أحمد إبراهيم أبوشوك

(1)

تمهيد

عندما كتبتُ مقالًا بعنوان " الزعيم الأزهري وأكذوبة المنديل الأبيض في مؤتمر باندونغ (1955)"، كتب الأستاذ أحمد بابكر تعليقًا مهمًا في صفحتي على الفيسبوك، أقتبس منه الفقرات الآتية: "بعيدًا عن الرواية، الأصح أتساءل كيف تمَّ اختيار علمًا السُّودان الأبيض المكتوب عليه كلمة (Sudan) بالخط الأحمر؟ إذ لا يعقل أن تكون اللجنة المنظمة اختارت علم لدولة أخرى بدون حتى مشورتها أو موافقتها؛ وإلا فإنَّ المؤتمر الذي يطالب بعدم التدخل في شؤون الدول وضمان سيادتها في بيانه الختامي، قد تدخل في شؤون دولة عضو في المؤتمر، بل واختار لها رمز سيادتها!! .

.. الكل يقول ما يشاء؛ ولكن بدل تكذيب الرواية كان يمكنك، وبما إنك باحث أن تطلع على أضابير الاجتماعات والوقائع من الأرشيف الوطني سوى كان ذلك في السُّودان أو إندونيسيا، حتى تقطع لسان كل خطيب، بدلًا من التكذيب بلا وجود قرائن سوى أقوال من شخص؛ لتصل لحقائق مشكوك في أمرها، فقد جئت بما جاء به الآخرون، أعني أقوال في مقابل أقوال ليس إلا." حقًا هذا التعليق أثار علامات استفهام صائبة وجدير بالاعتبار والتدبر. شأت الاقدار أن دُعيت لحضور المؤتمر الدولي الثالث عشر لعلماء آسيا (The 13th International Convention of Asian Scholars)، والذي انعقدت فعالياته بمدينة سورابايا الإندونيسية في جاوا الشرقية، في الفترة من 28 يوليو 1 أغسطس 2024، وقدمتُ فيه ورقةً بعنوان: "انتقال المعرفة في المحيط الهندي: مجلة المنار في عالم الملايو نموذجًا". وبعد وصولي إلى مدينة جاكرتا على متن الخطوط الجوية القطرية قبل أربعة أيام من تاريخ انعقاد المؤتمر، أي في عصر يوم الأربعاء الموافق 24 يوليو 2024، وفي اليوم التالي (الخميس) شددتُ رحالي عن طريق القطار السريع إلى مدينة باندونغ، وسجلتُ زيارةً إلى متحف "مؤتمر آسيا وأفريقيا لسنة 1955"، حيث أطلعتُ على أرشيف المؤتمر، وتعرفت على تأريخه ومخرجات انعقاده، وحقيقة ما قيل عن تصميم العلم السُّوداني، كما أوعز إلى ذلك الأستاذ المحترم أحمد بابكر. وشدَّ انتباهي داخل قاعات المتحف وملحقاته شيئان. أولهما، رُقي حدس الإندونيسيين التوثيقي، بأن حوّلوا قاعة المؤتمر الرئيسة والقاعات الملحقة بها إلى متحف تاريخي. تحتوي قاعة استقباله (أو بهو المتحف) على منصةٍ رئيسةٍ، يجلس خلفها رؤساء الدول الخمس التي نظمت فعليات المؤتمر (إندونيسيا والهند وباكستان وبورما (ميانمار) وسيلان (سيرلانكا)" في شكل صور مجسَّمة من الشمع، وخلفهم أعلام الدول، التي اشتركت في المؤتمر، مرتبة ترتيبًا هجائيًا باللغة الإنجليزية. ثم انتقلتُ من صالة استقبال الزائرين إلى قاعات الصور والوثائق والتسجيلات الصوتية المختارة من أرشيف المؤتمر، ومنها إلى المكتبة الأرشيفية لوقائع المؤتمر ووثائقه، ثم إلى الصالة الكبرى، التي عُقدت بها فعاليات المؤتمر، وفي صدرها مسرح الجلسات الرئيسة، وفي خلفتيه أعلام الدول التي اشتركت في المؤتمر. وثانيهما، إصدار كتابين باللغة الإنجليزية عن فعاليات المؤتمر، أعدَّ أحدهما الدكتور ح. رسلان عبد الغني، سكرتير الأمانة العامة المشتركة للمؤتمر، بعنوان: "رباط باندونغ: مؤتمر آسيا وأفريقيا في باندونغ عام 1955 (The Bandung Connection: The Asia-Africa Conference in Bandung in 1955)، ويحتوي الكتاب على أعمال الأمانة العامة المشتركة التي قامت بالإعداد للمؤتمر، بدء باختيار الدول المشاركة، وإرسال الدعوات لحضور المؤتمر، والحصول على أعلام الدول المشاركة، وتنظيم جدول أعمال المؤتمر وفعالياته، وتوفير كل الاحتياجات المكتبية. وتثمينًا لزيارة المتحف، والسؤال عن أرشيف المؤتمر، وكيفية تصميم العلم السوداني، أهدت إدارة المكتبة ليَّ نسخة إكرامية من الكتاب المشار إليها (The Bandung Connection). ثانيهما، كتاب بعنوان الوثائق المجمعة للمؤتمر الآسيوي-الأفريقي، 18-24 أبريل 1955 (Collected Documents of the Asian-African Conference, April 18-24, 1955)، ويحتوي الكتاب على الكلمات التي ألقاها رؤساء وفود الدول المشاركة في الجلسات الرسمية والجلسة الختامية. وقد صورتُ من هذا الكتاب الوثائقي خطاب الرئيس إسماعيل الأزهري أمام المؤتمر باللغة الإنجليزية، وكذلك كلمته الاحتفائية في الحفل الختامي.

(2)

قصة العلم السُّوداني وكيف صُمِّمَ؟

يقول الدكتور ح. رسلان عبد الغني، رئيس الأمانة العامة المشتركة لمؤتمر باندونغ آنذاك: "لا أزال أتذكر ما حدث بشأن علم السُّودان. فقبل عدة أسابيع من بدء المؤتمر، احتاجت الأمانة العامة إلى أعلام الدول المشاركة؛ لرفعها على المباني المختلفة في باندونغ. ولم يصل شيء من السُّودان، رغم أننا أرسلنا إليهم عدة برقيات. ويبدو أن السُّودان لم يكن مستقلًا بالكامل بعد، وبالتالي لم يكن لديه علم وطني. وفي النهاية قررنا رفع علم أبيض مكتوب عليه اسم السُّودان بأحرف حمراء. وأرسلنا برقية بشأن قرارنا إلى الخرطوم، عاصمة السُّودان. وقد أصيب علي ساستروأميدجوجو (Ali Sastroamidjojo)، [رئيس وزراء إندونيسيا ورئيس المؤتمر آنذاك] بالذهول الشديد عندما عَلِمَ بقرار الأمانة العامة المشتركة. وقد تعرضتُ للتوبيخ والتنبيه بأن حكومة السُّودان ستتأذى بالتأكيد مما فعلناه؛ لأن تحديد العلم الوطني هو أحد الحقوق الأساسية للدولة نفسها، وليس من حق الأمانة العامة المشتركة. إنَّ مشاعر الأمة تتجمع وتتجسد في علمها الوطني، كما هو الحال مع النشيد الوطني. وقد أشعرني هذا التوبيخ من علي ساستروأميدجوجو بالخوف إلى حد ما. وكانت النتيجة، بعد يومٍ واحدٍ، وصول برقية رد من الخرطوم: وافقوا فيها على ما فعلناه. وهكذا ظل علم السُّودان الذي صممناه يرفرف طوال [أيام] المؤتمر." (The Bandung Connection, p. 43). هذه القصة الكاملة لعلم السُّودان في باندونغ من واقع أرشيف المؤتمر، ولم تكن مجرد روايةٍ شفويةٍ تبادلها الناس من غير علم ولا كتاب منير، ولذلك آمل أن تقطع هذه المعلومة الوثائقية قول كل خطيب.

(3)

وفد السُّودان في باندونغ

قاد إسماعيل الأزهري، رئيس وزراء الحكومة الانتقالية (1954-1956) وفد السُّودان إلى باندونغ، وكان السُّودان وقتها ثاني دولة تحضر المؤتمر قبل أن تنال استقلالها كاملًا، وشاركتها في هذه الصفة دولة ساحل الذهب (غانا لاحقًا)، التي ترأس وفدها كوامي نكروما، رئيس مجلس وزراء حكومتها الانتقالية (1952-1957). وفي المؤتمر ألقي إسماعيل الأزهري كلمتين، الأولى منهما في يوم الثلاثاء الموافق 19 أبريل 1955، والثانية في الجلسة الختامية للمؤتمر (24 أبريل 1955).

(4)

الخاتمة

عندما رأيتُ التنظيم البديع لوثائق مؤتمر باندونغ والاحتفاء بالمكان الذي أُجريت فيه فعالياته، وتسمية الشارع المؤدي إلى القاعة الرئيسة باسم "شارع آسيا-أفريقيا" شعرت ببُعد نظر أصحاب "العقل الاستراتيجي" في إندونيسيا، وقصره عند الذين حكموا السُّودان بعد الاستقلال. ثم تساءلت في حيرةٍ: أين وثائق مؤتمر القمة العربية (أو اللاءات الثلاث)، والقاعات التي عُقدت فيها جلسات المؤتمر بالخرطوم سنة 1967؟ يؤكد عدم التوثيق لهذه القمة العربية الاستثنائية بالطريقة التي رأيتها في باندونغ أن النخب السياسية السُّودانية لا تحتفي بتاريخ بلادها والإفادة من دروسه وعبره، ولا بتوثيق الأحداث العظام التي شكَّلت صوًى فارقة في مسارات حياتها السياسية والاجتماعية والثقافية. لكن الجانب الآخر الجدير بالإشادة والاعتبار أنَّ المؤتمر قد شكَّل أول فرصة ذهبية لاتصال حكومة السُّودان الانتقالية بالعالم الخارجي؛ لأن شؤون السُّودان الخارجية آنذاك كانت تدار من مكتب حاكم عام السُّودان البريطاني، أو بتفويض منه عبر الوكالة الخاصة التي أسسها طرفا اتفاقية الحكم الثنائي لسنة 1899؛ لتكون بمثابة حلقة وصل بين مكتب الحاكم العام ورئاسة مجلس الوزراء الانتقالي في تنظيم الشؤون الخارجية للبلاد. والقيمة المضافة الأخرى خطاب رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري، الذي أكَّد فيه استقلالية دولة السُّودان، بإحكام سيطرتها على إدارة شؤونها الداخلية والخارجية. ولذلك وصف السفير خليفة عباس العبيد مؤتمر باندونغ بأنه كان "نقطة تحولٍ كبرى في تحديد مسار" السُّودان، الذي تمثل في إعلان استقلاله الضمني، بعيدًا عن شعارات الوحدة أو الاتحاد مع مصر. وبذلك مثَّل خطاب الأزهري علامة فارقة في تاريخ العلاقات المصرية-السُّودانية، وشكل توجهًا جديدًا في أجندة الحزب الوطني الاتحادي تجاه استقلال السُّودان التام. فلا جدال في أنَّ هذا الموقف السياسي العظيم يُحسب في قائمة إنجازات الأزهري السياسية، ويفترض أن يجعل الباحثين والقراء النابهين يقلعوا عن الحديث السخيف والمفبرك عن منديل الزعيم وعلاقته بعلم السُّودان في مؤتمر باندونغ؛ لأن الادعاء برفع المنديل على المنضدة التي يجلس خلفها أعضاء الوفد السوداني وعليها لوحة تحمل اسم السُّودان (Sudan)، إدعاء فيه تجهيل واستخفاف بوعي الرئيس الأزهري ببروتوكولات مثل هذه المؤتمرات، بل يُعدُّ خصمًا على فاتورة نضاله الوطني. فالتاريخ الوطني يجب أن يُكتب بأقلام مهنية، تستند إلى مصادر موثقة، بعيداً عن روايات أصحاب الغرض السياسي، التي تلوي أعناق الحقائق؛ لتقدم استنتاجات غير موضوعية، تخدم مصالحها الحزبية خدمة لحظية، ولا تساعد في التخطيط الاستراتيجي لتطوير البلاد والارتقاء بشأن العباد. وذلك بخلاف المعرفة التاريخية القائمة على منهج علمي ومصادر موثقة؛ لتعطي صناع القرار معلومات ضرورية؛ لإصدار قرارات صائبة تخدم متطلبات المجتمع المعاصر وتعالج مشكلات الوقع المعيش.

 

ahmedabushouk62@hotmail.com

////////////////////////////////

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدول المشارکة أعلام الدول فی المؤتمر ودان فی علم الس

إقرأ أيضاً:

عاجل| القصة الكاملة لطبيبة فيديوهات إفشاء أسرار المرضى

تباشر النيابة الإدارية في كفر الدوار التحقيقات في واقعة انتشار مقطع فيديو لطبيبة نساء وتوليد بأحد المستشفيات الحكومية، يتضمن انتهاكًا لحقوق المريضات ومخالفة لآداب ممارسة المهنة.

التحقيق في واقعة طبيبة كفر الدوار

وأصدرت النيابة الإدارية بيانا قبل قليل، جاء فيه أنّه تنفيذا لتكليفات المستشار عبدالراضي صِدِّيق رئيس هيئة النيابة الإدارية، باشرت النيابة الإدارية بكفر الدوار تحقيقاتها فيما أبلغت به وحدة شؤون المرأة وحقوق الإنسان وذوي الإعاقة، من نشر طبيبة نساء وتوليد - تعمل بأحد المستشفيات الحكومية بمدينة كفر الدوار - مقطع فيديو مصور جرى تداوله على عددٍ من منصات التواصل الاجتماعي، يتضمن حديثها حول عدد من الحالات من السيدات والفتيات المترددات عليها لتوقيع الكشف الطبي، بشكل يشكل انتهاكًا لحقوق المريضات ومخالفة لما تقرره آداب مهنة الطب ورسالتها السامية.

لجنة لفحص سجلات الحالات التي ناظرتها الطبيبة

وأوضح بيان النيابة، أنّ المستشار عاطف الشواربي - مدير النيابة الإدارية بكفر الدوار، أحال الواقعة إلى التحقيق أمام الحسن الصياد وكيل النيابة، وأمرت النيابة بتشكيل لجنة من مديرية الشؤون الصحية في البحيرة برئاسة طبيب من الطب العلاجي، وعضو من إدارة الحوكمة والمراجعة الداخلية، وعضو من الإدارة القانونية، وطبيب من إدارة العلاج الحر بالمديرية، وتكليف اللجنة بسرعة الانتقال للمستشفى محل عمل الطبيبة المذكورة وفحص السجلات والمستندات الخاصة بحالات النساء والتوليد التي ناظرتها بالمستشفى، وحالات المواليد والأطفال حديثي الولادة المحجوزة بحضِّانات المستشفى، ومناظرة عيادتها الخاصة بمعرفة إدارة العلاج الحر، وإعداد تقرير شامل بما تسفر عنه أعمال اللجنة، تمهيدًا لمثول المتهمة أمام النيابة الإدارية لمواجهتها بما جاء ذكره على لسانها بمقطع الفيديو المصور، في ضوء ما تكشف عنه التحقيقات وما ينتهي إليه تقرير اللجنة المشكلة بأمر النيابة، وجارٍ استكمال التحقيقات.

رصد الواقعة

وكان مركز الإعلام والرصد أبلغ وحدة شؤون المرأة وحقوق الإنسان وذوي الإعاقة بما تم رصده بشأن الواقعة، بتاريخ أمس، والتي بادرت بدورها بفحص الواقعة وإحالتها للتحقيق العاجل صباح اليوم أمام النيابة الإدارية بكفر الدوار.

وأكدت النيابة الإدارية حرصها الدائم على تطبيق أحكام القانون بما يكفل حماية حقوق المواطنات والمواطنين - خاصة في مجال تقديم وتلقي الخدمة الطبية - وعدم التهاون بأي مساس بالحق في الصحة كأحد الحقوق الدستورية الأساسية، وملاحقة مرتكبيه في إطار المشروعية وسيادة القانون.

وتتلقى النيابة الإدارية الشكاوى المتعلقة بمثل تلك الجرائم وغيرها مما يقع على المرأة أو يمس حقوق الإنسان وذوي الإعاقة، من خلال وحدة شؤون المرأة وحقوق الإنسان وذوي الإعاقة، وذلك عبر آليات تلقي الشكاوى المعتادة أو من خلال البريد الإلكتروني الرسمي للوحدة fem@ap.gov.eg.

مقالات مشابهة

  • القصة الكاملة لـ سقوط محمد شوقي لاعب كفر الشيخ وبلع لسانه «خاص»
  • «حمل السفاح» وضعها في السجن.. القصة الكاملة لـ فيديو وسام شعيب طبيبة كفر الدوار
  • من الاعتزال إلى الدعم.. القصة الكاملة لـ تامر حسني وهيثم سعيد
  • بعد حبس «وسام شعيب».. القصة الكاملة لطبيبة حكايات حمل السفاح «فيديو»
  • من الترند للحبس.. القصة الكاملة لطبيبة النساء التي أغضبت المصريين
  • القصة الكاملة لحبس إمام عاشور: من البراءة إلى حكم السجن ستة أشهر
  • 3 جهات تحقق في الفيديو.. القصة الكاملة لـ طبية كفر الدوار والتهم الموجهة لها
  • عاجل| القصة الكاملة لطبيبة فيديوهات إفشاء أسرار المرضى
  • جريمة هزت الإسكندرية.. القصة الكاملة لحبس ربة منزل اعتدت على رضيع
  • بسبب صوت الأغاني.. القصة الكاملة لمقـ.تل زوج على يد زوجته في الإسكندرية