هتفتُ بسقوطه طالباً.. وزُرته بحثاً عن الحقيقة ثم زاملنى فى السجنكان وطنياً فريداً تعرض للظلم ولم يفقد إيمانه بالوطن والأمة
كنت تلميذا بالسنة الأولى بالمدرسة الثانوية الخديوية، وكان الزمن خريف عام 1950 حين خرجت لأول مرة فى مظاهرة تهتف بسقوط فؤاد سراج الدين وزير الداخلية، ولم تكن آخر مرة، فقد تعددت المظاهرة التى خرجت فيها أهتف بسقوطه خلال الأشهر التالية، إذ كان ذلك من تقاليد مظاهرات طلاب المدارس بين عامى 1950 و1951 اللذين وصل فيهما نفوذه السياسى إلى ذروته، فقد كان سكرتيرا للحزب الحاكم، والرجل الثانى فيه، وصاحب المكانة الأولى لدى زعيم الوفد مصطفى النحاس باشا الذى كان كبر فى السن، فترك له أهم اختصاصاته حتى بدا كما لو كان رئيس الوزراء الفعلى.
وكانت قامته الطويلة، وجسده المفرط فى السمنة، وسيجاره الضخم، وسياحته السنوية إلى «أكس ليبان» لكى يستشفى، تشكل جاذبية خاصة لرسامى الكاريكاتير، وتغريهم بشدة عليه، ولم يكن يمر يوم بدون أن تسير مظاهرة فى أعمدة الصحف أو شوارع المدن - تهتف بسقوطه، ومع ذلك فإن الشرطة والتى كان وزيرا لها - لم تكن تتصدى للمظاهرات أو تصادر الصحف، وكان أول انطباع طيب تكون لى عن شخصيته، بعد أسبوعين من إقالة حكومة الوفد فى أعقاب حريق القاهرة، حين تعرض خلالها لحملة صحفية شرسة من جريدة «أخبار اليوم». وكانت تنطق آنذاك بلسان القصر الملكى، حيث وضعت فأس المسئولية عن الحريق فى عنقه، واتهمته بالإهمال فى القيام بواجبات وظيفته كوزير للداخلية، فكتب رداً عنيفا وضع فيه الفأس فى عنق الملك الذى دعا كبار ضباط الجيش إلى مأدبة فى قصره بمناسبة ميلاد ولى العهد، ولم يستجب لإلحاح وزير الداخلية المتكرر بضرورة نزول الجيش إلى العاصمة لكى يسيطر على الحالة بعد أن أفلتت الأمور من يد الشرطة.
فؤاد سراج الدينوكانت الأحكام العرفية معلنة والرقابة على الصحف قائمة وحظر التجوال بعد الساعة التاسعة مفروضا، ومع ذلك نجح فؤاد سراج الدين فى نشر الرد عبر خطة ذكية اشتركت معه فى تنفيذها جريدة «المصرى» كبرى الصحف الوفدية آنذاك، إذ عرضت على الرقيب صفحات العدد الذى كان مقررا أن يصدر منها صباح يوم 10 فبراير 1952، فلم يجد فيها شيئاً يخالف ما لديه من تعليمات، أو يتطلب العرض على رئاسته فاعتمدها وانتظر حتى دارت ماكينات الطباعة، وحصل على نسخة من العدد وما كاد ينصرف حتى أوقفت الماكينات واستبدلت بالصفحة الأولى من «المصرى» التى عرضت عليه أخرى تتضمن نص بيان فؤاد سراج الدين ولم تنتبه الحكومة إلى ما جرى إلا فى التاسعة من صباح اليوم التالى، فأمرت بمصادرة العدد، ولكنها لم تجد نسخة واحدة لتصادرها؛ إذ كان قد نفد تماما من الأسواق.
بعد ذلك بشهور، ارتفعت أمواج بحار الزمن ليعتليها قوم وزمان وتطوى فى باطنها أقواماً وأزمنة، جاءت ثورة يوليو 1952 لتحيل فؤاد سراج الدين، وزمانه إلى المعاش، وأصبح الرجل فى الحالة باشا سابقاً ووزيراً سابقاً وسكرتيرا عاما سابقاً لحزب سابق ينتمى إلى تعددية حزبية انتقلت إلى رحاب الله، أما وظيفته الحالية فهو خبير مثمن للتحف ومقاول ديكور، ومعتقل سياسى يتكرر اعتقاله بمناسبة وبدون مناسبة باعتباره من أعداء الشعب، وهو متهم أمام محكمة الثورة التى حكمت عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاماً، أمضى منها ثلاثة، ومواطن محروم من حقوقه السياسية، وتاريخ مقضى عليه بالمحو المؤبد؛ فقد صدرت الأوامر للصحف بشطب اسمه من الأخبار والمقالات وحتى من صفحة الوفيات عند نشر نعى أحد أفراد أسرته.
ومع أن موجة الحماس لثورة يوليو كانت قد جرفتنى، كما جرفت جيلى إلا أن مساحة من القلب والعقل ظلت ترفض أن تصدق أن مصطفى النحاس كان من أعداء الشعب، أن فؤاد سراج الدين والذى كنا نخرج فى مظاهرات تهتف بسقوطه وهو وزير للداخلية فلا يتعرض لنا أحد من خصوم الأمة، وبدت لى المقارنة بين شراسة ثورة 23 يوليو فى معاملة قادة حزب الوفد ورقتها فى التعامل مع أحزاب الأقليات السياسية التى انشقت عليه، وتآمرت على الدستور لغزا عصيا على الفهم، إذ كنت أتصور أن ثورة يوليو هى الامتداد الطبيعى لثورة 1919، وأنها جاءت لتحقق ما عجزت عن تحقيقه قيادة ثورة 1919 من أهداف، وبعد سنوات من القراءة والبحث أدركت أن الأمر صراع بین آباء وأبناء، وأن ثوار يوليو 1952 كانوا يتعاملون مع ثوار مارس 1919 بمنطق المنافسة، ويسعون لوراثة جماهيرية الوفد، بل يخافون منها؛ لذلك وجهوا سهامهم الدعائية، ومحاكمهم الاستثنائية، ضد قيادته، أما الآخرون فلم تكن لهم جماهيرية يخشى منها أو يطمع فى وراثتها.
ولم يكن هناك بد أن تقع هزيمة يونيو 1967 الفاجعة ليتعرى لحم ثورة يوليو، ويتكشف ما كان يملأ وجهها من بثور وندوب أخفتها بمساحيق دعايتها المقتدرة عن عيوننا التى أجهدها العشق، فإذا بكل الثورات - ككل أبناء آدم خطاءة، تكشف الحقائق الفاجعة، لتعلم منها أن ثورة يوليو قد وقعت فى الأخطاء نفسها التى نسبتها لزمن فؤاد سراج الدين واستخدمتها للتنديد به بل حاكمته من أجلها رشوة وفساد وارتجال، وتسلط وفوضى واستهتار واستحلال للمال العام.
أما مباهج ذاك الزمان فقد اختفت، فلم تعد الأمة مصدر السلطات، ولم تعد هناك تعددية حزبية ولا صحافة حرة ولا انتخابات نزيهة ولا تداول سلطة.
وفى سنة 1972، كنت أحاول أن أصل ما انقطع من تاريخ مصر بتأليف كتاب عن «مصطفى النحاس» حين قادتنى قدماى إلى قصر فؤاد سراج الدين فى جاردن سيتى لأسأله عن أشياء كان من بينها رواية سمعتها عن أنه يحتفظ بمذكرات كتبها النحاس بين عامى 1927 و1934 هو ما نفاه لى بشدة فوجدتنى فى حضرة رجل يعيش بين أطلال عز قديم، لكنه هو نفسه لم يكن رغم تقلب الأزمان قد تحول إلى أطلال. وخلال ساعتين أمضيتها معه، أدركت أن معاصريه كانوا على حق حين وصفوه بأنه كان يفطر مع الشيوعيين ويتغدى مع الإقطاعيين، ويتناول الشاى مع الاشتراكيين ويتعشى مع الرأسماليين ويستطيع أن يحتفظ بصداقة الجميع.
وفى أثناء حوارنا الطويل سألته عن السبب فى أن وقائع محاكمته أمام محكمة الثورة عام 1954 لم تنشر فى كتاب على عكس غيره من المتهمين الذين نشرت مضابط محاكمتهم أمامها فى كتب طبعت أكثر من طبعة ووزعت على أوسع نطاق. فقال لى ضاحكا: يمكن ما وجدوش فيها حاجة تصلح للتشهير بى. وأضاف أنه لا يملك من أوراق هذه المحاكمة سوى مضبطتين لجلستين ووعدنى بأن يبحث عنهما بين أوراقه، وأشار إلى أننى أستطيع أن أجد مضبطة كاملة لكل وقائع المحكمة إذا عادت لى أعداد جريدة «المصرى» التى نشرتها كاملة بدون أن تحذف منها حرفاً واحداً.
ولم يكن قد بقى فى ذاكرتى من وقائع المحاكمة سوى أطياف باهتة لعلها من بين الأسباب التى جعلتنى أحتفظ بانطباع طيب عنه، ولعلى خضعت بدون أن أشعر لإيحائه القوى، حين قال لى وهو يودعنى أمام باب القصر الداخلى: ما تنساش تشوف «المصرى».
أما المهم فهو أننى انهمكت لأسابيع فى قراءة وقائع المحاكمة، وما كدت أنتهى منها حتى أدركت مدى أهميتها كوثيقة تاريخية؛ لأن قضاتها عبداللطيف البغدادى وأنور السادات وحسن إبراهيم كانوا يمثلون ثورة 1952، والمتهم فيها لم يكن فؤاد سراج الدين بل كان ثورة 1919، وعلى الفور شرعت فى نسخها وقررت أن أقوم بتحقيقها ونشرها.
وكانت الأحكام التاريخية التى قرأتها قبل ذلك حول دور فؤاد سراج الدين السياسى تكاد تجمع على أنه جنح بحزب الوفد نحو اليمين، قطع سلامة موسى أن الوفد كان قبله حزبا ثوريا فصار بعده حزبا أرستقراطيا، وقال أحمد بهاء الدين إن ظهوره فى مركز الصدارة بين قادة الوفد عرض من أعراض تحلل بنيانه، واعتبره طارق البشرى مؤسس الجناح اليمينى فى الحزب العتيد. لكننى لم أجد فى وقائع المحاكمة شيئاً يؤكد تلك الأحكام التى تأثرت فى الغالب بالجدل الحزبى وبالرطانة الثورية التى سادت خلال العامين السابقين والتاليين على قيام الثورة، وبدت لى متناقضة مع التقييم الإيجابى لحكومة الوفد الأخيرة التى شهدت مدا ديمقراطيا لم يسبقه مثيل ولم يتله شبيه. وفى ظلها تقررت مجانية التعليم وصدر قانون الضمان الاجتماعى وتضاعفت الضريبة على الأطيان، واتخذت مصر موقف الحياد فى الحرب الكورية ومنعت إسرائيل من المرور فى قناة السويس، وألغيت معاهدة 1936 وهى فى مجملها سياسات لا يمكن القول إنها كانت انعطافا نحو اليمين فى سياسات حزب الوفد، فإذا صح القول إن فؤاد سراج الدين كان صاحب النفوذ الأكبر فى تلك الوزارة انتفى القول إنه جنح بالحزب نحو اليمين.
ولم تتح لى الظروف أن ألتقى فؤاد سراج الدين مرة أخرى، إلا بعد حوالى عشر سنوات من لقائنا الأول، حدث ذلك فى آخر مكان كان يمكن أن يتوقعه أحدنا، فذات صباح من بداية سبتمبر عام 1981، وجدت نفسى فى زنزانة واحدة معه فى سجن ملحق مزرعة طرة ضمن الذين أمر الرئيس «السادات» بالتحفظ عليهم آنذاك. وكان ثالثنا فى الزنزانة هو المرحوم محمد عبدالسلام الزيات الذى كان نائباً سابقاً لرئيس الوزراء، وأحد أركان حكم «السادات» فى بدايته.
وعلى عكس ما كان يتوقع الشرير الذى وضع خطة التسكين وجمع فى زنزانة واحدة بين ثلاثة ينتمون إلى تيارات وحقب تاريخية وسياسية متصارعة، فإننا لم نتشاجر ولم نتخاصم بل أمضينا الأيام الأولى نتعارف ونتسامر.
وخلال الأسابيع التى أمضيتها معه فى الزنزانة، أتيح لى أن أتعرف عن قرب إلى مزاياه الإنسانية التى كانت بعض مزاياه السياسية. فوجدت رجلاً ألوفا فى غير ترخص متواضعاً فى غير ضعة وكبيراً بلا تكبر، يملك قدرة تؤهله لاكتساب مودة الآخرين، ولا يترك فرصة تمر بدون أن يجد أرضية مشتركة تجمع بينهم وبينه.
ولأننى كنت آنذاك أصغر سنا، وأوفر صحة، فقد رأيت أن أعفيهما من بعض ما قد يشق عليهما من أعمال تتطلبها معيشتنا المشتركة، فكنت أنوب عنهما فى كنس الزنزانة وفى نشر البطاطين وتنفيضها، وكانا حريصين على أن يشعرانى طوال الوقت بامتنانهما، وأنهما يدركان أننى أفعل ما أفعله تحت وطأة مشاعر بنوة غلابة وتقدير لما أدياه للوطن على الرغم من أى خلاف فى الفكر.
لم أشعر فى أية لحظة أن فؤاد سراج الدين يعاملنى بغير هذه الصفة. أو يمن على بأنه باشا ابن باشا، وأننى أفندى ابن أفندى، وكان يطلب مساعدتى ويشكرنى عليها بأسلوب رقيق مهذب ويكتفى منها بما تحول ظروفه الصحية دون القيام به، وأتذكر أننى جمعت الأطباق التى تناولنا فيها غذاءنا ذات يوم لكى أغسلها، ولكنه رفض بشدة، وأصر على أن يغسل طبقه بنفسه وقال لى بخجل: دى أنا أقدر عليها.
ولم أسمعه لحظة يشكو أو يتأفف أو يضيق بظروف السجن وكان ينتقى من طعامه السيئ المفروض علينا ما يتناسب مع أمراضه الكثيرة المتعددة، وكان لا يزيد عادة على بعض الخضراوات الطازجة، وحين كنت أحاول أن أتنازل له عن نصيبى منها، والذى لم أكن فى حاجة ماسة إليه، كان الأمر يحتاج إلى مناقشة مجهدة.
وفى حفلات السمر الليلية التى كنا نتبادل فيها الحديث عبر أبواب الزنازين المغلقة علينا، وكانت تتكون من قضبان متشابكة، كنا ندعوه للحديث فكان يختار كلامه بعناية على نحو يبدو معه وكأنه رسائل مودة يرسلها إلى جهة ما، فيروى مثلاً الدور الذى لعبه فى استصدار أول قانون للشرطة، وما تحقق لأفرادها نتيجة له من مكاسب لا يزالون يتمتعون بها حتى اليوم، وكأنه يذكر مأمور السجن وضباطه بأنه كان يوما وزيرا للشرطة. وأنه خدم رجالها بما لم يفعله أحد من قبله، أو يتحدث عن اليوم الذى طرح فيه الثقة بشخصه عندما تقدم بصفته وزيرا للمالية بمشروع قانون مضاعفة الضرائب على الأطيان، فتردد مجلس النواب الوفدى فى قبوله لولا أنه وقف ليقول: إن رفض المشروع معناه سحب الثقة من شخصى الضعيف فى رسالة مودة لم يفت مغزاها على المعتقلين اليساريين.. وهكذا.
وكنا نناديه بلقبه المعروف يا باشا فيما عدا القطب الناصرى المعروف «كمال أحمد» الذى أصر على أن الألقاب قد ألغيت، فكان يناديه بـ«أستاذ فؤاد» ولم تفت دلالة ذلك على ذكائه اللامع، وذات صباح كان يجلس فى باحة السجن الداخلية، حين مر به كمال أحمد فحياه قائلاً: صباح الخير يا أستاذ فؤاد.. وبسرعة أجابه: أهلاً يا كمال باشا. وانفجرنا جميعاً نضحك، ومنذ ذلك الحين أصبحنا نناديه بالأستاذ فؤاد، وننادى لقطب الناصرى بكمال باشا.
ما كدت أسمع نبأ وفاة فؤاد سراج الدين حتى تذكرت على الفور آخر مشهد من مشاهد الزنزانة رقم 14 بسجن ملحق مزرعة طرة فقد استدعانى قائد السجن وأبلغنى أنه قد تقرر نقلى إلى سجن آخر لأمضى عقوبة الحبس الانفرادى، بسبب بيت من الشعر كنت قد ألقيته فى مساء اليوم السابق، استفزتنى العقوبة واستفزنى السبب فقررت أن أضرب عن الطعام احتجاجا على العقوبة وعلى النقل إلى حين عودتى إلى سجن الملحق، الذى لم أكن أريد أن أنتقل منه لأسباب عائلية. وعدت إلى الزنزانة التى كان عبدالسلام الزيات قد غادرها إلى المستشفى وأخبرت فؤاد سراج الدين بما يجرى وأننى قررت أن أضرب عن الطعام، وبدأت أجمع حاجياتى فى كيس من القماش تمهيداً للرحيل، ولاحظت أنه يدس بالكيس أشياء سرعان ما تبينت أنها كل ما بالزنزانة من طعام، واعترضت على ذلك؛ لأن الطعام كان طعاماً طبيا مما لا يستغنى هو عنه بسبب أمراضه الكثيرة، وحاولت إقناعه أننى لست فى حاجة إلى أى طعام؛ لأننى سوف أضرب عنه، وكنت كلما أخرجت ما وضعه بالكيس من الطعام أعاده إليه، حتى خجلت من إصراره، فتركته يفعل ما يريد، واحتضنته مودعا وهو يقول لى: بلاش حكاية الإضراب دى يا ابنى.. خلى بالك من صحتك. وهزتنى أبوته الدافقة فسقطت من عينى دمعتان، وأنا أودعه قائلاً: نشوفك بخير يا باشا.. وكان ذلك ما فعلته وما قلته، حين سمعت نبأ وفاته.
نُشر هذا المقال فى جريدة «القاهرة» (الثقافية) سنة 2000، كما نشر لاحقا فى كتاب «شخصيات لها العجب» لصلاح عيسى.المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: طلاب المدارس أخبار اليوم القصر الملكي المصري مصطفى النحاس فؤاد سراج الدین ثورة یولیو بدون أن على أن لم یکن
إقرأ أيضاً:
ترند «المعلم»
فى أثناء شرح المعلم الدرس يتقدم طالب ويطلب بابتسامة خجولة ان يبسط معلمه يديه أمامه، يطيعه وهو فى حالة استغراب ولكنه يفعل، وفى أقل من ثانية يضع بين راحتيه قطعة من الشيكولاتة الصغيرة، يبتسم المعلم متصورا انه يريد ان يشكره عن شرحه الوافى بطريقته، ولكن سرعان ما يتدفق تلاميذ المعلم نحوه كل يضع ما يجود به مصروفه من قطع الحلوى وزجاجات المياه الغازية الصغيرة، وحتى أكياس الشبيسى الملونة فى تظاهرة حب وتقدير لمعلمهم، فيحاول المعلم ان يتماسك ولكن تمتلئ عيناه بالدموع تأثرًا بهذا الحب الجارف من طلابه.
هذا المشهد الاستثنائى الذى يجتاح موقع التواصل الاجتماعى الشهير «التيك توك» منذ عدة أيام حتى وصل ان يكون «ترند» تقريباً فى كل محافظات مصر، يعيد مرة أخرى قيمة إنسانية كبيرة فى تصورى افتقدناها منذ سنوات بعيدة ، تعلى من قيمة المعلم ومدى تأثيره في طلابه وقدرته فى اكتشاف مواهبهم ومناطق النور والإبداع لديهم، فهم بهذا الفعل البسيط يريدون ان يرسلوا رسالة للمجتمع مفادها: نحن نحب معلمنا فهو يساعدنا على تحقيق أحلامنا.
ولا أعرف إذا كان هذا التكريم العفوى والبسيط اختراعًا مصريًّا إنسانيًّا انتشر كالنار فى الهشيم عبر موقع «التيك توك» الشهير، أم نحن من استحضرنا التجربة فى محاولة لرد الجميل والقيمة للمعلم، فقد تابعت فيديوهات بالطقس الطلابى نفسه داخل الفصول وفى حرم الجامعات فى تونس ولبنان وحتى فى الدول الغربية.
المشهد لا يتعدى الستين ثانية بالضبط ولكنه كان قادرا على ان يطهر ذاكرة أجيال سابقة تحترم المعلم وتقدر قيمته ولكنها وقعت ضحية أعمال سينمائية وتليفزيونية تصور المعلم بالشخص الانتهازى الذى لا هم له غير جمع المال من الدروس الخصوصية.
ماذا لو أتيح لى أن أعود بالزمن وأشارك فى أحد هذه الفيديوهات المبهجة احتفالًا «بالمعلم»؟ من ستسعفنى الذاكرة لكى أطلب منه ان يبسط يديه فأقوم بتقبيلها امتنانًا وعرفانًا؟
الإجابة عن تلك الأسئلة صعبة، فالقائمة طويلة وكم من عراب ومعلم كان بالنسبة إليَّ بقعة ضوء تتحرك فتشع علمًا وثقافة ونصائح للحياة والعمل، أتذكر جيدًا أبلة «سميحة» معلمتى فى خامسة وسادسة ابتدائى، تلك المعلمة الفاضلة بملامح وجهها الأبيض المريح وقامتها القصيرة وهى تشرح لنا دروس اللغة العربية وتحببها إلينا بأسلوب بسيط وسلس.
أما فى الصفين الأول والثانى الإعدادى فكانت أبلة «فاطمة» الممتلئة الجسم والحنان والطيبة، تدخل الفصل فتنادى باسمى واسم زميلتى العزيزة التى لم أرها منذ أيام الجامعة «هناء شاكوش» مطالبة باقى الزميلات بأن يقرأن موضوع التعبير الخاص بى وبهناء فى إعجاب وحماس.
تزدحم الأسماء فى ذهنى ولكن تظل جملة أبلة «ناهد» معلمة الفلسفة والمنطق فى ثالثة ثانوى عالقة حينما أشادت بتفوقى فى مادتها متنبئة لى بأن أكون فى المستقبل مثلها مدرسة فلسفة شاطرة.
تأتى مرحلة التشكيل والتكوين لنعرف فى اى طريق سنسير فى هذه الدنيا، وأى معانٍ نبيلة سنعتنقها بداخلنا، تقفز فى الذاكرة على الفور معلمتى الأهم والأثيرة إلى قلبى متعها الله بالصحة والسعادة الدكتورة «عواطف عبدالرحمن» أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، التى كانت جارتنا فى بيت والدتى فى وسط البلد قبل انتقالها منذ سنوات للإقامة فى الجيزة، كان يفصل بين حجرتنا أنا وأخواتى وحجرتها حائط ، أوقات كثيرة قضيتها معها فبابها مفتوح لنا طول الوقت، هى من جعلتنى أعشق أفريقيا، وأعرف لأول مرة معنى الوطن الضائع فلسطين، ولا أنسى ثقتها بي وأنا مازلت فى بداية عملى بالصحافة، فأتمنتنى على سيرتها، وقمت بتسجيل أكثر من خمس وعشرين ساعة معها، حكت لى فيها ذكريات طفولتها وسنوات الزواج والعمل بالجامعة، لتخرج هذه الساعات على شكل أدب السيرة فى كتاب بعنوان «صفصافة».. و«صفصافة» بالمناسبة هى أخت جدتها الضريرة، والتى كانت معلمتها الأولى فى الحياة.
أخيرًا هناك من رحل ولم أستطع ان أرثيه بكلمة واحدة من شدة حزنى وفقدى له، وهو أستاذى ومعلمى الجميل الحاضر الغائب «حازم هاشم» الرئيس الأسبق للقسم الثقافى بجريدة الوفد، الذى عملت تحت إشرافه محررة فى الصفحة أكثر من سبعة عشر عامًا، معلمى «حازم هاشم» لو قال لى أحد فى يوم ما إننى أكتب جيدًا فأنت صاحب الفضل فى ذلك.