الاستطالة بالوصف واللحظات المثيرة .. كيف يمكن للكاتب أن يتجنبها في سردياته الإبداعية..؟
تاريخ النشر: 16th, August 2024 GMT
د. منى الداغستاني: الوصف يسهم في تعزيز الحبكة ويبطئ إيقاع السرد
د. يوسف حطيني: الوصف السردي يسهم في تطوير الحكاية والإكثار منه يُعطل الحكاية
د. إسماعيل مروة: ليست كل الروايات تقوم على الوصف
د. السعيد بوطاجين: يجب أن تهتم بالفلسفة والأسئلة الوجودية ولا تحتمي بالوصف
د. نزار العاني: لا الطول ولا القصر يشكلان المعيار السليم بل كمال الإبداع
د.
د. إبراهيم السعافين: الحشو في أي موضوع مضر بالعمل
رسول درويش: من الضرورة ألَّا يُلقَى الوصفُ دفعة واحدة قبل الحدث
د. عاطف بطرس: الإفراط في وصف اللحظات الحسية للتسويق والجوائز والإساءة للمجتمع
ما بين متعة السرد الروائي الذي يستخدم الوصف كركيزة بناء متين لأجل أن يأتي العمل متقنًا ومتوازنًا؛ والحشو الوصفي الذي يجعل الملل يتسرب للقارئ من بين السطور حتى ليكاد يترك الرواية ويذهب بعيدًا؛ تجد حولك مئات الروايات والقصص التي لا تخلو من الوصف بكل صوره. فجاجة الوصف «كما يقول البعض» تتمثل عندما تتجسد في استباحة الحياء ويسهب في إثارة الغرائز لغايات لا تخدم النص، بل أمور أخرى.
للوقوف على هذه الحالة الموجودة في الأدب الروائي كان لا بد من محاورة أصحاب الشأن وسؤالهم هل المبالغة في الوصف يخدم الرواية، ومتى يكون حشوًا؟
وهل المبالغة في وصف المشاهد الخادشة بتفاصيلها لجذب القارئ والتسويق والجوائز ضرورات تتطلبها الرواية؟
وكيف يمكن للكاتب أن يتجنب هذه الأمور في سردياته الروائية دون ابتذال..؟
تعالوا نتابع:
ليس كل الوصف ثرثرة
د. إسماعيل مروة كاتب وصحفي: «ليست كل الروايات تقوم على قضية الوصف، والوصف بحد ذاته هو فن عالٍ جدًا، ويمكن أن يكون مذهبًا في كتابة الفن الروائي، قد يكون وسيلة وليس حشوًا كما يتهيأ، ولكن الوصف فعال للغاية، كما في «المقامر» لديستوفيسكي، وروايات نجيب محفوظ و«مدن الملح» لعبدالرحمن منيف، كان الوصف ضروريًا جدًا؛ هناك روايات تقوم على الوصف، وأخرى على الحدث، وعلى الرؤى.
كل هذه المذاهب موجودة، أما وجود بعض الروائيين أو الناس الذين يجربون كتابة الرواية ويعتمدون على الوصف فهذا أمر آخر؛ لأن الحياة تُبقي الأفضل، تولستوي في «آنا كارنينا» كان وصافًا بالدرجة الممتازة وبقيت آنا كارنينا من الأهمية بمكان.
هناك نوع آخر لا يوضع ضمن الوصف، هذه الروايات التي تتحدث عن الحياة الخاصة وهي موضة جاءت إلى الأدب العربي بنهاية الثمانينيات والتسعينيات وركب موجتها البعض خاصة من الكاتبات، والغاية منها هي الوصول والشهرة، وهناك مؤسسات تقف وراء هذه الروايات التي تحاول فضح الجانب المخفي من المجتمع، سواء كان موجودًا أو غير موجود، وتم التركيز خاصة في المغرب العربي والخليج، وهناك عدد من الكتاب حاولوا إظهار المجتمع الخلفي الذي لا يُرى، بمبالغة شديدة جدًا، والغاية تحقيق الشهرة ومحاولة النيل من هذه المجتمعات، وسواء كانت موجودة هذه القضايا في بذورها فتم تضخيمها، أو لم تكن موجودة فتم اختلاقها، بل إن عددًا من الكتاب والكاتبات قد أعادوا صناعة بعض الروايات من خلال الكتب التي كانت تعتمد هذا الجانب حتى في تراثنا العربي.
تجنب هذه الأمور من الصعب جدًا، لماذا؛ لأن الكتابة الروائية لها مدارس، إما تكون واقعية ولا يستطيع الإنسان في الواقع أن يُغفل شيئًا هو موجود، ولكن يمكن أن يقوم بنقله وتصويره بطرائق متعددة، لا تعتمد بشكل مباشر على الألفاظ المباشرة الخادشة.
والقضايا لا يمكن أن تُدرس بطريقة حادة هناك مدارس، واتجاهات، وغايات لا يمكن أن تصنف، ليس كل الوصف ثرثرة، وإنما الوصف قد يخدم الرواية، وليس كل الأمور الواقعية تكون خادشة للحياء؛ قد تكون ضرورية أحيانًا، وهذا يعتمد على الكاتب وغاياته ومهاراته، فنجيب محفوظ عرّى المجتمع، ولكن بطرائق نقدية غاياتها الأساسية أن يقدم مجتمعًا مختلفًا وأن ينتقد انتقادًا حقيقيًا.
إحسان عبدالقدوس في زمانه رُفض ولكن في مرحلة لاحقة انُصف وتبين أنه يقدم أعمالا تشريحية اجتماعية لم تكن مقبولة في حينها، لكنه في النهاية كان كاتبًا عظيمًا.
وإذا وجدنا عددًا من الكتاب الذين يلجأون إلى هذه القضايا، يجب النظر إلى المنظور الفني والفكري، هل يقدم أشياء مفيدة للمجتمع، وللرواية...؟
وحتى إن كانت الرواية قائمة على الحدث فقط، يمكن أن تكون ثرثرة؛ الوصف قد يكون جميلًا، كما هو عند بديع حقي سيد الوصف بروايتيه «همسات العكازة المسكينة» و«جفون تسحق الصور» حيث يستخدم وصف أدبي عالٍ يُسهم في إدراج الشخصية الروائية التي يقوم بدراستها، فعندما يصف حمود الأعمى فهذا يساعده في إظهار معني «تيك تيك تيك وتنقر العكازة في قاعة المحكمة». أنا أمام مدارس عديدة، الوصف قد يكون عظيمًا وكذلك الحدث واللغة، ولكن المهم إن من يقوم بالكتابة يكون كاتبًا متمكنًا يملك عدته وأدواته التي تجعل عمله مقبولًا.
الإطالة سلاح ذو حدّين
د. منى دغستاني أكاديمية وناقدة: «للوصف في الرواية أهمية تُذكر في بناء العالم الروائي، وإثراء مخيلة القارئ. وتتجلّى هذه الأهمية في أنّه يعمل على إيجاد أجواء معينة تظُهر مشاعر الشخصيات وتوجّهات القصة، ويكون ذلك من خلال وصف البيئة التي تجعل القارئ يشعر بالقلق، الفرح، أو حتى الحزن، ويكشف عن تفصيلات مهمة حول الشخصيات، مثل مظهرهم الخارجي، تصرّفاتهم، وأفكارهم، ما يساعد القارئ على فهم الشخصيات على نحوٍ أعمق والتعاطف معها. ويقدّم الوصف إحداثيّات الزمكان الذي تدور فيه الأحداث، لفهم السياق التاريخي أو الثقافي للقصة ويحفّز خيال القارئ، فيجعله يعيشها وكأنهّ جزء منها. وكلما كانت الصور أكثر حيوية ووضوحًا، زادت قدرة القارئ على الانغماس في الرواية.
ومن الممكن أن يسهم الوصف في تعزيز الحبكة من خلال تقديم تفصيلات تتعلق بالأحداث أو الصراعات، ما يجعل القارئ أكثر اهتمامًا بما سيحدث لاحقًا. فالوصف ركنٌ أساس من أركان النّصّ، يمكن للكاتب من خلاله أن يكشف عن صوته الأدبي وميزاته الفريدة، ما يميز روايته عن غيرها. الإطالة في الوصف سلاح ذو حدّين، فقد تضيف عمقًا وغنى للنص من جهة، أو قد تؤدي إلى ملل القارئ واستيائه. فمن إيجابيّات الإطالة أنّها قد توفر تفصيلات دقيقة تسهم في بناء عالم الرواية، ما يساعد القارئ على تصوّر المشاهد والشخصيات بصورة أفضل، وتمنح الكاتب أجواء قوية لتبيان الحالة النفسية للشخصيات أو الأحداث، كما يمكن لوصف البيئة المحيطة بالشخصيات أن يكشف عن جوانب من شخصياتهم، مثل تفضيلاتهم وأفكارهم، ما يساعد في بناء عمقهم، وقد تحتوي على رموزٍ أو معانٍ خفية تعزز من فهم القارئ للقصة وتضيف طبقات جديدة من المعنى. أمّا الجوانب السلبية للأوصاف المسهبة في الطول إلى إبطاء إيقاع السرد، ما يؤثّر سلبًا في تطوّر الحبكة ويجعل الأحداث تبدو متكرّرة ومملّة. وإذا كانت الأوصاف غير مرتبطة على نحو مباشر بالأحداث أو الشخصيات، فقد تشتّت انتباه القارئ عن جوهر القصة ويشعر بالملل أو فقدان التركيز، ولا يهتم بالقصة. ويميل بعض الكتاب إلى إضافة تفصيلات غير ضرورية، ما يجعل النّصّ يبدو مثقلًا وغير متوازن، مثال ذلك إقحام المشاهد الغرائزية، والصّور والأوصاف الجريئة، وأرى أنّها غالبًا ما يجري إقحامها عنوة في النص بهدف التسويق للرواية والترويج لها، وذلك يصبّ في إطار الرّبح المادّي الصّرف. إن تصوير مشاهد عاطفية قد يعزز قيم الحب والوفاء بين الزوجين وبين الناس جميعًا، لكنني لا أرى ضرورة لتلك المشاهد بهدف جذب انتباه المراهقين من الفئات العمرية المختلفة الشرهة لهذا الابتذال.«إن الهدف من الفن عامة هو تعزيز القيم الإيجابية مثل المحبة والوفاء والتعاضد والإخاء، والتراحم أما إثارة الغرائز فهي مستقبحة هجينة».
لغز غير قابل للحل
ويوضح الدكتور نزار العاني كاتب وباحث: «في كتابه (حفرة الأعمى)، يكتب الروائي والناقد خليل صويلح مقالة عنوانها: «فضائل الاختزال، والاقتصاد اللغوي، وتقطير الجملة» وفيها يقول: (يحتاج الروائي، في أثناء تمرينات العمل على نصّه، أن يضع إلى جانبه قماشة بيضاء، لتنقية ماء الحكي من الشوائب، وغربالًا لفرز الحصى عن التراب)، كي لا يحتل الرواية الشفوي والشعبوي والعشوائي بوصفه أدبًا! في المبدأ، أنا مع الرواية التي تحترم الاختزال والاقتصاد والتقطير في عصر السرعة والتسارع الذي نحياه اليوم. لكن فضيلة عصر أسلافنا كانت (البطء) كما يقول ميلان كونيرا، وكان لدى الأسلاف الكثير من أوقات الفراغ، ولذا كانت الروايات الطويلة بمئات الصفحات مرغوبة ومقروءة عندهم! ويرى وليم فوكنر في حوار نشر عام 1956 أن الرواية الكبيرة والثقيلة يتحتم عليها أن تكون بمئات الصفحات، مثل روايته (الصخب والعنف)، والتي كتبها خمس مرات منفصلة، وأنه بعد خمسة عشر عامًا من نشرها، شعر بأنها لم تكن كاملة! ولكنه يعترف أنه يميل لقراءة كتب جورج سيمنون، وعلى العكس يرى أغزر كاتب في تاريخ الكتابة، وهو الروائي جورج سيمنون، والذي يقرأ فوكنر أعماله، أن أمر عدد صفحات رواياته معروف قبل البدء بكتابتها، ووفقًا للعقود التجارية الموقعة بين الناشر وبينه! فهو دائمًا يضع نقطة النهاية لرواياته في اليوم الحادي عشر من البدء، ولكنه مع ذلك، يكتب فصلًا واحدًا كل يوم، وثلاثة أيام للمراجعة. وأعتقد أن عملية الإبداع الروائي الكتابي بأركانه المعروفة، عملية معقدة وحمالة أوجه، ولا يصح أن توضع لها قواعد صارمة، ولا يوجد بتاتًا احتمال تطابق في المزاج والفكر والثقافة والتجارب بين روائي وآخر، لذا ينتفي في الأثر الروائي الإبداعي دَور طول أو قصر الرواية. رواية (مائة عام من العزلة) لماركيز طويلة، وعدد كلماتها لا تقل عن 140 ألف كلمة وقرأتها ثلاث مرات منذ صدورها، ولم أضجر ولم يداخلني الملل في الإعادة، وأصغر وأقصر رواية لماركيز هي (قصة موت معلن) التي لا يزيد عدد كلماتها، عن 30 ألف كلمة، والقارئ لها يخرج بانطباع لا يقل انبهارا عن كل أعمال هذا الروائي النوبلي العظيم، قرأت رواية (موبي ديك) للروائي هرمان ملفل، وبلغ عدد صفحاتها 700 صفحة من القطع الكبير، وكتبت عنها، ورواية (صمت البحر) للكاتب جان برولير «فيركور» بصفحاتها الـ75، والروايتان خالدتان. إذن لا الطول ولا القصر يشكلان المعيار السليم، بل كمال الإبداع، وهو لغز غير قابل للحل.
الوصف من مهام السينما
الكاتب والناقد الدكتور السعيد بوطاجين «هناك نصوص لا تقول شيئًا، وعوض أن تهتم بالفلسفة والأسئلة الوجودية تحتمي بالوصف بنوعيه. كان الكاتب الفرنسي أندري جيد نبيهًا عندما قال: الوصف الدقيق من مهام السينما، وليس من مهام الرواية.
الوصف تم نقله من تقنيات بالزاك، وهي قديمة جدا. أما الفظاظة فمن ستاندال الفرنسي، وهنري ميلر الأمريكي، لكن هذا الأخير فيلسوف وعبقري. كُتابنا فهموا الحداثة بشكل مختلف، وليس من سياقاتها، لذلك بقوا مركزين على الثالوث المحرم بشكل تبسيطي لا يحتمل. في كتابه الذي يحمل عنوان: «رمبو وزمن القتلة» قال هنري ميلر: الحداثة هي العبقرية».
يعزز التشويقَ والتوتر
الروائي والمترجم والناقد رسول درويش: «يُعتبر الوصفُ أحد أهم العناصر في السَّرد، ويشكل جزءًا غاية في الأهمية. فهو قادرٌ على أن ينقل المتلقي من دور القارئ إلى المشاهد! يجدُ الأماكنَ والشخصيات وكأنه يراها رأيَ العَين. أي أن الوصف يسهم بدرجةٍ كبيرةٍ في إثراء العالم الخيالي، ذلك الذي يبني المَشاهِدَ السَّردية قصصيًا أو روائيّا، وكما ذكرنا في كتابنا السابق (البوكر في ميزان النقد)؛ فإن الوصف يسهم في تجسيد الحدث ويعطيه صورةً أكثر واقعية، ويسحب القارئ إليه ليجعله يشعر بالمكان في موازاة الزمان. كما أن الوصف يأخذ على عاتقه توضيح الشخصيات وتقديمها ماديًّا ومعنويًّا، جسديًّا ونفسيًّا، ويساهم أيضًا في تصوير الأجواء الداخلية للحدث؛ فالوصف بذلك يعزز التشويقَ والتوتر بإظهاره للتفاصيل الصغيرة التي تمهدُ للقادم والممكن من الأحداث. ويبقى السؤال الأكثر أهمية: كيف يستخدمُ الكاتبُ الوصفَ كعنصرٍ مساندٍ دون أن يتحوَّل إلى أداةٍ تُضعف النصَّ وتوهنه؟ من خلال تجربتي الشخصية في مجالِ الرواية والنقد والترجمة، أجد أنه من الضرورة ألَّا يُلقَى الوصفُ دفعةً واحدة قبل الحدث، ألَّا يُصفعَ القارئُ به؛ بل على الكاتب أن يُلقى بالوصف تدريجيًّا كلما تطورتِ الأحداث. فمثلًا: يمكنه أن يقدم جزئية وصفية عن المشهد أو الشخصية تساير الحدث الأول، ويُكمل الدَّورَ في الحدث الثاني وهكذا دواليك. ولعلَّني في هذا السِّياق أضعُ رواية «قلب الظلام» لجوزيف كونراد مثالًا يمكن الاستدلالَ به. فعلى الرغم من أنها تُعتبرُ واحدةً من أفضلِ مائة رواية في تاريخ الأدب الإنجليزي، غيرَ أن الوصف جاء حينًا في صورة سلبية وحينًا إيجابية. فلقد وجدتُ وأنا أترجم هذه الرواية أن وصفه لمدخل نهر التايمز بلغ في بداية الرواية إلى أكثر من خمس صفحاتٍ، شعرتُ فيها بتباطؤ السَّرد واستشرى الملل (سلبيًّا) إلى جوانحي، بينما وصف كونراد شخصية كورتز (إيجابيًّا) من خلال تجزيء الوصف في المواقف والأحداث! ونتيجة لذلك، أرى أنه على الكاتب أن يضع في عين الاعتبار أهمية الوصف دون تباطؤ الأحداث؛ فلا يفرطُ فيه حدَّ الإسفاف والإسراف. كما أن عليه أن مراعاةَ ألَّا يُفقدَ الوصفُ أهمية السردِ الجوهرية من خلال الإيجاز والانسجام. ومن جانب آخر، عليه أن يبتعد عن الوصفِ المكرَّر لنفس الشخصياتِ أو الأماكن.من الواجب على الوصف أن يكون متوازنًا ومتلائمًا مع السياق السَّردي، وأن على الكاتب أن يستخدم الوصف بحذر شديد يخدم به البناء ولا يُضعفه أو يوهِنه.
لا يشكل عبئًا إذا قدم المعرفة
الأديب والناقد الدكتور عاطف بطرس «الوصف عنصر سردي ومكون بنائي في الرواية، وله وظيفة عندما يقتضي السرد الوصف فلابد منه، والاستفاضة منه مضرة في العملية السردية، وعدم وجوده عندما تستدعي الحاجة إليه ينقص من أهمية العمل الروائي أو البنية الروائية، عندما نصف المكان فإننا لا نتحدث عن المكان فقط، بل نستفيد من وصفه لمعرفة عادات وتقاليد وطبائع الشخصيات الذين يعيشون فيه، وعندما نصف الشخصيات وصفًا خارجيًا فإنما نستدل من هذا الوصف الخارجي على مستوى تفكيرها ومعرفة عاداتها وطرائق معيشتها وتقاليدها. الوصف فنيًا هو توقف في الزمان وتطور في الحدث، فإذا لم يساهم في تطوير الحدث وشد المتلقي وفي إبراز قدرة المؤلف على التخييل من خلال استخدام اللغة ومفرداتها وتوصيل ما يريده إلى القارئ من خلال عملية الوصف الموظفة فنيا، قد يصاب العمل الروائي بخلل فني. أما الإفراط في الوصف وبشكل خاص في المواقف أو اللحظات الحسية تحديدًا فهو مطلب يخضع فيه بعض الكتاب لتسويق أعمالهم والحصول على الجوائز لأن في ذلك إرضاء للجان التحكيم والتوجهات التي أصبحت معروفة لتشويه ذائقة القراء والإساءة إلى عاداتهم وتقاليدهم وتعبئتهم بغرائزية ليس لها علاقة بالطبائع الإنسانية، إما إذا كان الوصف يقدم فائدة علمية معرفية، فلا بد منه ولا يشكل عبئًا على العملية السردية، لذلك كما هو معروف لا إفراط ولا تفريط، المهم كيف نوظف ونستخدم الوصف، متى وأين وإلى أي حد، وهذا يتوقف على مهارات المؤلف وقدراته الفنية.
الفظاظة تعمّق أزمة المجتمع العربي
الروائي الدكتور يوسف حطّيني: «تقوم لغة الرّواية، ولغة النّثر الحكائيّ عمومًا، على ثلاثة أساليب أساسية هي السرد والوصف والحوار. وينجحُ الرّوائي في تقديم لغة مقنِعة بمقدار ما يستطيع الموازنة بين هذه الأساليب. ولا نعني بالتوازن هنا ذلك التوازن النسبي القائم على الفضاء الطباعي الذي يشغله كلُّ أسلوب منها، بل المسوّغات الحبكوية التي تجعل أسلوبًا ما أكثر قدرة على القيام بوظيفته في سياق الحكاية. وإنّ شرط الوصف حتّى يكون مقبولًا هو إخلاصه لوظيفته الحكائية، وابتعاده عن الوصف المجرّد لصالح الوصف السردي (المتحرّك مع الحدث)، لأنّ الوصف السّردي يسهم في تطوير الحكاية، بينما تتعطل الحكاية وتتعرقل حين يكثر الروائي من الاعتماد على الوقفات الوصفية. إنّ المعوّل عليه في أي وصف هو مدى حاجة السرد إليه، ومدى حاجة الحكاية إلى كل تفصيل من تفاصيله، فلا معنى لتأثيثٍ أو للونٍ أو لرائحة إذا لم يتم استثماره؛ ليدل على بيئة الشخصية أو أهوائها أو طريقة عيشها، أو على أية دلالة لا تخالف قواعد العالم المسرود الذي يصنعه الروائي. يعمد بعض الرّوائيين إلى تطعيم لغة الرواية بألفاظ خادشة للحياء، ومثل هذه الألفاظ لا تخدش الحياء فقط بل تخدش جمالية لغة الرواية، ونحن هنا نتحدث عن لغة التعبير، لأنّ الحب فعل إنساني، وفعل حكائي قد يكون تشويقيًا، وقد يقوم بدور أساسي في تطوير حكاية ما. ومن أسفٍ أن هذه الألفاظ الخادشة للحياء كثرت في الآونة الأخيرة في الروايات (وفي عموم النثر الحكائي والشعر والفنون البصرية المختلفة)، وأسهمت بعض المؤسسات الدولية في دعمها، وصار هذا الدعم محفّزًا لاستخدامها في عصر المشاهدات والتريندات. ونحن هنا لا يمكن بأي حال أن نتغاضى عن هذه الثيمة الأساسية في السرد، ولا أن نستبعدها، فهي من طبيعة الحياة البشرية، ولكننا نرى أن المشكلة تكمن في طريقة التعبير عنها؛ لأن واحدًا من أهداف السرد يكمن في إثارته بالتشويق الحكائي الذي يسعى إليه الكاتب، أما إثارة القارئ فهي استغلال رخيص لغرائزه. وأجدني هنا مدفوعًا إلى التنبيه على شيء آخر، هو أنّ الأمر لا يقتصر على السعي إلى جعل اللغة أكثر فظاظة، بل يتعدّى ذلك إلى التشجيع على تناول موضوعات تعمّق أزمة المجتمع العربي (من مثل الانقسامات المذهبية) بدعوى الحرّية. ونحن هنا لا ندعو إلى تقييد حرية الكاتب في اختيار موضوعاته، بل ندعوه ألا يكون سهمًا في كنانة غيره، ممن يتربصون بمجتمعه العربي شرًّا.
لا أذعن لمقولات مفروضة
الناقد والأديب الدكتور إبراهيم السعافين: «الحشو في أي موضوع مضر بالعمل، أما بالنسبة للمشاهد الخارجة فقد تكون ضرورية أحيانًا في رؤية العمل ونسيجه لدى بعض الكتاب والبيئات، ويراها بعض النقاد شارة أو علامة من علامات مستقبل الرواية، وأنا ضد الحتميات ولا يجوز أن نذعن لمقولات ملزمة أو مفروضة، ولا أرى أنها ضرورية ولعلّ دواعيها أقرب إلى دغدغة الغرائز ولا أقول التشويق».
الأسباب الموجبة
الدكتور أماني محمد ناصر كاتبة وأكاديمية: «هناك أسباب عدة قد تدفع الكاتب إلى الإفراط في الوصف بالروايات منها: إيجاد جو وبيئة لقصة الرواية، فقد يستخدم الكاتب الوصف التفصيلي للأماكن والأشخاص والأشياء لمساعدة القارئ على تصور العالم الذي تدور فيه الأحداث وشخصياته بشكل أكثر حيوية وواقعية. إضافة إلى البطء في السرد، حيث يستخدم الكاتب الوصف المطول أحيانًا كوسيلة للبطء في الحركة السردية وإطالة المشهد من أجل إيجاد إيقاع أبطأ في القصة. وأيضًا هناك الخلفية الثقافية للكاتب، فبعض الكتاب ينتمون لثقافات تتبع الوصف المفصل والإطناب في اللغة، أي استخدام عدد أكبر من الكلمات اللازمة للتعبير عن فكرة معينة فيميلون إلى نقل هذا الأسلوب إلى كتاباتهم الروائية، وأحيانًا قد يكون هذا بدافع إطالة النصّ وملء الصفحات، وإذا استُخدم بشكل مفرط فقد يؤدي إلى الإرباك والملل والتشتت لدى القارئ. أضف إلى ذلك التأكيد على التفاصيل، فقد يكون الهدف هو إبراز بعض التفاصيل المهمة في القصة والتركيز عليها للإطالة والحشو.
وفي بعض الأحيان، يلجأ الكاتب إلى الإفراط في الوصف بدافع تضخيم النص وزيادة سمك الكتاب وإعطائه مساحة أكبر، دون أي ضرورة فنية. وبعض الكتّاب يلجأون إلى الوصف التفصيلي للمشاهد الخارجة بقصد جذب القراء وزيادة المبيعات، لكن هذا الأسلوب قد يبدو ابتذالًا وتسويقًا تجاريًا أكثر من كونه ضرورة فنية، فالكاتب الناجح هو الذي يجد طريقة للتعبير عن المحتوى الحساس بطريقة فنية وشيقة، دون إسفاف أو مبالغة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يتجنب الكاتب هذه الأمور؟ يتجنبها بالتركيز على السرد والشخصيات والحبكة بدلًا من الوصف المفرط، واستخدام الإيحاء والتلميح بدلًا من التفصيل المباشر، إضافة إلى اختيار الكلمات بعناية لتوصيل المعنى دون إسهاب، والاعتماد على خيال القارئ بدلًا من فرض الصور الجاهزة عليه. وبهذا يقدّم الكاتب عملًا أدبيًا متوازنًا وجذّابًا».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على الکاتب القارئ على بعض الکتاب الإفراط فی على الوصف فی تطویر فی الوصف بدل ا من یسهم فی ى الوصف یمکن أن قد یکون من خلال ا یمکن کاتب ا
إقرأ أيضاً:
من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. بانتظار القافلة
بانتظار القافلة
من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي
نشر بتاريخ .. 10 / 3 / 2018
الجدران رطبة، والضوء خافت، وأحبال الغسيل قمصان شائكة تفصل الحدود بين العائلات، قالت جارتنا وهي تدلّ أمي على #المخبأ.. إذا أردت ألا يصعد أبناؤك إلى السماء فاهربي بهم إلى تحت الأرض.. وكأنه لا خيار ثالث في وطن الصراعات.. إما الصعود شهيداً إلى #السماء، أو البقاء حياً منسياً تحت الأرض، لكنّك لن تكون مواطناً تمشي في مناكبها.. ما دام السيد الرئيس يتكئ على أرائكها.
مقالات ذات صلة علي سعادة .. نرجو من الله أن يحتفل “أبو عبد الله” بالعام الجديد بين أطفاله 2024/12/22لا بأس.. حتى الملاجئ الإسمنتية باتت مسلية نكتب على جدرانها دروسنا كي لا ننسى أبجدية العربية، ونكتب عبارات إسقاط النظام كي لا ننسى أبجدية الحرية.. أمي بدأت تزرع النعناع والجاردينيا والمارغريت في قوارير صغيرة تحت الأرض تتفتح الورود لمصابيح الكهرباء، تخالها الشمس.. تماماً كما أخال سقف الملجأ السماء، وبقع الرطوبة التي تتشكّل في سقف الملجأ أو قاع البناء هي غيومنا المؤقتة التي تمشي فوق أحلامنا لكنها لا تمطر أبداً.. أحياناً يتساقط ملح الاسمنت فوق أغطيتنا ونحن نيام، نراه ثلجاً لاجئاً مثلنا نلمه بأصابعنا نقبضه بأكفّنا لينام معنا لكن سرعان ما يذوب كقصص النوم..
نحن في #وطن_الظل هنا في الملجأ، وطن في بطن وطن، بعض أطفال حارتنا قالوا ما رأيكم أن نجري انتخابات رئاسية تحت الأرض هنا لنمارس ديمقراطيتنا المرتجفة، فرحنا للفكرة، لكن ما لبثنا إن اختلفنا فالزعامة لها سوءاتها فوق الأرض كانت أم تحتها.. لا نريد ان يكون لنا في الملجأ رئيساً، نريد أن نكون شعباً فقط، الرئاسة تفسد الانسجام بين السكّان، الآن نتقاسم المعلبات، ونقترض الخبز، والماء، ونتبادل أماكن النوم، لو صار لدينا رئيس منتخب للملجأ ستدب الطبقية من جديد، ونحن الهاربون أصلاً من ظلم الحكم إلى قبر الحياة الواسع..
أكثر ما يحزنني، أننا على عتبات الربيع، والغوطة لا ترانا بعينيها، لا أستطيع أن أمشي بين أشجار الخوخ كما كنت، أقطف الزهر الطري وأمص رحيق الورد، لا أستطيع أن أتسلّق سور جيراننا خلسة لأسرق اللوز من أصابع أشجارهم.. حتى لو توقّف القصف واستمرّت الهدنة لن أفعلها أقسم أنني لن أفعلها فقلبي لا يطيعني.. كنت أفعل ذلك نكاية بأولاد جارنا الصغار، لكنّهم ماتوا بالقصف قبل شهر من الآن مات أيهم وبتول وعمّار وبقي اللوز.. وفاءً لأرواحهم لن أمدّ يدي على “لوزتهم” الشرقية، ولن أتسلّق السياج.. صحيح لقد هدم السياج، وأكل البرميل الثاني وجه الدار لكنني لن أقترب من مكان غادروه أبداً.. أكثر ما يحزنني أن شجر الغوطة ليس له أرجل ليركض مثلنا، أخاف أن يموت واقفاً.. أمّي هل نستطيع أن ننقل الشجر هنا إلى الملجأ؟؟
قالت أسمعُ صوت أطفال فوق الأرض.. اذهب وتفرّج، ثم عادت وتراجعت عن طلبها: ابق هنا لا تذهب أخاف أن يداهمنا عطاس الموت دون أن ندري..
صوت شاحنة اقترب من الحي وأطفال يصفّرون ويركضون، تشجّعت أمي من جديد وقالت: “اذهب الآن.. ربما وصلت #قافلة_المساعدات، تأكّد، إذا كانوا يوزّعون غذاءً على العائلات، أخبرني لأخرج معك، لم يعد في الملجأ شيئاً نأكله.. حتى الدواء أو الأغطية تلزمنا.. اذهب واسأل الأولاد.. خرجتُ من الدرج المكسر، صعدتُ من باب البناية السفلي وصلت سطح الأرض.. رأيت في أول الحي شاحنة يكسوها شادر ثقيل وأطفال يتعلقون بحبالها.. كانت الشاحنة الأولى التي تصل الحي منذ بداية الهدنة، كنا ننتظر اللحظة التي يفتح السائق ومشرفو الإغاثة الباب الخلفي.. نهرنا السائق وطالبنا الابتعاد عن السيارة تكلّم مع بعض موظفي الإغاثة وسلمّهم أوراقاً زهرية اللون.. قلنا له: هيه يا عمي نريد معلبات خبز طعام أي شيء.. لم يجبنا، حاول الصعود إلى قمرة القيادة.. لحقناه سائلين.. ماذا بسيارتك؟؟.. قال بصوت منخفض: “أكفان” فقط.. قافلة الغذاء لم تصل بعد.. تراجعنا، لم يبق أي طفل حول الشاحنة هربوا جميعاً.. ودخلوا ملاجئهم من جديد وكان غارة جوية قد بدأت، ياااه كم ترعبهم كلمة #الموت، ها نحن ننظر من شبابيك ملاجئنا المكسّرة لليوم السابع على التوالي.. ننتظر قدوم #القافلة..!
احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com
#174يوما
#الحرية_لاحمد_حسن_الزعبي
#أحمد_حسن_الزعبي
#كفى_سجنا_لكاتب_الأردن
#متضامن_مع_أحمد_حسن_الزعبي