عندما وصلت إلى منطقتي نخلا والسحيل شمال شرقي العاصمة اليمنية صنعاء سنة 2014، بدا لي مشهد قبائل محافظة مأرب المتجمعة هناك استعداداً لقتال قوات الحوثي كما لو أنه معسكر تابع لجيش نظامي. كان آلاف المسلحين موزعين في مجموعاتٍ على مساحة خمسة عشر كيلو متراً مقسمة إلى مقدمة ومؤخرة. ورأيت كيف تتكفل قبيلة كل مجموعة بتغطية احتياجاتهم من الذخيرة والغذاء والماء والخيام والسيارات.

كان ذهابي إلى هناك لرغبتي التعرّف مباشرة على عرفٍ يمني قبلي اسمه النَّكف أعلنته هذه القبائل في سبتمبر 2014 لصدّ تقدّم الحوثيين عبر أراضيهم. ففي هذا العرف، يُدعى أفراد القبيلة الواحدة أو القبائل المتحالفة للاحتشاد في مكان متفق عليه استجابة لنصرة مظلوم من أفراد القبيلة أو لاجئ إليها من خارجها أو على خلفية قضايا الشرف والعار والتهديد بالغزو أو التعرّض للاعتداء من قوة أخرى. وما إن دعت قبائل مأرب إلى النَّكف حتى توسع وضمّ عدداً من القبائل الأخرى.

لم يكن إحياء النَّكف مؤخراً بعد اختفائه من الحياة السياسية اليمنية لفترة طويلة هو الأول في الحرب الحالية التي تشهدها اليمن. فمع توسع رقعة الصراع لجأ عدد من أطرافه من الحوثيين والقوات المتحالفة مع الحكومة لاستخدام النَّكف ضد بعضهم أكثر من مرة وفي مناطق مختلفة لا سيما تلك التي يسيطر عليها الحوثيون. ولم يقتصر توظيف النَّكف على أطراف الحرب، بل فُعّل أكثر من مرة في قضايا اجتماعية مختلفة ما يشير إلى تدهوّر مؤسسات الدولة واضطرار الناس لتفعيل أعراف القبيلة لحل مشاكلهم.

ينظّم النًّكف وغيره من الأعراف القبلية في اليمن الحقوق والواجبات والعقوبات بين أفراد القبيلة وعلاقتها مع القبائل والمكونات الأخرى ويحدّد طريقة التعامل مع الخلافات والنزاعات في أوقات السلم والحرب. وداخل كل قبيلة توجد شخصيات تتلقّب بلقب “مراغة مرجعية” تتولى الجانب التشريعي والقضائي للعُرف القبلي. يقول المراغة المرجعية محمد بن علي صيّاد رئيس “مجلس العُرف القبلي” إن هذه الأعراف القبلية متوارثة منذ الأجداد لكافة القبائل اليمنية واتفقَ عليها وأجمع عليها مشائخ ومرايغ كافة القبائل وعمّدها العلماء وحكام البلاد سنة 1837 الموافق 1253 هجرية. تتألف الأعراف المرجعية من 222 قاعدة مُصاغة متوناً تلتزم بالوزن الشعري دون القافية.

من هذه الأعراف تمنح القاعدة رقم 193 الغُرباءَ الذين يفدون أو يعملون في حِمى “أرض” القبيلة حصانة الحماية ومن يعتدي عليهم يرتكب “عيبا أحمر”. والمقصود بذلك جرائم العرض والمال والدم وعقوبتها حكم “المحدّش” وهو تغلّيظ العقوبة أحد عشر مرة عن العقوبة الأساسية. والمشمولين بالحماية سبعة كما في نص المادة:

حكيم العلة الباذل

ومن في عهد مولى الأمر

ومثل الطايفي في الطوف

نظامي أو فقيه اللوح

ولا بوقه على ذِمّي

ولا متقصّد الحِرفة

والمقصود بوصف “حكيم العلّة” الطبيب، و”من في عهد مولى الأمر” الداخلين للبلد بتصريح من الحاكم، و”الطايفي” المُكلّف من الدولة بعمل مثل تحصيل الضرائب والزكاة ونحوها، و”النظامي” جندي الدولة ومن يدخل في حكمه وكان ذاك اسمه قديماً، و”فقيه اللوح” المدرس ومَن في حكمه، و”الذمّي” اليهودي أو المسيحي و”متقصّد الحِرفة” المستثمر أو البائع وما شابه.

وتتوزّع الأعراف على خمسة أبواب تُشبه مضامينها قوانين التقاضي الرسمي. فهي تشمل مسائل تندرج تحت ما يمكن تصنيفه اليوم بالحقوق المدنية والعقوبات الأصلية للجرائم وقانون العقوبات الفرعية وقانون القضايا المستعجلة وقانون المرافعات والإجراءات التنفيذية وقانون الإثبات وقانون الضبط ونفقاته التشغيلية، وهذا ما أورده المراغة صيّاد في كتابه “وثيقة القواعد المرجعية العرفية لكافة القبائل اليمنية”. تناقل أفراد القبائل هذه الأعراف بينهم عفواً وبالاقتداء واقتفاء الأثر في إطار مؤسسات التنشئة الاجتماعية كالأسرة والقبيلة وذلك، “بوصفها أُطر اجتماعية حاكمة وفاعلة في المجتمع ويعد السير عليها جزءا من شرط اندماج الفرد في الجماعة والاعتراف به”، كما يورد الكاتب والباحث أحمد الطرس العرامي.

والنَّكف أحد هذه الأعراف القبلية. وله أسماء أخرى أقل شيوعاً منها اليوم الكبير و المَقْدَمْ ويسمى أيضاً المَطارِح في مأرب. ويدعو إليه أفراد القبيلة الواحدة أو القبائل المتحالفة فيحتشدون في مكان متفق عليه، ويدعى إليه لأغراض متعددة كنصرة مظلوم أو على خلفية قضايا اجتماعية منها نزاعات الشرف والعار أو قضايا أخرى مثل التهديد بالغزو. يناقش المجتمعون في المكانِ المحددِ القرارَ المناسبَ اتخاذُه وقد يصل إلى حالة إعلان الحرب. وعند محاولة غزوٍ أو هجومٍ من قبيلة أو أي قوة أخرى، تُرسل القبيلة المستهدَفَة تحذيراتٍ للجهة المستهدِفة قبل إعلان النّّكف. وإذا لم تستجب، يُلجأ إليه فيما يُشبه إعلان التعبئة العامة للحرب للدولة. يذكر الدكتور محمد الظاهري أن التشابه بين القبيلة والدولة يتجلى في عدة شواهد ذكرها في مقاله المنشور في “دوريّة أفق”. من هذه الشواهد “وجود شيوخ قبليين بمثابة قيادات لقبائلهم يفترض أنهم ممثلون لمصالحها ومدافعون عن حقوقها”. ومن أوجه التشابه التي يذكرها، وحدة الرقعة الجغرافية للقبيلة ووجود مصلحة مشتركة للمنتمين لها. ويختم بذكر أن القبيلة تشبه الدولة بوجود ثقافة حربية يجعلها أشبه بالتنظيم العسكري.

تختلف نسبة المشاركة في النَّكف ويختلف مكان انعقاده باختلاف نوعه. فبعد أن يتولى شيخ القبيلة الدعوة إلى النَّكف أو من يكلّفه بذلك وإيصال الرسالة للناس بالوسائل المناسبة. تتضمن الدعوة اسم المكان الذي يحتشدون فيه وقد تكون ساحة عامة مثل “المسراخ” أو أمام منزل الشيخ الداعي له أو في أرض منبسطة قريبة من مكان الخطر المحتمل في حالة الغزو والهجوم من قبل قوة معينة. وفي حالات الثأر قد يجتمع المتخاصمون فيه لكن لا أحد ينتقم من خصمه مهما كان الأمر التزاما بأحكامه. أما المشاركة فيه، فيذكر الباحث العرامي في مقابلة مع مجلة الفِراتس أنه إذا كان النَّكف “مرتبط بإنصاف مظلوم أو لصد غازٍ أو طرد ناهب، فهو ملزم لهم، أما إذا كان يتعلق بالخروج على الدولة سواءً من قبل فرد أو قبيلة، فيما تصطلح القبائل على تسميته بالكارثة بسبب ما يورّثه من دورات عنف وتقوّيض النظام المستقر، فهو غير مُجاب في العادة وغير ملزم”. إضافة إلى ذلك، تذكر الباحثة ريم مجاهد في دراستها “الدولة والقبيلة في اليمن” أن النَّكف الذي “تدعو إليه المرأة أو يُدْعَى إليه نيابة عنها أقوى وأكثر إلزاماً من النَّكف الذي يدعو له الرجل أو لأجله، وهذا يدل على مكانة واحترام المرأة في الأعراف القبليّة”.

اختفت ظاهرة النَّكف بشكل كبير بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 التي قضت على المملكة المتوكلية اليمنية وأدت لتشكّل قضاء حديث في الجمهورية العربية اليمنية. والمملكة المتوكلية تأسست سنة 1919 على يد الإمام الزيدي يحيى حميدالدين بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. استمر لجوء القبائل لعرف النَّكف طيلة فترة الحكم الملكي حتى الإطاحة به في ثورة 1962. ويشير الدكتور عادل دشيله، الباحث في شؤون القبيلة، في مقابلة مع الفِراتس، لدور القضاء الرسمي في فترة الجمهورية في الفصل في قضايا المظالم والنزاعات مما حد أو قلل من لجوء القبائل لخيار النَّكف.

إلا أن الظاهرة عادت بقوة بعد سيطرة جماعة الحوثي، أو حركة “أنصار الله”، على العاصمة صنعاء بالقوة في 21 سبتمبر 2014، ثم انقلابهم على سلطة الرئيس السابق عبدربه منصور هادي فيما بعد. ولعل أهم أسباب عودتها انهيار مؤسسات الدولة وتوظيفها من قبل أطراف الصراع وخاصة الحوثيين. تقول ريم مجاهد إن الحوثيين انتهجوا سياسة أدت إلى “سحق القبائل وتصدع بنيتها الاجتماعية بسبب الاستقطاب والعنف وفقدان الكثير من أفرادها وهي في الوقت الحاضر في أسوأ أحوالها”. شملت هذه السياسة، حسب منظمة سام لحقوق الإنسان، تفجير المنازل واختطاف المشائخ والأفراد وتقويض القضاء بكيان موازٍ اسمه “الحارس القضائي”. يُشبه الحارس القضائي منصب النائب العام إذ يرأسه أحد القيادات الحوثية ويمكنه في أي وقت مصادرة الممتلكات من عقارات وأراضٍ وشركات تجارية. ويبرر الحوثيون هذه الإجراءات بأنها تستهدف “الخونة” في إشارة لخصومهم اليمنيين، وأنها تهدف لحماية مناطق سيطرتهم.

لم يكتف الحوثيون بتوظيف القبيلة كما فعلت السلطات اليمنية المتعاقبة قبلهم، بل سعوا بشكل دؤوب لإعادة هيكلتها. بدأ هذا في أواخر أكتوبر 2014 عندما عقد الحوثيون مؤتمراً قبلياً باسم “عقلاء وحكماء اليمن” شارك فيه العديد من مشائخ القبائل. ترأس المؤتمر حليف الحوثيين الشيخ ضيف الله رسام، وهو من قبيلة خولان بن عامر ورئيس “مجلس التلاحم القبلي الشعبي” الذي تأسس في صعدة معقل الحوثيين أواخر 2013. اعتبر الباحث أحمد الطرس العرامي في دراسته “الحوثيون بين السياسة والقبيلة والمذهب” أن ترَؤُس الشيخ رسام للمؤتمر كان خلافا للعُرف القبلي، وكان “بمثابة تنصيب له كشيخ لمشائخ اليمن، وهو المنصب الذي يشغله أو يمثله مشائخ حاشد من آل الأحمر”. كان هدف المؤتمر استخدام نفوذ القبيلة للضغط على الرئيس اليمني حينها عبدربه هادي لتشكيل حكومة. حيث منح المجتمعون هادي مهلة عشرة أيام لتشكيلها وإن لم يفعل فإنهم سيعلنون مجلس إنقاذ وطني، وقد اُستجيب لهم بعد أيام. كما دعا المجتمعون لتشكيل “لجان ثورية” بالمحافظات وهي التي تولت السلطة بعد ذلك، فضلا عن رفضهم انسحاب مسلحيهم “اللجان الشعبية” التزاما باتفاق “السلم والشراكة” الموقع مع السلطة والأحزاب السياسية عشية سيطرتهم على صنعاء.

 

استخدم الحوثيون النَّكف أول مرّة بعد تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن في 26 مارس 2015 بطلب من الرئيس عبدربه هادي. حينها سارع الحوثيون إلى دعوة القبائل المحيطة بصنعاء للتوقيع على وثيقة أصدروها باسم “وثيقة الشرف القبلي” والتي تضمنت توظيفاً للأعراف القبلية لصالحهم. تنص الوثيقة على ثمانية بنود منها “العقوبات القانونية للمؤيدين للتحالف العربي وإقرار صلح عام بتأجيل الخلافات والثارات باستثناء المشمولين بالعقوبات لدعمهم التحالف وتنظيم وترتيب وضع القبائل والقيام بدورها في المجالات الدفاعية والأمنية”.

كفل توظيف النَّكف للحوثيين تحقيق غايتين رئيستين. الأولى ضمان تأييد القبائل ودعمها بالرجال والمال. إذ تشير الباحثة ريم مجاهد في دراستها آنفة الذكر أن بعض القبائل أُجبرت على توقيع الوثيقة وبذلك أصبحت مسؤولية حماية المدينة على عاتقها بموجب مبدأ “الغُرم القبلي”، وهو التزام القبيلة بتقديم المال والرجال لردع المعتدين. وبتوظيف العرف القبلي، اعتبرت المدينة منطقة “مهجرة” وهذا يعني أنها محمية أو آمنة يُحظر القتال فيها خاصة الأماكن العامة مثل المساجد والمدارس. وهذا يقتضي وضع عقوبات على أبناء القبائل الذين يقاتلون ضد الحوثيين تشمل عزلهم اجتماعياً وإعلان البراءة منهم وهي أعراف قبليّة.

في هذه الحالة يُوَظَف النَّكف لصالح الطرف الذي صاغ الوثيقة، وهو ماذكره مراغة مرجعية تحدث لمجلة الفراتس مفضّلاً عدم ذكر اسمه لسلامته. ويضمن النَّكف للحوثيين ديمومة التعبئة العامة للحصول على مقاتلين جاهزين بأسلحتهم في أي وقت وبأقل تكلفة. فإذا ما قارنا هذه الطريقة بالتعبئة باسم التجنيد الرسمي، سنجد أن الأخيرة تتطلب موارد مالية من رواتب شهرية وتسليح ونفقات أخرى وضمان حقوق ما بعد الوفاة وكل هذا دونه تحديات. بينما في حالة الحشد القبلي لا يحصل هؤلاء المتطوعون إلا على مبالغ رمزية عند البقاء في الجبهات فقط وتشارك قبائلهم في تمويلهم بالمال والسلاح في بعض الأوقات.

أما الغاية الثانية من توظيف النَّكف فهو تمكين الحوثيين من ادعاء تمتعهم بشرعية سياسية بين اليمنيين. فطيلة السنوات الماضية استخدم الحوثيين النَّكف لإيصال رسالة بأنهم ليسوا مجرد أقلية دينية أو قبلية استولت على السلطة بالقوة، بل حركة تحظى بتأييد اجتماعي وأنه لولا هذا الدعم لما وصلوا للحكم ولما حافظوا عليه كل هذه السنوات. وهذا ما قاله القيادي الحوثي ضيف الله رسام، الذي صرّح لموقع “المسيرة” التابع لهم، أنه لولا دعم القبائل لهم بالمقاتلين لخسروا الحرب في شهر.

وبهذه الطريقة يمنحهم توظيف النَّكف القدرة على تأطير الحرب بأنها “دفاع عن الوطن” وليس دفاعاً عن أنفسهم. يحقق لهم هذا التأطير أمرين، الأول محاولة ترسيخ فكرة أن الحرب ليست مع أطراف محلية نتيجة انقلابهم على السلطة بعد دخولهم صنعاء. والثاني تقديم أنفسهم حركة “مقاومة” ضد ما يسمّونه “العدوان” في إشارة للتحالف العربي. وهذا يستدعي نخوة القبائل وحميتها للوقوف معهم في استنساخ لتجربة مؤسس المملكة المتوكلية الإمام يحيى حميد الدين عندما استعان بالقبائل لمواجهة العثمانيين في اليمن ثم تولي الحكم من بعدهم.

تعتمد قدرة الحوثيين على الاستفادة من النَّكف على تعاون شيوخ القبائل وأفرادها، ولهذا السبب تبنوا عدة وسائل لضمان تعاونهم. أوّل هذه الوسائل إضعاف سلطة هؤلاء المشايخ بمنصب “المشرف” الذي استحدثوه. فحسبما يرى أحمد العرامي في دراسته السابقة، يختار الحوثيون هؤلاء المشرفين من طبقة الهاشميين أو من الأشخاص الأكثر ولاء لهم ويوزعونهم في الوزارات والمؤسسات والمحافظات والمجتمعات القبلية. وخلافاً لما كان عليه الأمر في عهد علي عبدالله صالح، حيث كانت علاقة الدولة بالمواطنين تمر عبر شيوخ القبائل، فإنها في مناطق سيطرة الحوثيين تمر عبر المشرف. ويتمتع هذا المشرف بصلاحيات متعددة منها تحديد القضايا التي يجتمع لأجلها الناس.

أما ثاني وسائل كسب تعاون مشائخ القبائل وأفرادها فهو العنف والقسر. فتشير دراسة الباحثة ريم مجاهد، إلى شعور “المشائخ بأن هيبة القبيلة سُحقت إما بقتل رموزها وهدم منازلهم ونهب ممتلكاتهم أو بانتهاك ما هو محرّم في الأعراف”. وتشمل قائمة الشيوخ المقتولين أسماء مثل أحمد السكني وسلطان الوروري ومجاهد قشيرة في عمران. ومن أمثلة الشيوخ الذين صودرت ممتلكاتهم عبدالواحد الدعام في إب ومحمد عبدالقادر العبدلي في البيضاء. تمكن الحوثيون، إضافة للتصفية ونهب الممتلكات، من ضمان دعم المشائخ وتعاونهم بالتعامل مع رافضي التعاون على أنهم “مجرمين”.

بعد ذلك تأتي الوسيلة الثالثة، وهي إعادة تأهيل الأفراد الذين حُشدوا باسم النَّكف للقتال إلى جانب الحوثيين. إذ يعقد الحوثيون ما يسمى “دورات ثقافية”، وهي دورات مغلقة تتراوح مدتها بين أسبوعين إلى ثلاثة أشهر ولأكثر من مرة. تقدم في هذه الدورات محاضرات مكثفة في الولاء لزعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي “السيد العَلَم”، أي جامع السلطتين الدينية والسياسية اعتمادا على نسبه إلى آل البيت. يشكّل هذا الأمر برأي الدكتور عادل دشيله “تهديدا خطيرا على مستقبل القبيلة وهويتها الثقافية التقليدية القائمة على التعايش واحترام المواثيق والعهود” كما في مقاله “الامتثال القسري: الحوثيون وقبائل شمال اليمن”. وبهذه الدورات وغيرها يُعبأ هؤلاء الأشخاص بالأفكار والتوجهات التي تحتكر الحكم في فئة معينة وتقدّس قياداتها. ترى ندوى الدوسري في دراستها “الحوكمة القبليّة والاستقرار في اليمن” أن هذه التعاليم تقع على النقيض من “النظام الاجتماعي القبلي القائم على مساءلة المشائخ أمام مجتمعاتهم والمعادي للإيديولوجية بصورة فطرية”.

آخر الوسائل التي يوظفها الحوثيون لكسب تعاون شيوخ القبائل وأفرادها، هو استغلال القضايا والأحداث الإقليمية كما يحدث اليوم في حرب غزة. فقد استغل الحوثيون النَّكف لتجنيد أبناء القبائل باسم مناصرة غزة تحت شعار “الفتح الموعود والجهاد المقدس”. يقول الشيخ فيصل أمين أبو رأس عن هذا التوظيف في مقابلة مع الفِراتس إنه سيكون مشروعاً لو جاء من الدولة “الشرعية” لكنه يعتقد “أن آخر ظهور لهذه الدولة ولو في حده الأدنى كان سنة 2011” في إشارة لنظام علي عبدالله صالح الذي أطاحت به ثورة 11 فبراير. ولذلك فهو يرى أن “أي دعوة للنَّكف اليوم في ظل الصراع وعلى غير ظاهره تعتبر بمثابة تهرب سلطات الأمر الواقع من استحقاقات داخلية وأقرب إلى إيفاء باستحقاقات التخندق في صراع المحاور في المنطقة”.

لا يقتصر إعلان النَّكف على الحوثيين، بل يلجأ إليه أيضاً خصومهم كما هي حالة قبائل مأرب التي أعلنت النَّكف ضد الحوثيين في 18 سبتمبر 2014 في منطقتي “نخلا والسحيل”. وللنَّكف عند هذه القبائل اسم آخر هو المطارح. حينها قررت زيارة المطارح بدافع الفضول الصحفي واستغرق الوصول إليه من صنعاء التي كنت أقيم فيها حوالي ساعتين ونصف.

عندما وصلت إلى المكان بدا لي كما لو أنه معسكر تابع للجيش. ففيه وجدت آلاف المسلحين موزعين على مساحة خمسة عشر كيلومتراً تنقسم عسكرياً إلى مقدمة ومؤخرة. في كل قسم يتوزع المسلحون على مجموعات تضم كل واحدة ما بين عشرين إلى خمسة وعشرين مقاتلاً ولكل منها قائد. تتكفل قبيلة كل مجموعة بتغطية احتياجاتهم من الذخيرة والغذاء والماء والخيام والسيارات. وتؤدي بعض هذه المجموعات مهام معينة مثل تدريب غير المهرة على المهارات القتالية واستطلاع تحركات الحوثيين ورصدها على مدار الساعة والدعم بالخدمات والإمداد. وينتشر المقاتلون على امتداد مساحة المكان، فتجدهم يستخدمون مدافع رشاشة من مختلف العيارات وأهمها مضاد الطيران عيار 23 مليمتر والذي يُنصب فوق سيارات مكشوفة نوع تويوتا لاندكروزر المعروفة باليمن باسم “شاص”. ويستخدمون المدافع المضادة للدبابات وقذائف “آر بي جي”، بالإضافة للعربات المدرعة المعدّلة محلياً من سيارات نوع “فيتارا”، ويقف هؤلاء على بُعد خمسة وعشرين كيلومتراً من أقرب مكان للحوثيين شمال المحافظة. ولم يكن اختيار هذا المكان صدفة، بل وفق القواعد العرفية المعمول بها في حالة الحرب. وتشمل أن يكون قريبا من الجهة التي يتوقع دخول القوة الغازية منها، وأن تكون أرضاً واسعة مستوية بعد الحصول على موافقة صاحبها.

وما أثار دهشتي وأنا هناك دور الأعراف القبلية في اتخاذ القرار وإدارة الخلافات. فعلى سبيل المثال، يلجأ شيوخ القبائل للتصويت الشفوي لاختيار القائد ومسؤولي اللجان الأخرى مثل الإعلام والتموين الغذائي. وقد وقعت القبائل اتفاق “صلح” يؤجل الثأر والانتقام مؤقتا بهدف التوحد ضد الحوثيين، وفُوّض المحافظ بحل أي خلافات طارئة لأنه شيخ قبلي منهم. وأثناء حديثي مع الشيخ عبدالله بن حمد غريب قال لي وهو يجلس على حصيرة أمام خيمته ويرافقه اثنا عشر من أولاده وأحفاده وكلهم مستعدون لأداء “الواجب”: “المقاتلون هنا يمثلون قبائلهم وليس أحزابهم السياسية”.

ومع البعد القبلي الواضح في المطارح إلا أنك لا تجد تأجيجاً وتسييساً للانتماء القبلي. فأينما تجولت في المكان لن ترى غير العلم الوطني يرفرف فوق التلال والخيام والسيارات في رسالة واضحة تؤكد الانحياز للدولة وأنها الجهة الوحيدة التي يحق لها السيطرة على محافظتهم، مما يعبّر عن المصير المشترك في مواجهة خطر الفرق العسكرية. ويُنسب الفضل للمطارح في الحفاظ على النظام الجمهوري، إذ مثّلت معسكراً كبيراً لاستقبال الراغبين بالقتال من جميع المحافظات والنّواة التي تأسست منها فيما بعد “المقاومة الشعبية” والتي انضم الكثير من أفرادها للجيش الوطني الجديد. يقول أبو رأس إن القبيلة تتحوّل عند غياب الدولة وضعفها إلى “صمام أمان وتحول دون انزلاق البلاد إلى شريعة الغاب”، ويساعدها في ذلك أن النَّكف يوحد رجالها وينّحي الانتماءات السياسية جانباً.

ولا يقتصر استخدام النَّكف على الصراع السياسي بين الحوثيين وخصومهم، بل شهدت الفترة الأخيرة استخدامات أخرى متنوعة له. وأبرز مثال على ذلك قضية السيدة جهاد الأصبحي التي قتلها الحوثيون في منزلها أواخر أبريل 2020 في مديرية الطفة بمحافظة البيضاء. وفي الأعراف القبلية، يعتبر قتل المرأة جريمة من الكبائر. أثار هذا الأمر غضب قبائل المحافظة بمختلف توجهاتهم السياسية ومناطقهم الجغرافية خاصة بعد رفض الحوثيين تسليم المتورطين في الجريمة للقضاء. فما كان من والدها إلا طلب النصرة من الشيخ

ياسر العواضي وهو شيخ آل عواض في نفس المحافظة. دعا الشيخ للنَّكف فاستجابت القبائل وتوافد رجالها على منزله لمدة شهرين تقريباً وكان بعضهم ينشد “زامل” قائلا:

يا قلعة البيضاء وظهرِك ذي انكسر *** بقتل بنت الأصبحي أصبح كسير

داعي النَّكف يا قــــــوم مـا منه مفر *** ابن العـــواضي قال قوموا للنفير

أثار هذا التحرّك مخاوف الحوثيين من تطوّر الأمور إلى حد طردهم من المحافظة. فحشدوا قوتهم بعد المناورة بالوقت والوساطة وهاجموا الشيخ ياسر العواضي في معقله وطردوه مع أسرته.

وقد تدعو القبائل إلى النَّكف ضد سلطات الحكومة المعترف بها دولياً أو الجهات المسيطرة على المشهد مثل “المجلس الانتقالي” في الجنوب. ففي يونيو 2020، دعت أسرة آل سبيعان في مدينة مأرب التي تسيطر عليها الحكومة اليمنية إلى النَّكف بعد مقتل عدد من أفرادها على يد القوات الحكومية التي قالت إنها استهدفت “خلية إرهابية”. وفي جنوب البلاد، دعا الشيخ عبدالرب النقيب عضو هيئة رئاسة المجلس الانتقالي، وهي المؤسسة التي أصبحت جزءاً من الحكومة فيما بعد، الذي يطالب بفصل اليمن إلى جنوب وشمال، في مايو من نفس العام إلى النَّكف ضد القوات الحكومية التي وصفها بأنها “غازية”. وبعد ذلك بشهر استخدمت قبائل الصبيحة بمحافظة لحج النَّكف ضد المجلس على خلفية اتهامه بقضايا مختلفة، مثل اقتحام منازل أحد أفرادها واعتبرت ذلك انتهاكاً للحُرمات. وفي محافظة أبين المجاورة وتحديدا مطلع العام الماضي دعت القبائل بمديرية مودية إلى النَّكف ضد المجلس الانتقالي على خلفية اقتحام المنازل واختطاف أشخاص من قبيلة “قحطان” بذريعة أنهم مطلوبون أمنياً.

يتحدد نجاح النَّكف عموماً في القضايا المرتبطة بالسلطات هنا أو هناك بعدة أمور منها طبيعة سياسة هذه السلطة مع القبيلة وتعاملها معها وبنفوذ القبائل نفسها. وعن هذه النقطة يقول أبو رأس إن “نفوذ القبائل يزيد حيثما تغيب الدولة والعكس صحيح، وكلما كانت الدولة عادلة كلما انتفت الحاجة للقواعد والنَّكف لأن القبيلة ليست بديلا عن الدولة وإنما ضرورة في غيابها”. ولا يرتبط نجاح النَّكف عند استخدامه من طرف قبيلة ضد أخرى على قوة الأولى وإنما على احترام الأعراف والالتزام بها لأنها دستور القبائل والتي بموجبه لا يمكنها مثلاً استخدامه ضد بعضها لتعزيز النفوذ تحت أي ذريعة ولو كانت في حالة نَّكف مفعّل، لأن هذا يخالف جوهره في “الحفاظ على النفوذ القويم وليس المتعدي” وهو ما يشرحه المراغة المرجعية. وكلما كانت القبيلة أكثر التزاما بالنَّكف كلما تفاخر شعراؤها بها كما جاء في قصيدة الشاعر السلطان عبدالله هرهرة التي يصف فيها سكان قريته “المحجبة” بأهل النَّكف:

ويـا عازم ســـــــرا والناس تهجع *** مــن الدرب المنيّف فوق همدان

عُلِيْ عالمحجبه عــــــــــالي تمنَّع *** حِلال أهــــل النّكف شيبه وشبـان

يعكس لجوء القبائل للنَّكف غير المسبوق خطورة الوضع الذي تعيشه والذي يستهدف تماسكها ومصالحها وأعرافها، ويعطي صورة على مستوى نفوذها الاجتماعي والسياسي تحت سيطرة هذا الطرف أو ذاك ويشير بوضوح إلى انحسار وتراجع كبيرين في مناطق الحوثيين.

ويدل استخدامُ أطرافِ الصراع النّكفَ لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية على أن الاستقطاب والتوظيف لم يستهدف قوة القبيلة البشرية فقط وإنما العُرفية أيضا، وقد أدى هذا مع عوامل أخرى إلى إعادة تشكيل خارطة النفوذ القبليّة في الشمال بإضعاف قوى معينة وتقوية أخرى لحسابات حالية ومستقبليّة.

نقلاً عن مجلة الفِراتْس

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: الحوثيون القبيلة النكف اليمن كتابات أفراد القبیلة شیوخ القبائل هذه الأعراف على خلفیة من أفراد فی الیمن فی حالة إلى الن ما بعد کف على

إقرأ أيضاً:

المراحل العشر التي قادت فيتنام إلى عملية الريح المتكررة ضد أميركا

في ظهيرة يوم شديد الصعوبة من أبريل/ نيسان عام 1975، بثت إذاعة الجيش الأميركي خبراً مفاده أن "درجة الحرارة في سايغون تبلغ 105 درجات وترتفع"، كانت تلك رسالة مشفرة تعني أن الوضع قد وصل إلى حد الانفلات التام في أعقاب هجوم واسع لقوات حكومة فيتنام الشمالية، وأنه قد بدأ الإجلاء الفوري لجميع الأميركيين المتبقين في فيتنام، بعدما كانت الولايات المتحدة قد سحبت قواتها القتالية من فيتنام وفقا للاتفاقية الموقعة في باريس عام 1973، تاركة نحو 5000 أميركي في مهام دبلوماسية واستخباراتية.

وخلال ساعات؛ وثقت الكاميرات مشهد عشرات الأميركيين والجنود الفيتناميين الجنوبيين واقفين على سطح مبنى في سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية)، أعينهم معلقة بطائرة هليكوبتر أميركية تهبط على عجل. رجال ونساء وأطفال يصطفون على درج معدني ضيق، يتدافعون بحذر وخوف نحو الطائرة التي لا تسع إلا عدداً قليلاً.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أميركا في فيتنام؟list 2 of 2في حال وقع المحظور النووي هل ستنحاز أميركا للهند أم باكستان؟end of list

كان ذلك المشهد ذروة عملية الإجلاء السريع التي عُرفت باسم "عملية الريح المتكررة" (Operation Frequent Wind)، وأصبحت رمزًا مريرًا لنهاية أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة في القرن العشرين.


لكن كيف وصلت فييتنام إلى هذه اللحظة؟ وكيف تحوّل بلد زراعي صغير على هامش خريطة آسيا إلى ساحة صراعٍ دوليّ دمويّ، وإلى اختبارٍ عسير لطموحات القوى الكبرى ومرآة لانكساراتها؟ ولفهم هذه التحولات التي باتت تمثل واحدة من أهم المعارك العسكرية في القرن العشرين؛ لا بد من العودة إلى البدايات؛ إلى الحسابات الجيوسياسية لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وماقبل ذلك في زمن الاستعمار القديم، تلك الحسابات التي تجاوزت حدود فيتنام الضيقة وجعلت منها ساحةً لصراع استمر أكثر من عقدين من الزمن.

منذ القرن التاسع عشر؛ كانت فيتنام جزءًا من المستعمرات الفرنسية (الفرنسية) المحطة الأولى: فيتنام تحت الظل الاستعماري

منذ القرن التاسع عشر؛ كانت فيتنام جزءًا من المستعمرات الفرنسية، إلى جانب لاوس وكمبوديا (كانت الدول الثلاث تعرف باسم الهند الصينية). وكانت البلاد أشبه بساحة خلفية للإمبراطورية الفرنسية، حيث نُهبت ثرواتها الطبيعية، وقُمعت حركاتها الشعبية، وزُرعت فيها بذور الانقسام الطبقي والثقافي.

إعلان

لم تكن فيتنام تحديدا مجرد مستعمرة بعيدة، بل كانت عقدة حيوية في خريطة النفوذ الفرنسي في آسيا. ميناء "هايفونغ" التجاري الأهم في فيتنام، والمزارع التي كانت تنتج الأرز والمطاط، وخطوط السكك الحديدية التي تربط الهضاب بالمرافئ، كلها كانت تُدار لخدمة باريس، وليس لخدمة هانوي.

المحطة الثانية: فرصة خاطفة للاستقلال

في منتصف القرن العشرين، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ بدأ التوازن الاستعماري القديم يتصدع. اجتاحت اليابان الهند الصينية عام 1940، تاركة الإدارة الاسمية لفرنسا الفيشية، لكنها عمليًا أضعفت القبضة الفرنسية وأفسحت المجال لنمو تيارات المقاومة المحلية. من بين هذه التيارات، برزت شخصية استثنائية ستغيّر وجه آسيا، ويحمل الفيتناميون صورته اليوم وهم يحتفلون بالذكرى الخمسين لتوحيد بلادهم: هو تشي منه.

أسّس هو تشي منه "رابطة استقلال فييتنام" أو "الفييت مينه"، وهي حركة قومية شيوعية، مزجت بين الكفاح المسلح والتحريض الشعبي. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945، وإعلان استسلام اليابان، كانت الفرصة سانحة أمام هو تشي منه، فأعلن استقلال فيتنام عن الامبراطورية اليابانية في ساحة "با دينه" بهانوي.

جنود فيتناميين خلال حرب الهند الصينية الأولى (غيتي) المحطة الثالثة: عودة الاحتلال الفرنسي

لم يعمر حلم الاستقلال طويلًا. فرنسا، التي خرجت مدمّرة من الحرب العالمية الثانية، أرادت استعادة "هيبتها" من خلال إعادة بسط نفوذها على مستعمراتها القديمة. تجاهلت إعلان الاستقلال في هانوي، ونزلت قواتها مجددًا إلى الأراضي الفيتنامية، لتبدأ بذلك حربًا دموية جديدة. وبذلك؛ وُلدت حرب الهند الصينية الأولى، والتي ستُشكّل الأساس لحرب فيتنام القادمة.

لم يكن الاستعمار هذه المرة مثل الاستعمار القديم منحصرا فقط في استغلال الموارد؛ بل برز في قلبه صراع أيديولوجي ناشئ حول رؤيتين للعالم: فرنسا التي تمثّل الغرب الرأسمالي الإمبريالي، وفيتنام التي بدأت تتجه نحو الفكر الشيوعي، مدفوعة بإرث الاحتلال، وبحلم العدالة الاجتماعية.

إعلان

كانت التربة الفيتنامية قد تشبعت بما يكفي من الغضب، وكان المشهد الإقليمي والعالمي مهيأً لانفجار طويل الأمد، لن ينتهي إلا بعد ثلاثة عقود من الدم والنار.

المحطة الرابعة: "ديان بيان فو" حيث دفنت فرنسا رايتها وورثت أمريكا عبء الإمبراطورية

في وادٍ بعيد تحيط به التلال شمالي غرب فيتنام، خسرت فرنسا آخر رهاناتها الاستعمارية الكبرى. بدأت المعركة في مارس 1954، واستمرت 57 يومًا من القصف والحصار والنار. حاصرت المقاومة الفيتنامية بقيادة  فو نغوين جياب الجنود الفرنسيين. واعتبرت المعركة لاحقا  أحد الدروس التاريخية المذهلة في فنون وتكتيكات حرب العصابات وقدرتها على التفوق على الجيوش النظامية.

وفي السابع من مايو 1954، استسلمت القوات الفرنسية في ديان بيان فو، بينما كانت قادة فرنسا يبحثون في جنيف عن مخرج مشرّف. وفي يوليو 1954، اجتمع القوى الكبرى في العالم في مؤتمر جنيف، حيث تقرر تقسيم فييتنام مؤقتًا على طول خط العرض 17، الشمال بقيادة هو تشي منه الشيوعي، عاصمته هانوي. والجنوب بقيادة نظام مدعوم من الغرب، برئاسة إمبراطور صوري ثم رئيس فعلي هو نغو دينه ديم. لكن الاتفاق نص أيضًا على إجراء انتخابات وطنية موحدة عام 1956، لكنها لم تحدث، لأن الولايات المتحدة خشيت من فوز الشيوعيين.

من هنا، بدأت واشنطن تتدخل في فييتنام. لم يكن هناك إنزال عسكري بعد، وكانت الولايات المتحدة آنذاك تخشى من ما يسمى "تأثير الدومينو": إذا سقطت فييتنام في يد الشيوعية، ستتبعها لاوس وكمبوديا وتايلاند، وربما تصل العدوى إلى أستراليا! وهكذا، تحوّلت فييتنام من ساحة استعمار قديم إلى مسرح للصراع الأيديولوجي العالمي الذي تصاعد بعد الحرب الباردة.

كانت الولايات المتحدة آنذاك تخشى من ما يسمى "تأثير الدومينو"، فإذا سقطت فييتنام في يد الشيوعية، ستتبعها لاوس وكمبوديا وتايلاند، وربما تصل العدوى إلى أستراليا (غيتي) المحطة الخامسة: تقسيم البلاد وصعود ديان دينه ديم

انتهى الوجود الفرنسي رسميًا في جنوب فييتنام في أبريل 1956، وبقيت البلاد منقسمة بحكم الواقع بين حكومة “جمهورية فييتنام” في الجنوب، وحكومة “جمهورية فييتنام الديمقراطية” بقيادة هو تشي منه في الشمال.

إعلان

دشن ديان دينه ديم (حليف أمريكي) سياسة أيديولوجية قومية وعنيفة ضد المعارضين داخليًا، معطياً امتيازات واسعة للكاثوليك وهو ما أشعل اضطرابات اجتماعية وانتفاضات بوذية ضد حكمه. عام 1960 تأسست «جبهة التحرير الوطني» المعروفة بـ"الفيت كونغ" لإعادة توحيد كل قوى المعارضة في الجنوب تحت قيادة الشمال​. اعتمدت الفيت كونغ على تكتيكات حرب العصابات وبنية تحتية سرية في الدول المجاورة من الهند الصينية لتأمين الإمداد اللوجيستي.

المحطة السادسة: خليج تونكين؛ الذريعة التي فتحت أبواب الجحيم

في أغسطس من عام 1964، زعمت البحرية الأمريكية أن مدمّرتها يو إس إس مادوكس تعرّضت لهجوم من زوارق طوربيد فيتنامية شمالية في خليج تونكين. لم تكن التفاصيل واضحة، والصور غير حاسمة، لكن الرئيس ليندون جونسون لم يحتج لأكثر من هذه الشرارة لطلب تفويض مطلق من الكونغرس لاستخدام القوة في فييتنام. وهكذا، صدر قرار خليج تونكين، الذي منح البيت الأبيض يدًا طليقة لشن الحرب دون إعلان رسمي.

كانت الحادثة التي لا يزال الجدل قائمًا حول صحتها الكاملة نقطة تحوّل فاصلة، إذ انتقلت أمريكا من دور المستشار والراعي في الظل إلى قوة محتلة، تمطر الأدغال الفيتنامية بعشرات الآلاف من الجنود والقنابل.

وبحلول عام 1965، بدأ التصعيد العسكري الكبير: إرسال أولى وحدات القتال، ثم القصف الجوي المكثف على شمال فييتنام في حملة سُمّيت "رعد متواصل" (Operation Rolling Thunder).

مع تصاعد عدد القتلى، وغياب أفق النصر، بدأ الرأي العام الأميركي ينقلب تدريجيًا على الحرب (أسوشيتد برس) المحطة السابعة: أميركا ضد نفسها

مع تصاعد عدد القتلى، وغياب أفق النصر، بدأ الرأي العام الأميركي ينقلب تدريجيًا على الحرب. اللحظة المفصلية جاءت عام 1968، بعد هجوم مفاجئ شنّه الفيتكونغ في رأس السنة القمرية (هجوم تيت) على عشرات المدن في الجنوب، بما فيها سايغون نفسها. ورغم أن الهجوم ألحق خسائر هائلة بالمقاومين الفيتناميين وربما يعتبر خسارة عسكرية، إلا أنه زلزل ثقة الأمريكيين بقدرتهم علي تحقيق النصر. فقد بدا لهم كأن العدو "المنهك" لا يزال قادرًا على الضرب بقوة في عمق المناطق الآمنة، سيظل كذلك.
المحطة الثامنة: "فتنمة الحرب".

إعلان

حين تولّى ريتشارد نيكسون الرئاسة في الولايات المتحدة عام 1969، كانت فييتنام قد أصبحت كابوسًا سياسيًا وعسكريًا. أدرك نيكسون أن النصر الكامل مستحيل، لكنه لم يشأ الانسحاب فجأة. فطرح استراتيجية سمّاها: "فتنمة الحرب" (Vietnamization)، أي تحويل عبء القتال إلى الجيش الفيتنامي الجنوبي، بينما تبدأ القوات الأمريكية بالانسحاب التدريجي.

المرحلة التاسعة: رحيل آخر الجنود المقاتلين

لم تكن "فتنمة الحرب" أكثر من محاولة لتأجيل الهزيمة، لا تجنّبها. فالجيش الجنوبي كان ضعيف التدريب، ويفتقر للحافز القتالي، في حين كان الشمال يزداد صلابة. في الوقت نفسه، وسّع نيكسون الحرب عبر قصف كمبوديا ولاوس بحجة ضرب خطوط الإمداد الفيتنامية (طريق هو تشي منه)، ما أدى إلى توسيع رقعة الصراع، وخلق المزيد من الفوضى في المنطقة، وأشعل المعارضة داخل الولايات المتحدة.

لم يستجب الفيتناميون لرغبة الأمريكان في التفاوض مباشرة، واستمروا في إلحاق الخسائر بهم، حتى عام 1973 حين وقّعت أميركا اتفاقية باريس للسلام مع حكومة فيتنام الشمالية، معلنة انسحابها الرسمي من الحرب، بعد أن خسرت أكثر من 58 ألف جندي، وأبقت على نحو 5000 آلاف جندي فقط في مهام غير قتالية.

 

المحطة العاشرة: سقوط سايجون

في ربيع عام 1975، بدأ الجيش الشمالي الزحف النهائي نحو العاصمة الجنوبية سايغون. كانت القوات الفيتنامية الشمالية مدعومة بخبرة طويلة، وعقيدة قتالية متماسكة، بينما كان الجنوب، رغم الأسلحة الأمريكية المتروكة، منهارًا معنويًا. سقطت المدن الواحدة تلو الأخرى، بلا مقاومة تُذكر. أما واشنطن، فقد اكتفت بالمراقبة، بعد أن قطعت المساعدات العسكرية.

في 30 أبريل 1975، دخلت دبابات الشمال سايغون. لم تكن هناك معركة حقيقية. رفع الجنود علمهم الأحمر بنجمة صفراء فوق القصر الرئاسي، وانتهت الجمهورية الفيتنامية الجنوبية إلى الأبد. لم يُعلن عن هزيمة أمريكية رسميًا، لكنها بقيت محفورة ومستقرة في التاريخ العسكري والاستراتيجي: أن الفيتناميين هزموا الولايات المتحدة.

إعلان

 

مقالات مشابهة

  • رجي: السعودية الداعم الأصدق للبنان ونرفض أي سلاح خارج الشرعية
  • هل معادن أوكرانيا النادرة التي أشعلت الحرب ستوقفها؟
  • شريط الأشباح رقم 10 الذي خاضت به أميركا الحرب النفسية مع فيتنام
  • واشنطن تتوعد طهران: ستدفعون ثمن دعم الحوثيين في الوقت والمكان الذي نختاره
  • سلاح المدارس الصيفية يفسد مكائد العدو
  • المراحل العشر التي قادت فيتنام إلى عملية الريح المتكررة ضد أميركا
  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • 50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم
  • ضبط أطراف مشاجرة بالأسلحة البيضاء في الجيزة.. والكشف عن مخزن زيوت فاسدة
  • الإصلاح يقلب الطاولة: عرض مفاجئ لتقاسم السلطة مع الحوثيين