحتها ذلك.

ولا يبدو أن سردية المعارضة تمتلك من ورقات الضغط ما يسمح لها بأن تفرض على المنظومة مراجعة علاقتها بالرئيس أو بالأطراف الداعمة له إقليميا ودوليا. وهو ما يرجح بقاء "تصحيح المسار" واجهة سياسية للمنظومة إلى حين توفّر الشروط الفكرية والموضوعية لتغييره من داخل منظومة الاستعمار الداخلي أو حتى ضد إرادتها.

x.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الديمقراطية التونسي الانتخابات الإنقلاب تونس انتخابات الديمقراطية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدیمقراطیة التمثیلیة المشهد السیاسی تصحیح المسار لا یبدو أن لا یمکن وهو ما

إقرأ أيضاً:

معالم الاحتقان...فشل الحكومة... وضرورة تغيير المسار

نَعلمُ المكانةَ المميَّزة التي تكتسيها طُقوسُ عيدِ الأضحى بالنسبة للمغاربة. ومع ذلك لاحَظنا، كما كان متوقَــــعاً، كيف ابتهجتْ ملايينُ الأسر المغربية وتَنَفَّسَتِ الصُّعَدَاء، على إثر القرار المَلكي الشجاع والحكيم بعدم القيام بشعيرة نَـــــحر أضحية عيد الأضحى لهذه السنة. وهو قرارٌ نابعٌ من تَفَهُّمٍ عميق من جلالة الملك للظروف الاجتماعية الصعبة لمعظم فئات المجتمع، ومِن تجاوُبٍ معهودٍ من جلالته مع نبضِ المجتمع.
لا بد، إذن، أن نحمد الله على هذا القرار الوجيه، إذْ لنا أنْ نتصور كيف كان سيكونُ عليه وضعُ المغاربة في عيد الأضحى أمام فظاعات الغلاء الفاحش للأضاحي وأمام جشع تُجار الأزمة و »كبار الشناقة »، كما وقعَ في السنة الماضيةَ، في ظل الغياب التام للحكومة التي وقفت تتفرجُ على معاناةِ المواطنين وكأنها غيرُ معنية بحمايتهم اجتماعيا.
الآن، وارتباطاً مع الموضوع، لا بأس من الرجوع إلى رصيدِ الحكومة، خاصة على مستوى الأوضاع الاجتماعية والقدرة الشرائية.
نعم، لا أحد يُنكِرُ تداعيات الجفاف والتغيرات المناخية، ولا أحد ينفي أنه لفترةٍ احتدمتْ فعلاً تقلُّباتُ السوق الدولية. لكن ما دورُ أيِّ حكومةٍ إذا لم تُواجِه وتتصدى إلى هكذا ظروف، وتجعلها بالمقابل فقط شَمَّاعَةً تُعَلِّقُ عليها فشلَها الذريع!؟
بناءً عليه، من باب المسؤولية والمنطق السليم، علينا أن نعود إلى طرح السؤاليْن الحارقيْن على الحكومة، بالنظر إلى ما خَوَّلها الدستور من مهام واختصاصات ومن إمكانيات كذلك: « كيف ولماذا نزلت القدرة الشرائية إلى هذا المستوى غير المسبوق إلى درجةٍ أنْ لا حديث يَعلُو في كل أوساط على موضوع غلاء الأسعار؟ ». ثم « كيف أن عشرات الملايير من الدراهم التي تمَّ ولا يزالُ جارٍ إنفاقُها على مخطط/جيل المغرب الأخضر وعلى دعم استيراد المواد الغذائية، لم تنعكس إيجاباً على توفير الأمن الغذائي؟ ».
بكل موضوعية، فالأجوبة يتداولها المجتمعُ على نطاقٍ واسع، وتؤكدها أرقامُ مؤسساتٍ وطنية رسمية، بل إنَّ أصواتاً من أَهْلِ الحكومة والأغلبية صارت تَشهَدُ بأزمة الغلاء وتفضحُ أسبابَها.
لكن الحكومة الحالية عموماً (وخاصة حزبُ التجمع الوطني للأحرار الذي يترأسها) تمضي في التَّــــغَّــــني المستفِز للناس بمنجزاتٍ وهمية، وفي تَجَاهُل وإنكارِ الواقع الـــمُـــرّ الذي يئنُّ فيه المواطنات والمواطنون تحت وطأة الغلاء الفاحش، وفي الاكتفاء بخطاب التبرير عوض اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة عوامل الاحتقان الاجتماعي أو على الأقل للتخفيف من حِدَّتِها.
لقد فشلت الحكومةُ في الدعم الذي كان مفروضاً تَـــــوْجِـــــيــــهُــهُ بعدالةٍ ونجاعة للكسابة الصغار والمتوسطين، للحفاظ على القطيع الوطني من الماشية. وما ذلك سوى جزء لا يتجزأُ من فشلها الذريع في جعل ملايير مخطط/جيل المغرب الأخضر في خدمة العالَم القروي والفلاح الصغير وفي خدمة السيادة الغذائية الوطنية، إذ لا يستفيدُ من امتيازاته الداعمة الضخمة، التمويلية والضريبية والعقارية، سوى كِبارُ الفلاحين المُصَدِّرين، في مقابل استنزاف مواردنا المائية، حيثُ صِرنا نستوردُ كل حاجياتنا الغذائية الحقيقية تقريباً، كما صرنا نَخضعُ، بهشاشةٍ غير مسبوقة، لتقلبات السوق الدولية بهذا الشأن.
ولقد فشلت الحكومة في ضمان الأثر الإيجابي للدعم السخي، بملايير الدراهم، الذي تمنحه على طبقٍ من ذهب وعلى المقاس لحُفنةِ مستوردين كبار شَكَّلوا لوبياًّ حقيقياًّ، وذلك في غيابٍ تامٍّ لأيِّ تسقيفٍ للأسعار ولا مراقبةٍ للأسواق. وهكذا واصَلت أسعارُ اللحوم ارتفاعاتها القياسية والصاروخية، بما أغنى حواليْ 18 مُضارباً كبيراً على حساب جيوب ملايين المغاربة، بشهادة وزيرٍ في الحكومة الحالية.
ولقد فشلت الحكومة، أيضاً، في مواجهة غلاء معظم المواد والاستهلاكية والخدمات، أساساً بفعل المضاربات والاحتكار. وأخفقت في مراقبة سلاسل التوزيع والتسويق، وأتاحت المجال واسعاً أمام تُجار الأزمة الكبار « لِــــيَمتَصُّوا دَم المغاربة » بلا حسيبٍ ولا رقيب، وما ظاهرة « الشاب مول الحوت في مراكش » سوى تلك الشجرة التي تُخفي الغابة. كما أن ما يحدثُ في مجال المحروقات من ممارساتٍ فظيعة ومن مُـــراكمةٍ غير مشروعة لأرباح فاحشة، بشهادة مجلس المنافسة، يُعدُّ دليلاً دامغاً بهذا الصدد.
ولأن القدرة الشرائية مرتبطة بالدخل، بنفس قدر ارتباطها بالأسعار، فجديرٌ بالإشارة هنا إلى أن الحكومة فشلت في مواجهة زحف البطالة بشكلٍ غير مسبوق، بل أَفْقَدَتْنَا سياساتُــها غير الكُــــفُـــؤة مئاتِ الآلاف من مناصب الشغل. وفشلت في جلب الاستثمار المنتج للشغل بما يتناسب مع مؤهلات وفُرَصِ بلادنا، كما فشلت في تحقيق النهوض الاقتصادي الحقيقي، وفي الارتقاء بتصنيع وطني حديث ومتطور ومتنوع، وفي دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة والصغرى جدا.
وسقطتِ الحكومة، ورئيسُها، بمستوياتٍ وأشكال لم نشهد لها مثيلاً من قبلُ، في التضارب الصارخ للمصالح، والدفاع الفَــــــجّ عن مصالح مالية واقتصادية شخصية أمام البرلمان، في استغلالٍ بشع لمواقع المسؤولية الرسمية، كما حدث بالنسبة لصفقة إنجاز مشروع محطة تحلية مياه البحر للدار البيضاء. وما خفي كان أعظم.
كما فشلت الحكومة في تعميم التغطية الصحية وفي تحقيق فِعلية الولوج العادل للصحة، على عكس ادعاءاتها، وفشلت، كذلك، في معالجة الاختلالاتِ الكثيرة التي تشوبُ برنامج الدعم الاجتماعي المباشر.
لائحة الفشل الحكومي متعددة إلى درجةٍ يصعبُ حصرُها، ولطالما نَـــــــبَّــــــهْــــنَا إليها وإلى خطورة تداعياتها، لكن دون أُذُنٍ صاغية من هذه الحكومة التي اختارت تبني خطاب الارتياح والرضى المفرط عن الذات، واختارت كذلك الاصطفافَ إلى لوبيات المال على حساب الشعب. لذلك فمن الخطأ الفادح، بل من الخطورة بمكان، الاستمرارُ على نفس هذا النهجِ الذي يَضَعُ كل تراكمات بلادنا ومكتسباتها ومنجزاتها، بشكلٍ خطير، في مَـــهَــــبِّ الريح، لا قَدَّرَ الله.
طبعاً، إلى جانب كل هذه الإخفاقات المذكورة باقتضاب، تظل الأبعادُ السياسية والحقوقية غائبةً تماماً عن أجندة هذه الحكومة وعملها، بما لا يعني سوى أمراً واحداً هو أنها تَعتبرُ نفسها في « وضعٍ مُريح ومستريح » بأغلبيةٍ عدديةٍ، لكن لا وزن ولا تأثير مجتمعي لها، أغلبية لا تتواصل ولا تؤطِّرُ الناس، وتتركُ مساحاتٍ عريضة من الفراغ في الساحة السياسية، كما تترك المجتمع فريسةً سائغةً أمام شتى التعبيرات العفوية أو المغرضة.
ومن الأمثلة الدالَّة على فشل الحكومة في الاهتمام بكل ما هو سياسي – ديموقراطي وحقوقي: عدم قدرتها على تحمُّلِ أيِّ مسؤوليةٍ في تفسير مقترحاتِ وتوجُّهاتِ إصلاح مدونة الأسرة والدفاع عنها، حيثُ أنها تتعاطى مع الأمرِ بمنطقِ الاختباء، ولا تجرؤ على الدخولِ في أيِّ نقاشٍ حول هذا الورش المجتمعي، وفي ذلك برهانٌ آخر على الفراغ السياسي اللامتناهي الذي تتخبط فيه هذه الحكومة.
في الخلاصة، إنَّ كل هذه المقاربات الحكومية تُوجَدُ على طرفِ النقيض مع توجُّهات النموذج التنموي الجديد الذي نادى ب »تحرير طاقات المجتمع »، في حين أن سلوك الحكومة لا يعمل سوى على تقييد هذه الطاقات اجتماعيا واقتصاديا وديموقراطيا وحقوقيا، وسوى على زرع بذور الاحتقان والانسداد، وتغذية عوامل فقدان الثقة، بما يستدعي…… تغيير المسار في اتجاهِ بديلٍ قادرٍ على تحويل الفرص إلى تقدُّم..

مقالات مشابهة

  • العراق في موقع سيء بمؤشر الديمقراطية لعام 2024
  • سيناريوهات ما بعد المرحلة الأولى في مفاوضات غزة
  • زهيو: إجراء انتخابات تشريعية فقط يعزز الانقسام السياسي
  • فنيش: نحن دعاة حوار وأصحاب منطق
  • أمازون تكشف أول شريحة تخفض تكلفة تصحيح الأخطاء 90%
  • معالم الاحتقان...فشل الحكومة... وضرورة تغيير المسار
  • مفاوضات سرية وترقب سعودي وناد إيطالي يدخل على الخط.. سيناريوهات مستقبل محمد صلاح
  • أمريكا الإسرائيلية وإسرائيل الأمريكية.. الأسطورة التي يتداولها الفكر السياسي العربي!
  • نائب وزير الخارجية يزور أسوان تفعيلاً للمبادرة الرئاسية مراكب النجاة
  • الشرطة الرومانية تعتقل المرشح الأوفر حظاً في الانتخابات الرئاسية لاستجوابه