الصوت الداخلي «أسطورة القراءة السريعة واضطرابات نفسية بلا حدود»
تاريخ النشر: 21st, August 2024 GMT
لعلي كنتُ في سنتي الجامعية الثانية حين اشتركتُ في دورة للقراءة السريعة. وجد المحاضر لنفسه ضحايا مثاليين: طلبة شبان مستميتون لتقصير ساعات المذاكرة، وإطالة ساعات السهر، لأسباب لا علاقة لها بطلب المعالي. تَعِد القراءة السريعة بإكسابك تقنيات تضمن زيادة سرعة القراءة دون التأثير سلبا على الفهم. وتنطلق من مبدأ أساسي: كبت الصوت الداخلي.
يدّعي مؤيدو القراءة السريعة أنهم عند استبعاد القراءة الصامتة قبل النطق sub-vocalization -كما تترجمه ويكيبيديا، وما أحب أن أسميه «التَلَفُّظ الجَوّانيّ»- فإننا نُخفف العبء الإدراكي والمعرفي على الدماغ. الاعتماد إذا على المعالجة البصرية للكلمات، بدل تلفظها داخليا يُكسبنا السرعة. لكن الدراسات اللاحقة صارت تؤكد أنه لا يُمكن القراءة بتلك السرعات الموعودة (1000 و2000 كلمة في الدقيقة، بينما المعدل الطبيعي 250 - 400) دون التضحية بالفهم.
الذين لهم حظ من التردد على العيادات النفسية، أو مشاهدة الدراما الطبية، يُدركون أن ثمة مجموعة من الأسئلة الروتينية، يطرحها أي طبيب نفسي على مريضه في الجلسة الأولية. أسئلة مثل: هل يعاني أي من أفراد عائلتك من اضطراب نفسي؟ وهل فكرت بإيذاء نفسك مسبقا؟ وثمة سؤال يُهمنا بشكل خاص اليوم وهو: هل تسمع أصواتا؟
ثمة قصة -أستشهد بها كثيرا، ربما أكثر مما يجب- أخبرني بها صديق لي يعمل طبيا نفسيا. يقول إنه مرة وهو يُعاين مريضة جديدة، أجابته عندما وصل إلى هذا السؤال تحديدا (أي ما إذا كانت تسمع أصواتا)، قائلة: ليس أكثر مما يسمع الآخرون ما تخبرهم به الطيور والأشجار. لنلاحظ أن هذه المريضة -رباه، كيف أن هذه المرأة لم ترَ شيئا خارقا في موهبتها حتى وهي في أقصى حالات ذُهانها، رغم أن العنابر امتلأت بمن يتوهمون أنهم ملوك، وأنبياء، وحتى آلهة- أقول أن هذه المريضة ذكرت هذا العرَض، مع أنها تشعر أنه لا يستحق الذِّكر، هكذا، من باب المشاركة تقريبا. سيرة وانفتحت. طيب، ماذا عن المرضى الذين لا يحبون مشاركة إلا ما قلّ، الذين لا يخطر ببالهم أن يذكروه لفرط ما يعتقدن أنه طبيعي، وغير جدير بالذكر. بمعنى آخر، كيف للمهلوس والموهوم أن يعرف أنه يهلوس أو يتوهم.
يبدو أن للسؤال تنويعات أخرى يستخدمها الطبيب من قبيل: هل تسمع أصواتا لا يسمعها من حولك؟ وهو ما يُمكن تبينه أحيانا. صديق لي -يعاني بدرجة ما من الأرق- يقول إنه حين يبقى يومين بدون نوم، يبدأ في سماع موسيقى، لكنه يعرف أن هذا من أثر الإنهاك وقلة النوم. ورغم وعيه أنه ليس قادما من الخارج، فهذا لا يكفي لأن يعده صوتا داخليا.
ولأن موضوع الصوت الداخلي، لم ينل حظه من الدراسة، فالمهتمون لا يكادون يتفقون حتى على تعريف له. إنها واحدة من الظواهر الداخلية التي يصعب الإحاطة بها. لهذا سأستند في هذا المقال ليس على الدراسات فحسب، بل -وبشكل أساسي- على التأملات الشخصية، والنقاشات مع الأصدقاء حول الموضوع.
ما الصوت الداخلي؟ أُفكر في أنه الصوت الذي يُوجد في ذهنك وأنت تقرأ. أحيانا ولزيادة التركيز تقرأ بصوت عالٍ. وأحيانا أخرى، وعندما يتوفر لك ذلك، تُحب أن تنظر إلى كتابك، وأنت تستمع إلى التسجيل الصوتي له.
ربما سيساعدنا أولا أن نفرق بين شيئين: الأفكار، والأفكار المُعبر عنها لفظيا (verbalized and non-verbalized thoughts). الأفكار يُمكن أن تكون خليطا من التصورات الذهنية (بمعنى التعبير البصري، وليس التخيل). أحيانا تكون خليط من الكلمات، والصور، والمشاعر. الأفكار التي يُمكن التعبير عنها لفظيا تُسمى: المونولوج الداخلي، الصوت الداخلي، حديث النفس. لعل هناك المزيد، لكن هذا ما يحضرني. ونحن نستخدم هذه التراكيب تبادليا لنعني الشيء نفسه. ثمة أيضا إمكانية تخيل حوار بين شخصين، يُمكننا حتى أن نعزي صوتين مختلفين للمحاورين عبر تذكر صوت الآخر الذي نُحاوره في رؤوسنا. البعض يُحدثون أنفسهم ليس بصوتهم بل بصوت آخرين.
ثمة حالة طريفة نشرتها الجارديان The Guardian قبل حوالي عامين عن امرأة يجري الحديث في رأسها بصوت زوج إيطالي، مع أنها لا تتحدث الإيطالية بالمناسبة، ولم تزر إيطاليا يوما. يجري الجدال بين الزوج على قرارات تخص كلاوديا (اسم المرأة التي تستضيف الزوج الإيطالي في رأسها). تقول إنهما كانا يتجادلان بلا توقف حول ما إذا كانت يجب أن تستمر في عملها، أو تتبع مسارا آخرا. لم تتوقف الجدالات الشرسة إلا بعد أن استقالت كلاوديا من عملها.
يتطرق المقال إلى حالات أخرى لا تقل طرافة. كأن يجري الحديث الداخلي على شاكلة حوار تلفزيوني بين الضيف والمذيع. والخيالات حول العالم الداخلي ترتبط بطبيعة الحال بالصوت. فيتخيل أحدهم أن الصوت قادم من علية، يقود إليها سُلّم يقع خلف أذنه. أو تصور أنفسهم يقومون بالفعل استجابة لصوتهم الداخلي الذي يُرشدهم، فيما يظهرون هم على شاشة تلفاز عريضة في رأسهم، وهم يؤدون الفعل. أو وجود سارد لتفاصيل نشاطاتهم وهم يقومون بها.
تعثرت بموضوع الصوت الداخلي مؤخرا حين قرأت عن دراسة رصدتها مجلة سينتفيك آمريكان Scientific American خلُصت إلى التالي: لا يملك الجميع صوتا داخليا يجري في رؤوسهم. اهتمت الدراسة بمعرفة كيف يؤثر عدم امتلاك صوت داخلي على أداء بعض المهام الإدراكية. وجدوا مثلا أن أولئك الذين يفتقرون إلى صوت داخلي، يؤدون على نحو أسوأ في مهام مثل الذاكرة اللفظية مقارنة باللذين يمتلكونه.
دراسات كهذه تتحدى الموقف القائل إنه بالإمكان مضاعفة سرعة القراءة دون التأثير على الاستيعاب. فهؤلاء الذين لا يملكون الصوت يؤدون على نحو أسوأ، ما يعني أننا إذا ما كبتنا الصوت فالأغلب أننا أيضا سنؤدي على نحو أسوأ. دراسات أخرى تُخبرنا أننا بمجرد أن نتعرف على كلمة ما بصريا، فإننا نستدعي وقعها (لفظها) حتى نفهمها.
ثمة إذا من لا يملكون صوتا، على نحو شبيه بمن لا يملكون القدرة على التصوير الذهني. فعندما يذكر أحد أمي مثلا، فأنا أستدعي صورتها، البعض يستدعي اسمها مكتوبا، والبعض لا يمكنه أن يُمثلها بصريا على الإطلاق، الصم يُعبرون عن الصوت الداخلي بصريا بلغة الإشارة، أو بتخيل شفاه تتحرك.
لكن ماذا تفعل الأصوات بجانب أداء هذه المهام المعرفية؟ ثمة أصوات تُشجعنا، أو تتابع معنا مهامنا اليومية «يلا نقوم نغسل»، تُحذّرنا «انتبهي». لكن علوم النفس والأعصاب تُعلمنا أن أدمغتنا تخدعنا، أو تنقلب بخبث ضدنا، وهذا ما يحدث في حالات الأفكار السلبية التي تكون ملفوظة، إلى أن تنفضها عنك (أعرف من يهز كتفيه حرفيا)، أو تُحاول أن تُخرس الصوت «اسكتي». الاستماع للأغاني والموسيقى الصاخبة، الجري بأقصى سرعة، والسباحة ذهابا وإيابا وسائل لإسكات الصوت الداخلي الذي ينال منك حتى في أسوأ الأوقات، وعلى أتفه الحوادث.
ثمة أيضا حالات يصفها الكُتاب والفلاسفة، وهي أنواع خاصة من الظواهر. يكون فيها الصوت الداخلي مشغولا بتثبيط، وانتقاد، والنيل مما يقوله شخص ما بصوته المسموع. ظاهرة تُحبها المسلسلات الدرامية، التي تُصور البطل أو الغريم مُندفعا بصوت أفكاره المقتحمة intrusive thought الملفوظة.
الحديث عن الأصوات أو التصورات الذهنية الداخلية يقودنا مباشرة إلى تصوراتنا الذهنية عن عوالمنا الداخلية. يصعب علينا الإدلاء بشهادات حول تصوراتنا عن عوالمنا الداخلية، لأننا نعي بتأثرها بما تنتجه الفنون، الأفلام، والأوصاف التي تُشبهها وتُقارنها بالكون، السواد. نستخدم هذه الاستعارة لوصف الـ DNA، أعني المادة المظلمة. والاستعارة نفسها تسللت إلى تصوراتنا عن العقل باعتباره فراغ أسود يُظهر صورا بين الحين الآخر، ويتردد فيه صدى حديثنا الداخلي.
في مجال العلوم، النموذج بأهمية النظرية. أعني أنك إذا ما بدأت بتوصيف العالم الداخلي، بنيت استعارة صورية أو لفظية ما، فهذه التصورات تُصبح جزءًا من كيف نُفكر في الأشياء، ما يُقرب الفهم، لكنه يُهدد باستيراد الأفكار، أو إسقاطها غير الموفق على موضوع اهتمامنا (العقل في هذه الحالة). وبحثنا عن الأصالة (أعني تقديم قراءة مستقلة وغير متأثرة بما يُسمع ويُعرض ويُقال حول العقل)، لن يُكلل بالنجاح غالبا. ليس هذا فحسب، بل أن نوع الأسئلة التي نطرحها متأثرة هي الأخرى بالاستعارات التي نستخدمها.
لهذا يلجأ علماء الوعي، وأطباء الدماغ إلى الحالات الشاذة والمتطرفة للإحاطة بالظواهر، استنباط المعارف، وابتكار رؤى جديدة حول مواضيع الإدراك. تجلي صوتك الداخلي في صوت زوج إيطالي ثرثار وقليل الصبر مثال جيد على هذه الحالات الخاصة. لأنها معقلنا الأخير من التلوث بتصورات الإعلام المتهافت، الذي يُغذينا ثقافيا وأخلاقيا وأيضا خياليا.
خلاصة القول، إن القراءة السريعة هي احتيال على الأغلب، ثمة من لا يمتلكون صوتا داخليا، وهم يؤدون على نحو أسوء في بعض المهام الإدراكية مقارنة بأقرانهم الذين يمتلكونه. للصوت الداخلي (بجانب تعزيز الفهم والاستيعاب أثناء القراءة) وظائف أخرى كالمساعدة في تتبع الحالات والإجراءات، وإنجاز المهام. كتتبع عملية غسيل الملابس: حمل السلة، وضع الملابس في الغسالة، إضافة الصابون، تحديد برنامج الغسيل، ثم التشغيل. يُحتمل أن فشلنا في اتباع تعليمات إنجاز مهمة ما عندما نكون مشغولين بالحديث مع شخص، هو فشلنا في الإنصات إلى الصوت الداخلي الذي يأمر. لكن لوجوده ولنوع وجوده دلائل على الصحة النفسية، كأن يُترجم أفكارك السلبية إلى كلمات وجُمل.
هل لديك صوت داخلي؟ لا يبدو أن الجميع يستطيع الإجابة بيقينية عن هذا السؤال. أحاول أن أشرح ما أقصد بأن أضرب الأمثلة. أحد الأمثلة هو ما إذا كان تكوين تصور ذهني عن وقع أو صوت الكلمة التي تُقرأ كما لو أن الشخص يستعد لقراءتها بصوت مرتفع. لا أدري كيف تُفرّق الدراسات بين من لديهم ومن ليس لديهم صوت من المشارك في الدراسات. لعلهم يعتمدون على حُكم الشخص، أو على رصد استعداد العضلات المختصة بالنطق. إذ يبدو أنها تتحرك على قدر يُمكن قياسه. ظاهرة شبيهة هي بشغل الحنجرة والحبال الصوتية أثناء الغناء الداخلي، أو الاستماع للموسيقى، أو قراءتها لمن يقرأ النوتة. يبقى التأكيد على أهمية أن نُسلّم بالجانب الظاهراتي (أو الفينومينولوجي) لهذه المواضيع. بعبارة أخرى، التسليم بأن التجارب المعاشة هي المصدر الأول لرصد ودراسة الإدراك.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القراءة السریعة الصوت الداخلی على نحو التی ت الذی ی
إقرأ أيضاً:
أسطورة ليفربول يحذر صلاح من مصيره
حث إيان راش، أسطورة ليفربول، النجم المصري محمد صلاح على البقاء في النادي الإنجليزي، وحذره من السير على خطاه ومغادرة "الريدز".
وغادر آلة الأهداف الويلزية ليفربول مرتين إلى يوفنتوس الإيطالي وليدز الإنجليزي، ويعد راش، الذي يبلغ من العمر الآن "63 عاما" الهداف التاريخي لليفربول – برصيد 346 هدفا في 660 مباراة، وبات رمزا لا جدال فيه لكرة القدم البريطانية.
ونصح راش صلاح، الذي يحتل المركز الرابع في قائمة هدافي "الريدز" عبر التاريخ برصيد 229 هدفا في 373 مباراة، بعدم اتباع ذات النهج.
كل ما تريد معرفته عن مباراة ليفربول ضد ليستر سيتي في الدوري الإنجليزي الممتاز مستقبل صلاح يثير قلق ليفربولوقال راش في تصريحات نقلتها "ميرور" البريطانية: أود أن يمدد عقده، لا نعرف ماذا سيحدث ولكنني متأكد من أن كل مشجعي ليفربول سيحبون ذلك أيضا.
وزاد: لقد رحلت لأنني لم أكن ألعب بانتظام، كنت أريد فقد أن ألعب كرة القدم، لم أكن أريد الجلوس على مقاعد البدلاء وهذا ما يجب أن تفكر فيه، لقد رحلت إلى ليدز لأنني كنت أريد أن ألعب أسبوعا تلو الآخر.
وأضاف: الأمر يعتمد على ما إذا كنت سعيدا بالجلوس على مقاعد البدلاء أم لا، لكن صلاح لم يصل إلى هذه المرحلة بعد، لذا لا يوجد سبب حقيقي لرحيله حتى الآن.