د. منى الداغستاني: الوصف يسهم في تعزيز الحبكة ويبطئ إيقاع السرد

د. يوسف حطيني: الوصف السردي يسهم في تطوير الحكاية والإكثار منه يُعطل الحكاية

د. إسماعيل مروة: ليست كل الروايات تقوم على الوصف

د. السعيد بوطاجين: يجب أن تهتم بالفلسفة والأسئلة الوجودية ولا تحتمي بالوصف

د. نزار العاني: لا الطول ولا القصر يشكلان المعيار السليم بل كمال الإبداع

د.

أماني ناصر: استخدام الإيحاء والتلميح بدلًا من التفصيل المباشر

د. إبراهيم السعافين: الحشو في أي موضوع مضر بالعمل

رسول درويش: من الضرورة ألَّا يُلقَى الوصفُ دفعة واحدة قبل الحدث

د. عاطف بطرس: الإفراط في وصف اللحظات الحسية للتسويق والجوائز والإساءة للمجتمع

ما بين متعة السرد الروائي الذي يستخدم الوصف كركيزة بناء متين لأجل أن يأتي العمل متقنًا ومتوازنًا؛ والحشو الوصفي الذي يجعل الملل يتسرب للقارئ من بين السطور حتى ليكاد يترك الرواية ويذهب بعيدًا؛ تجد حولك مئات الروايات والقصص التي لا تخلو من الوصف بكل صوره. فجاجة الوصف «كما يقول البعض» تتمثل عندما تتجسد في استباحة الحياء ويسهب في إثارة الغرائز لغايات لا تخدم النص، بل أمور أخرى.

للوقوف على هذه الحالة الموجودة في الأدب الروائي كان لا بد من محاورة أصحاب الشأن وسؤالهم هل المبالغة في الوصف يخدم الرواية، ومتى يكون حشوًا؟

وهل المبالغة في وصف المشاهد الخادشة بتفاصيلها لجذب القارئ والتسويق والجوائز ضرورات تتطلبها الرواية؟

وكيف يمكن للكاتب أن يتجنب هذه الأمور في سردياته الروائية دون ابتذال..؟

تعالوا نتابع:

ليس كل الوصف ثرثرة

د. إسماعيل مروة كاتب وصحفي: «ليست كل الروايات تقوم على قضية الوصف، والوصف بحد ذاته هو فن عالٍ جدًا، ويمكن أن يكون مذهبًا في كتابة الفن الروائي، قد يكون وسيلة وليس حشوًا كما يتهيأ، ولكن الوصف فعال للغاية، كما في «المقامر» لديستوفيسكي، وروايات نجيب محفوظ و«مدن الملح» لعبدالرحمن منيف، كان الوصف ضروريًا جدًا؛ هناك روايات تقوم على الوصف، وأخرى على الحدث، وعلى الرؤى.

كل هذه المذاهب موجودة، أما وجود بعض الروائيين أو الناس الذين يجربون كتابة الرواية ويعتمدون على الوصف فهذا أمر آخر؛ لأن الحياة تُبقي الأفضل، تولستوي في «آنا كارنينا» كان وصافًا بالدرجة الممتازة وبقيت آنا كارنينا من الأهمية بمكان.

هناك نوع آخر لا يوضع ضمن الوصف، هذه الروايات التي تتحدث عن الحياة الخاصة وهي موضة جاءت إلى الأدب العربي بنهاية الثمانينيات والتسعينيات وركب موجتها البعض خاصة من الكاتبات، والغاية منها هي الوصول والشهرة، وهناك مؤسسات تقف وراء هذه الروايات التي تحاول فضح الجانب المخفي من المجتمع، سواء كان موجودًا أو غير موجود، وتم التركيز خاصة في المغرب العربي والخليج، وهناك عدد من الكتاب حاولوا إظهار المجتمع الخلفي الذي لا يُرى، بمبالغة شديدة جدًا، والغاية تحقيق الشهرة ومحاولة النيل من هذه المجتمعات، وسواء كانت موجودة هذه القضايا في بذورها فتم تضخيمها، أو لم تكن موجودة فتم اختلاقها، بل إن عددًا من الكتاب والكاتبات قد أعادوا صناعة بعض الروايات من خلال الكتب التي كانت تعتمد هذا الجانب حتى في تراثنا العربي.

تجنب هذه الأمور من الصعب جدًا، لماذا؛ لأن الكتابة الروائية لها مدارس، إما تكون واقعية ولا يستطيع الإنسان في الواقع أن يُغفل شيئًا هو موجود، ولكن يمكن أن يقوم بنقله وتصويره بطرائق متعددة، لا تعتمد بشكل مباشر على الألفاظ المباشرة الخادشة.

والقضايا لا يمكن أن تُدرس بطريقة حادة هناك مدارس، واتجاهات، وغايات لا يمكن أن تصنف، ليس كل الوصف ثرثرة، وإنما الوصف قد يخدم الرواية، وليس كل الأمور الواقعية تكون خادشة للحياء؛ قد تكون ضرورية أحيانًا، وهذا يعتمد على الكاتب وغاياته ومهاراته، فنجيب محفوظ عرّى المجتمع، ولكن بطرائق نقدية غاياتها الأساسية أن يقدم مجتمعًا مختلفًا وأن ينتقد انتقادًا حقيقيًا.

إحسان عبدالقدوس في زمانه رُفض ولكن في مرحلة لاحقة انُصف وتبين أنه يقدم أعمالا تشريحية اجتماعية لم تكن مقبولة في حينها، لكنه في النهاية كان كاتبًا عظيمًا.

وإذا وجدنا عددًا من الكتاب الذين يلجأون إلى هذه القضايا، يجب النظر إلى المنظور الفني والفكري، هل يقدم أشياء مفيدة للمجتمع، وللرواية...؟

وحتى إن كانت الرواية قائمة على الحدث فقط، يمكن أن تكون ثرثرة؛ الوصف قد يكون جميلًا، كما هو عند بديع حقي سيد الوصف بروايتيه «همسات العكازة المسكينة» و«جفون تسحق الصور» حيث يستخدم وصف أدبي عالٍ يُسهم في إدراج الشخصية الروائية التي يقوم بدراستها، فعندما يصف حمود الأعمى فهذا يساعده في إظهار معني «تيك تيك تيك وتنقر العكازة في قاعة المحكمة». أنا أمام مدارس عديدة، الوصف قد يكون عظيمًا وكذلك الحدث واللغة، ولكن المهم إن من يقوم بالكتابة يكون كاتبًا متمكنًا يملك عدته وأدواته التي تجعل عمله مقبولًا.

الإطالة سلاح ذو حدّين

د. منى دغستاني أكاديمية وناقدة: «للوصف في الرواية أهمية تُذكر في بناء العالم الروائي، وإثراء مخيلة القارئ. وتتجلّى هذه الأهمية في أنّه يعمل على إيجاد أجواء معينة تظُهر مشاعر الشخصيات وتوجّهات القصة، ويكون ذلك من خلال وصف البيئة التي تجعل القارئ يشعر بالقلق، الفرح، أو حتى الحزن، ويكشف عن تفصيلات مهمة حول الشخصيات، مثل مظهرهم الخارجي، تصرّفاتهم، وأفكارهم، ما يساعد القارئ على فهم الشخصيات على نحوٍ أعمق والتعاطف معها. ويقدّم الوصف إحداثيّات الزمكان الذي تدور فيه الأحداث، لفهم السياق التاريخي أو الثقافي للقصة ويحفّز خيال القارئ، فيجعله يعيشها وكأنهّ جزء منها. وكلما كانت الصور أكثر حيوية ووضوحًا، زادت قدرة القارئ على الانغماس في الرواية.

ومن الممكن أن يسهم الوصف في تعزيز الحبكة من خلال تقديم تفصيلات تتعلق بالأحداث أو الصراعات، ما يجعل القارئ أكثر اهتمامًا بما سيحدث لاحقًا. فالوصف ركنٌ أساس من أركان النّصّ، يمكن للكاتب من خلاله أن يكشف عن صوته الأدبي وميزاته الفريدة، ما يميز روايته عن غيرها. الإطالة في الوصف سلاح ذو حدّين، فقد تضيف عمقًا وغنى للنص من جهة، أو قد تؤدي إلى ملل القارئ واستيائه. فمن إيجابيّات الإطالة أنّها قد توفر تفصيلات دقيقة تسهم في بناء عالم الرواية، ما يساعد القارئ على تصوّر المشاهد والشخصيات بصورة أفضل، وتمنح الكاتب أجواء قوية لتبيان الحالة النفسية للشخصيات أو الأحداث، كما يمكن لوصف البيئة المحيطة بالشخصيات أن يكشف عن جوانب من شخصياتهم، مثل تفضيلاتهم وأفكارهم، ما يساعد في بناء عمقهم، وقد تحتوي على رموزٍ أو معانٍ خفية تعزز من فهم القارئ للقصة وتضيف طبقات جديدة من المعنى. أمّا الجوانب السلبية للأوصاف المسهبة في الطول إلى إبطاء إيقاع السرد، ما يؤثّر سلبًا في تطوّر الحبكة ويجعل الأحداث تبدو متكرّرة ومملّة. وإذا كانت الأوصاف غير مرتبطة على نحو مباشر بالأحداث أو الشخصيات، فقد تشتّت انتباه القارئ عن جوهر القصة ويشعر بالملل أو فقدان التركيز، ولا يهتم بالقصة. ويميل بعض الكتاب إلى إضافة تفصيلات غير ضرورية، ما يجعل النّصّ يبدو مثقلًا وغير متوازن، مثال ذلك إقحام المشاهد الغرائزية، والصّور والأوصاف الجريئة، وأرى أنّها غالبًا ما يجري إقحامها عنوة في النص بهدف التسويق للرواية والترويج لها، وذلك يصبّ في إطار الرّبح المادّي الصّرف. إن تصوير مشاهد عاطفية قد يعزز قيم الحب والوفاء بين الزوجين وبين الناس جميعًا، لكنني لا أرى ضرورة لتلك المشاهد بهدف جذب انتباه المراهقين من الفئات العمرية المختلفة الشرهة لهذا الابتذال.«إن الهدف من الفن عامة هو تعزيز القيم الإيجابية مثل المحبة والوفاء والتعاضد والإخاء، والتراحم أما إثارة الغرائز فهي مستقبحة هجينة».

لغز غير قابل للحل

ويوضح الدكتور نزار العاني كاتب وباحث: «في كتابه (حفرة الأعمى)، يكتب الروائي والناقد خليل صويلح مقالة عنوانها: «فضائل الاختزال، والاقتصاد اللغوي، وتقطير الجملة» وفيها يقول: (يحتاج الروائي، في أثناء تمرينات العمل على نصّه، أن يضع إلى جانبه قماشة بيضاء، لتنقية ماء الحكي من الشوائب، وغربالًا لفرز الحصى عن التراب)، كي لا يحتل الرواية الشفوي والشعبوي والعشوائي بوصفه أدبًا! في المبدأ، أنا مع الرواية التي تحترم الاختزال والاقتصاد والتقطير في عصر السرعة والتسارع الذي نحياه اليوم. لكن فضيلة عصر أسلافنا كانت (البطء) كما يقول ميلان كونيرا، وكان لدى الأسلاف الكثير من أوقات الفراغ، ولذا كانت الروايات الطويلة بمئات الصفحات مرغوبة ومقروءة عندهم! ويرى وليم فوكنر في حوار نشر عام 1956 أن الرواية الكبيرة والثقيلة يتحتم عليها أن تكون بمئات الصفحات، مثل روايته (الصخب والعنف)، والتي كتبها خمس مرات منفصلة، وأنه بعد خمسة عشر عامًا من نشرها، شعر بأنها لم تكن كاملة! ولكنه يعترف أنه يميل لقراءة كتب جورج سيمنون، وعلى العكس يرى أغزر كاتب في تاريخ الكتابة، وهو الروائي جورج سيمنون، والذي يقرأ فوكنر أعماله، أن أمر عدد صفحات رواياته معروف قبل البدء بكتابتها، ووفقًا للعقود التجارية الموقعة بين الناشر وبينه! فهو دائمًا يضع نقطة النهاية لرواياته في اليوم الحادي عشر من البدء، ولكنه مع ذلك، يكتب فصلًا واحدًا كل يوم، وثلاثة أيام للمراجعة. وأعتقد أن عملية الإبداع الروائي الكتابي بأركانه المعروفة، عملية معقدة وحمالة أوجه، ولا يصح أن توضع لها قواعد صارمة، ولا يوجد بتاتًا احتمال تطابق في المزاج والفكر والثقافة والتجارب بين روائي وآخر، لذا ينتفي في الأثر الروائي الإبداعي دَور طول أو قصر الرواية. رواية (مائة عام من العزلة) لماركيز طويلة، وعدد كلماتها لا تقل عن 140 ألف كلمة وقرأتها ثلاث مرات منذ صدورها، ولم أضجر ولم يداخلني الملل في الإعادة، وأصغر وأقصر رواية لماركيز هي (قصة موت معلن) التي لا يزيد عدد كلماتها، عن 30 ألف كلمة، والقارئ لها يخرج بانطباع لا يقل انبهارا عن كل أعمال هذا الروائي النوبلي العظيم، قرأت رواية (موبي ديك) للروائي هرمان ملفل، وبلغ عدد صفحاتها 700 صفحة من القطع الكبير، وكتبت عنها، ورواية (صمت البحر) للكاتب جان برولير «فيركور» بصفحاتها الـ75، والروايتان خالدتان. إذن لا الطول ولا القصر يشكلان المعيار السليم، بل كمال الإبداع، وهو لغز غير قابل للحل.

الوصف من مهام السينما

الكاتب والناقد الدكتور السعيد بوطاجين «هناك نصوص لا تقول شيئًا، وعوض أن تهتم بالفلسفة والأسئلة الوجودية تحتمي بالوصف بنوعيه. كان الكاتب الفرنسي أندري جيد نبيهًا عندما قال: الوصف الدقيق من مهام السينما، وليس من مهام الرواية.

الوصف تم نقله من تقنيات بالزاك، وهي قديمة جدا. أما الفظاظة فمن ستاندال الفرنسي، وهنري ميلر الأمريكي، لكن هذا الأخير فيلسوف وعبقري. كُتابنا فهموا الحداثة بشكل مختلف، وليس من سياقاتها، لذلك بقوا مركزين على الثالوث المحرم بشكل تبسيطي لا يحتمل. في كتابه الذي يحمل عنوان: «رمبو وزمن القتلة» قال هنري ميلر: الحداثة هي العبقرية».

يعزز التشويقَ والتوتر

الروائي والمترجم والناقد رسول درويش: «يُعتبر الوصفُ أحد أهم العناصر في السَّرد، ويشكل جزءًا غاية في الأهمية. فهو قادرٌ على أن ينقل المتلقي من دور القارئ إلى المشاهد! يجدُ الأماكنَ والشخصيات وكأنه يراها رأيَ العَين. أي أن الوصف يسهم بدرجةٍ كبيرةٍ في إثراء العالم الخيالي، ذلك الذي يبني المَشاهِدَ السَّردية قصصيًا أو روائيّا، وكما ذكرنا في كتابنا السابق (البوكر في ميزان النقد)؛ فإن الوصف يسهم في تجسيد الحدث ويعطيه صورةً أكثر واقعية، ويسحب القارئ إليه ليجعله يشعر بالمكان في موازاة الزمان. كما أن الوصف يأخذ على عاتقه توضيح الشخصيات وتقديمها ماديًّا ومعنويًّا، جسديًّا ونفسيًّا، ويساهم أيضًا في تصوير الأجواء الداخلية للحدث؛ فالوصف بذلك يعزز التشويقَ والتوتر بإظهاره للتفاصيل الصغيرة التي تمهدُ للقادم والممكن من الأحداث. ويبقى السؤال الأكثر أهمية: كيف يستخدمُ الكاتبُ الوصفَ كعنصرٍ مساندٍ دون أن يتحوَّل إلى أداةٍ تُضعف النصَّ وتوهنه؟ من خلال تجربتي الشخصية في مجالِ الرواية والنقد والترجمة، أجد أنه من الضرورة ألَّا يُلقَى الوصفُ دفعةً واحدة قبل الحدث، ألَّا يُصفعَ القارئُ به؛ بل على الكاتب أن يُلقى بالوصف تدريجيًّا كلما تطورتِ الأحداث. فمثلًا: يمكنه أن يقدم جزئية وصفية عن المشهد أو الشخصية تساير الحدث الأول، ويُكمل الدَّورَ في الحدث الثاني وهكذا دواليك. ولعلَّني في هذا السِّياق أضعُ رواية «قلب الظلام» لجوزيف كونراد مثالًا يمكن الاستدلالَ به. فعلى الرغم من أنها تُعتبرُ واحدةً من أفضلِ مائة رواية في تاريخ الأدب الإنجليزي، غيرَ أن الوصف جاء حينًا في صورة سلبية وحينًا إيجابية. فلقد وجدتُ وأنا أترجم هذه الرواية أن وصفه لمدخل نهر التايمز بلغ في بداية الرواية إلى أكثر من خمس صفحاتٍ، شعرتُ فيها بتباطؤ السَّرد واستشرى الملل (سلبيًّا) إلى جوانحي، بينما وصف كونراد شخصية كورتز (إيجابيًّا) من خلال تجزيء الوصف في المواقف والأحداث! ونتيجة لذلك، أرى أنه على الكاتب أن يضع في عين الاعتبار أهمية الوصف دون تباطؤ الأحداث؛ فلا يفرطُ فيه حدَّ الإسفاف والإسراف. كما أن عليه أن مراعاةَ ألَّا يُفقدَ الوصفُ أهمية السردِ الجوهرية من خلال الإيجاز والانسجام. ومن جانب آخر، عليه أن يبتعد عن الوصفِ المكرَّر لنفس الشخصياتِ أو الأماكن.من الواجب على الوصف أن يكون متوازنًا ومتلائمًا مع السياق السَّردي، وأن على الكاتب أن يستخدم الوصف بحذر شديد يخدم به البناء ولا يُضعفه أو يوهِنه.

لا يشكل عبئًا إذا قدم المعرفة

الأديب والناقد الدكتور عاطف بطرس «الوصف عنصر سردي ومكون بنائي في الرواية، وله وظيفة عندما يقتضي السرد الوصف فلابد منه، والاستفاضة منه مضرة في العملية السردية، وعدم وجوده عندما تستدعي الحاجة إليه ينقص من أهمية العمل الروائي أو البنية الروائية، عندما نصف المكان فإننا لا نتحدث عن المكان فقط، بل نستفيد من وصفه لمعرفة عادات وتقاليد وطبائع الشخصيات الذين يعيشون فيه، وعندما نصف الشخصيات وصفًا خارجيًا فإنما نستدل من هذا الوصف الخارجي على مستوى تفكيرها ومعرفة عاداتها وطرائق معيشتها وتقاليدها. الوصف فنيًا هو توقف في الزمان وتطور في الحدث، فإذا لم يساهم في تطوير الحدث وشد المتلقي وفي إبراز قدرة المؤلف على التخييل من خلال استخدام اللغة ومفرداتها وتوصيل ما يريده إلى القارئ من خلال عملية الوصف الموظفة فنيا، قد يصاب العمل الروائي بخلل فني. أما الإفراط في الوصف وبشكل خاص في المواقف أو اللحظات الحسية تحديدًا فهو مطلب يخضع فيه بعض الكتاب لتسويق أعمالهم والحصول على الجوائز لأن في ذلك إرضاء للجان التحكيم والتوجهات التي أصبحت معروفة لتشويه ذائقة القراء والإساءة إلى عاداتهم وتقاليدهم وتعبئتهم بغرائزية ليس لها علاقة بالطبائع الإنسانية، إما إذا كان الوصف يقدم فائدة علمية معرفية، فلا بد منه ولا يشكل عبئًا على العملية السردية، لذلك كما هو معروف لا إفراط ولا تفريط، المهم كيف نوظف ونستخدم الوصف، متى وأين وإلى أي حد، وهذا يتوقف على مهارات المؤلف وقدراته الفنية.

الفظاظة تعمّق أزمة المجتمع العربي

الروائي الدكتور يوسف حطّيني: «تقوم لغة الرّواية، ولغة النّثر الحكائيّ عمومًا، على ثلاثة أساليب أساسية هي السرد والوصف والحوار. وينجحُ الرّوائي في تقديم لغة مقنِعة بمقدار ما يستطيع الموازنة بين هذه الأساليب. ولا نعني بالتوازن هنا ذلك التوازن النسبي القائم على الفضاء الطباعي الذي يشغله كلُّ أسلوب منها، بل المسوّغات الحبكوية التي تجعل أسلوبًا ما أكثر قدرة على القيام بوظيفته في سياق الحكاية. وإنّ شرط الوصف حتّى يكون مقبولًا هو إخلاصه لوظيفته الحكائية، وابتعاده عن الوصف المجرّد لصالح الوصف السردي (المتحرّك مع الحدث)، لأنّ الوصف السّردي يسهم في تطوير الحكاية، بينما تتعطل الحكاية وتتعرقل حين يكثر الروائي من الاعتماد على الوقفات الوصفية. إنّ المعوّل عليه في أي وصف هو مدى حاجة السرد إليه، ومدى حاجة الحكاية إلى كل تفصيل من تفاصيله، فلا معنى لتأثيثٍ أو للونٍ أو لرائحة إذا لم يتم استثماره؛ ليدل على بيئة الشخصية أو أهوائها أو طريقة عيشها، أو على أية دلالة لا تخالف قواعد العالم المسرود الذي يصنعه الروائي. يعمد بعض الرّوائيين إلى تطعيم لغة الرواية بألفاظ خادشة للحياء، ومثل هذه الألفاظ لا تخدش الحياء فقط بل تخدش جمالية لغة الرواية، ونحن هنا نتحدث عن لغة التعبير، لأنّ الحب فعل إنساني، وفعل حكائي قد يكون تشويقيًا، وقد يقوم بدور أساسي في تطوير حكاية ما. ومن أسفٍ أن هذه الألفاظ الخادشة للحياء كثرت في الآونة الأخيرة في الروايات (وفي عموم النثر الحكائي والشعر والفنون البصرية المختلفة)، وأسهمت بعض المؤسسات الدولية في دعمها، وصار هذا الدعم محفّزًا لاستخدامها في عصر المشاهدات والتريندات. ونحن هنا لا يمكن بأي حال أن نتغاضى عن هذه الثيمة الأساسية في السرد، ولا أن نستبعدها، فهي من طبيعة الحياة البشرية، ولكننا نرى أن المشكلة تكمن في طريقة التعبير عنها؛ لأن واحدًا من أهداف السرد يكمن في إثارته بالتشويق الحكائي الذي يسعى إليه الكاتب، أما إثارة القارئ فهي استغلال رخيص لغرائزه. وأجدني هنا مدفوعًا إلى التنبيه على شيء آخر، هو أنّ الأمر لا يقتصر على السعي إلى جعل اللغة أكثر فظاظة، بل يتعدّى ذلك إلى التشجيع على تناول موضوعات تعمّق أزمة المجتمع العربي (من مثل الانقسامات المذهبية) بدعوى الحرّية. ونحن هنا لا ندعو إلى تقييد حرية الكاتب في اختيار موضوعاته، بل ندعوه ألا يكون سهمًا في كنانة غيره، ممن يتربصون بمجتمعه العربي شرًّا.

لا أذعن لمقولات مفروضة

الناقد والأديب الدكتور إبراهيم السعافين: ‏«الحشو في أي موضوع مضر بالعمل، أما بالنسبة للمشاهد الخارجة فقد تكون ضرورية أحيانًا في رؤية العمل ونسيجه لدى بعض الكتاب والبيئات، ويراها بعض النقاد شارة أو علامة من علامات مستقبل الرواية، وأنا ضد الحتميات ولا يجوز أن نذعن لمقولات ملزمة أو مفروضة، ولا أرى أنها ضرورية ولعلّ دواعيها أقرب إلى دغدغة الغرائز ولا أقول التشويق».

الأسباب الموجبة

الدكتور أماني محمد ناصر كاتبة وأكاديمية: «هناك أسباب عدة قد تدفع الكاتب إلى الإفراط في الوصف بالروايات منها: إيجاد جو وبيئة لقصة الرواية، فقد يستخدم الكاتب الوصف التفصيلي للأماكن والأشخاص والأشياء لمساعدة القارئ على تصور العالم الذي تدور فيه الأحداث وشخصياته بشكل أكثر حيوية وواقعية. إضافة إلى البطء في السرد، حيث يستخدم الكاتب الوصف المطول أحيانًا كوسيلة للبطء في الحركة السردية وإطالة المشهد من أجل إيجاد إيقاع أبطأ في القصة. وأيضًا هناك الخلفية الثقافية للكاتب، فبعض الكتاب ينتمون لثقافات تتبع الوصف المفصل والإطناب في اللغة، أي استخدام عدد أكبر من الكلمات اللازمة للتعبير عن فكرة معينة فيميلون إلى نقل هذا الأسلوب إلى كتاباتهم الروائية، وأحيانًا قد يكون هذا بدافع إطالة النصّ وملء الصفحات، وإذا استُخدم بشكل مفرط فقد يؤدي إلى الإرباك والملل والتشتت لدى القارئ. أضف إلى ذلك التأكيد على التفاصيل، فقد يكون الهدف هو إبراز بعض التفاصيل المهمة في القصة والتركيز عليها للإطالة والحشو.

وفي بعض الأحيان، يلجأ الكاتب إلى الإفراط في الوصف بدافع تضخيم النص وزيادة سمك الكتاب وإعطائه مساحة أكبر، دون أي ضرورة فنية. وبعض الكتّاب يلجأون إلى الوصف التفصيلي للمشاهد الخارجة بقصد جذب القراء وزيادة المبيعات، لكن هذا الأسلوب قد يبدو ابتذالًا وتسويقًا تجاريًا أكثر من كونه ضرورة فنية، فالكاتب الناجح هو الذي يجد طريقة للتعبير عن المحتوى الحساس بطريقة فنية وشيقة، دون إسفاف أو مبالغة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يتجنب الكاتب هذه الأمور؟ يتجنبها بالتركيز على السرد والشخصيات والحبكة بدلًا من الوصف المفرط، واستخدام الإيحاء والتلميح بدلًا من التفصيل المباشر، إضافة إلى اختيار الكلمات بعناية لتوصيل المعنى دون إسهاب، والاعتماد على خيال القارئ بدلًا من فرض الصور الجاهزة عليه. وبهذا يقدّم الكاتب عملًا أدبيًا متوازنًا وجذّابًا».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على الکاتب القارئ على بعض الکتاب الإفراط فی على الوصف فی تطویر فی الوصف بدل ا من یسهم فی ى الوصف یمکن أن قد یکون من خلال ا یمکن کاتب ا

إقرأ أيضاً:

من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. رائحة الجمعة

#رائحة_الجمعة
من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي
نشر بتاريخ الخميس 2 / 3 / 2023

هل تشتمّون رائحة الأيام القديمة مثلي ؟.. هل تصدّقون أن ليوم الجمعة في ذاكرتي رائحة؟؟..القهوة السادة ..رائحة الهيل المطحون..#خبز #الطابون..صوت “هاون النحاس” ..والمنشاوي يقرأ سورة الكهف من الراديو “البناسونيك” على مهل..رائحة معجون حلاقة أبي..الكالونيا ..”شفرة التمساح”..وحجر”الشبّه” لإطفاء بعض الجروح الطفيفة أثناء الحلاقة كل ذلك في ذاكرتي..
كنّا نذهب باكراً الى #المسجد لنسمع درس الجمعة ،تأخذنا دهشة النظر الى #القبة ، وأعشاش الحمام على الشبابيك ، كان الكلام جميلاً وجديداً بالنسبة لنا ..كنا ننظر الى الشيخ المبروك بكثير من القداسة ، لأنه كان طيباً بالفطرة ،صادقاً بدعوته..يصعد درجات المنبر واحدة واحدة يمسك بالعمود القريب ويتلوا خطبته الشفهية بصوته المميز المبحوح، كنا نتمنى أن نلمس عمامته الملفوفة بعناية ترى ما الشيء الأحمر في داخلها؟ لاحقاً اكتشفنا أنه طربوش ..كان خطيب الجامع العمري الكبير في الرمثا الشيخ “أبو العيش ” رحمه الله ،عالم جليل بسيط صادق يخاطب الناس بلهجتهم يتطرّق إلى مشاكلهم يحبه آباؤنا ويحبهم..وعندما يتم صلاة الجمعة يتسابق المصلّون لأنه يدعونه على الغداء بكل حرارة وصدق ويصرّون على مرافقهتم إلى بيوتهم ..وكان شيخاً خجولاً يقبل الدعوة ولا يمانع ..انه الحب الصادق..والفطرة السليمة..

في يوم الجمعة ، وفور خروجنا من الجامع كانت نقاط المطر تدغدغ وجناتنا ، يشتد قليلاً، فنشتد في مشيتنا هروباً من المطر واشتياقاً الى غداء الجمعة المميز الذي يكون جاهزاً بعد الصلاة مباشرة ..فخذ الدجاج “غنيمة” والسفينة “صيد ثمين”..والرأس للقناص ..الظهر يحتاج ميكانيكي أما رقبة الدجاجة فكان لها تقنية خاصة “بالفصفصة”..وما أدراك ما عملية استدراج “السمرة” فكانت تريد ذكاء مختلف من الحفر تحتها وازالة العوائق حتى تتدحرج ناحيتك وكأن النصيب قد قادها اليك… لم أر ألذّ من طعم “حكاكة المقلوبة الملتصقة في قاع الطنجرة”..خاصة أيام الشتاء..ولم أعش أجمل وأدفأ وأسهل وأكثر طمأنينة من تلك الأيام..عندما كان أبي وأمي..هما أرضي وسماءي..وأنا آدم الذي كان يعمر الأرض كلّها..

#أحمد_حسن_الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

مقالات ذات صلة عاصفة الكترونية مساء اليوم تحت شعار .. #انتخبوا_احمد_حسن_الزعبي 2024/09/09

#70يوما

#الحرية_لأحمد_حسن_الزعبي

#صحة_احمد_في_خطر

#سجين_الوطن

مقالات مشابهة

  • ناطق الحوثيين ينفي الرواية السابقة بشأن ‘‘الغارات الأمريكية’’ على مدرسة في تعز
  • أجراس لا توقظ أحدًا.. جديد الروائي الموريتاني محمد عبد اللطيف
  • ”حرس الحدود السعودي يوجه ضربة قاضية لعمليات تهريب القات.. تفاصيل العمليات المثيرة!”
  • الرواية الحوثية بشأن الغارة الأمريكية على مدرسة في تعز .. وحصيلة الضحايا من الطالبات وهذا ما يحدث الآن
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. شتي أيلول
  • توقيع كتاب “الجهاد الأمريكي.. من كابول إلى اسطنبول” للكاتب عبدالله صبري
  • "نافذ مبدعون".. منصة جديدة لاستقطاب الأفكار الإبداعية بالشرقية
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. رائحة الجمعة
  • ما الدور الذي يمكن أن تلعبه أمعاء الأسماك في منتجات العناية بالبشرة في المستقبل؟
  • بعد الفتوى المثيرة للجدل لأستاذ بالأزهر.. «الإفتاء» توضح حكم سرقة المياه والكهرباء